ليس أكثر من الخط العربي، تعميقاً لاتصال العلامة كمظهر بالمرجع كإيديولوجيا، إنه اتصالٌ بالمقدس، شكلانيةٌ تطمح لتكون محاكاةً للمطلق حد أنها كثيراً ما تُذيب الفارق بين الدال ومدلوله بجعل التشكيل نفسه إحالة بصرية للمرجع، تغدو حال اتصالها بالعادي أو غير المفارق خيانةً لجوهرها. هنا، يبدو كأن المرجع هو من يخلق علامته وليس العكس، حد أن خيانة ذلك المرجع، تغدو إثماً.
ينسل “يونس الخطاط”، مُحرِّك رواية أمجد ناصر الأحدث “هنا الوردة” (دار الآداب، بيروت)، من بين الأيدي الممرغة في القداسة لحروف المُطلق المُذهَّبة، قداسة الآية السماوية ومن بعدها قداسة السلطة نصف الإلهية، يرث لقباً لا يدل عليه، بل إنه يناقض بالأساس هوّيته الباحثة عن نفسها، كأنما يحمل الأسلاف قسراً على كاهله فيما ينفلت من قطيعهم. بالأحرى: كأنه يرتد إليهم من حيث أراد أن يهرب منهم. سندباد رازح تحت الساقين المتقاطعتين لجد عجوز حول عنقه، ذاهب، للمفارقة، إلى “مدينة السندباد” بالذات ليتخلص من نيره هنا، هناك.
يحمل يونس رسالةً أخرى، رسالة تناوئ السلطتين اللتين يمثلهما النظام العلاماتي لأسلافه: سلطة السماء وسلطة الدنيا. وللمفارقة، فإن يونس يستعيض عن “اليد”، رمز الأسرة و”الدالّ” الرئيس في معجمها، بالقَدم، حيث إن الرسالة التي يحملها في رحلته الروائية، مخبأة بالذات في حذائه. قَدَم، هي أداة الرحلة، الممرغة في وحل الدنيا، تحمل إرث يدٍ مقدسة، يدٍ سالفة تنفلتُ يدُ الحاضر من سلامها.
***
تنهض “هنا الوردة” على رحلة يونس الغائب في ذهاب وعودة لإيصال رسائل سرّية لحساب تنظيم مناهض لسلطة “الحامية” التي لا يمثل يونس فقط أحد سكانها، بل وسليل أسرةٍ لصيقةٍ بهذه السلطة التي ينهض ليناوئها بالذات. هو الشاعر الذي يخفي الوردة في راحة إحدى يديه بينما يُشهر بالأخرى بندقيته. مِن حامل رسائل لا يدري كنهها لفاعلٍ في محاولة اغتيال، ومن متنقلٍ حذرٍ بين مدينة وأخرى لهاربٍ أبدي. يونس هو بالضبط “الحدود” التي يعبرها ذهاباً وعودة، والتي فيها انعتاقه ومحبسه، حياته وموته، وبالذات: انتقاله، بالبعدين الكنائي والاستعاري. حدود تُبقي ساقاً في الداخل وأخرى في الداخل، مثلما يغرس يونس ساقاً في الشعر وأخرى في العمل السياسي. حدودٌ وظيفتها الوحيدة أن تحمي مكاناً آخر لا أن تلتفت لنفسها، فهي مكانٌ قائم في العراء، جحيم لا يعرفه فردوس الخرائط، وُجد دائماً من أجل مكانٍ آخر. “الحدودُ” دالٌ إحالي بالكاد، ليس بوسعه أن يُشير إلى نفسه وإن أراد، وكذلك يونس.
قَدَمُ يونس تحرَّكه، متصلةً بالتغيير والصيرورة والانتقال من نقطة إلى نقطة، بينما اليد هي الثبات الذي يغدو أي اهتزاز فيه فقداناً كلياً لوظيفتها. اليد، كتمثيل للموروث والثبات والخلود عبر الخط/ الأثر، وأيضاً كعضوٍ مُعلن، عارٍ، يفعل فعلته تحت شمس العالم، ترثُها هُنا القدم كتمثيل للصيرورة والحركة وعدم الثبات في نقطة، وتمثيل الشفاهة التي لا يُبقيها الطريق، وهي العضو المتستر والذي عبره يمكن أن يُخبأ سرٌ في أكثر نقاط جغرافيا الجسد الإنساني نأياً واتصالاً بالأرضي. ثبات القدم، على عكس اليد، هو موتها. اليد مجبولة على وراثة المهنة أو الحرفة، بينما لا تعرف القدم سوى طريقها هي. ربما تنهض “هنا الوردة” في أحد أبعادها، على هذا الصراع الرمزي القائم، في النهاية، داخل جسدٍ واحد هو “الأسرة”، التمثيل الأوّلي لفكرة الجماعة، التي ينفلت منها يونس باحثاً عن فرديته، غير مدركٍ أنه في الوقت نفسه لا يفعل أكثر من استبدال جماعة بجماعة، وتقليد بتقليد، و”عقيدة” بأخرى.
مهدُ الذات ومقبرتها
بانبعاثه الروائي، لا يكون يونس قد غادر سلطة الجماعة فقط (في المحكية الواقعية المفترضة أو ممكنة الحدوث)، وإنما يغادر بالقوة نفسها سلطة سارد عليم (في الواقع الفني)، ساردٌ حدد له موته سلفاً في توطئته، بصوت إله مطلق، وتركه للحياة، فقط، في النص الروائي. تبدأ رحلة يونس كشخصية روائية من موته أو تجمِّده أو تلاشيه، كأن حياته الروائية لاحقة على موته، أو كأن الحياة هنا هي البعث الذي يلي الموت وليس الوجود الذي يسبقه. يونس، وفق هذا المنطق، ينهض من رقدته روائياً ليحيا هنيهةً خاطفة قبل قيامته، وهذا ما يجسده الزمن السردي بالفعل، فزمن الرواية ليس أكثر من شريحة مقتطعةً من سيرة يونس تمثلها رحلة نهائية، فيما تعمل الاسترجاعات المتلاحقة على استحضار حياة كاملة بدأ النص الروائي وقد صارت، فعلياً، خلف ظهر بطلها.
نحن إذن أمام شخصيةٍ روائية ماتت مِن قبل أن تولد، بإرادة ساردٍ عليم أراد أن يكون مهد نصه هو المقبرة. ألا يتسق ذلك مع رحلة يونس باتجاه الاتحاد بإلهه، حتى لو كان ذلك الإله أمين تنظيم سري، محتجب، وعصي على أن يُرى، توجده الدلائلُ ولا يراه المؤمنون به؟ يستيقظ يونس في آخرة تختلف عن حياته وإن طابقتها كصورة: مدينة يُشار إليها دون أن يُصرّح باسمها، تغريبٌ مقصود، يلحقه تغريبٌ لاسم المطربة المفضلة، والشاعر المفضل، والكتب والنصوص المُستدعاة. وجودٌ فقد الاسم، أو ربما يبحث عن اسمه وسط أنقاض تحققه في حياة سابقة. في “هنا الوردة” تحضر المُسميَّات وتغيب الأسماء، رغم ذلك لا يصعب فضها، فالعلامات الدالة عليها أوضح من أن تضلِّل قارئها، ولا تريد، هي فقط تطمح في أن تُبقي الإحالة عند حدها الإشاري دون أن يفيض ذلك عن الحاجة أو يبتعد بالنص عن سؤاله الكبير العميق لمصلحة أسئلته الأوّلية سهلة الفض.
مبدئياً، تتحقق شخصية يونس كفرد ممزق بين جميع المتناقضات، فأبيه، خطاط السلطة، بينما هو المنضوي في تنظيم سري، هو شاعر لكنه يصغي لجمود التنظيم ويقينيته وعقائديته، هو حبيب لـ”رلى”، وهي، للمفارقة، “ابنة قائد الحرس السابق للحفيد”، يده التي تلتحف بيدها، هي نفسها اليد المتواطئة في مقتل أبيها أو الداعمة له. يصحب يونس في رحلته كتاباً حكائياً، هو “دون كيخوتة”، مفارقة أخرى فادحة، لمن يتخيل نفسه فارساً للتغيير، فيما يحمل في حقيبته نصاً عن حرب عبثية ضد طواحين الهواء، يبدو كأنما يكتبها بأكثر مما يقرأها. بتكثيفٍ شعري، فإن يونس هو عيناه “اللتان تتطلع واحدة منهما إلى جهة، والثانية إلى جهةٍ أخرى”: “هو نفسه الذي يناكف أباه في تحميله الحروف والخطوط أسراراً عُلوية، ويكاد يسخر من انتشاء روح والده بأشعار وشذرات عابدين من نوعٍ آخر. إنّه هو نفسه الذي يقول إن الطبيعة خلقت نفسها بنفسها، يحكمها قانون النشوء والارتقاء، إنّه هو نفسه الذي يمكن أن يطلق رصاصة على خصم له من أجل كلمات مكتوبة في شعار، هو نفسه الذي يضحك من مناجاة أمّه لطيور الله الطائرة، هو نفسه الذي قطع مئات الأميال حاملاً رسالة لا يعرف مضمونها إلى قيادة تنظيمه في الخارج”.
يُفسح السارد العليم المتن المقبل لساردٍ آخر، سارد مصاحب، لا يملك معرفةً كلية، وليس أيضاً بالسارد المحايد الذي يكتفي بالرصد المشهدي السلوكي. السارد في “هنا الوردة” يملك معرفةً تساوي معرفة يونس عن نفسه، لا تزيد ولا تقل. كأن يونس من يسرد عن نفسه كآخر بالضمير الثالث، أو كأن ظله هو ما يسرده.
بِنائياً، تتصل الرواية في بنيتها الكلية بفكرة المراوحة بين “هنا/ هناك” المكانية، عبر بنيةٍ تمثل ذهاباً وعودة زمنياً. فالزمن الروائي ليس سائلاً طوال الوقت وفق الاضطراد الخطي، إذ تحفل “هنا الوردة” بخلخلات زمنية يحيل فيها كل موقفٍ سردي آني إلى آخر تستعيده الذاكرة، وهذا ما يمنحها هذه المراوحة بين البصري المشهدي والتأملي الشعري، وتجعلها في جدليةٍ لا تهمد بين السردي الزمني والتجريدي اللازمني، مع استخلاصات، أقرب لبروقٍ استخلاصية، شعرية أو معرفية، تقطع اتساق المقاطع طباعياً بتبايناتٍ خطّية.
بطولة الواقع على أنقاض المخيِّلة
يوصِّل يونس رسالةً لم يكتبها، ولم يقرأها. هو موجودٌ بين مرسل ومستقبِل، محضُ رسولٍ ليس من حقه، حتى، أن يتعرف على رسالته.
من سماء الله، ومن تحتها سماء السلطة، يغادر يونس فردوس الاتفاق ليتقمص دور “الرسول”، الذاهب برسالة، الرسالة، التي تتصل أيضاً ببعدها السماوي، تقطن إحدى فردتي حذائه. رحلة يتجاوز بها التاريخ المكتوب بالذهب، نحو مستقبل التراب الذي يقطنه الفقراء.
رسالةٌ سرية ملتصقة بكعب يونس، يوصلها، لتُستبدل بأخرى في نفس الموضع يعود بها: كعبُ أخيل آخر، فيه قوته وموته، انتصاره الأكيد واندحاره النهائي. رسالة كصخرة سيزيف أيضاً، ما إن يصعد بها يونس من سفح الجبل لقمّته، حتى تتدحرج ليحاول إعادتها.
يونس هذه المرة، لا يدخل إلى أو يخرج من بطن حوت بالضبط، بل إلى ومن “علبة أصداء”، حسب الرواية. صوتٌ محبوس في أصدائه، ينفلت ليتعرف إلى نفسه: “البلد، بهذا المعنى، علبة أصداء، رغم التشديد الإعلامي المحلي على الاستقلال والسيادة”. يغادر يونس “الحامية”، يغادر علبة الأصداء، باتجاه علبة أصداء أخرى، تختلف طبيعة الأصوات فيها لكن الأصداء تبقى واحدة، إذ يغادر الاتفاق الجمعي في حاميةٍ “تبدو بسبب تاريخ أسلافها المشترك وقلة عددها وتقارب أوضاعها المعاشية، كأنها نادٍ خاص”، نحو تنظيم، هو حامية جديدة، يحل فيها “القائد” محل “الحفيد”: سلطة مرجأة تنتظر الحلول محل سلطةٍ قائمة، وعلى تباعد الإيديولوجيا، ففكرة العقيدة واحدة.
يرجّع “يونس” أصداء “أوديسيوس” أيضاً، الذي يستدعيه بنفسه، للمفارقة، في نقطة تفتيش حدودية على مشارف مسقط رأسه، كأنها العودة المشتركة لبطلين ملحميين، وحيث يتدخل “أخيل” أيضاً: “عبور الحدود هو اللحظة التي ينبغي أن يبلغ فيها الحذر أقصاه، والخطر ليس في ما تحمله ذاته، أو حقيبته، بل كعب حذائه. تذكّر، وهذا الخاطر يعبر ذهنه، ملحمة شعرية أسطورية تقاذفت بطلها الظروف القاهرة والأمواج العاتية من بحر إلى بحر، ومن قدر مرير إلى آخر أكثر مرارة حتى وصل، بعد عشرين سنة، شيخاً، متعباً إلى موطنه”. وإذا ما أضفنا “دون كيخوته” التي يحمل يونس نسخةً ملخصةً منها (مثلما تمثل “هنا الوردة” نفسها خلاصة حياة يونس)، فإننا أمام جميع الأبطال المغدورين وقد وحّد أسماءهم “خطٌ” ما في لحم لافتة واحدة.
لا تلائم هذه المقاربة تصوّر “يونس” عن نفسه: “أبطال الواقع هم الذين يفتنونه وليس أبطال الأساطير. الواقع الذي يصير أسطورة وليست الأسطورة التي ربما كان فيها شيء من الواقع ولكنها ليست واقعاً، وبما أنّ المرء يصعب أن يكون إلهاً أو نصف إلهٍ فمن الصعب تقمُّصه”. يونس المفتون بأبطال الواقع، في مفارقةٍ فادحة، يصطحب “دون كيخوتة” كرفيق وحيد في رحلة هدفها أن يصير أحد أبطال الواقع، ويعترف في لحظة مكاشفة أنه “يجد نفسه متقمصاً شخصيات الروايات والقصص التي يقرأها”.
يتوفّر “يونس” كشخصية روائية على التناصات التي تجعل منه ذاتاً متعدية، تجلب طوال الوقت ذواتاً سالفة في مُكوِّنها، دون أن تكون ظلاً لأحدهم بالذات أو انعكاساً لمقولته أو استعادة عصرية منتزعةً من تاريخيته. ولنلاحظ أن الذوات التي تفتن يونس، أو يتناص معها، أو تسكنه، جميعها ذوات “فنية” نابعة من الميثولوجيا والملحمة والرواية ومدوّنة التخييل إجمالاً. يبحث يونس عن صورته كبطلٍ للواقع متكئاً على ذخيرته من أبطال المخيلة، بعين الشاعر، التي تنظر في اتجاه مناقض لعين السياسي، واللتين، في صورتهما معاً كعينين تنظر كل منهما في اتجاه، تمنحانه “حوله”، الذي ظل يؤرقه، أرقاً وجودياً يتجاوز في الحقيقة الملمح الشكلي، لذا، فإن “الحب”، والحب وحده، هو ما يجعله يعيش لحظات الهدنة المؤقتة مع هذا الحَوَل: “عرف يونس، الذي تسكنه عقدة خفيّة إزاء حَوَله رغم تسمية رلى الشاعرية له بحول الُحسن، ورغم حركة رأسه المدروسة بحيث لا يظهر زيغ عينه اليسرى لمن يراه، أنّ رفيقه كان يدقق في عيبه الخلقي، فامتعض قليلاً. يبدو أنه لن يتخلص، بسهولة، من عقدة طفولته ومن طنين تعليقات رفاقه الفظة على حَوَل عينه الذي لا يكاد يراه الناظر إلا إذا تفحصه بدقة، فتذكَّر رلى التي لم تلحظ ذلك إلا عندما أخبرها، فقبّلت عينه اليسرى ضاحكة، وقالت له يا أهبل هذا حَوَل الحسن”. تقع عين السياسي، عين الإيديولوجيا المدربة على التقاط التناقضات وتنسم رائحة الخيانة، على العيب بسهولة، تسبر ما يحيل إليه من “حَوَل وجودي” إن جاز التعبير، من صراع بين طريقتين في رؤية العالم واتجاهين لا يلتقيان على شرف وجهٍ واحد، بينما الحب، والحب وحده، هو من يقيم المصالحة بين الاتجاهين المتناقضين، ليمنح الصراع قبلة سلام.
بالمقابل، فإن “رفاق” يونس يشكلون القطيعة الأكبر مع رفاق أبطاله الخارجين من نصوص التخييل الكبرى، هم “رفاق الواقع” ولا شيء غيره، في خلخلةٍ عنيفة لعلاقة البطل بمحيطه: بطلٌ مادته التخييل يتخبط بين رفاق مدادهم الواقع. لا وجود لـ”سانشو” هنا، بل إبراهيم الحناوي، أبو طويلة، حسن فياض، خلف، وحيد، حسيب، الذين يحضر تساؤل جوهري حولهم: “أي واحد من هؤلاء مستعد لحمل رسالته؟”
رفاق “مسقط الرأس”، يعكسهم رفاق “التنظيم”، من مروان لهاني لقائمة تطول وإن غامت أسماءُها. يبدون غابةً من الأسماء مختصرةً في أدوارها أو وظائفها الأوليَّة لكن بلا أعماق حقيقية كذوات توهم بالحياة. إنه القطيع الذي استبدله يونس بقطيع أسرته، والذي يحضر، دائماً، ككتلة أو مجموع بأكثر مما يحضر ذواته كأفراد. حتى “سند”، الشقيق الذي يبدو على مفارقةٍ مع اسمه، ينتهي دوره عند نقاشاتٍ ذهنية عن التراث، بل إنه يلوح كسحابةٍ منذرة في “علاقةٍ متراوحة بين الحب والتنافس، التمرد وسلطة الأخ الأكبر التقليدية”. وفي الأخير، قطيع أسماء يطوِّق يونس مثل “مجاميع” السينما التي كلما أحاطت بالبطل كلما غامت ملامحهم لتؤكد على وجهه هو.
ذاكرةٌ على شرف الوردة
من غرفة فندق لبيوت متعاقبة، لا يكاد يونس، في “المدينة الأخرى”، يرى الوجود الطبيعي الذي أزاحته الإيديولوجيا إلى حوائطها. في مشهد دال، يرى يونس، في ما بدا أنه منزل “أمين التنظيم” صوراً لأزهار وورود. وجودٌ طبيعي وُجد للتمويه وحسب، لكي لا تُستشف طبيعة ساكني المكان. يُستغرق يونس في تفاصيل الصورة، التي تحيل مباشرةً لـ”رلى”، الحبيبة الخبيرة في الورود والأزهار. الاصطناعي يحيل للطبيعي، والثقافة تستدعي بالفطرة المقموعة، (في إذابةٍ شعريةٍ ذكية للثنائيات القِيمية الجاهزة والمبذولة)، إنها مفارقةً فادحة ترقى بهذا المشهد ليكون أقرب لتجريد شعري لمجمل المقولات المبثوثة في هذا النص الروائي. ومن هذا المشهد نفسه، تُستحضر أدوار “الوردة”، فوردة رلى التي مكانها الحدائق، ليست وردة “يونس” التي تتفتح في القصائد، وبينهما الوردة التي يستدعيها يونس في عبارةٍ مجتزئة من “كارل ماركس” نفسه” “هنا الوردة فلنرقص”، ومنها حصلت الرواية على عنوانها. ثلاثة تعريفات للوردة، وردة الوجود الطبيعي الغفل ووردة الخطاب الفني الجمالية والوردة “الوظيفية” للخطاب السياسي البراجماتي. أيضاً، وإن كانت الوردة تُختصر في عبيرها، فإن أنف “يونس” هو حاسته المشحوذة، حتى أن حياته كلها تُستعاد عبر الرائحة بالذات: “الروائح، لسببٍ ما، تذكَّر المرء بما يرغب وبما لا يرغب. لا نستطيع الاختيار. محظوظ من تُذكَّره الروائح بما يرغب فقط. يبدو أن يونس محظوظ في هذا، إذ قلّما تفشل الروائح في تذكيره بما يسرّه ويرغب فيه، ومنها تلك الذكرى التي ألحّت عليه وهو يقف خارج بيت الأمين العام وتداهمه روائح عضويَّة قادمة من قلب ليلة حارة رطبة”.
يستنشق يونس حياته، إن جاز التعبير، عبر روائحها المتطايرة. الرائحة، سريعة الزوال، هي، للمفارقة الشعرية أيضاً، السبيل الوحيد لإعادة تشييد حيوات تحوّلت لأنقاض. “هنا الوردة” رواية استعادة وفق هذا المنطق “الشعري”، فالرائحة هي الثبات حسب قراءة، لا بد في حالة هذه الرواية أن تكون شعرية.
ربما لذلك تبدو حياة “يونس” كشخصيةٍ روائية، ومن خلفها البنية الروائية الأشمل لـ”هنا الوردة”، أقرب ما يكون لتلك اللعبة المتاهية المؤلفة من مجموعة علب التي ما إن تُفتح إحداها، حتى تظهر في جوفها علبة أصغر، وهكذا، علبة داخل علبة بحثاً عن معنى راقد يشغل الخواء أو يمنحه معنى.
بعد أن ينكشف أمره، يحضر، للمرة الأولى، “الجد”، صاحب اليد الأمهر، في معارضةٍ شعرية مع “الحفيد” (حاكم المحمية)، الصيد الثمين الذي يفلت غير مرة من محاولات اصطياده: “لا يعرف، في غمرة النبأ المفاجئ، الذي لم يخطر على باله قط، كيف ولماذا حضر جدّه وهو يحمل يده اليمنى بيده اليسرى… كان يرفع رأسه قليلاً إلى الأعلى، كأنما ليرى شيئاً لا يبدو للآخرين، الله مثلاً الذي يرفع إليه غضبه الصامت أو شكواه من الفالج الذي أصابه في سنينه الأخيرة، وضرب العضو الذي يتِّصل عبره بالعالم، ويحقق وجوده من خلاله: يده اليمنى. لم يفكر من قبل في محنة جده. لماذا أصابت البلوى يده اليمنى تحديداً؟ كأن في ذلك عقوبة مفصلة له خصيصاً. ليست يده اليسرى، ليست عينه، ليست لسانه، ليست حاسة شمه. يده اليمنى التي خطّ بها كلاسيكيات ذائعة الصيت في الحامية، والجوار، هي التي عطبها الشلل”.
يستدعي عطبُ القدم عطبَ اليد، كلاهما يغدو معطلاً في لحظة، وكأن الإخفاق واحدٌ عندما يتعلق بالسلطة، سواءً كانت اليد المرفوعة بسُلطة الشمس أو القدم المتسللة في سُلطة الخفاء.
في العلبة النهائية من علب الأصداء، أصغر العلب وأضيقها، يرقد الصوت، صوت يونس الأسير، متخبطاً في محبسه، لكن إخراجه، لأول مرة، يساوي، للمفارقة، خروج يونس، نفسه، من نفسه، أو خروج “آخر” من “الأنا”، بالضبط مثلما يحدث في النهاية الغائمة ليونس في مشهده الأخير: “خرج شخصٌ من جسد يونس له ملامحه وانفصل عنه. رآه، رغم العتمة، وهو يطلع منه، وينسلخ عنه، بلا ألم”. يونس يغادر يونس: كلاهما حي، كلاهما ميت، أحدهما مغادر والثاني عائد، وكأن يونس “هنا الوردة”، كان يونس والحوت معاً.
طارق إمام*