لا أحسب أن هناك الكثير مما ليس يعرفه أي مهتم بأدب المسرح عن المسرحي الانجليزي الشهير هارولد بنتر H.Pinter ، فعدد كبير من مسرحياته قد تم نقله الى العربية مصحوبا بسجل وافر – يشبا اليبلوجرافيا _ عن حياته وأعماله . وان كان لابد لمن يطالعون بنتر لاول مرة ان نلقي بقليل ضوء حول واحد من أبرز كتاب الدراما المعاصرة قبل الدخول الى نصا المسرحي: الصمت Silence.
ولد الكاتب الانجليزي المعاصر هارولد بنتر عام 1930 لاب يعمل حائكا للملابس بحي "ايست ايفا" بلندن ، ذلك الحي الشهير الذي كان مسرحا لاحداث العنف والجريمة قبل وبعد الحرب العالمية الثانية ، الأمر الذي جعل بنتر يتخذ ، في صباه ، موقفا معاديا من الحرب تمثل في رفضه تأدية الخدمة العسكرية معلنا انه "معارض حي الضمير" Conscientious objector وهو تعبير معناه ان لدى المرء عقيدة تحرم عليه الحرب وهو طبقا للقانون الانجليزي قد يبرر الاعفاء من التجنيد بشروط .. لم يستطعها بنتر بطبيعة الحال مما عرضه لتجربة السجن في تلك الفترة المبكرة من حياته .
وقد نال بنتر قسطا ضئيلا من التهيم الرسمي في مدارس لندن القديمة ، شغل على اثرها عددا كبيرا من الوظائف الدنيا قبل أن يحترف التمثيل عام 1949، كان منها بوابا لأحد اندية البلياردو وسائقا بناد أخر، وممثلا احتياطيا يقوم بدور اي ممثل يتغيب عن العرض . وكان ان بدأ حياته الادبية كشاعر أول الامر، فنشر عددا كبيرا من قصائده في مجلة الشعر اللندنية The Poetry of London عام 1950. وبديهي ان تلك البداية قد اثرت على عمله _ فيما بعد _ ككاتب مسرحي تقوم نصوصه _ في الاساس _على رؤى وجدانية اكثر من اشتمالها على احداث متكاملة او قصص متماسكة بالمعنى التقليدي للكلمة . أما حياته المسرحية فقدت كمثل في فرقة "برفينشيال ديبرتوري" تحت اسم مستعار هو "ديفيا بارون" ثم زواجه من الممثلة الشهيرة "فيفيان ميرسانت "، التي قامت بتمثيل معظم الشخصيات النسائية في مسرحياته . وكانت مسرحية "الغرفة " 1957 هي اول اعماله المسرحية . وهي مسرحية ذات فصل واحد. وفي العام نفسا كتب مسرحية "النادل الاخرس " ثم اول مسرحية طويلة له وهي "حفل عيد الميلاده التي رغم تحمس النقاد لها الا انها فشلت عند عرضها بلندن ، وان كانت قد حققت نجاحا كبيرا عند انتاجها للتليفزيون . اما نصا المسرحي «الحارس » 1960 فهو العمل الذي ضمن لبنتر مكانة مرموقة بين رفاقا من كتاب الدراما في بريطانيا بل والعالم ، مما جعل الناقد البريطاني "هارولد هوبسون " يذهب الى ان ثمة شيئا عن هارولد بنتر "يوحي بأنه الرجل الذي يجدر به ان يعتلي مكانة بارزة بين كتاب مسرح الرويال كورت " وهو يقصد جون او سبورن ، وجون اردن وارنولد ويسكر ممن شكلوا حركة الستينات في المسرح الانجليزي والتي اصطلح على تسمية اصحابها "كتاب الغضب "، الذين بشرت بهم مسرحية جون او سبورن الشهيرة : "انظر الى الخلف في غضب " 1956.
وبعد النجاح الذي حققه بنتر بمسرحية «الحارس » كتب : التشكيلة 1961، العاشق 1963، حفلة شاي 1965، العودة الى البيت 1965، مشهد طبيعي 1961، الصمت 1969، الليل 1969 ، الايام الحوالي 1970، الارفى الحرام 1974، الخيانة 1978، والتي تعتبر ارتدادا الى الدراما الاجتماعية في مسرح بنتر، ثم البيت الزجاجي، أو بيت الثبات The Hothous وهي مسرحية طويلة ، ربما أطول مسرحيات بنتر ، كتب نسختها الأولى عام 958آ ، ثم أعيد النظر فيها وقدمت ´عام 1981، واخيرا «لغة الجبل » التي قدمت عام 1989 بعد صمت دام أربع سنوات ، وقام بإخراجها بنفسه على خشبة المسرح . بالاضافة الى اعداده التليفزيوني لعدد كبير من الاعمال الروائية ، كان آخرها: حرارة النهار The heat of the day اللكاتبة الانجليزية اليزابيث برين .
* ومسرحية «الصمت » تندرج تحت قائمة «التوظيف الشعري للغة » عند بنتر، ذلك التوظيف الذي يتراوح ظهوره على فترات متباعدة بما لا يسمح بتحديده او حصره في فترة معينة يسهل وصفها بالمرحلة الشعرية عنده . بل إنك لست امام لغة تستطيع ان تصفها _ فحسب _ بالشاعرية دون أن يجانبك الصواب من هنا أو هناك . ولست أيضا أمام مسرح شعري بالمعنى المألوف لهذا الشكل ، وبما قد يستدعي الاستشهاد بـ "ت.س اليوت " مثلا، او «كريستوفر فراي» او غيرهما. لابد اذن لمتتبع بنتر ان يتوقف امام هذا النص ، او امام ذلك التكنيك الدرامي الذي يعاود بنتر من آن لآخر. وان كان الوقوف أمام نصوص من امثال «الصمت « و«مشهد طبيعي» و«الليل ». وقد كبت جميعها فيما بين 1968و 1970_ سوف يكشف عن مرحلة انتقال في حياته الفنية ؟ تلي الدراما الاجتماعية التي تمثلها «العودة الى البيت » 1965 وتسبق «الارض الحرام » 1974، مرحلة تلعب اللغة فيها الدور الاعظم ان لم يكن الدور كله . وفيها يجنح بنتر بشدة نحو تكريس هذا العنصر الفريد كبديل للحدث ، وان صح التعبير فاللغة هنا هي الحدث . وقد يزداد الامر غموضا اذا ما افترضت من جانبي ان توظيف هذه اللغة لم يتم عبر قالب «حواري» مسرحي مألوف ، بل يكن الجزم بأنه ليسر ثمة حوار بالنص بالمعنى المتعارف علية ! وانما على اقل تقدير «ثلاث حالات » – بعدد شخصيات النص _ من المونولوجات الداخلية المتجاورة ، وليست المتنامية ، لهذه الشخوص .
والصمت ، كغيرها من نصوص بنتر، تؤكد على ملمح رئيسي في فلسفته تجاه اللغة المنطوقة ، حيث انه لا يريد ان يقول لنا ان اللغة عاجزة عن احداث تواصل حقيقي بين البشر بقدر ما يريد أن يلفت نظرنا الى انه من النادر ما يستخدم البشر اللغة لهذا الفرض . وغني عن البيان ان هذا التوظيف لا يعنى باللغة بوصفها اداة نفعية تحقق اغراضا فكرية بل هي تتجاوز ذلك ، لا كي تتماس فحسب مع طبيعة الشخوص ، بل كي تتضافر. بوصفها تشكيلا مع رؤية النص في نسيج اشبه "بالدانتيلا" لا يجوز فصله ، او بوصفها الوجه الآخر لعملة واحدة كما حددها نقاد ما بعد البنيوية ، وقد تكون «لغة الجبل » ابرز مثالا عل ذلك . وهي واحدة من اقصر مسرحيات بنتر السياسية وأشدها تكثيفا. وتصور نوعا من التصادم بين "اهل الجبل " ورجال الشرطة . وهنا ترى بنتر يقترح ان يؤدى هذا النص بمستويين من اللغة : اولهما العامية ويتحدث بها اهل الجبل ، والثانية الفصحى، الرسمية ، التي يتحدث بها رجال الشرطة . ومن هنا لابد من مبرر مضموني ، رؤيوي للتشكيل الشعري في "الصمت ". فإذا كانت لغة الحوار عند بنتر تخلق ما يمكن تسميته بـ"بالنص التحتي"، من خلال التأكيد على لحظات الصمت والسكون ربما تكون اكثر من تركيزها على ما هو منطوق ، او الاتكاء على مفردات الواقع اليومي لشخوص لم تنل حظا من الثقافة اللغوية ، بما قد يتضمنه هذا من انحراف عن القواعد الاجرومية وتضمين مفردات لا وجود لها بقواميس الفصحى، ان كان ذلك ، فلست أبالغ في ان لغة هذا النص برهافتها وجنوحها الشديد نحو التكثيف الشعري تخلق "نصوصا تحتية " وليس نصا واحدا، وان كان يمكن ادراجها جميعا تحت مسمى "الحالة ". أنت هذه المرة امام شخوص غير موصفة على المستوى التعليمي او الثقافي او السلوكي ، كي تستشف تبريرا ما لانماطهم اللغوية . انت امام كائنات فحسب ، اغلب الطن انها تحدث نفسها، تتحرك وتتذكر: حركة محدودة ز مكان محدود لا يتغير على الدوام ، ومقتطفات متناثرة ، ليست على ألستنهم بقدر ما هي في طور التخلق بأذهانهم وتصوراتهم ، قد تمثل جزءا من حيواتهم السابقة ، او ربما هي حيواتهم بأكملها عل نحو من الضيق وعدم التنوع كالمكان الذي يتحركون فيه . ورغم ألك فذكريات الشخوص دائما ان لم تكن محض زيف وتلفيق لا اساس له ، فهي ليست على عمومها مبهجة ، بل كفيلة في اغلب الاحيان بتدمير الاطار الوهمي الذي منعته الشخصية لنفسها بوصفه ملجأ آمنا للاحتماء من اطلالات الماضي، او بديلا مقبولا – مؤقتا _ لماض مزيف . وهذا ما قد يفسر "ضيق " المكان وعدم تغيره في معظم النصوص ، والذي يمثل ضيقا رمزيا يخضر ازمة الشخوص وحركتها المحدودة في الحياة وخوفها من مواجهة الخارج . ورغم ذلك ، لا مفر من الصدام مع هذا الخارج ، ذلك الذي يفرض نفسه على نحوين : إما التقابل الحتمي الذي يفرضه الواقع الضيق على افراده أينما كانوا، وكيفما اعتصموا ضده ، واما عن طريق الشخوص ذاتها، فيما يشرعون في نبشر الماضي بحثا – ودائما بلا جدوى – عن منطقة مضيئة تضفي قليلا من المسرة عل اللحظة الواهنة ، وهذه التقنية تعد من ابرز التقفيات الملازمة التي يعتمدها بنتر في تحقيق رؤيته للعالم وتصوير شخوصه . فها هي شخصية الاعمى لم الخارج ، في أولى مسرحياته «الغرفة »، والتي تظهر عل نحو شبه فجائي كي تهدد حياة «روز» – المهددة اصلا –باستدعائها ماضيها، المنحل ، وينتهي النص بتحويل الزوج الى مجرم على أثر قتله هذا الاعمى. وفي الحارث تجد هذه التقنية بحذافيرها متمثلة في «ديفيز» ذلك الأفاق المتشدد الذي يأويه "استون " في بيته ، فما يكون منه سوى محاولة الايقاع بين استون واخيه "عيك ". وكذا الامر مع شخصية «روث » في «العودة الى البيت »، عندما دخلت حياة تلك العائلة المخوخة هشة الجذور معدومة التواصل كزوجة لاكبر الابناء «تيدي» فتكرس لمفاهيم الانحلال والفساد المستشري بين افراد العائلة ، ويعيد حضورها ظلالا كثيفة لذكرى الام الراحلة شاذة السلوك مما يثقل على "سام " العم فيموت عل اثر التذكار في مشهد رث كئيب غريب . وفي «الليل » – وهو اقصر نص لبنتر، عرض ضمن مجموعة من الثنائيات المسرحية المختطة على فشبة «الكوميدي ثييتر عام 1969_ يوشك زوجان على الانفصال فقط لانهما حاولا ان يتذكرا كيف وأين التقيا اول مزة . اما في "الصمت " فالكارثة تأخذ شكلا اكثر بعدا في تقديرنا، وان لم يكن يتمثل في صورة حركية عنيفة كما سبق ، وانما ترى الشخوص وقد انتهت من نبشى ذكرياتها، دون العثور قطعا على منطقة تضفي على سلوكياتهم شيئا من الراحة ، او الاطمئنان .. تردهم وقد دخلوا تدريجيا في دائرة مغلقة بتكرارهم ذات العبارات التي وردت في بداية النص ، مما يقي بجنونهم او هوسهم الفعلي المتوقع او الموحى به منذ البداية !! نحن امام نص دائري على مستوى التشكيل ، تضافر معه تلك الرؤية التي تعني "دورة " هؤلاء الافراد في نطاق مصمت محكم الفلق كغرفة بلا نوافذ، ولا سبيل للنفاذ منها، لجأرا اليها بأنفسهم وهم الآن يعانون منها وينتظرون ما بين حين وآخر صفعة «الخارج » الحتمية المدمرة . استمع معي الى «بيقس » – احدي شخصيات النص – وهو يحدد تلك الازمة في وضوح قائلا "أجول داخل ذهني، غير اني لا استطيع ان أنفذ من بين جدرانه أو أخرج للريح . المروج مسورة ، والبحيرات مسورة والسماء سقف ».
أنت اذن تستطيع ان تتنبأ بحدوث الطارىء، المفاجىء والمتوقع في آن – وان ثمة كارثة لابد ملمة بالشخوص ، وان كان من .غير المتعين ان تتنبأ بسلوك الافراد تجاهها. ان بنتر لا يقدم لك تعريفا جامعا لشخصيته كي يمكنك التنبؤ بسلوكياتها، فهو يرفض ان نصر عل تزويد الشخصية بملف كامل من الدوافع ، هي في الحقيقة دوافع الكاتب وليس الشخصية . فليسر للكاتب الحق ان يزحف داخل شخوصا ليدعي انه يعرف ماذا يحملها على الفعل او ماذا تحسر به . وكل ما يستطيع ان ينجزه هو ان يقدم وصفا دقيقا للحركة الحادثة او تصويرا لموقف ما قبل الانطلاق وتسجيل ما يحدث من تغيرات . ومن ثم ، فانت امام الشخصية وهني تتخلق باستمرار عبر تطور الحدث وليس عبر ايديولوجية الكاتب الخاصة به ، والذي يتعين عليه – ما ان وضع شخوصه داخل حلبة الصراع _أن ينسحب ، ولا يتعدى حضوره الجلوس في بنوار ما مشاهدا، وربما مشاركا المتفرج في طقوس الدهشة الاولى!!
ثمة ملمح بنائي أخير، قد لا يفوت المتأمل ، ينطوي عليه النص المقدم : وهو اعتماد بنية هرمية للنص على نحو مقلوب – إن جاز هذا التحديد الرياضي _حيث تبدأ بفتح مساحات كبيرة للمونولوج الداخلي ، ثم تخفت تدريجيا الى أن تتحول اللغة الى بقع بانورامية متناثرة تتم بحذق فائق حتى يطبق الصمت التام على ضفاف النص . وليس هذا معناه ان شخوص بنتر في طريقها الى التلاقي. ان شخوصه كما لا يمكن التنبؤ بحركها المستقبلية كاسمان الزينة لا يمكن الجزم بتلاقيهم في نقطة واحدة . ورغم ضيق المكان ، وربما وحدوية الازمة الا ان كلا منهم يعيش أزهته على نحو مخالف للآخر، ، ايا كان هذا الآخر. اذن .. النتيجة الحتمية الوحيدة هي التلاشي ، والانتهاء، وهكذا ترى العبارات الاخيرة في النص ، وقد بدت وكأنها تخرج عن أفراد في النزع الاخير، مقطرة ، وفلاشية ، ومكررة ، وغير كاملة !
لا أحسبه ، عند هذا الحد ، اني وفيت بالنص او صاحبه ، وغاية ما طمحت اليه ان اكتشف معك مدخلا لقراءة نص اعتبره معظم النقاد واحدا من أصعب نصوص بنتر، وأكثرها على الاطلاق غموضا.
سيد عبد الخالق(كاتب من مصر)