محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم
تطرح النظريّة الأدبيّة في راهن الدرس النقديّ العربي بالبيئات العلمية العربية، قضايا أدبية وأسئلة منهجية، كثيرًا ما كانت موضوعًا للدرس النقديّ ومشغلا للبحث العلمي. فقد ارتبطت في الدرس بالإثارة العلمية لقضايا أدبيّة واجهت الفكر الأدبي العربي، وأخذت حيّزًا مهمًّا من اهتمام المنشغلين بتدريس النظرية الأدبية، والمشتغلين بتطويرها في البيئات العلمية العربية وحواضنها الثقافية، وارتبطت في مشاغل البحث العلمي بأسئلة منهجيّة، أدّى إليها اختبار النظرية النقدية ومساءلة أطروحة مناهجها وحذق أدواتها، في مدارس الدكتوراه ووحدات البحث ومخابره المتخصّصة. وقد أدّى الانشغال بهذه القضايا، في أغلب دوائر الحوار في البيئات العلمية العربيّة، وراهن مشاغل البحث العلميّ فيها إلى مواجهة أسئلة مرتبطة بالنظرية النقدية في التجربة العربّية، تصدرها سؤال الهوية، واستبطنها سؤال علميّة الأطروحة: فهل يمكن أن تُنسب النظرية النقديّة إلى أمّة ؟ وهل للعرب نظريّة نقدية؟ وهل من ضرورة لوجود «نظرية» نقديّة عربيّة؟ أم أن النظرية النقدية من خصوصيتها أن لا تنسب للغة ولا لأمة؟ وهل للنظرية النقدية حظٌّ من العلم، يمكن أن توصف معه الأطروحة النقدية بالعلميّة؟ وهل ما ينتج في البيئة العلمية العربية يعدّ مساهمة في تطور النظرية الأدبية؟ أسئلة عديدة ومتنوعة، انشغل بها منظّرو النظريّة الأدبية في البيئات العربيّة، واشتغل عليها الباحثون في مناهجها وأدواتها، تعميقًا منهم لمدارك نقدية حول النظرية النقديّة عند العرب، وبناء لنظريّات نقديّة تُغني النظرية النقدية، في التجربة العربيّة، وتُسهم من موقعها في تطور الدورة العلمية لـ«علم الأدب»(1). ولغاية منهجيّة سنقدم في هذه المساحة المحدودة من الكتابة، تصوّرا للنظرية الأدبية في التجربة العربية، يتوخى المساهمة من موقعه، في الإجابة الضمنية على بعض الأسئلة المطروحة، وخاصة منها سؤال هويّة النظرية الأدبية وعلمية الأطروحة النقدية، مشاركة منّا في الحوارات العلمية القائمة ؟
الفكر الأدبي العربيّ والنظرية الأدبية: أسئلة المواجهة.
عديدة هي الأسئلة التي واجهت وتواجه المنشغلين بتطوير الفكر الأدبي العربي، فقد تطور مجال البحث في النظرية الأدبيّة، ليشمل اختصاصات ومشاغل علمية، أدخلت الفكر النقدي العربي الدورة العلمية لنظرية «علم الأدب»، وهيأت بيئاته العلمية للمساهمة في تعميق مداركها وحذق أدواتها في التجربة العربية، فقد اتسعت دائرة التداول العلمي للنظرية وأدواتها في الجامعات ومراكز البحث، فظهرت كتب وأعمال، وأعدت بحوث وأطاريح، وأقيمت ندوات ومؤتمرات، وتعاقبت أجيال من الباحثين المدرسين لها والمشتغلين بتطبيقاتها. وقد أدّى كل ذلك إلى تعميق الوعي النقدي بالنظرية الأدبية وتجذير تطبيقات مناهجها في التجربة العربيّة، اتسعت معه دوائر استقبالها في البيئات العلمية العربية، وامتدت مساحة دورة «علم الأدب» لتشمل الفضاءات العلميّة العربية.
الفكر الأدبي العربي والنظرية الأدبية: سؤال الهويّة والانحياز لنظرية المعرفة
لقد ظلّ حظ لغات العالم، واللغة العربية من بينها، من النظريّة الأدبيّة مرتبطًا بإسهام بيئاتها العلميّة (الجامعات ومراكز البحث العلمي) في تطوير النظرية العامة للأدب: بفرعيها المعرفيّ الأدبيّ (نظرية المعرفة الأدبية) والنقدي العلميّ (نظرية علم الأدب). فكلّ اللغات التي احتضنت النقد الأدبي، تُسهم في التداول العام للنظرية العامة للأدب، بإدخال نظريات أصحابها المعرفية والنقدية ــ التي انتهوا إليها في تطويرهم لتصورات ونظريات سائدة أو نقضهم لتصورات ونظريات قائمة ــ دائرة التداول المعرفي العام لـ «نظرية المعرفة الأدبية» وللدورة العلمية النشطة لـ«نظرية علم الأدب». وإنما يتفاوت إسهام لغات العالم، الحاضنة للخطاب حول الأدب، في تطوير النظرية الأدبية، في قدرة المشتغلين فيها بالنظرية على الحضور الضعيف أو المتوسط أو النشط في دائرة التداول المعرفي العام لـ«نظرية المعرفة الأدبية»، وفي قدرة هؤلاء أيضا على الإسهام الضعيف أو المتوسط أو النشط في الدورة العلمية ل«نظرية علم الأدب».
النظرية الأدبية :«نظرية المعرفة» و« نظرية العلم»
تتحد «نظرية المعرفة» بأنها «النظرية التي يحصل بها العلم بالشيء دون الاتفاق عليه، وهي لذلك تغني الفكر وتثري التصور وتوسع مدارك العقل، لكنها تظل نظريّة تعبّر عن رأيٍ أو تصوّر يمثّل وجهة نظر صاحبه ولا يلزم الآخر، بينما تحد «نظرية العلم، «بأنها النظرية التي يحصل بها العلم والاتفاق، وهي من ثم تُغني الفكر وتؤسس للتصور وتقدم الأطروحة القابلة للتطبيق والاختبار عبر منهج وأدوات، وتصدر الحكم أو القانون المعبر عن وجهة نظر الجميع. وقد أدت التطورات النظرية والمنهجية، التي مرت بها النظرية الأدبية، في النصف»(2) الأول من القرن العشرين إلى بروز نظرية نقدية لعلم الأدب، تميز في تصنيفها المعرفي وضبطها المنهجي للأفكار والمعارف بين النظرية الأدبية والنظرية النقدية (العلمية)، مستندة في ذلك إلى التفريق بين المعرفة والعلم، فالنظريّة الأدبية تتأسس على الاختلاف في الرأي والتصور والنظرية النقدية على الموافقة والاتفاق. وينشأ الاختلاف في الأولى من انبناء النظرية على تصور منسجم ومتّسق غير قابل للتطبيق، ليس له منهج يثبت فرضيته ويختبر طرحه، بينما ينشأ الاتفاق في الثانية من انبناء النظرية على تصور منسجم ومتسق قابل للتطبيق ومنتج للمعرفة، له منهج يبرهن على فرضيته ويختبر أطروحته ويحمي استنتاجه ، ويجعله مصدرًا لإنتاج المعرفة، ويدخله دائرة التداول العلمي.
ويظهر الخطاب حول الأدب في دائرة المعرفة الأدبية (النظرية الأدبية)، التي تتأسس على «نظرية المعرفة» في منجز كل لغة تحت خانة الانتساب إلى اللغة، التي كتب بها الخطاب، وأصحاب هذا الجهد في التصنيف، يرجعون النظرية الأدبية، عند تأصيلهم لها، إلى اللغة التي بها أنتجت، والحاضنة الأدبية التي إليها تنتمي، فهم ينسبون النظرية للغة التي أنتجتها. فهي عندهم غربية لأن لغات الآخر أنتجتها، وهي عربية لأنها أنتجت بالفصحى، وعلى أساس هذا الطرح، نسب النقد إلى اللغة المكتوب بها، والمنتج بها، فعُدّ عند أصحاب هذا التصنيف كل ما يكتب من خطاب حول الأدب بالعربية نظرية نقدية عربية سواء كان الموضوع المدروس: النص الإبداعي العربي، أم النظرية الأدبية والمناهج أدواتها. فما ينتهي إليه المشتغل بتطبيقات المناهج النقدية على النص العربي من آراء وتصوّرات نقديّة في وصفه «للأدبي» في النص العربي هو نقد عربي. وما ينتهي إليه منشغل بالتنظير للأنواع الأدبية وأشكال تحققها في الأدب العربي، من تنظير نقديّ ونظريّات أدبية، هو من النقد العربي. وما ينتهي إليه المختصون في حقل النظرية الأدبية ومناهجها من علماء الأدب المنشغلين بقضاياه وأسئلته، من نقض لنظرية أدبيّة قائمة أو تعميق لمدارك أخرى سائدة، ومن تطوير للأطروحة قائمة، أو مساهمة في تحسين كفاءة تطبيقاتها المنهجية، وقدرتها على إنتاج المعرفة هو أيضا من النقد العربي. وأصحاب هذا المدخل في التصنيف يدرجون حصيلة النشاط المعرفي والنشاط البحثي العلمي في خانة واحدة، هي عندهم «النظرية النقدية العربية»، ولذا يحضر عند هؤلاء خطاب الأيديولوجيا وسؤال الهوية. أما المخالفون لهم في التصنيف، فيقيمون تصنيفهم على أرضيّة مغايرة، فيرون الخطاب حول الأدب معرفة نقدية، تتأسس على «نظرية العلم»، وتظهر في خانة تطوّر النظرية النقديّة وأدواتها، دون أن تنسب إلى اللغة التي أنتجت بها. وأصحاب هذا التصنيف ينشغلون بوصف ظهور النظرية النقدية ومناهجها في البيئات العلمية، برصد استقبالها ومتابعة تطوراتها في الحواضن الثقافية المستقبلة لها، وتحولاتها النظرية وإبدالاتها المنهجية في البيئات العلمية المطورة لها. ونظرية الأدب عند هؤلاء «نظرية معرفة» و«نظرية علم»، تستقبلهما الحواضن الثقافية والبيئات العلمية للأمم واللغات، فتنوع الأولى دوائر المعرفة الأدبية، ونشاط المشتغلين فيها نشاط معرفي، لاتكائها على قاعدة الاختلاف في التصور والنظرية، وقبول الرأي الأدبي أو رفضه. وتوسع الثانية دورة علم الأدب وحركة تمدده في البيئات العلمية، والنشاط فيها بحثي علمي، لقيامها على قاعدة الاتفاق في الطرح المؤسس على اختبار الأطروحة بالمنهج النقدي وأدواته، وقبول الرأي النقدي والتسليم بالحكم النقدي.
النظرية الأدبية ومحافل التداول العلمي العربي: مدخل التقديم
وقد قدمت النظرية الأدبية في محافل التواصل المعرفي والتداول العلمي العربيين منذ عقود، من خلال مدخلين سياقي ونصي: الأول منهما سياقي خارجي يشدد على انتماء النظرية الأدبية إلى اللغة التي تكتب بها، والأدب الذي تحتضنه، والخطاب الأدبي الذي تنتمي إليه النظرية يجعلها، من هذا المنظور، نظرية نقدية عربيّة لأنها تقدم الأدب العربي للغات آخر، ولأنها تحتضن التفكير النقدي عند العرب. وأصحاب هذا المدخل في تقديم النظرية الأدبية، يتحدثون عن «نظرية نقديّة عربيّة» لا فرق فيها بين النظري المعرفي والمنهجي النقدي. فللعرب نظرياتهم الأدبيّة، ولهم نقدهم مثل ما أن لهم أدبهم. والتفكير النقدي عند أصحاب هذا التوصيف، هو السائد في العديد من البيئات العلميّة العربيّة والحواضن الثقافية الواصفة، الواصفة للنظرية النقدية في التجربة العربية. ففي تقديمهم للنظرية الأدبية، يقيمون شبه قطيعة ابستيمولوجية ما بين قديم النظرية وحديثها، لاتكائهم على التحوّلات التاريخية والثقافية للفكر النقديّ، مدخلًا لتصنيف النظرية النقدية إلى نظريّة نقديّة قديمة ونظريّة نقدية حديثة. وحظ هذا المدخل السياقي في تصنيف النظرية النقدية في المتداول المعرفي لبعض الجامعات العربية كبير، ونصيبه من المعرفة والاطلاع في العديد من الحواضن الثقافية العربية واسع، وسطوة نسق تفكيره في إنتاج المعرفة قوية، وحضور سلطة خطابه بالغ التأثير، وآفاق استقباله مألوفة، لاستناده إلى تاريخ من التلقي والقبول ممتد، قائم على تقسيم النظرية النقدية إلى نظرية نقدية عربية تجد جذورها في التراث النقدي العربي، ونظرية نقدية غربية وافدة بمناهجها النقدية الحديثة ونظرياتها الأدبية الغربية. والوعي النقدي عند دوائر تلقيه قائم على تصنيف النظرية الأدبية إلى نظريتين: نقدية عربية تجد جذورها في التراث النقدي العربي، ونظرية نقدية غربية من إنتاج الآخر، تتأسس على مناهج وأدوات غربية وافدة.
أما المدخل الثاني فنصيّ داخليّ يشدّد على أن النظريّة الأدبية محتوى معرفي واحد، له جانب نظري وآخر منهجيّ، لا ينتمي إلى لغة دون أخرى، وإن قدم من خلالها، فهو قابل لأن يقدم من خلال أية لغة أخرى، وأن يُنتج من خلالها لكنه لا ينسب لإحداها. وهذا المحتوى المعرفي نظرية وأدوات: نظرية لأنّه خطاب حول الأدب، وأدوات لأنه مناهج نقدية لإنتاج المعرفة الأدبية. والنظريّة النقدية عند أصحاب هذا الطرح، نظرية في المعرفة ونظرية في العلم: نظرية معرفية، تعرفها التجارب النقدية في كل الآداب، توسع مدارك النظرية الأدبية، وتنوع الخطاب حول الأدب. ونظرية علمية ملازمة لها في الغالب، هي أطاريح المناهج النقدية وأدواتها الواصفة لخطاب للخطاب الأدبي. لذلك لا يمكن أن تنسب النظرية الأدبية، في نظر هؤلاء إلى لغة محددة، وإنما هي «نظرية علم» تحتضنها لغة وتستقبلها بيئاتها العلمية، فتكون لها تجربتها من الوعي الأدبي والتطور النقدي في تلك البيئات، ويكون للغاتها حينئذ حظها من الإسهام في دورة «نظرية علم الأدب»، وتطور مناهج وأدوات «علم الأدب». وحظ هذا المدخل النصي في تصنيف النظرية النقدية في المتداول المعرفي لأغلب الجامعات العربية محدود، وتأثير نسق تفكيره في إنتاج المعرفة يتزايد، وحضور سلطة خطابه في الحواضن الثقافية ضعيف، وآفاق استقباله خارج أسوار الجامعة غير مألوفة، لاستناده إلى تاريخ من الرفض للنظرية النقدية وتطبيقاتها ممتد منذ صدور كتاب في «الشعر الجاهلي لطه حسين». والوعي النقدي عند دوائر تلقي المدخل النصي هذا، قائم على تصنيف النظرية الأدبية إلي نظرية معرفية غير قابلة للتطبيق عمادها الاختلاف في الرأي، وأطروحة علمية قابلة للتطبيق ومنتجة للمعرفة، عمادها الاتفاق في الرأي، لاستنادها إلى منهج يختبرها، وأدوات منهجية تحققها. وهو المحتوى العلمي المتداول اليوم، بين البيئات العلمية والبيئة العلمية العربية إحداها، القائم على تجارب بحثية وممارسة منهجية لإنتاج المعرفة الأدبية، وتطوير منهجها النقدية والتحسين من كفاءة أدواتها المنهجية. وهذا المدخل النصي في تقديم النظرية الأدبية في التجربة العربية هو سند القول هنا، في وصف إسهام منظري العربية في توسيع دوائر نظرية المعرفة الأدبية (النظرية الأدبية) ودور علمائها في تطوير نظرية علم الأدب (النظرية النقدية) وتنشيط دورته العلمية.
وقد ارتبطت لحظات تطور النظرية الأدبية بالبيئات العلمية التي أنتجتها، وتجارب الأماكن (البلدان) التي احتضنتها. فتطورت فكرا أدبيا، وعيا نقديا يبني تصورات معرفية عن الأدب ويؤسس لنظريات، هي اليوم جماع نظرية الأدب وجامع نص النظرية الأدبية، المُدرسة في أقسام الأدب بلغات مختلفة ومتعددة، العربية من بينها. كما قامت فيها علما يختبر نظرية نقدية قابلة للتطبيق ومنتجة للمعرفة (الأطروحة)، ويؤسس اليوم لمعرفة صحيحة أو شبة صحيحة عن الأدب، في المحافل العلمية (الجامعات ومراكز البحث) ومنها المحافل العلمية العربية. ويُحَد هذا العلم بأنه مجموع النظريّات النقدية، ذات المناهج والأدوات النقدية، الواصفة لأطروحتها والمنتجة للمعرفة الأدبية (البنيوية، الأسلوبية، الشعرية، السيميولوجيا). وهذه النظريات النقدية وأدواتها النقدية، تدرس اليوم بلغات العالم، واللغة العربية من بينها، في البيئات العلمية المحتضنة لدورة علم الأدب، باعتباره الفرع من العلوم الإنسانية، المُتخذ من الأدب موضوعا له، المُمتلك لمناهج وأدوات قادرة على اختبار نظرية أدبية قابلة للتطبيق ومنتجة للمعرفة (الأطروحة)، والمحقق لمعرفة أدبية صحيحة أو شبه صحيحة عن الأدب ونصوصه، والمحصل لنسبة عالية من الاتفاق تصل أحيانا إلى نسبة 70%، مثل ما هو الحال في بقية العلوم الإنسانية. وهذا الاتفاق في الرأي والحكم الحاصل عند المتخذين من النظرية النقدية (البنيوية، الأسلوبية، الشعرية، السيميولوجيا) مدخلا للدراسة ومن منهجها وأدواتها(المفاهيم، المصطلحات، التفكير النقدي، الذهنية النقدية) أداة لإنتاج المعرفة، وإصدار الحكم. هو الذي يصبغ المعرفة الأدبية الصبغة العلمية، ويدخلها دورة التداول العلمي لعلم الأدب. فهي اليوم المحتوى العلمي للمعرفة النقدية (النظريات النقدية ومناهجها) المتداول في جميع البيئات العلمية للغات العلم، ومنها البيئة العلمية العربية: مقررات لعلم الأدب مدرسة في أقسام الآداب بالجامعة الواحدة، لا يفصل بينها في حواضن كليات الآداب، إلا حاجز لغة التخصص المُدرسة بها، وجدران القاعات الفاصلة بين المنتمين لهذه الأقسام.
الفكر الأدبي العربي والنظرية الأدبية : سؤال علمية الأطروحة والانحياز لنظرية العلم
تختلف «نظرية المعرفة الأدبية» (النظرية الأدبية) في الفكر الأدبي عن «نظرية علم الأدب» فهي تنسب في الغالب لمنظر نقدي، تظل تسمى باسمه (نظرية ابن قتيبة في الأغراض، نظرية الرواية عند لوكاتش مثلا)، لأنها «قول أدبي» ومن صحة القول أن ينسب لقائله، ورأي أدبي فيه أخذ ورد وقبول ورفض، يتأسس على قاعدة الاختلاف في الرأي الأدبي، والتعدد في المدخل النقدي، والتنوع في طرائق بناء النظرية الأدبية. لذلك كان دور منظري نظرية الأدب في البيئات العلمية النقدية ومراكز البحث النشطة، تطوير الفكر الأدبي، بالعمل على توسيع النظرية، وتعميق الوعي بمرتكزاتها النظرية، أو نقض طرحها وتفنيد رأيها، بتقديم نظرية بديلة يتأسس الرأي الأدبي فيها على مدخل نقدي آخر، وفي ذلك انحسار لفكرها الأدبي وضعف لسطوة تفكيرها النقدي.
أما «نظرية علم الأدب» (الأطروحة النقدية) فهي في الغالب لا تنسب لعالم من علماء علم الأدب بل لحلقة أو جماعة، تظل تسمى باسمهم (نظرية سوسيولوجيا الأدب، نظرية البنيوية النقدية مثلا)، لأنها «رأي نقدي» مختبر بمنهج نقدي وأدوات منهجية، ويتأسس على قاعدة الاتفاق في الرأي والحكم، ويستند إلى منهج ينقله من دائرة الاختلاف إلى دائرة الاتفاق، ومن النظرية إلى الأطروحة. فهو رأي نقدي صحيح أو شبه صحيح عن الأدب.
والنظرية فيه أطروحة قابلة للتطبيق ومنتجة للمعرفة، ومحل اتفاق، تحولت في مسار تطور النقد الأدبي ولحظات قيام علم الأدب من نظرية إلى أطروحة (البنيوية النقدية) قابلة للتطبيق ومنتجة للمعرفة.
البيئة العلمية العربية واحتضان النظرية الأدبية:
انشغلت البيئات العلمية ومراكز البحث في الجامعات الغربية في النصف الأخير من القرن العشرين بالنظرية الأدبية وتطوراتها النظرية والمنهجية ونالت حظا من الاهتمام في البيئات الجامعية العربية في العقود الأخيرة منه. فقد أدت هذه التطورات بإبدالاتها النظرية وتحولاتها المنهجية في الربع الأخير من القرن الماضي إلى تغير في المعرفة الأدبية وأدوات إنتاجها، عملت على التحسين من أداء النظرية النقدية للنقد الأدبي وكفاءة مناهجه، في البيئات العلمية التي استقبلتها، ومنها البيئة العلمية العربية، وهي التغيّرات التي جاءت بها لحظة البنيوية النقدية بتقديمها لنظرية نقدية نصية، واختبارها لأدوات منهجية، أكثر قدرة على وصف «الأدبي» من لحظة سوسيولوجيا الأدب، وما كرسته من تصور أدبي وممارسة منهجية، تعول على سياق النص في مقاربتها لـ «لأدبي». وستؤدي المراجعات العلمية لأطروحة البنيويين الأول وتطبيقاتها المنهجية مع جيل البنيويين الجدد في لحظة تالية، إلى قيام علم الأدب بفرعيه اللفظي التعبيري (الشعرية) والدلالي التأويلي (السيميولوجيا). وقد تفاوت إسهام البيئات العلمية، في تطور النظرية الأدبية وأدواتها من بيئة إلى أخرى، بتباين اللغات الحاضنة لها، وبقدرة هذه البيئات على احتضان هذه النظرية والمساهمة في تطويرها.
ولئن لوحظ أن البحث في النظرية الأدبية، في الربع الأخير من القرن العشرين، بكليات الآداب في الجامعات العربية قد ظلّ مشغلًا نظريًّا، يدفع الفكر الأدبي العربي إلى البحث في مسائل: تتعلق باستقبال النظرية النقدية في البيئة العربية، وجهود النقاد والمنظرين العرب في تعميق مداركها النظرية في المتداول العلمي، وسعيهم إلى الإسهام في تطوير «نظرية المعرفة الأدبية» ـــ فإن تدريس مناهجها وأدواتها النقدية، واختبار أطاريحها في محافل الدرس الجامعي لهذه البيئات، والانشغال بأسئلة المنهج والأدوات، قد عمل باستمرار على تحفيز الاشتغال بتطوير المناهج النقدية وأدواتها والانشغال بمسائل منهجية دقيقة: تتصل بتعميق الوعي بمناهج النظرية النقدية، واختبار أطروحتها، وتجذير تطبيقاتها المنهجية على النص العربيّ، والدفع بالمشتغلين بالمناهج وتطبيقاتها إلى مزيدٍ من البحث والجهد العلمي لتهيئة المناخ المعرفي والمنهجي لاستقبال «نظرية علم الأدب» في البيئات العلمية العربيّة، والمساهمة في احتضانها لـ«عالم الأدب». فقد عملت جهود الروّاد العرب من البنيويين والأسلوبيين الأول نهاية سبعينيّات القرن الماضي على إشاعة وعي نقديّ عميق بأطروحتي البنيوية والأسلوبية في التجربة العربية، تضمنته أطاريح وكتب مثلت في تاريخ استقبال المناهج النقدية في البيئات العلمية العربية، لحظة مهمّة من تطور النظرية الأدبية بها، وحاسمة في مراجعة الموقف من نظرية سوسيولوجيا الأدب السائدة حينها، والتخفيف من سطوة تطبيقاتها المنهجية(3).
وسيسهم هذا الوعي النقديّ تدريجيا في تعميق مدارك تطبيقات البنيوية والأسلوبية مع جيل جديد من البنيويين والأسلوبيين العرب الجدد، فيما سيعرف في تاريخ استقبال النظرية النقدية في التجربة العربية، بظهور حلقات البنيوية والأسلوبية في الجامعات العربية بالمشرق والمغرب، وهي الحلقات التي ستمدّ الفكر النقدي العربي بأجيال من المنشغلين بالبنيوية والأسلوبية وتطبيقاتهما في التجربة العربية. وسيخرج من رحم هذه الحلقات تباعا، وعي نقديُّ جديد بالنظرية النقدية ومناهجها، أكثر انشغالا بقضاياها النظرية، واشتغالا بأسئلتها المنهجية، هيأ البيئة العلمية العربية لاستقبال دورة علم الأدب، وعمل على خلق مناخٍ نقديٍّ علميٍّ، ستؤدي تراكمات وعيه النقدي بالنظرية النقدية ومناهجها نهاية الثمانينيّات إلى ظهور رواد الشعرية في التجربة العربية، والسيميولوجيا بعد ذلك بسنوات قليلة.
وقد كان للدرس النقدي عند البنيويين والأسلوبيين الجدد في «حلقة القاهرة» و«دمشق» و«بغداد» و«تونس» و«الرباط» الدور الكبير في احتضان فكر أدبي ووعي نقدي عند هؤلاء، سيكون له الدور الأبرز في تطور النظرية النقدية ومواجهة أسئلتها المنهجية. وهو ما سيسهم في تراجع سلطة المناهج النصية (البنيوية والأسلوبية) ويترك المقاعد لرواد الشعريّة والسيميولوجيا في الجامعات العربية، وهم الذين ستحتضن معهم البيئة العلمية العربية اللحظة الثالثة من تطور النظرية الأدبية في التجربة العربية وإبدالاتها المنهجية الممهّدة لاستقبال دورة علم الأدب مع جيل الشعريين والسيميولوجيين الشباب حينها، نهاية تسعينيّات القرن الماضي. وستنبت تربة العقد الأول والثاني من الواحد والعشرين، في أغلب الجامعات العربية، وعيًا بالنظرية النقدية ومناهجها، ستتدعم معه سلطة اختصاصات الشعرية (الشعريات، السرديات، النقديات) والسميولوجيا (الشعريات السيميولوجية، والسرديات السيميولوجية) وتأخذ أبعادا تطبيقية مع أحفاد جيل الرواد.
وسيصاحب هذا الوعي بـ« نظرية علم الأدب» وعي مواز نشط بـ«نظريّة المعرفة الأدبية» تشكّل من حقول معرفية متعددة ومتنوعة (النقد الثقافي، نظرية التلقي. نظريّات تحليل الخطاب، نظريات النص الرقمي ووسائط الاتصال…) ونظريات نقديّة عامة تجد منابت قولها في فروع نظرية الأدب (نظريّة الأدب المقارن، نظريّة الأجناس الأدبية،…). وهو وعيٌّ نقديّ يجد اليوم قبولًا وألفة فكريّة في الأوساط الثقافية والحواضن المعرفيّة العربيّة، وبعض البيئات العلميّة العربية، يسهم في إضعاف تمدّد الوعي النقدي بـ»علم الأدب» وقوة تأثير دورته العلمية في بعض البيئات العلمية العربية، التي ما زال الهيمنة فيها لسلطة المناهج النصية (البنيوية والأسلوبية) وتطبيقاتها النقدية، خاصّة تلك التي لم يستطع معها الجيل الثاني من الشعريين والسيميولوجيين العرب المنشغلين بالخطاب الشعريّ، أن يتحرّر من سطوة المقاربة البنيوية والأسلوبية للنص الشعري، ومن ظل سلطة خطاب جيل الرواد، الذين تتلمذوا عليهم، وإن أفلح في ذلك نظراؤهم من السرديين الأول (سعيد يقطين، عبد الله إبراهيم، سيزا قاسم، محمد القاضي، سعيد بنكراد….) المنشغلين بالخطاب السردي، فقد عملوا على إبدال عدة المقاربة البنيوية بعدة منهجية مغايرة (السرديات النظرية والسرديات التطبيقية)، كسروا بها حلقة التطبيقات البنيوية على النص السردي، وأدخلوا النظرية النقدية في التجربة العربية دورة «علم الأدب»، بإسهامهم العلمي في تعميق مدارك السرديات في التجربة العربية، وانخراطهم في البحث في قضاياها النقدية وأسئلتها المنهجية المطروحة، فتحرروا، بذلك من ظل خطاب أساتذتهم، باكتشاف مساحات من سردية الخطاب، ومآتي من الإمتاع والمؤانسة في النص السردي، لم يصل إليها جهد أساتذتهم من البنيويين في الوصف البنية السردية، فخرجوا بذلك من قبضة الدرس البنيوي إلى رحاب الدرس السردي، ومن محدودية الإضاءة البنيوية إلى سعة إبصار السرديات.
تركيب
لئن حقّق علم الأدب، بنظريته وأطروحته اليوم في البيئات العلمية الغربيّة مساحات كبيرة من الاهتمام، تمثل أصحابها الفروق النظرية والمنهجية بين النقد الأدبي(النظرية الأدبية) وعلم الأدب (الأطروحة النقدية)، بين مسار تطوري مر به النقد الأدبي في إبدالاته المعرفية، وعرفته أدواتها المنهجية في تطبيقاتها المنهجية، أصبح اليوم من تاريخ النظرية النقدية، وبين لحظة قيام علم للأدب، له نظريته في اللفظ والمعنى المتكئة على فكر أدبي وأدوات منهجية خاصة به. لئن تحقق ذلك في البيئات الحاضنة للعلم وأدواته، فإن البيئات العلمية العربية ما زالت موزعة بين القبول والرفض، بين المتمسكين بالنقد فنا أدبيا ورافضين لأي تفكير علمي يطبع الممارسة النقدية، ويدخلها في دائرة العلم، وبين الساعين إلى إدخال النقد في المعرفة العلمية وتجذير ممارستها النقدية في الفكر العلمي وأدواته، وبين الاثنين برزخ يتجاذبه قطبا التأثير، فتتسع دائرتاه وتضيق بفعل حيوية أو ضعف المتداول العلمي للنظرية النقدية في هذه البيئات العلمية.