رضا عطية*
إذا كان “المكان” وعلاقة الذات به واغترابها فيه وترحالها عبره يمثل شاغلاً رئيسيًّا في شعر وديع سعادة، فإنّ قضية “اللغة” باعتبارها وسيلة تعبير الذات، “الشاعر”، عن نفسه وعن استيعابه للوجود ورؤيته العالم هي شاغل آخر مهم ودائم التردد والحضور في نص وديع سعادة الشعري، فالمكان واللغة يمثلان قطبي الانشغال الوجودي لدي الشاعر الذي يتفاقم لديه حس لا انتمائي إزاء العالم الذي يشعر بتمادي اغترابه فيه.
يبقى تَمثُّل الذات لمكانها أو للمكان عمومًا كـ”فكرة”، وكذا تمثل الذات للغة رافدين أساسيين لتشكيل وعي الذات بالوجود وبنفسها في خطاب وديع سعادة الشعري. وسواء كانت الذات تقيم في مكانها الأول، “الوطن” أو تقيم في مكانها الآخر، “المهجر”، أو هي بالأحرى ترتحل فيه يبقى “المكان” إشكالية كبرى وسؤالاً متجددًا لديها، وإذا كانت “اللغة” هي بيت الوجود وهي مواضعة جمعية واستعمال ذاتي في آنٍ باعتبارها جسرًا للتواصل بين الذات والجماعة ووسيلة وعي الذات بالآخر والعالم، فإنّ ثمة مساءلة دائمة تقيمها الذات مع نفسها حول “اللغة”، وحول علاقتها بها في شعر سعادة.
المكان في شعر وديع سعادة لغة تتكلمها الذات، واللغة مكان تقيم فيه الذات وتغترب فيه وترحل عنه وفيه، فكما أنّ الذات ترحل من مكان لآخر نشدانًا للمكان الحلم، “اليوتوبيا”، الذي لا يتحقق أبدًا ما يبقي هذه الذات في حال رحيل مستدام في المكان، فإنّ الذات نفسها تعيش الأمر عينه مع “اللغة”، فتبقى في حالة قلق إزاء لغتها تحاول أن تغير جلدها وتجددها وتتخلص من لغتها القديمة، فالذات، في شعر وديع سعادة، في حالة بحث لا ينتهي عن لغة جديدة، بمثل بحثها الحائر عن مكان جديد، مكان حلم، فالمكان واللغة عند سعادة حلم تسعى الذات إليه ولا تجده كما تنشده، وهو ما يُبقي الذات، عند وديع سعادة، في حالة توتر دائم وقلق وجودي متنامٍ في علاقتها بالمكان واللغة.
موت اللغة
تبدو علاقة الذات باللغة، كما يتبدى من خطاب وديع سعادة الشعري، طويلة وممتدة، إذا كانت اللغة هي وسيلة الخيال في بناء الذات لعالمها، كما تبدو اللغة عند سعادة، غاية في حد ذاتها أيضًا:
كنتُ أظنُّ أني سأبني وجودًا من خيال. أنَّ التخيُّل يُحيلُ الخيالَ جسدًا، والكلماتِ تبني بيتًا، أكون فيه لا قُبالتَهُ.
مشيتُ طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرتُ في وهمها. مشيتُ في اللغة بحثًا عن موطني، حتى اكتشفتُ أني أبحث عن وهم. ولأنّ اللغة كانت هي موطني، فإني ما سكنتُ إلا في الغياب.
لم أكن غير كشّاشٍ لأرواح الكلمات. تلك التي خرجتْ من فمي، وروحي، وغابت بعيدًا. أتذكّرُ منها الآن النقطة الأخيرة الواهية في الأفق القصيّ. أتذكر منها عيونًا خرجت فجأة، التفتتْ إليَّ بلومٍ وغابت سريعًا. أتذكّر ريشًا تناثر بطلقات، وريشًا مستعجلاً للهرب، وخطًا دقيقًا رَسَمَه هذا الهروب في الفضاء، وامّحى بلحظة.
لم أكن غير كشّاشٍ فاشل لأرواح الكلمات(1).
تكتشف الذات وهمية اللغة، وانفصامية تصوراتها الخيالية عن الواقع، وكأنّ الذات كانت تتصوُّر بأنّ اللغة هي بيت الوجود، وهي موطن الذات ومكان الشاعر لكنها تكتشف غيابية اللغة، فاللغة تحيل الذات على ما هو بعيد، قصي. وكما يبدو فإنّ الذات لا تتعامل مع الكلمات في تمظهراتها المورفولوجية المباشرة وإنّما مع روح الكلمات بما يليق بوعي الشعر وروحه الجمالية المجاوزة، علاقة الذات باللغة تمامًا كعلاقتها بالمكان: بحث دائم ورحيل مستدام دونما بلوغ للغاية المنشودة، فكما أنّ الذات تفقد المكان أو يغيب عنها المكان الذي تقصده، يوتوبياها الضائعة، هي، بالمثل، تفقد لغتها.
ويبدو، هنا، أنّ الفم والروح هما مصدرا خروج الكلمات من الذات الشاعرة، في جماع للمادي والروحي كأساس للكلمة الشعرية، كما اللغة وكلماتها كذات تتجادل مع الذات الشاعرة وتبقى مصدرًا للقلق الوجودي بالنسبة إليها.
ومع تخلي شعر وديع سعادة عن مظاهر الجهارة الصوتية كالوزن والتقفية، بما يمثلانه من مظهرين للموسيقى التقليدية فإنّ شعر سعادة قد يعتمد وسائل أخرى للإيقاع، كتكرارية جملة ما (لم أكن غير كشّاشٍ فاشل لأرواح الكلمات) لتبدو كمرتكز إيقاعي من ناحية، كما أنّ استهلال مقطع وختامه بها يدل على التفاف هذا الحكم على وعي الذات وتمثلها لعلاقتها باللغة. كذلك ثمة تكرار لكلمات تمثل بؤرًا للإلحاح الدلالي؛ مثل الفعل (مشيت) للدلالة على تكرار الذات المحاولة غير مرة وغير وقت وإصرار الذات عليها، والفعل (أتذكر) للتأكيد على إلحاحية التذكر وتداعي الصور والمشاعر على وعي الذات.
في خطاب وديع سعادة الشعري نجد فكرة ما تخامر الذات بموت اللغة، بمعنى أنّ ثمة شعورًا ما يساكن الذات بعجز اللغة عن استيعاب العالم ونقصان قدرتها أو فقدانها في التعبير سواء عن الموضوع/ الوجود أو الذات نفسها في تَمثُّلها الموضوع/ العالم أو تمثلها نفسها والتعبير عن أناها بوصفها موضوعًا، لم تعد الكلمات تسعف الذات في التعبير عن العالم وأشيائه المادية، فالكلمات باعتبارها مكونات اللغة هي وسيلة الذات في أداء “الفكر” وبثه.
وتبدو الذات في حالة تردد شديد بين خيارين: العزلة من أجل أن تؤسس لغة خاصة بها أو الانفتاح على العالم الخارجي:
هل كان عليَّ قَفْلُ الأبواب وإسدال الستائر وإطفاء الأضواء لكي تكون لي حياةٌ ولغة؟ آنَ عَبَرتا العتبة واختلطتا مع خارجين كثيرين، فقدتُهما… لكني، حقًا، لم أكن أجدهما في الداخل. ظننتُهما في الخارج، في حانةٍ أو تحت شجرة أو على رصيف. ولم تكونا لا في الخارج ولا في الداخل. أين الحياة واللغة إذًا؟(2).
تبدو الذات مترددة بين أسلوبي عيش: الانطواء على نفسها والانزواء في الداخل أو الاندماج في العالم الخارجي، لكنها فقدت لغتها وحياتها بالخارج ولم تجدهما بالداخل، شعور لامنتمي يلامس العدمية. ولكن، لِمَ تقرن الذات مصير اللغة بالحياة في الوجود؟ هل لأنّ اللغة مرآة للحياة؟ أم لأنّ الحياة هي رافد اللغة ومنبعها؟
ولكن لِمَ ظنت الذات الحياة واللغة خارجًا قد تكون “في حانةٍ أو تحت شجرة أو على رصيف”؟ الحانة مكان للشراب والتمرد بشكل أو آخر على العالم، والشجرة رمز للخصوبة والإثمار أما الرصيف فقد يرمز إلى متابعة العالم ومراقبته من على مسافة ما، كما أنّ هذه الأماكن الثلاثة هي ترمز للهامش على نحو أو آخر.
نجد في علاقة الذات بالكلمات في شعر وديع سعادة أنّ ثمة توترًا ما بين الذات والكلمات من ناحية، وبين الكلمات والأشياء من ناحية أخرى:
برداء عتيق ألفُّ الكلماتِ وآخذها معي رفيقة الطريق.. الرداءُ نفسه الذي حمله أبي، نفسه الذي حمله أجدادي.
أقول رفيقًا فيخرج من الرداء قاطعُ طريق، أقول فمًا فتخرج حبَّةُ جليد، أقول سمكةً فتخرج أفعى، أقول قلبًا فيخرج قبر، أقول حلمًا فيتدلَّى مشنوقٌ…
هل الكلمات، إذًا، دلالةُ نقيضها؟ فقط رغبةُ قولٍ دفينة، ما أن تخرج حتى تصير فعلاً آخر، لا علاقة له بالقول ولا بالرغبة؟
هل كانت هذه الكلماتُ كائناتٍ حيَّةً ذات يوم، ثم ماتت، ونحن اليوم لا نرى غيرَ طيفها، وما ننطق به هو فقط شبحُ روحها الهائمة؟(3).
تبدو رحلة الذات في علاقتها بـ”الكلمات”، “اللغة”، علاقة توارث، فالذات كانت تتعاطى مع لغتها وكلماتها بنفس طريقة تعاطي الآباء والأجداد، غير أنّ الذات وقد وجدت الكلمات بوصفها علامات لم تعد تؤدي دورها التأشيري في القيام بوظيفتها العلاماتية في إشارة دوالها إلى مدلولاتها كما تعهدها الذات، إذ أمست الأشياء بوصفها مدلولات على النقيض من الدلالة التي تشير إليها الكلمات باعتبارها علامات، ولكن هذا التغيُّر في تأشيرية الكلمات أو بالأحرى هذا الانفصام البالغ حد التناقض بين دلالات الكلمات والأشياء التي من المفترض أن تشير إليها، “المدلولات”، هل يرجع لفساد الكلمات وإخفاقها في التعبير عن العالم وأشيائه، “الموضوعات”، أم أنَّ ذلك راجع لفساد العالم الذي بات يخالف الكلمات ويخونها؟ هل هذا انقلاب من اللغة ضد الذات التي تستعملها أم انّه انقلاب من الذات على لغتها وضيق منها بكلماتها التي لم تعد مواتية للذات في تمثيل العالم والتعبير عنه؟
في كتابة وديع سعادة الشعرية إيقاع خفي نابع من تصعيد درامي في خطابه الشعري بالتحول من الإخبار إلى الإنشاء بالتساؤل، هذا التساؤل المتدفق يعكس توترات الذات إزاء العالم، الموضوع، الذي تتمثله وتستوعبه وتعبر عنه بالكلمات.
إذًا، تتجاوز شعرية وديع سعادة عناصر البلاغة التقليدية في أداء الوظيفة الشعرية كالمجاز والصورة، رغم حضورها، بدرجة ما في شعره، إلى استعمالات أخرى واستثمارات جديدة لبلاغة التساؤل لتأسيس بناية شعرية في أرض جديدة من الأداء اللغوي.
التساؤل قد لا يعني نقصان معرفة أو طلب معلوماتي بقدر ما يعني موقفًا ما من الذات إزاء العالم وإزاء “الكلمات”، و”اللغة”، التي تستوعب بها العالم وتنشئه في وعيها، فالذات تستشعر موت اللغة القديمة، تلك اللغة المتوارثة، في وعي تثويري باللغة والعالم.
في تمثل الذات، في شعر وديع سعادة، لإشكالية اللغة تصل إلى نتيجة تفضي بالحكم بموت اللغة:
ليست لدينا لغة. لدينا حشرجات، من لغةٍ قتيلة، غابرة.
شبهُ أصوات زحفتْ إلينا من موتانا، عبر المتاهات، عبر آلاف السنين، غامضةً وغريبة.
ليست لدينا لغة. ولذلك لا اتصال مع الآخرين. لا اتصال مع ذواتنا.
وإذا كنا لا نتّصل، لا نتلاقح، كيف تكون لنا ولادة؟(4).
تقف الذات، في شعر وديع سعادة، بين اللغة بوصفها أثرًا زمانيًّا متوارثًا لم يعد يفي بأغراضه المنشودة، والمكان بما فيه من ناس/ الآخر وأشياء هذا المكان الذي باتت اللغة خارجه وخارج الزمان في مواجهته. الشعور الذي يداخل الذات بموات اللغة وفقدانها قدرتها التأشيرية والتواصلية يلازمه شعور بفقدان الآخر، وانعدام الاتصال معه وكذا انعدام الاتصال مع الذات، ثمة شعور انفصامي وإحساس متمادٍ بالاغتراب، اغتراب الذات عن آخرها وعن نفسها ما يفضي إلى تفاقم أزمة الذات الوجودية، وإعادتها النظر في هذا الوجود ومسلماته، ومتوارثاته ومنها اللغة.
إنَّ شعور الذات بموت اللغة يفضي إلى مسعاها للتخلص من تلك اللغة الاستهلاكية التي تشعر بلاجدواها. ولكن هل يُمثِّل مسعى الذات إلى التنصُّل من لغة الآباء والأجداد تمظهرًا لاانتمائيًّا للذات؟ أم أنّ ذلك يخرج من مسام وعي فني طليعي يتوثب إلى تجاوز الأسلاف، فالشاعر الحق، كما يذهب أدونيس، هو من يقتل أباه، بمعنى أن يتجاوز أسلافه؟
الشعور بالموات يلف اللغة في وعي الشاعر في تمثُّله علاقة اللغة وكلماتها بالعالم الذي تعبر عنه:
لا، لا. دَعْ بطنَ اللغة تحبل بكلماتٍ بَعد. كلمات يظنُّ آباؤها وأمهاتها أنهم سيداعبونها كالأطفال، يغسلون وجهها ويمشطون شعرها ويجلبون لها الألعاب… دع آباء اللغة وأمهاتها يحلمون بأولاد، هذه سعادتهم لا تخرّبْها. فبطن اللغة حابلٌ بكلمات تولد ميتة، دعْهم على مهلهم يعرفون. دع الوهمَ يُسعد قلوبهم، واتركْ للَّغة شأنها: التلاقح من الصمت والاستحالة، من الغياب والغيبوبة، من الموت والموت.
العتمةُ وحدها قد تكون الحياة، الخصوصيُّ الذي لا يُرى، لا يُقال، لا يُفعل(5).
تبدو علاقة “أهل اللغة” بالكلمات، فيما يرى الشاعر، علاقة ترويض و”ملاعبة”، فيما يشكِّل أسلوب الاستعمال اعتمادًا على التنظيم التقعيدي والاشتقاقي التوليدي، لكن الشاعر يرى وهمية تلك الممارسات اللغوية، استمرارًا للتأكيد على انفصامية اللغة عن الواقع، ووقوف النظام اللغوي بوصفه منظومة رمزية علاماتية عاجزًا عن بث حياة ما في الكلمات لعدم استطاعة الكلمات التعبير عن هذا الواقع بماديته وميتافزيقيته.
أما “اللغة” التي ينشدها الشاعر، هنا، تتلاقح من الصمت والغياب والموت. إنَّها لغة خارجة عن النظام اللغوي بتقليديته وأرثوذوكسيته، وكلاسيكيته التقعيدية، لغة متمردة، مارقة. إنّها، لغة، فيما يتفق مع ما ذهب إليه جان جاك لوسيركل، تعتمد على ما أسماه “المتبقي” من اللغة، الجانب الصامت والمعتم من الوجود اللغوي، لغة الغياب، مؤكدًا على فاعلية ذلك الجانب الخفي، أو “المعتم” من اللغة، لغة الشطب والمحو، كما يؤكد على نظام “الفجوات” أو “البياض النصي”، المساحة الصامتة البيضاء التي تخلو من الكلام على حين أنَّها مشحونة بخطاب ما خفي، فيما يكرس لتجاوزية الشعر وتمرد اللغة الشعرية على منظومة العلامات اللغوية وعصيانها لـ”النظام اللغوي”.
في الصياغة الشعرية للأفكار التي يطرحها خطاب وديع سعادة الشعري، كما يبدو من هذا النص، ثمة حس ساخر وأسلوب تهكمي يعبر عن شعور ما يساكن الذات باختلافيتها عن أسلافها من الشعراء وأقرانها من علماء اللغة، إحساس متعالٍ بتجاوز لغة الشاعر اللغةَ الاستهلاكية التقليدية.
وفيما يبدو من استعمال الصوت الشعري لضمير المخاطب، الضمير الثاني السردي، في هذا النص، أنّ ثمة حوارًا ما تقيمه الذات الشاعرة المنشطرة، بين الذات المتعالية على العالم ونظامه اللغوي القائم، والذات الموضوعية الحائرة إزاء ما تحسه من موت اللغة وعدم تلبيتها للأغراض التي يحتاجها الشعر، فيعبر ضمير المخاطب المستعمل هنا عن ذلك التوتر المعتمل في دواخل الذات جراء الجدل الذي ينشأ بين الأفكار في تعاطيها مع الوجود.
ويعمل نص وديع سعادة، كما في هذا النص، على بث إيقاع شعري بتوظيف تكرارية بعض الأصوات، أو بمواضع الوقف والصمت؛ فتكرار أداة النفي (لا) لمرتين في مستهل المقطع يعبر عن حسم الذات لموقفها من قضية الاستعمال اللغوي، كذلك تكرار فعل الأمر (دع) لأربع مرات؛ إحداها متصل بالضمير الجمعي (هم) يعبر عن تأكيد الذات لفكرة التخلي عن اتباع أهل اللغة في تقعيدهم للاستعمال اللغوي، كما أنّ وجود ضمير المتكلم الجمعي إزاء ضمير المخاطب المفرد يعبر عن الجدل الدائر بين الذات وجماعتها اللغوي؛ إذ تتمرد الذات على موروث الجماعة اللغوي. فيما يعبِّر الوقف بالفصل بالنقط (…) عن برهة صامتة كأنّ الذات تشحذ فيها وعيها حتى تستأنف بث خطابها، فثمة تلازم ما في نص وديع سعادة الشعري بين الخط والتمثيل الصوتي بالتكرار والوقف لإيقاع الذات النفسي.
التمرد على اللغة المتوارثة
نتيجة الإحساس بموات اللغة ولامواتاتها لأهداف الذات فإنّ ثمة وعيًّا ثوريًا في الخطاب الشعري لدى وديع سعادة يتجلى في التمرُّد على اللغة المتوارثة، اللغة التي باتت الذات تشعر بعدم قدرتها على أن تفي بأغراض الذات في استيعاب عالمها أو التعبير عن هواجسها وشواغلها الوجودية.
وتدرك الذات أنّ عليها لكي تتجاوز أزمة اللغة بأنّ تثور على لغة الآباء والأجداد وتتجاوزها:
لا يحيا سوى الذين نسوا لغة أجدادهم. الذين كسروا زجاج الذاكرة وارتموا في النهر. الذين نسفوا الملاجئ المقدسة وساروا في المتاهة.
لا يحيا سوى الذين رموا آباءهم في الآبار.
لم أرمِ أحدًا في البئر ولم أكسر شيئًا.
هل أنا ميّت إذًا؟(6).
في مقابل شعور الذات بموات اللغة فإنّها تشعر بأنّ الحياة إنّما تكون بنسيان لغة الأجداد وبقتل الآباء، القتل الرمزي، ليس بالمعنى الأوديبي، ولكن بمعنى تجاوز مسلمات الآباء وعدم البقاء في أسر متوارثاتهم، تبدو الكتابة التي ينشدها سعادة “كتابة ضد” تنتهك مقدسات اللغة وتكسر التابوهات الجمالية للسابق عليها وتعمل على عمل قطيعة فنية مع الموروث الجمالي، وكأنّ الذات بوعي حداثوي تريد أن تنشئ لغتها الخاصة بترك ميراث الجماعة والتخلُّص من آثار الذاكرة اللغوية والخوض في متاهية الوجود، كأنّ رغبة ما عارمة في استكشاف الوجود تسوق الذات للخوض في غمار الجديد والمجهول والمتاهي.
وتبدو صور وديع سعادة التمثيلية منفتحة الفضاء، تنحو لأن تكون صورًا باتساع العالم وبطابعه البدائي والوحشي، كما تبدو صورة مثل “الذين رموا آباءهم في الآبار” كأنّها خارجة من نسيج صوري توراتي، حيث قصة يوسف الذي تركه إخوته بالبئر. وبقراءة عناصر الصورة سيميولوجيًّا نجد فعلين ترى الذات وجوبهما لضرورة إنعاش الحياة واللغة: الارتماء في النهر في مقابل رمي الآباء في الآبار، النهر أعمق وأكثر امتدادًا من البئر، وكأنّ الذات تريد لحياتها ولغتها مدى أرحب للتفاعل.
ولكن إذا كانت الذات في خطاب آخر لوديع سعادة تستحسن موقف اللامنتمين وتمجد موقفهم المؤسس لمركزية خاصة للهامش كفعل تمردي لامنتمٍ: (الأسوياء جرفهم النهر. غير الأسوياء ظلّوا على الشاطئ/ هناك بالضبط، على الرمل والحصى، مقاعدنا، لا في النهر)(7)- فإنّ الذات، هنا، قد تبدو على النقيض من الصورة السابقة، تدعو إلى الارتماء في النهر، فهل يمثِّل هذا وقوعًا في تناقض ما لدى الشاعر؟ النهر في الخطاب الذي تمجد الذات فيه لاانتمائية الهامشيين هو رمز لسطوة المركز أما النهر في هذه الصورة، إذ تستحسن الذات الارتماء فيه، هو رمز للتجدد والتدفق اللغوي والجمالي.
يبدو في الخطاب الشعري لوديع سعادة أنّ ثمة هاجسًا متجددًا لدى الذات بضرورة تجديدها اللغة:
بالحجارة القليلة التي في فمي أحاول أن أبنيَ حياةً بعدما رصفتُ أيامًا كثيرةً من الموت. أحاول أن أخترع كلماتٍ لا تكون دليلَ نقيضها. حين تخرج من فمي لا تكون رغبةً في القول بل فِعْلَ الرغبة. أحاول حين أقول سمكةً أن تأتي سمكة، حين أقول رفيقًا أن تصير رغبتي جسدًا وأرى الرفيق، وحين أقول قلبًا أن يأتي إليَّ بائع الزهور.
ولكن، لكي يكون ذلك، ألا يجب تغييرُ كيمياء الكلمات، وتغييرُ كيمياء الناطقين بها أيضًا؟
أم أنَّ اللغة ليست هي الرغبة، ولا الفعل، بل النثارُ الباقي من ذواتنا المحطَّمة؟(8).
ثمة محاولة من الذات لبناء حياة من لغتها الخاصة بعدما عاينت مواتًا بامتداد زمنها، ويتبدى في وعي الذات بلغتها أنّ ثمة انفتاحًا حد التداخل بين عنصري المكان والزمان، فالذات تعمل على تمكين الزمان بتمثله مكانًا.
ولكنّ الذات تفطن إلى وجوب تغيير كمياء الكلمات وكمياء الذوات المستعملين للغة، تغيير كمياء الكلمات يكون بتغيير سياقات التفاعل التركيبي للغة بمعنى تجاوز أجروميتها التقعيدية التقليدية، إنها عملية عنف تماس إزاء اللغة بانتهاك مقدساتها، إن هذا يعني الجنوح نحو “المتبقي” اللغوي، ووفقًا لجان جاك لوسركل “نحن نستمع بارتكاب الإثم ضد اللغة لأنّ هذا العنف الذي نمارسه ضد تراكيبها هو ما يضيف إليها الحيوية، إنّ الخطأ اللغوي ليس انحرافًا عن قواعد اللغة بشكل عام… بقدر ما هو توقع أو تنبؤ بالمسار التطوري لقواعد اللغة وتراكيبها”(9)، وكأنّ تأسيس الذات للغة شعرية جديدة إنّما يكون بخرق قواعد الأجرومية اللغوية.
تسعى الذات أن تجدد لغتها وأن تكون اللغة الشعرية تتسم بصدق ما وأن تكون معبرة عن الواقع الذي تكون الكلمات علامات مؤشرة عليه، تريد الذات أن تكون الكلمات فعلاً للرغبة لا رغبة في القول، أي أن تكون اللغة نتيجة الرغبة والانفعال لا مجرد أقوال بلاغية زائفة. وتبدو الذات حائرة في تحديد مصدرية اللغة التي قد تكون الذات فيما يشبه الجدل حول مَنْ الذي يتكلم: هل نحن الذين نتكلم اللغة أم أنّ اللغة هي التي تتكلمنا؟
الذات في خطاب وديع سعادة الشعري تريد مجالاً لغويًّا جديدًا تبث عبره شعرًا مجددًا ومتجاوزًا للكتابة التقليدية:
عميقًا في العتمة، عميقًا في الحفرة، تعيش البذرة بالصمت. الصمت ينميها، الصمت يحفظ لها الحياة. ما أن يُطلَّ برعمٌ منها على الأصوات حتى ييبس، ما أن يُطلَّ على الضوء حتى يحترق.
في هذه الحياة الداخلية كان يجب العيش بلا عين، بلا فم ولا أُذُنٍ ولا يد. الأشياء تكبر وتصغر بلا إيماءة من أحد. بإيماءة العتمة وحدها، العتمة التي لا تومئ.
هناك حاولتُ أن أبني بيتًا وتكون لي حديقة. لكن الحجارة كانت دائمًا تنهار. ليست الأيدي هناك ما يبني بيوتًا. هي سهوًا ترتفع، وإرادة البناء تهدمها.
كانت لي خيولٌ هناك، تأخذني في المجاهل الجميلة. تناديني بهمسٍ لا يُسمع، بإشارةٍ لا تُرى، فأمتطيها…. وآنَ أردتُ سياسة خيولي، سقطتُ ميّتًا بحوافرها.
عميقًا في العتمة، هناك المكان. حيث نحن الحديقة والبيت. والآخرون اختراعُنا(10).
يبدو أنّ التحديث في لغة الخطاب الشعري والتجديد في أسلوبية الكتابة ليس فيما يقوله الخطاب بشكل مباشر وصريح وحسب، وإنّما في ما ليس يقوله، في الصمت، فكأنّ وديع سعادة يؤسس لكتابة المحو وأسلوبية الشطب في الخطاب، وهو ما يحتاج إلى شراكة قرائية من المتلقي لاستبصار ظلال السياقات القولية واستنطاق الفضاءات الماورائية للنصوص، وملء فجوات النص، إنها بلاغة الصمت. وبالفعل يمسي النص الشعري، عند سعادة، هو نص غياب، ويكون للغياب، اللامعقول، حضورية الموجود وفاعلية المنطوق به.
الذات في شعر وديع سعادة تبحث عن الحياة الداخلية للموجودات، كذلك تبحث عن التعبير المنطلق دون حسابات مسبقة، كما يبرز في الصورة لدى سعادة عنصرا البيت والحديقة، وربما يرمز البيت إلى الذات في وجودها الموضوعي أما الحديقة فقد ترمز للفضاء البيني الفاصل والواصل في آنٍ بين الذات والعالم.
ولكن الذات في انطلاقها الجامح ترمي بلوغ المجاهل التي تسمها بالجمال، وكأنّ الذات تريد اكتشاف جماليات المجهول، تمامًا كروح الشعر الذي يختلف عن “العلم” كمعرفة، وهو ما يستدعي نصًا غائبًا لسركون بولص:
كان ذلك
عندما أبصرتُ رمزي المفضَّل
يهبط كالنسناس من راحة يدي
ويدلني على أماكن مجهولة يتصاعد منها تنُّفس الأحياء
تبعتُه وعينايَ معصوبتان
بريش معرفتي القليلة(11).
وكأنّ وديع سعادة، يتفق مع رفيقه سركون بولص في ضرورة ارتياد الشعر المجهول واقتحام الجديد بما يمنح النص الشعري حياة ممتدة وجمالاً إضافيًّا، كذلك يتبدى من رؤية سعادة بأنّ الآخرين اختراعنا وعيه بذاتية الوجود مهما كان موضوعيًّا، فالذات هي التي تبلغ الوجود وتدركه وتُشكِّله على نحو أو آخر، وهو ما يتفق، كذلك مع ذاتية اللغة رغم موضوعيتها، فالذات هي التي تجدد اللغة باستعمالها لها.
والذات التي تتخذ موقفًا من اللغة في خطاب وديع سعادة الشعري تتخذ أيضا موقفًا من الكتابة:
هل أقول الوداع للكتابة؟
أقول الوداع.
حوار الكتابة حوار الصمت. زمن الكتابة زمن الغياب. مكان الكتابة عدم المكان.
لا حياة بالكلمات. الحياة قد تكون هناك، خارجها. هناك قد يكون الآخرون، وأنا أيضًا. في المقلب الآخر من الكلام، خارج النَصِّ.
الكتابة غياب الحياة. الحياة قد نصادفها بالمشي، قد نصادفها بالجلوس، تحت شجرة أو على رصيف. ربما تأتي سهوًا، بقبلةٍ أو برصاصة، لكن ليس بالكتابة(12).
لِمَ تريد الذات توديع الكتابة؟ وأية كتابة تريد الذات توديعها وتركها؟ هل المقصود، هنا، الكتابة بمفهومها التقليدي؟ البادي أنّ ثمة تأسيسًا للكتابة اعتمادًا على “العدمية”، ثمة شعور يداخل الذات بموات الكلمات وافتقاد الكتابة الحياةَ، وبهوة فادحة بين “النص”/ الكتابة والحياة/ الواقع.
ومما يتبدى من استهلال النص بسؤال ثم إردافه برد عليه بموقف الذات بتوديع الكتابة أنّ مثل هذه الحواريات المونولوجية بين الذات ونفسها تمثيل لإيقاع الذات الداخلي وتردداتها وتوتراتها، وهو ما يضفي على الإيقاع الشعري للقصيدة نبضًا دراميًّا.
الهوامش
1 – وديع سعادة، الأعمال الشعرية: ديوان نص الغياب (1999)، (لبنان، بيروت، دار النهضة العربية، الطبعة الأولى، 2008)، ص267.
2 – وديع سعادة، الأعمال الشعرية: ديوان نص الغياب (1999)، مرجع سابق ص274.
3 – وديع سعادة، الأعمال الشعرية: ديوان نص الغياب (1999)، مصدر سابق، ص288.
4 – وديع سعادة، الأعمال الشعرية: ديوان نص الغياب (1999)، مرجع سابق ص283.
5 – وديع سعادة، الأعمال الشعرية: ديوان نص الغياب (1999)، مرجع سابق ص274.
6 – وديع سعادة، الأعمال الشعرية: ديوان نص الغياب (1999)، مرجع سابق ص279.
7 – وديع سعادة، الأعمال الشعرية: ديوان غبار (2001)، مصدر سابق، ص312.
8 – وديع سعادة، الأعمال الشعرية: ديوان نص الغياب (1999)، مرجع سابق ص289.
9 – جان جاك لوسركل، عنف اللغة، ترجمة: محمد بدوي، مراجعة: سعد مصلوح، (الدار العربية للعلوم، بيروت- المركز الثقافي العربي، كازبلانكا، الطبعة الأولى، 2005)، ص50.
10 – وديع سعادة، الأعمال الشعرية: ديوان نص الغياب (1999)، مرجع سابق ص279.
11 – سركون بولص، الوصول إلى مدينة أين، (منشورات الجمل، بغداد- بيروت، الطبعة الثانية، 2014)، ص8.
12 – وديع سعادة، الأعمال الشعرية: ديوان نص الغياب (1999)، مرجع سابق ص265.