تقدّم المجموعة القصصية الأولى لهدى الجهوري(نميمة مالحة) فضاءات مختلفة من السرد في خمسة عشر نصاً تناثرت فيها النميمة، ولكني سألفت نظركم بداية إلى قصة واحدة جديرة بالاهتمام لأنها تصلح أن تكون مدخلاً مهماً، ومخرجاً مهماً أيضاً في قراءة هذه المجموعة.
إنني أؤمن بأن بطلة قصة «حين تأكلني المدينة» تتبادل الأدوار مع روح هدى في أماكن مختلفة من تلك القصة ، وهذا يتيح لنا التحرّك من هذه القصة نحو الأصوات الخافتة التي تحاول الاختباء خلف ضجيج الأصوات العالية في بقية القصص ، تلك الأصوات الخافتة التي تقول فيها الكاتبة:(أنا هنا.هاهي روحي شفافة أمامكم فاقرأوها) ، وهذا ما سأحاول التدليل عليه في الفقرات القادمة من هذه القراءة.
تقول هدى الجهوري في أول مقطع من تلك القصة الجميلة ، حين تأكلني المدينة:( أشعر أيضاً بالفقد لأشياء كثيرة لا أعرفها ، أستدلّ عليها بهذا الحنين الحامض الذي يتصاعد في روحي)(1) ، فالفقد محرّك أساسي لهذه الغربة التي تُعمل مناجلها في القلب ، ورغم التصريح بعدم معرفة تلك الأشياء المفتقدة ، إلا أن هذه الأشياء غير المعروفة ذاتها تتناثر في أماكن أخرى داخل النميمة المالحة ، فهناك حنين لذلك الفرح الطفولي المتصالح مع العالم ، والذي تحكي عن فقده بطلة قصة على رأس جني حين تخاطب المجنون:(عيسى..الفرح الذي أهديتني إياه فقد طعمه ورائحته منذ أن أقمت بينك وبيني فجوة تتسع لاختناق. عيسى ابق هناك بذاكرة بدائية ، فليس ثمة هنا ما يبهج ، وحدك من احتفظ ببراءته نظيفة حين خبأها على رأس جني ، وحدك من أصبح يمرق أمامنا بمخ ضفدعة مكفوفة ، وبروح منثلمة تتصالح مع حاراتنا التي ما تزال بحاجة لمزيد من التشحيم لتبتسم بسخرية في وجه الغرباء )(2).
هناك حنين لذلك الاستقرار المتولّد من معرفة الطريق المفقود ، ثم المضيّ فيه نحو الأمن والجمال ، وترتيب الحياة ، كما تصرّح بطلة قصة اللعبة حين تدار في الخفاء:(تبّاً لنا نحن حين لا نعرف ماذا نريد ، وكيف نقود خطانا ، وبجوار من سنبدوا أجمل وأكثر أماناً.. تباً لنا نحن لأننا بشر تافهون ، لا نملك سوى الرغبة في إسداء النصائح ، تلك التي لا أريد أن أحصل على المزيد منها لأرتب حياتي ولا أود أن أتصالح مع هذه الأشياء بدعوى أنها هكذا ولن تتغير)(3).
هناك حنين للعتمة التي تفتح نوافذها على البصيرة المتقدة النافذة ، التي تخترق الأشياء دون ضوضاء.. نجدُ ذلك في وصفها لبطلة قصة العتمة كحيّز آمن:(بدأت تشعر أن العتمة من الكائنات الفاضلة التي تمرق بكل ثقلها دون أن تغمز أو تثير فضيحة كما يمكنها أن تمتص عيوبها كإسفنجة )(4) ، وهذا كله في مواجهة مع السائد الواضح المؤلم للعين بفجاجته الضوئية..(الآن بدأت تكتشف زيف الضوء المنتفخ والذي لا يملك أكثر من تعرية الأشياء)(5).
وفي قصة حين تأكلني المدينة ، تفتح هدى نافذة أخرى على الروح الباحثة عن طمأنينتها. تقول:(مازلت أفتش عن الأمان ، وعن بشر لا يكلفونني الكثير لأشاطرهم الضحك والبكاء)(6). إن ذلك يشي بقلق روحي دفين ؛ قلق مواجهة حتمية الأشياء التي لا سبيل لتغييرها في كثير من الأحيان ، حتى وإن تعلّق الأمر بالحب ، واصطداماته اللذيذة تحت المطر.يقول علي بطل قصة لرجل قلما ينتبه:(اصطدامنا تحت المطر لم يكن عابراً كما قد تعتقدين. الأشياء حولنا تحيك نفسها بقدرية لم نعتدها)(7). إنه ذلك القلق من أن تفضح الحياة هشاشتنا المحاطة بقشرة واهية من التماسك..تلك الهشاشة التي نكتشفها في لحظات صفاء عميق ، أو في اختبار حقيقي كالاختبار الذي تدخله بطلة قصة اللعبة حين تدار في الخفاء إذ تقول:(أكتشف دائماً هشاشتي)(8). وهو قلق الوجود ، إذ يأكل الموت كل زرع نغرسه مهما كثر.. حكمة قالتها الجدة في قصة حين تأكلني المدينة:(لا تستكثري غرسة الموت !. كل ما يزرع ليموت سيبدو قليلاً )(9)، لكن الخوف الأشد من الموت مرده خوف هدى من أن الحكاية قد تموت ، ولم تُحك بعد ، كما قالت في قصة صوت:( دائماً كنت أخشى أن أموت وفي فمي حكاية لم أقلها)(10) ، فهي عاشقة للحكايات ، لا تغلق فمها حتى وإن دخلت الحكاية سباتها(لا أحب أن أغلق فمي ، والحكاية نائمة)(11) كما قالت في قصة اللعبة حين تدار في الخفاء ، وتحتار دائماً في المكان الأنسب لتسريب الضوء من الحكايات(من أين سافلق الحكاية ليشهق الضوء منها)(12).
ورغم ذلك فهي لا تنكر أن القلق الوجودي أعطاها وجهها ، ورسم ملامحها بوضوح ، وجنّبها فخ السقوط في الواقعية المتكررة. تقول لبطل قصة تفاصيل للقلق:(القلق هو وحده الذي يصنعني ويرسم ملامحي. أما أنت فمفلس في اهتماماتك الروحية.. مشلول بالواقعية. أنت رجل لا تعرف كيف تعقد صلحاً مع ذاتك ولو لمرة واحدة)(13).
مقطع آخر من هذه القصة / الذات / المجموعة / حين تأكلني المدينة ، تقول الكاتبة فيه ما يلي:(ومازلت أعشق الألعاب الشاهقة ، تلك التي تجعلني قيد أنملة من خوفي ووجعي وموتي !. أشعر دوماً بحاجة ملحة إلى أن أختبر المسافة بيني وبين ما يمتد بعنقه في الخفاء)(14)، ورغم الإيحاء الخطير بالتناقض الذي يولّده مقطع كهذا في سياق هذه القصة ، إذ يندهش القارىء كيف أن الباحث عن الأمان في القطع السابق لهذا المقطع يعشق في المقطع التالي الألعاب الشاهقة التي تجعله قيد أنملة من خوفه ووجعه وموته ، إلا أن ذلك مفيد لإثبات تسرّب هدى الكاتبة إلى روح البطلة ، ومن ناحية أخرى فإن ما تقوله هدى عن عشق الألعاب الخطيرة والمغايرة موجود في نصوص أخرى.. فهي تهوى السباحة عكس التيار ، كما تصرّح بذلك بطلة تفاصيل للقلق:( الأسماك الحية تسير عكس التيار دائما..وحدها الميتة مثلك من تسير في اتجاه التيار)(15) ، وهذه السباحة تحققت على مستويات عدة في أحداث المجموعة ، فقصة رهانات غير مأمونة تفتح للفضيحة عيوناً تحكي عن بطلتين تتعمدان التشبه بالأولاد( اتفقت وهي على أن نكوم مثل راشد وعلي وناصر ، لا فرق ، سنلعب كرة القدم ، سنركض ، سنمشي بساقين مفتوحتين. اتفقتُ وهي على أن نجز شعرنا خفية بالمقص الذي يجز به جدها الخراف ، وأن نهجر الدمى ، وننام على الشاطىء وقت الظهيرة لنغدوا داكنتين مثلهم)(16) ، وبطلة قصة على رأس جني تتمتع بصفات قريبة جداً من هذه الصفات:( عيسى صديق طفولتي. كنا نلعب معاً ، ونأكل النبق سوياً ، وحين تشتد حرارة الشمس نسترخي بجسدينا في بركة صغيرة تدار مياهها في أفلاج متعرجة لتسقي أشجار الموز)(17) ، والبطلة في قصة معصوبة العينين إلى البحر تقدّم مستوى آخر من السباحة عكس التيار إذ ترغب في التمرّد على طقوس العدة( الفرح يزغرد في روحي. تمنيت لو كان باستطاعتي أن أحمل باقة ورد أحمر لأزرعه في البحر ، لكن العجوز العمياء كانت تزم شفتيها بغضب كلما اقترحت شيئاً جديداً.. لم أكن أعي بعد أنه لا تجوز مخالفة العادات ، لأن العواقب وخيمة ، ولأن أرواح الأموات مؤذية إن لم أتقن أداء العدة)(18).. وهي نفسها تقول في مقطع سابق من هذه القصة:( وأترك رأسي برأس موجة لنغني بصوت عال كل الأغاني التي نسيتها منذ أن دحرجني والدي في اتجاه معاكس للفضيحة)(19) ، فهي عن عمد تشتهي إسقاط المجتمع المتمثل في والدها المتسلط ، والاتجاه بسبق إصرار في الاتجاه الذي اصطلح المجتمع على كونه(فضيحة).
في مكان آخر من قصة حين تأكلني المدينة تقدّم هدى الجهوري هذه المعلومة الهامة عنها:( لدي قدرة فائقة على تفكيك الأشياء إلى أن أصاب بالدوار)(20)…نعم. لديها قدرة فائقة على تفكيك الأشياء حتى نصاب بالدوار ، ولكنه دوار يشبه ذلك الدوار اللذيذ بعد احتساء جرعة من النبيذ ، والذي يظل يجتذب مجرّبيه إليه باستمرار. هنا لن نجد مثالاً أجمل من القصة الرائعة(صوت) ، فهي تشتغل بحرفية عالية على تفكيك الحواس ، ومزج بعضها ببعض ، ثم إعادة تركيبها ، ثم تفكيكها ، في تحرّك مدهش وجذّاب أجزم أنه سيحجز لهذه القصة بالذات مكاناً مرموقاً في ذاكرة المستقبل. تقول هدى:( افكّر الآن أن الأصوات سبب حقيقي في إصابتنا بالخرف باكراً ، فثمة أصوات تصيبك بالهلع ، وتدفع قلبك لأن يقفز من فمك ، وأصوات تنحني عليك كمظلة وأصوات تأتيك راكضة على غيمة فرح ، وأخرى تتعثر قبل أن تحتفي بسماعها)(21).. قد لا تكون فكرة تجسيد الحواس ، وقليها جديدة تماماً ، ولكن المعالجة التي طرقت بها الكاتبة هذه الفكرة ، والتأمل العميق فيما وراء الحواس وتماهيها ، والخيال الخصب الذي غربلت من خلاله أحداث القصة أعطاها نكهة خاصة جداً ، وجعلها قريببة إلى قلبي.. لكني مع ذلك أقول: يؤخذ على القصة شيء واحد ، أن الاشتغال ربما كان يحتاج إلى مزيد من السرد وفرش الأحداث ، فالقصة تحرّكت بسرعة عبر تلك الأفكار الجميلة للدرجة التي قد توحي أحياناً بأنك أمام مسّودة أو رؤوس أقلام لعمل ينتظر وقته لينضج. فلنقرأ معاً هذا المقطع المتسارع:(قبل أن أنام ، وحين تغلق أمي الضوء في غرفتي ، وتحمل صوتها للنوم بعيداً عني أشعر بالخوف من صوت الظلمة الذي يتراقص بالقرب من الشراشف البيضاء.
أفكر دائماً في أن أختبىء تحت السرير لأسترخي على بطني وأمد اصابع يدي العشرة لأشعل صوتها ، فلأصابعي حكايات حين أسمعها تنام في الظلمة خارج غرفتي.
ذات مرة مددت إصبعي على لسان أمي لأتذوق صوتها ، لم أعرف وقتها ما طعمه ، لكني أدمنت عادة سيئة: أن أمص إصبعي إلى سن متأخرة)(22)
فالملاحظ أن هذا المقطع به ثلاث فقرات ، تقدم كل واحدة منها فكرة تصلح لأن تكوّن بناءً مستقلاً وعالياً أيضاً ـ وليس مجرد فقرة صغيرة كملوحظة كٌتبت على عجل.
(لماذا عليّ دائماً أن أكتشف أن المدن لا تبني عشها في صدري؟. أراها تتساقط ريشة ريشة ، وأجد أن كل شيء بداخلي يشير لتلك القرية الحافية سوى من خبزها)(23).. هذا تصريح آخر ورد في قصة حين تأكلني المدينة. هنا تطلّ هدى الكاتبة برأسها لتقول لنا: «لقد قلت لكم هذا في أكثر من موقع. لا للمدن ، ولضبابها المتنكر بثبات الدهاء..نعم للقرية وأمانها حتى ولو كان ساذجاً «..هناك اهتمام واضح بالقرية كخلفيّة لأحداث الكثير من القصص مثل قصص اسم ثقيل ، لا تشتروا وروداً لقبري ، معصوبة العينين إلى البحر ، رهانات غير مأمونة تفتح للفضيحة عيوناً ، وصوت.. وهذه الخلفية قد تبرز واضحة من أول السرد ، أو يمكن استشفافها من الأبطال وطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة في القصص. ترتبط القرية في مجموعة نميمة مالحة بالطفولة ، والذاكرة والأمان.. هذا ما يبدو واضحاً من ربط المشاهد الطفولية بالذاكرة ، وربط الاثنين بالأم والحنين إلى الأمان والاستقرار. تقول بطلة صوت:(وحين أصبح لي قدمان تحملاني لأبعد من مزرعتنا اكتشفت أن العالم أكبر من صوت أمي وأقل أمناً)(24). إن في القصص رغبة واضحة في تجاوز متاهات المدن التي تراود أولادها عن براءتهم ، كما يتضح من التفاصيل الغارقة في جو المدينة الصاخب والموجودة في قصة الحكاية شحيحة.. هل تكفي اثنين؟.. والعودة إلى ذاكرة القرية، إلى عيسى الذي احتفظ بالبراءة ، والجنون. إنها الرغبة في التخفف قبل النميمة ، ليتحرّك الكائن نحو دمعه بحرية مطلقة، دون النظرات المتلصصة:(أحاول الآن التخفف من البشر الزائدين كي لا يعيقوا حركتي وأنا أنصت لصوت النميمة. أغمضوا أعينكم عني ، فمن المؤذي أن يلتفت أحدكم وأنا أبكي)(25)، ولكن هناك وصول؟. النتيجة ترد في نفس القصة/الذات/المجموعة حين تأكلني المدينة.تقول هدى:(سأضيع بعدها بين قريتي والمدينة الجديدة.. سأكتشف أن ثمة جسراً يمتد كالنزق صوب اللاشيء ، وأن هنالك دمعة ملح على ذاكرة قديمة بين جدران الطين وأشجار الموز.. سأكتشف ايضاً أن لا ظل يتسع بينهما ، ولا يمكنني المرور لأن الحكايات غير معبدة)(26).. إذن فالقضية كلها رهينة الحكايات.. ولكن كيف هي هذه الحكايات ؟ أليست معبّدة حقاً ؟. ماذا ينقصنا كي نعبرها أو تعبر إلينا ؟.
ليست اللغة في أغلب الأحيان..فهدى الجهوري تتمتع بلغة لها نكهتها المميزة ، التي تضفي على السرد سحراً ، يقودنا في تفاصيل معظم نصوصها دون عناء ، فهي تعرف جيداً كيف توظف خيالها الخصب ، وشعريتها العالية في صياغة صورة مزدانة بالابتكار التصويري ، واللغة المدهشة الآسرة. تقول:(الضحك ملبّد بغيوم فقدت أسنانها وهي تغني)(27) ، وتقول في قصة أخرى:( ترعى قطيع خوفها من رذاذ الخيبات حين يرفل في الرماد ، وتحك عيناً للذاكرة)(28) ، وفي قصة معصوبة العينين إلى البحر تقول:( وأترك رأسي برأس موجة لنغني بصوت عال كل الأغاني التي نسيتها منذ ان دحرجني والدي في اتجاه معاكس للفضيحة)(29) ، ونجدنا في قصة على رأس جني أمام هذا المشهد التصويري:(لا أحد الآن يضيء الحكاية المطوية بعناية في أجنحة الأنبياء ، ولا أحد يمد أطرافه ليفرقع النهارات الحارة بالمقالب والضحك)(30). أعتقد أن هذه القدرة على مزج الخيال واللغة في هذا المزيج الساحر ، واحدة من أهم مميزات هدى الجهوري الكتابية ، والتي تعطي صوتها تفرّداً ملحوظاً بين البقية. وفي معظم الأوقات تكون هذه الميزة عاملاً هاماً في نجاح سردها وإنتاج قصص محكمة السرد ، كقصتها الرائعة(تفاصيل للقلق).
ولكن هذه اللغة الخاصة نفسها تكون جامحة أحياناً ، فتلقي بالسارد والمسرود له من على ظهرها ، لتفسد الاستعراض القصصي، خصوصاً عندما تسرف بدايات بعض القصص في الاستعراض اللغوي ، أو حينما تصّر هدى على تركيب عدة صور- وإن كانت جميلة جداً – في جملة واحدة ، يكون تفكيكها وتأملها بعناية عائقاً في وجه سلاسة السرد حتى النهاية. مثال ذلك موجود مثلاً في الصورة التي تفتتح بها قصتها لرجل قلما ينتبه. تقول:(تتسلق سلمى الهواء وتمضي ، تلثمها قطراته التي تختلس الاسترخاء على جسدها الراقص ككرة فرغت من ثقل الهواء ، وتدحرجت بمحاذاة النزق الذي تربع فوق أهدابها)(31) ، أو كقولها في نفس النص(مللت من الوشوشات التي تثقل كفة حظي التعيس في ميزان التواطؤ العابث الذي تقيمه افتراضاتك الغبية)(32) ورغم تكثيف هذه الصور ، التي تعيق التمتع بسلاسة الحكاية ، إلا أنني أعتقد شخصياً أن هذا النص واحد من النصوص الجميلة في المجموعة ، وذلك لأن الكاتبة تنجح في رسم تفاصيل المشهد الخيالي بدقة ، معتنية بكل التفاصيل ، كما لو كانت تنحت تمثالاً ، والنص قد يبدو عادياً للقاريء العابر في الوهلة الأولى ، لكن إعادة القراء لأكثر من مرة سيكشف خصوبة الخيال فيه ، والدقة في الوصف ، والتصعيد المنطقي لهذه العلاقة الملتهبة بين الذكر والأنثى ، والحضور والغياب.
إذن فخيار اللغة لم يكفنا لنجيب لماذا ليست الحكايات معبّدة ؟. هل لأن صوت الأنثى هو الطاغي على كل القصص ؟..فالعنوان مؤنث ، وكل القصص تمتزج بنكهة الأنثى بنسبٍ متفاوتة ، ففي الغالب هي البطلة ، وفي أضعف حالات الإيمان تكون هي الساردة. لا أظن أن ذلك يمنع من رصف الطرق إلى كل الحكايات. فقصص امرأة ترعى قطيع الحب خفية ، ومعصوبة العينين إلى البحر ، وحين تأكلني المدينة ،والحكاية شحيحة هل تكفي اثنين ؟ ، وصوت ، والعتمة كحيز آمن تجعل من الأنثى مركز العالم السردي بلباقة سردية تثير الإعجاب ، والحكايات فيها رائعة. لا أنكر أن طغيان هذا الحس الأنثوي قد أفسد نصها الموسوم بظنون حادة كالمسامير ، فرغم تكراري لقراءة(ظنون حادة كالمسامير) ، ومحاولة تأويله بأكثر من وجه ، إلا أني أعتقد أنه يصعب تصنيفه كقصة ، فهو أقرب إلى المناجاة ، وإذا كنا نستطيع استشفاف بعض معالم الحكاية من هذه المناجاة ، إلا أن هذه التفاصيل شحيحة للغاية ، ولا توصلنا في النهاية إلى الاقتناع بأننا أمام نص قصصي متكامل… لكن الغالب أن هدى استطاعت التعامل مع روح الأنثى واستخدامها بشكل عملي دون خسارات فادحة. وهي في طرحها أيضاً لم تكن مع الأنثى ضد الرجل مثلاً.إنها مع الأنثى ضد العلل الاجتماعية المزمنة ، حتى وإن كان الحل في أن تسعى الأنثى تجاه استقرارها بتقديم تنازل يعرف طريقه جيداً إلى رجل يسعى إليها هو الآخر من جهة معاكسة.. هذا ما نستشفه من ختام قصة تفاصيل للقلق:( تنحدر من عينيها دمعتان حارتان كانتا قبل لحظات ترقصان رقصة الرفض للآخر ، يلمعان تحت الضوء ، ثم يختفيان في ثوبه الأبيض. تغزو جسده حرارتهما فيرفع رأسه إليها في الوق الذي تخفض رأسها إليه ليتوحدا معاً لجزء من الثانية ثم يغرقا في نوبة من البكاء )(33)
إذن فتجنيس الساردين لم يحل دون رصف الحكايات. هل المشكلة متعلّقة بوعي الساردين مثلاً؟. حدث هذا بصورة تسترعي الانتباه مرّتين في النميمة المالحة. المرّة الأولى في رهانات غير مأمونة تفتح للفضيحة عيوناً حين كان وعي السارد اللغوي والفكري متطابقاً مع وعي الكاتبة، وحيث كان يفترض أن يكون النص قلباً وقالباً طفولي المدارك ، فغنى المحصّلة النهائية كانت أشبه بشعورنا حين نرى أباً يحاول تمثيل دور طفل ليقنع ولده بالحكاية. المرة الثانية كانت في قصة أعدها من أجمل ما كتبت هدى في هذه المجموعة ، قصة معصوبة العينين إلى البحر ، فالإطار الزماني ، والحيّز المكاني ، والحدث المتصاعد ، والإسقاطات الاجتماعية كانت في غاية الروعة ، وكان النص مقنعاً جداً لولا تلك الفقرة التي توحي بأن البطلة أصغر عمراً ، وأقل ثقافة من أن تكتب بتلك اللغة ، وربما بذلك الوعي أيضاً. أما في باقي القصص ، فقد نجت من هذه الإشكالية ، واكن الساردون فيها مقنعين إلى حد كبير فيما يقولون. هل وجود مثل هذه الإشكالية في قصتين فقط يحول دون وجود الحكايات المعبّدة ؟
إذن هل المشكلة متعلّقة بالحيّز الذي يشغله المجتمع من الثقافة الكتابية لهذه النميمة المالحة ؟. لا أظن ذلك. إذا سلّمنا بأن الكاتب مهما كان منكفئاً على ذاته هو جزء من المجتمع ، وبالتالي فإن اشتغاله على ذاته اشتغال على بؤرة من بؤر المجتمع.إن لم يسلّم البعض بذلك ، فإن الكثير من قصص المجموعة تقدّم نماذج اجتماعية هامة تستحق التوقّف: ياسة في قصة اللعبة حين تدار في الخفاء والتي تختار الانهزام أمام الواقع في قصة حب مهشّمة نراها باستمرار حولنا..الصبي المعاق في قصة اسم ثقيل الذي لم يجد المجتمع وسيلة ليتعامل بها مع إعاقته غير تغيير اسمه ، النظرة الدونية للأنثى ، وقضية الختان الموجودة في قصة رهانات غير مأمونة تفتح للفضيحة عيوناً ، المرأة التي يشظيها الواقع وترعى حبها خفية كما في قصة امرأة ترعى قطيع الحب خفية ، الملابسات المتعلّقة بالموت والحداد والسحر والزواج غير المتكافىء في قصة معصوبة العينين إلى البحر ، ورحلة الضياع الأزلية بحثاً عن الراحة في المدينة في قصة حين تأكلني المدينة.هذه الأمثلة أكثر من كافية لتنفي عن هدى تهمة التورّط بالذات ، إن كانت هذه تهمة حقاً.
إذن ما المشكلة يا هدى ؟ لِم ليست الحكايات معبّدة؟. ليست هناك مشكلة.إن هذا مجرّد وهم تنفيه الصفحة الأخيرة ما بعد النميمة:(وحدك من تكتشف أنه لا ينقصك سوى أن تدير رأسك في الأماكن لتبادلك المسرات والفرح بدلاً من أن تعد الانتظارات على أصابعك الناقصة)(34)
إن ما قدمته النميمة المالحة كان عملاً يستحق التقدير والثناء إجمالاً ، وأعرف جيداً من متابعتي لنصوص الكاتبة أنه كان بمقدور نميمتها أن تكون أروع لو استبدلت بعض قصصها بقصص أخرى آثرت تركها خارج المجموعة لزمنٍ قادم.
قالت هدى الجهوري في قصتها حين تأكلني المدينة:(لا أدري متى أتعلم أن أرى الكون بمجمله دون التورط بالتفاصيل المرهقة)(35) ، أقول في ختام قراءتي هذه بأنانية لا ينقصها الفخر: لا تتمني ذلك.. إن تورّطك بالتفاصيل المرهقة كان ممتعاً لنا.
الهوامش
1 – حين تأكلني المدينة ، ص 82
2 – على رأس جني ، ص 79
3 – اللعبة حين تدار في الخفاء ، ص 16
4 – العتمة كحيز آمن ، ص 105
5 – العتمة كحيز آمن ، ص 108
6 – حين تأكلني المدينة ـ ص 84
7 – لرجل قلما ينتبه ، ص 28
8 – اللعبة حين تدار في الخفاء ، ص 13
9 – حين تأكلني المدينة ـ ص 88
10 – صوت ، ص 100
11 – اللعبة حين تدار في الخفاء ، ص 13
12 – اللعبة حين تدار في الخفاء ، ص 14
13 – تفاصيل للقلق ، ص 33
14 – حين تأكلني المدينة ـ ص 84
15 – تفاصيل للقلق ، ص 32
16 – رهانات غير مأمونة تفتح للفضيحة عيوناً ، ص 39
17 – على رأس جني ، ص 74
18 – معصوبة العينين إلى البحر ، ص 69
19 – معصوبة العينين إلىالبحر ، ص 68
20 – حين تأكلني المدينة ـ ص 87
21 – صوت ، ص 98
22 – صوت ، ص 99
23 – حين تأكلني المدينة ـ ص 89
24 – صوت ، ص 99
25 – مقطع قبل النميمة ، ص 7
26 – حين تأكلني المدينة ـ ص 85
27 – اسم ثقيل ، ص 21
28 – امراة ترعى قطيع الحب خفية ، ص 47
29 – معصوبة العينين إلىالبحر ، ص 68
30 – حين تأكلني المدينة ـ ص 82
31 – لرجل قلما ينتبه ، ص 25
32 – لرجل قما ينتبه ، ص 27
33 – تفاصيل للقلق ، ص 33
34 – ما بعد النميمة ، ص 113
35 – حين تأكلني المدينة ـ ص 87
عبدالعزيز الفارسي
قاص وروائي من عُمان