تتقن الايرانية اذر نفيسي ، في بوحها بالمسكوت عنه ، المراوغة في تحديد المسافات ، بين مساري التجربة الذاتية و الواقع المحكي ، لتخرج في سياق يومياتها ، بعوالم روائية ، تؤطر الذات ومحيطها ، دون اغفال ضرورات سيرهما ، في خطين متوازيين .
يتجاوز كتابها « اشياء كنت ساكتة عنها «حميمية سابقة» ان تقرأ لوليتا في طهران «بامتداده الى الاطراف المترامية ، لعلاقة الانسان بالمكان ، واتساع حضور هذه العلاقة ، في تفاصيل تجربة عائلتها ، التي لا تخلو من اضاءات ، لبعض محطات التاريخ الايراني .
فهي ابنة محافظ طهران احمد نفيسي ، الذي تولى منصبه في مطلع ستينيات القرن الماضي ، وسجن بعدما تآمر عليه خصومه ، للتخلص من منافسته لهم ، والاستئثار بالسلطة ، في بلاط الشاه محمد رضا بهلوي ، وجاءت الثورة الاسلامية فيما بعد ، لتصادر املاكه ، باعتباره جزءا من نظام بائد ، لكن العصب العاري ، الذي تمسك به الراوية ، يتجاوز المقارنة بين عهدين .
لا تغفل نفيسي في روايتها لاحداث الزمن الغارب ، عن التقاط اطراف خيوطه ، لتمتد الحكاية الى ازمنة سابقة، تمر بانقلاب رضا بهلوي على الحكم القاجاري ، تمعن في تأمل الثورة الدستورية ، تجري مقارباتها حول الفتح الاسلامي ، وتتلمس الدولة الاخمينية .
ينساب تاريخ البلاد من تفاصيل يوميات العائلة ، ويحكم مصيرها ، في حضوره تفسير للغموض ، ديمومته مقدمات تحدد المقبل من ايقاع الحياة في البلاد ومآلاتها ، المتغيرات التي تدخل على انماط العلاقة بين البشر ، و بين الانسان ومكانه .
لكن التاريخ في بعض ارتداداته ، يبدو دائريا ، بعيدا عن الفعل التراكمي ، تبدد احدى مراحله ، منجزات مراحل سابقة .
حساسية الذات الانثوية في البوح ، لا تقف عند التجربة الحياتية للكاتبة ، بقدر ما هي فضاء ، يتسع لسرد تجارب نساء ايرانيات، ساهمن في احداث تحولات تاريخية ، منذ الثورة الدستورية .
تصغي اذر نفيسي ، الى احاديث العمة همدام ـ التي تلقت تعليمها في اوروبا خلال عشرينيات القرن الماضي ـ حول نساء الثورة الدستورية ، اللواتي حملن السلاح تحت الشادور ، وقدمن الدعم للرجال ، بين عامي 1905 و 1907 وتمكن فيما بعد ، من فرض ارادتهن ، واقامة اول مدرسة عامة للبنات .
تبرز الكاتبة تأثرها بحضور المرأة في الادب الفارسي ، ففي السرد الايراني الكلاسيكي « تهيمن النساء الايرانيات النشيطات على المشهد « ولا يخلو الامر من نماذج ، تركت اثرا في تكوين شخصيتها ، بدء من شخصية «رودبة» في الشاهنامة ، وانتهاء بنزعة التمرد ، في اشعار فروغ فرخزادة ، مرورا بسيمين بهبهاني .
تتوقف نفيسي في كتابها ، عند معرفتها بالدكتورة فاروخرو بارسا ، اول وزيرة للتربية والتعليم ، في زمن الشاه ، وطريقة اعدامها في وقت لاحق ، باعتبارها واحدا من الشواهد والمؤشرات ، على ما انتهت اليه اوضاع النساء في ايران ، وتنتقد ازدواجية المثقف العلماني ، الذي يبرر القوانين المقيدة للمرأة ، لمجرد انها تمنحه حقوقا اضافية ، لم تكن متوفرة في عهد بائد .
قد يكون سؤال الهوية ، وفهم الانا والاخر ، من ابرز الاسئلة المطروحة ، في الكتاب ، ان لم يكن ابرزها على الاطلاق ، لا سيما وان الاجابة عليه ، تساعد على فهم جوهر التحولات الايرانية ، على مدى قرون تمتد الى ما قبل التاريخ الميلادي ، وتتيح وضع تصورات ، للزمن الآتي .
في هذا السياق ، تثير اذر نفيسي ، زوبعة من الشك ، في امكانية الثقة بالجماهير ، التي «تتفجع على مصدق وتنتخب خميني» وحين تحاول تشخيص الحالة ، تشير الى «مجتمعات منفية ، في بلد لم تكن لغته وثقافته مفهومة ، بشكل كامل» مما يؤدي الى ابتكار وطن خاص ، بعيدا عن الوطن ، باسلوب حياته ، وقواعده السلوكية ، يحكمه الحنين ، الى ما كان يسمى ، قبل الثورة الاسلامية ، ايام الماضي السيئة .
الثقافة والمكان ، يلتقيان في محاولة تحديد ارضية الاجابة ، على السؤال الذي ترصده الكاتبة ، وهو يحفر عميقا ، في تفكير الايرانيين ، ليفضي الى اسئلة فرعية ، تبدو بلا نهايات .
بين هذه الاسئلة ، ما يتعلق بهامش حضور الفردوسي ، صاحب الشاهنامة ونسائه الشهوانيات ، ابطاله وملوكه ، الذين ينتمون الى عصور ما قبل الاسلام ، والشاعر الساخر ايراج ميرزا ، المعروف بانتقاده ، لنفاق رجال الدين .
في سياق محاولتها ، تفسير الظواهر والتحولات ، من خلال الادب ، تتوقف نفيسي عند قصتي «البومة العمياء» لصادق هدايت و«الامير» لهوشانج غولشيري ، اللتين كتبتا بين عامي 1936 و 1969 ، وتجد فيهما ما يصلح ، لاسقاط العلاقات ، التي تحكم ابطالهما ، على علاقات لجان الامن الاهلية ، بنساء ايران القرن الواحد والعشرين ، ففي «الضوء المزعج» لهذه القصص ما يكفي لتفسير سيكيولوجية اللحظة السياسية ، كما تكشف الكاتبة ، عن وظيفة اخرى للادب ، تتمثل في اخفاء ذوات البشر ، وليس الكشف عنها .
استفادت اذر نفيسي من تجربتها السابقة «ان تقرا لوليتا في طهران» في توظيف الادب ، لكشف الخراب الكامن ، واجراء المقاربات ، بين فلسفة واحداث روايتي «لوليتا» لنابكوف ، «غاتسبي العظيم» لفيتزجيرالد والجوانب القاتمة ، في حياة الايرانيين ، اشارت الى هذه النماذج في كتابها « اشياء كنت ساكتة عنها «الا ان العودة ، الى اصول الثقافة والادب الفارسيين ، كانت اجدى من محاكاة ارثي «نابكوف» و«فيتزجيرالك» الروائيين ، في الكشف عن غربة المجتمع الايراني .
لكنها ، في تعرضها لقضايا الاقليات في ايران ، تشير الكاتبة ، الى خطأ تحميل الجمهورية الاسلامية ، مسؤولية كل ما يحدث ، مشيرة الى مظاهر تمييز ، ضد البهائيين والارمن ، كانت قائمة من قبل .
تلجأ نفيسي الى أنسنة المكان ، وتوظيفه في البحث عن اجابات ، لسؤال الهوية ، حيث ترى ايران في احاديث والديها ، خلال عهد الشاه البائد « طفلا محبوبا لكنه مبذر « كانوا يتشاجرون باستمرار ، حول رفاهيته ، ثم تشير الى ان ايران ، اكتسبت بالنسبة لها ، هوية ذات تناقض ظاهري ، حيث كانت مكانا واقعيا محددا ، بالموضع الذي ولدت وعاشت فيه ، واللغة التي تحدثت بها ، والطعام الذي تناولته ، وفي الوقت ذاته ، كانت فكرة اسطورية غامضة ، تشجع على كل صنوف الفضائل والقيم ، وبقيت رمزا للمقاومة والخداع ، حيث شعرت وكانها تدخل «الشاهنامة» التي يتوقع احد ابطالها «مأدبة سخية» الا انه يقع في «فخ عراف» فلم تتخيل في اكثر احلامها وحشية ، تحول شارعي «نادري» و«اليهزر» الى مسرحين ، لتظاهرات دموية .
تحولات المكان ، لم تخل من الانسنة وتوظيفاتها ، حيث تجري نفيسي مقارنات ، بين طهران ومدن اخرى ، فقد كانت المدينة ، في عهد مؤسس سلالة القاجار اغا محمد خان ـ اختارها عاصمة له ـ قرية صغيرة ، معروفة ببساتين الفاكهة وناسها الاشداء ، وصارت ، تلعب دور المتمرد الطائش ، في عهد رضا بهلوي وابنه محمد ، كما تعدد الكاتبة اوجه الخلاف ، بين المدينة وعاصمة الصفويين «اصفهان» ذات المهابة الثقيلة والجمال الخالي ، من اي تزويق .
حرب السنوات الثمان مع العراق ، ساهمت في طرح سؤال الهوية ، من خلال العلاقة ، مع الاخر الجار ، حيث تشير الكاتبة الى غربتها ، في ذلك الزمن ، عن الشوارع التي سارت عليها طفلة ، وتعيد هذه الغربة ، الى التغيرات التي طرات ، على نسيج الحياة اليومية ، بفعل عنف تصفه بـ «غير الملموس» قد يفسر احساسها بالتعاطف ، مع العراقيين الذين اجبروا ، على ان يصبحوا «اعداء لنا» رغم انهم في الحقيقة «نظراءنا» في المحنة .
هموم الراوية الانثى ، في مجتمع شرقي يمر بتحولات عميقة ، وغرابة الام ، لم يخفيا شعور الكاتبة ، بضرورة اكتمال صورة ، بقيت ناقصة في روايتها الاولى ، مما انعكس على تركيب الاحداث ، ونحت العوالم ، للمزاوجة بين العام والخاص في روايتها الثانية ، فلم يخل النص من العاطفة ، احتفظ بقدر من الموضوعية في التعامل مع الحدث التاريخي ، وبقي قريبا من الخيال ، حريصا على تجنب الانسياق وراءه .
—————————–
جهاد الرنتيسي