يعتبر فنان السينما التسجيلية الهولندي يوريس ايفانز (1898 – 1989) من أعظم مبدعي القرن العشرين الميلادي على مستوى كل الفنون، وليس فقط على مستوى السينما التسجيلية أوالسينما بصفة عامة. وهو مثل الكاتب الأمريكي ارنست هيمنجواي ( 1899 -1961)، اعتبر العالم كله مسرحا لافلامه، وطوال أكثر من 50 سنة عبر في هذه الأفلام عن أحداث عصره الكبرى، فكان مؤرخا لعصره، ولكن بلغة السينما، كان شاهدا عليه من وجهة نظر انسانية تؤمن بحق الانسان في حياة أفضل، وبواجبه في الكفاح ضد كل أشكال القهر والتعسف.
ومن بين كلاسيكيات ايفانز وكلاسيكيات السينما الفيلم الأمريكي التسجيلي الطويل "الأرض الاسبانية " ( 55 دقيقة) عام 1937، والذي تناول الحرب الأهلية في اسبانيا، وجمع بينه وبين هيمنجواي حيث لم يكتف الكاتب بالمعاونة أثناء التصوير في ميادين القتال. وانما قام أيضا بكتابة التعليق والاشتراك في بناء الفيلم. وقد أصدر هيمنجواي نص التعليق في كتاب بنفس العنوان عام1938.
هيمنجواي
عبر هيمنجواي عن عصره والعالم الذي عاش فيه ربما كما لم يعبر كاتب آخر. فقد شارك بنفسه في أحداث العصر الكبرى كمتطوع في الصليب الأحمر الأممريكي في الحرب العالمية الأولى(
1914 – 1918)، وجرح في إيطاليا عام 1918، واشترك كمراسل صحفي في الحرب الأهلية الاسبانية (1936 – 1939)، وفي الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وكان العالم مسرحا لحياته بالمعنى المادي، إذ ولد في أوك بارك بالقرب من شيكاغو الأمريكية، ولكنه عاش بين الامريكتين وأوروبا وافريقيا منذ شبابه المبكر، وكانت كتبه تعبيرا عن أحداث عصره وعن حياته بين القارات الأربع حتى أنها تبدو أقرب الى سيرة ذاتية من 25 كتابا منها 21 صدرت في حياته، وأربعة صدرت بعد وفاته أحدثها يوم الاحتفال بالذكرى المئوية الأولى لميلاده في الحادي والعشرين من يوليو عام 1999.
لم يكن هيمنجواي يسافر حبا في السفر، وانما تعبيرا عن قلق وجودي عميق، ولم يكن يشارك في احداث عصره تعبيرا عن موقف سياسي،رغم موقفه الصارم ضد النازية والفاشية، وانما بحث عن اجابات للأسئلة الكبرى التي تؤرقه. وقد تماهى قلقه الوجودي مع احداث عصره المروعة حيث خرجت الانسانية من مذبحة الى أخرى خلال أقل من نصف قرن سفكت فيها دماء عشرات الملايين من البشر، وتماهى القلق الوجودي وتلك الأحداث مع حياته الخاصة حيث تزوج أربع مرات من عام 1927 الى عام 1946، وأنجب ولدين وبنتا من زوجاته الأول والثانية والرابعة، وفي نفس عام ميلاد ابنه الأول (1938) انتحر والده بإطلاق الرصاص على نفسه، ورغم "النجاح " الكبير الذي حققا هيمنجواي، وأضع كلمة النجاح بين قوسين عن عمد، وفوزه بجائزة بو ليتزر الامريكية عام1953 عن روايته "العجوز والبحر"، ثم فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1954، إلا أنه اعتزل الحياة والكتابة بعد فوزه بأكبر جوائز العالم، وأطلق الرصاص على نفسه ومات منتحرا في 2يوليو عام 1961.
قال إليوت بين الكتابة والفعل يقع الظل، أي أن هناك مسافة بين حياة الكاتب وأعماله، ولكن هذه المسافة لم توجد أبدا بين حياة هيمنجواي وأعماله، ومن يقرأ روايته الأخيرة التي صدرت في حياته عام1952 "العجوز والبحر"، والتي وصل فيها الى ذروة التعبير عن رؤيته اليائسة من الحياة، والتي كنانة ثمرة قلقه الوجودي وما عاشه من أحداث، يدرك أن انتحاره يكاد يكون محتوما، وليست المسألة أنه مريض بالاكتئاب مثل والده، أو أنه لم يستطع احتمال الأمراض التي عانى منها بعد ألستين، انما هو مريض بوجوده في الحياة.
كتب هيمنجواي الشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرحية، كما كتب عن بعض أسفاره وخاصة الى افريقيا السوداء، ولكنه عبر عن نفسه في الرواية والقصة القصيرة على نحو أفضل وأعمق من أجناس الكتابة الأخرى، أو هذا ما انتهى اليه الأمر. فقد كان يعبر عن نفسه بالكتابة، ويترك لغيره التصنيف والتقييم مثل كل كاتب حقيقي. ولذلك فكتابه الأول "ثلاث قصص وعشر قصائد،، عام 1923، وثلاث من مجموعات قصصا القصيرة تحمل نفس العنوان "في عصرنا" من عام 1924 الى عام 1930، وأصدر مسرحيته الوحيدة "الطابور الخامس " مرتين مع قصص قصيرة عام 1938، ومنفردة عام 1940، وأصدر روا يته "وداعا للسلاح" مرتين عام 1929، وكذلك روايته «لمن تدق الأجراس " عام 1940 وعام 1942.
مجموعات القصص القصيرة الأخرى هي "رجال من دون نساء" 1927، و" موت بعد الظهيرة " 1932و"إلفائز لا يربح " 1933، ورواياته الأخرى "الشمس تشرق أيضا" 1926 وهي روايته الأولى، و" سيول الربيع " في نفس العام، و"أن تملك أو لا تملك " عام 1937، و"رجال في الحرب " 1942، و«عبر النهر وداخل الغابات" 1950، الى جانب كتاب "تلال افريقيا الخضراء" عام 1935. أما الروايات التي صدرت بعد وفاته فهي "وليمة متنقلة " 1964. و" آخر بلد طيب " 1972، و،«جنة عدن " 1981، ثم «في ضوء الفجر" عام 1999. وبالطبع فإن عدم نشر الكاتب لهذه الرايات في حياته يعني أنه لم يكن راضيا عنها، ولكنها تنشر على أساس أنه لم يتخلص منها، وان عمل الكاتب كل متكامل، ما نشر منه و ما لم ينشر.
وقد ترجم العديد من روايات هيمنجواي وقصصه القصيرة الى العربية في الخمسينات، ومنها رواياته الكبرى «الشمس تشرق أيضا"، و" وداعا للسلاح "، و" لمن تدق الأجراس "، و"العجوز والبحر". وكان لهذه الترجمات تأثير كبير على كتاب القصة القصيرة والرواية من العرب فضلا عمن يعرفون الانجليزية لغة الكاتب الأصلية. ولم يختلف العرب في ذلك عن غيرهم من الكتاب بكل لغات العالم التي ترجمت اليها أغلب أعمال الكاتب. انه كاتب عاش العالم وعاش في العالم وقرأه العالم، وترك تراثا لن ينساه العالم.
يقول يبتر هاي في كتاب "موجز تاريخ الأدب الأمريكي" (ترجمة هيثم على حجازي _ وزارة الثقافة _ سوريا _ 1990) ان أبطال رواية هيمنجواي الأولى "الشمس تشرق أيضا" يريدون معرفة "كيف يمكنهم أن يعيشوا في هذا الفراغ الموجود في العالم. وفي كتاباته الأخيرة، نرى هيمنجواي يطور هذا الفراغ الى مفهوم"النادا"، وهي كلمة اسبانية تعني العدم، فهو يصور هذه النادا في بعض الأحيان على صورة أمل مفقود، أو عدم القدرة على المشاركة الفعالة في العام الواقعي، وفي أحيان أخرى تكون هذه النادا على شكل رغبة في النوم. أو الرغبة في الموت بسهولة. إن البطل النموذجي عند هينمجواي يجب عليه أن يقاتل دائما ضد نادا العالم، ويجب عليه الا يتوقف أبدا عن محاولة أن يحيا الحياة الكاملة، وقدر ما يستطيع ". وقد استطاع هيمنجواي أن يقاوم حتى 1961.
وفي دراسته الشاملة التي أصدرها كارلوس بيكر عن هيمنجواي عام 1959، والتي ترجمها احسان عباس في نفس العام الى العربية، وصدرت في بيروت يقول الناقد الأدبي الامريكي الكبير د«كان هرمان ملفل يعد البحر جامعته التي فيها تخرج، أما الكلية التي تخرج فيها ارنست هيمنجواي ونال إجازتة الى دنيا الأدب فهي القارة الأوروبية. وكانت الموضوعات التي درسها في تلك الكلية. سوى افن والأدب، هي اللغات والناس والسياسة ومؤتمرات السلام والحرب. وآخر هذه الموضوعات أواها في القائمة " ويقول عن قصائد الكاتب وقصصه الأولى "ان قصائده النقدية الطليقة من الوزن لم تصب شاكلة المرمي، غير أن عمله الصحفي كان يعلمه دروسا في الايجاز اللفظي". وعن موقفة من النقد ومما يميز هيمنجواي أنه أبى أن يستعمل المصطلح النقدي في تحديد أفكاره الجمالية لأنه نشأ يزدري النقد المفلسف. غير أنه منذ عام 1922 كان قد اهتدى الى مبدأ جمالي يمكن أن نسميه مبدأ "الادراك المزدوج"، وهي تسمية غير دقيقة لأن الغاية من ازدواج الادراك هي في النهاية "إفراد" للنظر،وهذا ما يمارسه كل فرد فينا، إذ يرى بعينيه الاثنتين المرئيات نفسها من زاويتين متباعدتين قليلا، تجمع العينان من الرؤية المزدوجة صورة واحدة ذات عمق ". وقد كان هيمنجواي شديد التعلق بهذا "الادراك المزدوج ".
كانت "الشمس تشرق أيضا" عن باريس العشرينات التي عاشها الكاتب، وكانت تجمع العشرات من الشعراء والكتاب والفنانين من كل أنحاء العالم حيث عبروا عن هذه الفترة العصيبة التي أصبحت تعرف فيما بعد بفترة ما بين الحربين، وكانت " وداعا للسلاح " عن تجربة الكاتب في الحرب العالمية الأولى، و"لمن تدق الأجراس " عن تجربته في الحرب الأهلية الاسبانية، ولكن اعتبار هذه الروايات عن هذه الموضوعات مثل اعتبار رواية "العجوز والبحر" عن صيد السمك.
قال، هيمنجو اي عام 1948 "أعلم أن الحياة مأساة وأن ليس لها الا نهاية واحدة. ولكن حين تحس أنك قادر على ايجاد شيء ما، وعلى ابتكار شيء يسعدك أن تقرأه، وعلى أن تقوم بذلك يوميا، فإن هذا كله يمنحك من المتعة ما يعجز عنه سواه – وذلك هوما كان منى – وكل ما عدا ذلك فشيء عابر لا يهم أبدا". ويقول ببكر ان روايات هيمنجواي الثلاث التي تدور في أوروبا تدل على ان أوروبا سيئة الطالع بالحرب، وعلى أن الحياة كلها منحوسة الطالع بالموت.
السينما
شهد هيمنجواي اخراج ثمانية أفلام امريكية عن رواياته وقصصه القصيرة في حياته. وبعد وفاته،تم انتاج فيلمين. عن فترة شبابه. الأفلام المأخوذة عن أعمال الكاتب هي "وداعا للسلاح"، عام 1932 اخراج فرانك بورزاجي وتمثيل جاري كوبر وهيلين هايز، وهي الرواية الوحيدة التي أعيد اخراجها للسينما في حياته، وكان الفيلم الثاني عام 1957اخراج شارلز فيدور وسينايو بن هشت وتمثيل روك هدسون وجينيفر جونز وفيتوريودي سيكة والبرتو سوردي، و"لمن تدق الأجراس" عام 1943إخراج سام وود وتمثيل جاري كوبر وانجريد برجمان. و"أن تملك او لا تملك " عام1944 إخراج هوارد هوكس سيناريو وليم فوكنر وجول فورتمان وتمثيل همفري بوجارت ولورين باكال. و"القتلة » عام 1946 اخراج روبرت،سيودماك عن قصة قصيرة وتمثيل برت لانكستر وأفا جاردنر، و"ثلوج كيليما نجارو"عام1952 اخراج هنري كنج وتمثيل جريجوري بيك وسوزان هيوارد وافا جاردنر، و"الشمس تشرق أيضا " اخراج هنري كنج وتمثيل تايرون باور وافا جاردنر وميل فيرر وايرول فلين وجولييت جريكو و"العجوز والبحر" عام 1958اخراج جون ستوجريس وتمثيل سبنسر ترأسي.
أما بعد وفاة هيمنجواي فقد تم انتاج «مغامرات هيمنجواي الشاب » عام 1962 اخراج مارتين ريت عن عشر من قصص الكاتب القصيرة وتمثيل رينشارد بيمر وديان بيكر وبول نيومان وريكاردو مونتاليان، و"في الحب والحرب " عام 1996 اخراج ريتشارد أتينبورو وتمثيل ساندرا بولوك وكريس أودو نيل في دور هيمنجواي عن كتاب «هيمنجواي في الحب والحرب " للكاتبين هنري س، فيلا رد وجيمس ناجل. وهو قصة حب بين المراسل الحربي الأمريكي الشاب ارنست هيمنجواي وممرضة بريطانية ساعدت على انقاذ ساقه من البتر إثر اصابته في ايطاليا في الحرب العالمية الاولى0
أغلب الأفلام المأخوذة عن أعمال هيمنجواي تعتبر من كلاسيكيات "هوليوود" وما يمكن أن يؤخذ عليها يتعلق بالفهوم الهوليوودي لئسينما حيث يعتبر المخرج مديرا لجموعة من النجوم بناء على سيناريو يروي حكاية بأسلوب بسيط يمكن أن يتلقاه أي متفرج في العالم مهما كانت ثقافته ومهما كانت درجة وعيه ومستوى تذوقه للفنون، بينما تحتاج أعمال هيمنجواي الى مخرج مؤلف يعبر عن أبعادها الأعمق من الحكاية، أو ما كان يطلق عليه الكاتب «الادراك المزدوج ".
اسبانيا
يقول كارلوس بيكر في كتابه "ايطاليا أول بلاد أحبها هيمنجواي بعد مسقط رأسه ومعق تمائمه، ثم أحب بعدها فرنسا، ولكنه لم يشغفه بلد أوروبي مثلما شغفت قلبه اسبانيا قبل عهد فرانكو"، و" منذ بدأ يتمرس بالكتابة، كتب عن اسبانيا وأهلها. ثم مر في مرحلتين من الاهتمام باسبانيا _على تفاوت بينهما – الأولى بين عامي 1922- 1932, وفيها اتخذ المجلى الاسباني متكأ لست من الصور التي نشرها في مجموعته "في عصرنا» ولخمس أقاصيص أخرى أطول من الصور، ثم اتخذ المدن الاسبانية (برغيطة وبمبلونة ومدريد) مسرحا لمعظم الحركة في قصة "الشمس تشرق أيضا» ما عدا بدايتها. وكان آخر كتاب في هذه الحقبة هو "موت بعد الظهيرة " الذي أتمه في 1931 – 1932، وان كان قد بدأه قبل ذلك بعهد بعيد، وعمل فيه عملا متقطعا بين خريف 1929 وخريف 1932. وكان يقصد أن يصور فيه قصة مصارعة الثيران فيؤدي به، عن طريق النثر التصويري، ما أداه جويا بالرسم في لوحة "مصارعة الثيران "، ثم إذا به يجعله أيضا خلاصة لتجاربه المتقطعة على مدى عشر سنوات في الأرض الاسبانية وبين أهلها".
ويستطرد بيكر "أما الحقبة الثانية فتمتد بين عامي 1936 – 1940 وتبلغ ذررتها بظهور «لمن تدق الأجراس »، لأن الحرب الاسبانية الأهلية كانت أشد إثارة لخيال هيمنجواي من المسرحيات الاسبوعية التي كانت تمثل على حلبة المصارعة، وأوسع منها مدى وأحفل بالآلام والدم المهراق. ووجد هيمنجواي أنه لابد له من أن يشهد تلك الرواية الاسبانية المحزنة حتى ينسدل عليها ستار الختام، لرغبته في موضوع الحرب ولحرصه عل التجربة بالمعاينة. وفي سنة 1937 عمل مع صديقه يور يس ايفا نز في اخراج فيلم عنوانه "الأرض الاسبانية " وكان يشاركه هذا الاهتمام صديقاه مكليش ودوس باسوس. ولم يكتف هيمنجواي بمرافقة ايفانز والمصور جون فيرنو، بل أعد التعليق والسرد. وفي خريف تلك السنة أعد المسودة الأول من مسرحيته الوحيدة الكاملة "الطابور الخامس ". وقد دلت على أن القدرة المسرحية لديه محدودة كثيرا. وكان موضوعها التجسس، ومحاولة احباط التجسس في مدينة مدريد المحاصرة ".
ويرى بيكر أن هيمنجواي "انجذب الى مصارعة الثيران في أوائل العقد الثالث من القرن لأنه وجد فيها فرصة سانحة لدراسة لعبة بسيطة قاسية وحشية تشمل ثلاثة فصول تنتهي بالموت. وكان يرى أن موضوع الموت من أبسط الموضوعات التي يجوز للمرء أن يكتب عنها، ومن أكبرها أهمية معا. فظن أنه حين يرى الموت رأى العين فقد "يعمق حسه بالحياة والموت "، أي يحقق المعاينة الدقيقة التي كان يهدف اليها في كل ما يكتبه ". بل أن ممارسة هيمنجواي للصياد، وكذلك العديد من شخصيات رواياته وقصصه، يفسرها الكاتب في رسالة الى آفاجاردنير يقول فيها "حتى مع عدم ايماني بعلم النفس، فإنني أمضى وقتا رائعا في قتل الحيوانات والأسماك حتى لا أقتل نفسي " (ترجمة أيمن عبد الهادي في "أخبار الأدب " 19/ 9/ 1999).
ويخصص بيكر فصلا كاملا من كتابه الضخم (435 صفحة في الترجمة العربية) بعنوان "المأساة الاسبانية " يبدأه قائلا "في مساء اليوم الرابع من يونيو 1937 تحدث هيمنجواي الى مؤتمر الأدباء الامريكيين بقاعة كارينجي بمدينة نيويورك، وكان قد عاد بعد غيبة امتدت شهرين شهد فيهما الحرب الأهلية الاسبانية وجمع أخبارها. وكان ذلك أول خطاب يلقيه في محفل عام. وفي سياق الخطاب فضح القوى الوطنية والفاشية التي كانت تعمل في اسبانيا حتى ظن بعض مستمعيه – وهم كثر- انهم يشهدون تحولا عجيبا: تحول أديب غير سياسي أصبح ثاقب الوعي الاجتماعي "، و"أصبح جماعة اليسار على استعداد للترحيب بهذا الابن الموهوب – وان كان عاقا – واسترجاعه الى حال الوعي السياسي بعد أن كانوا يصعرون خدودهم كلما رأوا نتاجه " العابث » من قبل ".
غير أن هيمنجواي قال في خطابه المذكور "إن مشكلة الأديب لا تتغير. فهي دائما كيف يكتب بصدق، واذا وجد ما هو صدق كيف يعرضه على نحو يجعله جزءا من تجربة القاريء نفسه ". وأضاف بصراحة حين تحدث عن علاقة ما بين الأديب والدولة، إن الأدباء الصالحين حقا قد وجدوا جزاء جهودهم في ظل أي حكومة استطاعوا تقبلها، وقال شكل واحد فحسب من أشكال الحكومات هو الذي لا يستطيع أن ينجب أدباء صالحين. ذلك هو الفاشية لأن الفاشية كذبة بلهاء يلقيها نصابون، ومن لم يكذب من الأدباء في ظل الفاشية لم يستطع أن يعيش ويعمل ". ويقول بيكر عن حق وبحصافة ووضوح "هذا القول لا يعني أن هيمنجواي الفنان الذي قد أصبح يشايع النظام الجمهوري او النظام الشيوعي وأن كان عدوا للفاشة كانسان وفنان وقد كان عدوا لها منذ البداية".
ومن مطاهر صدق هيمنجواي مع نفسه، ومن نتائج هذا الصدق في نفس الوقت أنه استطاع أن يحافط على استقلاله الفكري، سواء في الحرب الساخنة أم الحرب الباردة.
الأرض ألاسبانية
وعن تجربة هيمنجواي مع أيفانز في فيلم "الأرض الاسبانية " يقول بيكر "كان هيمنجواي صديق الجمهورية الاسبانية على استعداد ليساعد في كتابة فيلم "الأرض الأسبانية"، فانضم في أبريل وأوائل مايو 1937 الى المخرج الهولندي يوريس أيفانز والمصور جون فيرنو، وأخذوا يعملون في مدريد المحاصرة وعلى مقربة منها". و« كثيرا ما خرج الثلاثة – دون أن يعبأوا بنتائج مغامر تهم – الى نجاد موراتا دي تاخونة ليصوروا الدبابات والمشاه في حال العمل. بل ان ايفانز وفيرنو كثيرا ما روعا رفيقهما بتعرضهما المتهور لنار العدو. وأبرق هيمنجواي صديقه مكليش ينبئه أن الأمل ضعيف في نجاة ايفانز لأنه يورط نفسه في أخطار لا يتعرض لمثلها إلا ضابط من ضباط المشاه ".
يقول بيكر ان هيمنجواي وايفانز انجزا الفيلم في الثامن من يوليو 1937، وفي مساء ذلك اليوم، دعيا الى البيت الأبيض فعرضاه أمام الرئيس روزفلت وزوجته، ثم عرضاه من بعدى وجمعا في عرضه آلاف الدولارات مساهمة لاسبانيا الجمهورية، ثم رخص لهما بعرضه على نحو عام في نيويورك في أغسطس. ثم عاد هيمنجواي الى اسبانيا، وتمخضت الرحلة الثانية عن مسرحية «الطابور الخامس »، و"هي كالفيلم دلت على أن الحرب جحيم، ولكنها تخالف الفيلم لأنها قالت أن الحرب يخوضها شياطين من الجانبين، فهي تتعاطف رسميا مع الجمهورية، ولكنها ليست بأي حال دعاية لها». وانتصرت الفاشية بقيادة فرانكو بمساعدة هتلر وموسوليني، وكما قال هيمنجواي في تعليق الفيلم "إن ثورة الجيش التي فتحت أتون الحرب كان من الممكن اخمادها في ستة اسابيع لو لم تأت المساعدات الالمانية والايطالية الى جماعة فرانكو". ويؤكد بيكر أن "تدخل القوى الأجنبية كان عاملا هاما في مد أجل الحرب وفي النصر الفاشي في النهاية، وكان تخريب جورنيكا – وهو عمل طائش ومثل واضح للخيانة- كأن اختبار للمعدات الألمانية ولمدى صلاحيتها للقصف بالقنابل ". ويعتبر الناقد أن رواية "لمن تدق الأجراس "، ليست مثل لوحة بيكاسو الشهيرة عن جورنيكا المدينة الأسبانية التي دمرت أثناء الحرب، و«انما هي درأسة للقدر الذي حاق بالشعب الأ سباني، يقدمها كاتبها جامعا بين الانحياز ونحياش. وهذا من خصائص الفنان الأصيل. ولا يستطيع أحد أن يقول أنها قصة مزدوجة الولاء، ولكن فيها معنى الولاء لأنها توالي القضية الانسانية.
لمسافة بين فيلم «الأرض الأسبانية " ورواية "لمن تدق الأجراس " رغم أن كاتبهما واحد وموضوعهما وأحد هي المسافة بين صانع الفيلم وكاتب التعليق، فالفيلم ليوريس ايفانز الذي لم يعبر في الفيلم عن فكرة أن الحرب يخوضها شياطين من الجانبين. وهذا المعنى لا يعني أن هيمنجواي يتردد في إدانة الفاشية، ولكنه يعني أن جوهر رؤيته الشاملة للحياة والعالم لا يخضع للمساومات. يقول المكاتب الروسي الشيوعي قسطنطين سيمونوف في كتابه «،كنت وأبقى صحفيا» (ترجمة سليم توما – دار التقديم بموسكو عام 1989) يمكن لمرء أن يناقش استدلالات هيمنجواي هذه أو تلك في مسرحية "الطابور الخامس " ويمكن الا يتقبل أول حتى أن يرفض هذه الصفحات أو تلك من روايته "لمن تدق الأجراس " ولكن أظن أنه ليس بوسع أي شخص، قرأ كل مؤلمفات هيمنجواي، أن يشك في أن انتصار الفاشية في اسبانيا كان بالنسبة له مأساة شخصية تركت بصماتها على كل حياته اللاحقة. وقد كان اشتراكه في الحرب العالمية الثانية نتيجة اشتراكه في الحرب الاسبانية، وكانت الحرب العالمية الثانية بالنسبة له استمرارا لتلك الحرب ضد الفاشية التي بدأت في اسبانيا.
في كتابها عن يوريس ايفانز الصادر بالانجليزية عام 1979 عن معهد الفيلم البريطاني تبدأ روزاليندا ديلمر فصل "الأرض الاسبانية" بقتطف من مقال "فيلم ويكلي" الامريكية في 11 نوفمبر 1937 جاء فيه أن الفيلم عن مدريد المحاصرة، والدمار الذي تعرضت له، والخطر الذي يتعرض له ما بقي فيها من سكان. وأن صناع الفيلم تجنبوا بحكمة اللقطات «،المرعبة " لاشلاء الجثث، ولكن "الرعب " لا يبارح مخيلة المتفرج طوال الفيلم. وتقول روزاليندا ديلمر أن الفيلم كان أول أفلام ايفانز عن الحروب. وأن صناعه أرادوا أن يعرضوه عرضا تجأريا عاما في كل مكان، ولكن عروضه ظلت قاصرة على التجمعات والجمعيات. غير أنهم نجحوا في عرضه في مقر عصبة الأمم في جنيف لاثبات تدخل قوات هتلر وموسوليني، وقد حذفت الرقابة البريطانية كل ما يشير الى ذلك قبل السماح بعرض الفيلم في بريطانيا.
وتقول الباحثة أن الفيلم اعتبر "غير موضوعي" حتى أن ارنست لوبيتش حسب إحدى الروايات سأل ايفانز لمذا لم يصور "الجانب الآخر" فرد عليه أنه لو كان قد عبر الخطوط وشاهدوه يصور لكان الأرجح أن يقتل على الفور.
تذكر الباحثة أن مدة عرض "الأرض الاسبانية " 52 دقيقة، بينما مدة عرض النسخة الأصلية 55 دقيقة مما يعني أن الرقابة البريطانية حذفت ثلاث دقائق. ويرجع موقف هذه الرقابة الى اشتراك بريطانيا في التوقيع على معاهدة ميونيخ مع هتلر عام 1937. أما موقف لوبيتش وغيره من الذين اعتبروا الفيلم "غير موضوعي" فيرجع الى عدم ادراك أنه لا مجال، للحياد مع الفاشية.
وقد كانت اسبانيا أولى ضحايا التهاون مع الفاشية قبل الحرب العالمية الثانية، وأولى ضحايا تغليب المصالح على المبادئ، بعد هذه الحرب أيضا، حيث تحالف "الأحرار" لاسقاط هتلر وموسوليني، وتركوا اسبانيا بين أيدي فرانكو لمدة تزيد على ثلاثين سنة.
وبالمقارنة مع أفلام ايفانز الأخرى التي تناولت الحروب، تلاحظ روزاليندا ديلمر أن "الأرض الاسبانية " كان الفيلم الوحيد من هذا الأفلام الذي يربط فيه فرد واحد بين الجبهة الداخلية وجبهة القتال، بينما يتم هذا الربط في الأفلام الأخرى عن طريق جموع من الناس. وتنقل من حديث لمونتيرة الفيلم هيلين فان دونجين عن مجلة "الافلام الجديدة " الامريكية عدد نوفبر_ ديسمبر 1943 قولها أن ايفانز وجون فيرنو ذهبا الى اسبانيا بينما أبقيت هي في نيويورك. كان التفكير في متابعة شاب من الأنصار في حياته وكفاحه، وبعد تصوير العديد من المشاهد قتل هذا الشاب. وقد فكر ايفانز وهيمنجواي في العديد من الخطوط الدرامية للتعبير عن تجربتهما في الحرب. ولكنك لاتستطيع أن ترغم الواقع على الخضوع لأفكارك، والأفضل أن تخضع للمواد المصورة وتجعلها تتفاعل مع خيالك.
وتستطرد هيلين فان دونجين لقد عرضنا المواد عدة مرات على أمل أن تأتي الأفكار، وفي نفس الوقت قمت بتقسيمها الى مجموعات: مجموعة لمواد ضرب مدريد وفالينسيا وبرشلونة بالقنابل. ومجموعة لخطوط القتال، وثالثة للحياة خلف هذا الخطوط، وهكذا. وفي أحد المشاهد رأينا الجندي جوليان يعود الى قريته حيث تستقبله والدته وأخته بالترحاب. ولكن أين والده؟ سألت نفسي. وهنا تذكرت أن في بعض مشاهد الفلاحين هناك شاب يجري في الحقل ويقول شيئا لأحدهم، فيترك الفأس، ويعود معه الى القرية. لاشك أنه والد جوليان وقد أخره شخص ما بعودة ابنه فهرع لاستقباله.وبربط هذين المشهدين لم يكتمل مشهد العودة من القتال فقط، وانما عثرت على الربط الذي كنت أبحث عنه بين الجنود في ميادين القتال والفلاحين الذين يمدونهم بالغذاء في الحقول.
في تقييم الفيلم بالنسبة لزمن انتاجه تقول روزاليندا ديلمر عندما ذهب ايفانز الى امريكا كان ذلك وقت نمو نوع جديد من السينما التسجيلية: أفلام التحقيق الصحفي مع استخدام الصور الفوتوغرافية، وفي نفس الوقت ظهرت الرواية التسجيلية عند جون دوس باسوس. وكان عمل هيمنجواي في "الأرض
الاسبانية " في إطار هذه الحركة , حيث عمل مراسلا صحفيا. لم يكن الفرض هو كشف "الحقائق " عن التجارب، والمواقف. وانما دعوة المتلقي الى المشاركة. وكان «الأرض الاسبانية " خلاصة جمع المناهج التي يطورها ايفانز في أوروبا، والأشكال التي تتطور في أمريكا.
وعن تعليق الفيلم الذي كتبه هيمنجواي وسجله بصوته على شريط الصوت تقول الباحثة أن التعليق كان هو الجسر بين الشاشة والمتفرج، وما هو مثير في التعليق التحولات المختلفة في المواقع، فتارة يتحدث باسم الفلاحين، وأخرى يقتصر على تقديم المعلومات، وثالثة يعبر المعلق عن مشاعره الخاصة. وهناك ايقاع داخلي للتعليق من حيث هو نثر حيث تصبح الصورة على الشاشة نقطة انطلاق، ولا يقوم التعليق بقيادة المتفرج، وانما حركة العلاقات بين المشاهد. وتنشر الباحثة مقاطع من نص التعليق توضح وجهة نظرها. وعلى سبيل المثال نترجم خاتمته حيث يقول هيمنجواي "الهجوم المضاد نجح. الطريق مفتوح. ستة رجال أصبحوا خمسة، ثم أربعة، ثم أصبح الأربعة ثلاثة، ولكن هؤلاء الثلاثة بقوا، وسيطروا على الأرض مع كل الأربعة الذين أصبحوا ثلاثة والثلاثة الذين اصبحوا اثنين، والذين بداوا جميعا ستة. الجسر لنا. الطريق آمن. الرجال الذين لم يسبق لهم القتال أبدا. والذين لم يتدربوا على الأسلحة أبدا، الرجال الذين لا يريدون سوى العمل والطعام يواصلون القتال ".
ما لا تشير اليه روزاليندا ديلمر في كتابها الذي يعد من المراجع الرئيسية عن سينما يوريس ايفانز، أن «الأرض الاسبانية " ربما كان أول فيلم تسجيلي في تاريخ السينما يتناول أحدى الحروب الكبرى وقت وقوعها، وقبل أن يعرف أحد نهايتها، وما سوف يترتب على هذه النهاية، وأنه يدعو المتفرج الى اتخاذ موقف محدد من الحرب، وتأييد الكفاح ضد المفاشية. وأن الفيلم بذلك كان تجسيدا للحركة التسجيلية في السينما والأدب في أمريكا وأوروبا، والتي قالت عنها روزاليندا ديلمر أنها لا تستهدف كشف "الحقائق"، وأنما دعوة المتلقي الى المشاركة.
أضع كلمة « الحقائق" بين قوسين عن عمد ,لان كون الصورة حقيقية، أي تصور حدثا حقيقيا، لا يعني أنها حقيقية. فالحدث الحقيقي يصور من زاوية تصوير معينة في إضاءة معينة، واستخدامه في فيلم يعني استخدامه للتعبير عن وجهة نظر محددة. بل إن الحدث المصور في إطار الجريدة الاخبارية أيضا يعبر عن وجهة نظر لأن صانع الجريدة يختار هذا الحدث من بين أحداث متعددة وقعت في نفس الوقت، وربما في نفس المكان، وطالما هناك اختيار، فليست هناك حقيقة مجردة، وقد أساء برنامج التليفزيون المصري الشهير "سينما لا تكذب ولا تتجمل " الى السينما التسجيلية من حيث أراد خدمتها بالترويج لهذا المفهوم السطحي الساذج الذي يرى أن هذه السينما تعبر عن الحقيقة ولا تكذب، وكأن الحقيقة يمكن أن يعبر عنها، وكأن وجهة النظر تعني الكذب، بينما هي مصدر قيمة أي لقطة مصورة.
في كتابه « الكاميرا وأنا" الصادر بالانجليزية عام 1969 عن دار سفن سيز في برلين الشرقية، يتناول يوريس ايفانز فيلم "الأرض الاسبانية" في فصل خاص من حوالي 40 صفحة، وفيه يقول بدأت الحرب في اسبانيا بعد وصولي الى نيويورك، وكان من البديهي أن أذهب الى هناك لتصوير حرب واضحة بين الحق والباطل، وحيث بدأت الفاشية تستعد للحرب العالمية الثانية. كانت الخطوة الأولى في غرفة المونتاج مع هيلين فان دونجين والتي كان قد طلب منها اعداد فيلم عن الحرب الاسبانية من واقع مواد الجرائد السينمائية. ولم تكن المهمة سهلة، فأغلب اللقطات فصورة من وجهة نظر فرانكو، ولذلك اقترحت تصوير فيلم في أرض الواقع بدلا من صنعه تحت رحمة مواد الجرائد. وهنا اقترح ارشيبالد مكليش خطة جديدة: أن يتم الفيلم المعد من الجرائد، وهو ما عرف باسم "اسبانيا تشتعل " بأقل قدر من التكاليف، وأن تجمع المزيد من المال لتصوير فيلم في اسبانيا. كأن المتوفر ثلاثة آلاف دولار بينما المطلوب عشرون ألفا. ولكن الحرب لم تكن تنتظر أحدا.
ويستطرد ايفانز أرسلت الى جون فيرنو أن مجموعة من كتاب نيويورك كونوا شركة باسم «المؤرخون المعاصرون " ويريدون انتاج فيلم عن الحرب في اسبانيا، وأن أحدا لن يحصل على أي أجر. فضلا عن المخاطرة بالذهاب الى جبهات القتال. وكان رد جون فيرنو بالموافقة. والتقيت معه في باريس في يناير 1937، وذهبنا الى فالينسيا من باريس. كأنت ألمانيا وايطاليا تعاون فرإنكو، وبعد ثلاثة شهور أعلن الاتحاد السوفييتي أنه سيتدخل لصالح الحكومة الشرعية التي أعلنت الجمهورية الديموقراطية ضد قوات المتمردين الفاشست، وقبل وقت قصير من وصولنا بدأ وصول عدد من الأسلحة السوفييتية.
الجميع قالوا لنا اذهبوا الى مدريد اذا أردتم تصوير أشياء لها قيمة. وعندما ذهبنا أصابنا الاحباط: من المثير أن تكون بالقرب من العدو، ولكن لا بيوت تحترق، ولا مدافع تطلق. وصل دوس باسوس بعد قليل من باريس، وقمنا بعمل محاورات مع كثير من الناس. كانت أول مشاهد صورناها للقتال بعض المعارك حول مدريد. وبحثنا عن قرية واستقر الرأي على فيونتديونا. لم تكن القرية الاسبانية التقليدية تماما. ولكنها تمتاز بأمرين: الأول أنها على طريق فالينسيا – مدريد والثاني أن الفلاحين كانوا قد استلموها لتوهم من الاقطاعيين الذين كانوا يستخدمونها في الصيد، وكانوا يطلقون النار على أي فلاح يقترب منها. هؤلاء الملاك كانوا في ذلك الوقت يقاتلون الحكومة ويؤيدون فرانكو.
لم ننس أبدا أننا في عجلة من أمرنا. ولذلك لم نكن ننتظر أفضل الظروف للتصوير، وانما نكتفي بأن تكون اللقطات جيدة ومفيدة. وبعد أربعة أسابيع أخذت المواد وذهبت الى باريس لتحميضها وطبعها ومعرفة ما الذي صورناه. وفي باريس التقيت مع هيمنجواي الذي قال انه على استعداد للتعاون بكل الطرق وعلى شتى المستويات. كان هيمنجواي في طريقه الى اسبانيا كمراسل لوكالة نورث امريكان نيوز. المواد كانت درامية ومترابطة أكثر مما توقعت، وقد شاهدها معي عدد من الكتاب وصناع الأفلام في باريس، وكانت ردود أفعالهم مشجعة.وبعد أسبوعين التقيت مع هيمنجواي في فندق فلوريدا بمدريد. قال لي إن أفضل الناس الذين يعرفهم في اسبانيا يحاربون الى جانب الحكومة، وأسوأهم يؤيدون فرانكو، ومن دون اتفاق محدد على دوره أصبح هيمنجواي واحدا من فريق عمل الفيلم. وقد فعل كل ما يمكنه، وكانت مساعدته كبيرة لي أنا وجون فيرنو. لقد تناقشنا معه كثيرا حول كيفية تصوير معركة، وكان له دور كبير في وضع ما يمكن أن نطلق عليه "الاستراتيجية العامة للفيلم " وكان يبدو مدركا بعمق وشمول طبيعة السينما التسجيلية.
حاولت صنع خط رفيع يمكن متابعته عن الفلاح جوليان في الجبهة وفي القرية. الفكرة العامة لفيلم "الأرض الاسبانية" العمل في الأرض والقتال من أجل الأرض. صورنا جوليان كثيرا في القرية، وصورنا لقطات كبيرة لوجهه، ولكن عندما حاولنا العثور عليه في جبهة القتال لم نجده أبدا. ولذلك عندما غادرت اسبانيا الى نيويورك في مايو لم أكن أعرف كيف سينتهي الفيلم وقد غاب عنه "الممثل " الرئيسي. وقد بقي جون فيرنو ليصور المزيد أعطيته قائمة بسبعين لقطة، وعبرت له عن أملي في العثور على جوليان.
الانتهاء من صنع الفيلم لم يكن مجرد مونتاج بسيط. هيلين فان دونجين وضعت كل خبرتها في هذا الفيلم. المشاكل المختلفة للتعليق في الفيلم كانت جديدة بالنسبة لي. في البداية اتفقت مع هيمنجواي على أن يكون حجم التعليق قليلا بقدر الامكان وأن ندع الفيلم يتحدث عن نفسه. وعلى سبيل المثال فالتعليق على قصف قرية كان بالكلمات التالية: "قبل هذا الوقت لان الموت يأتي عندما تمرض أو تكبر في العمر، الآن يأتي لكل القرية. من السماوات المرتفعة يسقط المعدن الفضي اللامع على كل من لم يجد مكانا يهرب اليه لا مكان تهرب اليه ", كان من الضروري أن يتجنب التعليق التأثير العاطفي بالكلمات أو الدعاية الصارخة، وقد أدرك هيمنجواي ذلك من دون أن تكون له أي خبرة سابقة في هذا المجال. وعندما جاء دور تسجيل التعليق اقترح ارشيبالد مكليش أن يكون بصوت أورسون ويلز ولكن كان هناك في صوته ما يفصل المتفرج عن الفيلم وعن اسبانيا. كان صوته مناسبا لصياغات شكسبير ومارلو البلاغية. ولكنه غير مناسب لجمل هيمنجواي "العارية".
وعندما ذهبنا الى هوليوود، وعرضنا الفيلم على جماعة "المؤرخون المعاصرون " رأى هيرمان شولين وليليان هيلمان ودورثي باركر – بينسد أن من الأفضل أن يعاد التسجيل بصوت هيمنجواي نفسه. وكانوا على حق. أثناء تسجيل هيمنجواي للتعليق كان صوته هو صوت الكاتب الحساس الذي عاش التجربة ويريد أن يحدثك عنها، وتنعكس في صوته مشاعر لا يمكن أن يعبر عنها أي صوت آخر. بل وقد كان لعدم خبرته في كتابه أو إلقاء تعليقات دور ايجابي في إقناع المتفرج بالفيلم. كان مختلفا تماما وجديدا تماما عن التعليقات التي اعتادها الجمهور سواء من حيث أسلوب الكتابة أو أسلوب الالقاء. وبالتعاون مع فيرجيل ترمسون ومارك بليتستين تم اعداد شريط الصوت من حوالي أربعين تسجيلا لموسيقى وأغان اسبانية. ومنها تسجيلات حصلت عليها في اسبانيا وتم المكساج بواسطة ارفينج رايز في سي بي اس.
كانت أول "محاكمة " للفيلم في البيت الأبيض. وجهت لي الدعوة مع هيمنجواي ومارتا جيلهورن للعشاء وحضور عرض الفيلم. كان اللقاء حميميا مع الرئيس روزفلت وزوجته وابنه جيمي واثنين من المستشارين العسكريين وعدد محدود من الضيوف. وأثناء اللقاء كان الحوار حول المواقف التي تعرضنا لها أثناء التصوير في اسبانيا. وبعد العشاء انتقلنا الى قاعة العرض، وانضم الينا حوالي ثلاثين شخصا من بينهم هاري هوبكنز. طلب مني الرئيس أن أجلس الى جواره حتى أجيب في حال رغبته في السؤال عن أي شيء. في منتصف الفصل الثاني قال "انه أمر مثير للغاية. الفيلم يستحوذ علينا رغم عدم وجود قصة ». وفي الفصل قبل الأخير مع ظهور دبابات سأل الرئيس:
– ما هذه الدبابات؟
– فرنسية. من مصانع رينو.
– هل هي جيدة؟
– لا، إنها لا تصمد أمام نيران فرانكو.
لم يسأل كيف وصلت الى هناك. كان ذلك مفهوما. بعد قليل من الفصل الأخير ظهرت دبابات أخرى، فقال:
– هذه ليست دبابات رينو.
– لا سيدي الرئيس، انها دبابات روسية.
– هل كان منها الكثير.
سأل وكأن هذه الدبابات هي التي تستطيع مقاومة نيران فرانكو، وقلت نعم، هناك الكثير منها.
وعندما انتهى الفيلم أبدى الرئيس اعجابه الشديد به. كنا نريد أن يدور الحوار عن "عدم التدخل " وعن «الحياد"، ولكننا لم نملك الشجاعة الكافية. وبعد انصراف الرئيس قالت السيدة روزفلت إننا في البيت الأبيض لا نعتقد أن الشعب الاسباني سوف يخسر المعركة.
وكان العرض الثاني الهام في منزل فردريك مارش في هوليوود وقد حضره 17 شخصا دفع كل منهم ألف دولار لشراء سيارة اسعاف من شركة فورد لارسالها الى اسبانيا. وفي عرض آخر لحوالي 200 شخص تم جمع ألفي دولار. وقد حاولنا توزيع الفيلم بواسطة إحدى الشركات ليعرض في دور العرض على نطاق واسع، ولكن من دون جدوى، فهذه الشركة تقول إنه أطول من اللازم وتلك إنه أقصر من اللازم، والأكثر صدقا قالوا إنه مثير للجدل، ولذلك بقي الفيلم في نفس القنوات التقليدية التي كانت تعرض الأفلام التسجيلية. ولم يكن النقاد يهتمون بالافلام التسجيلية. وخاصة في أمريكا.
ويختتم يوريس ايفانز الفصل الذي كتبه في مذكراته عن فيلم "الأرض الاسبانية » بتحليل للنقد الذي نشر عنه، وخاصة في الصحف الأمريكية والبريطانية حيث اعتبره البعض من أفلام الدعاية " وهاجموه لأنه لا يعرض وجهة النظر الأخرى. ويعلق ايفانز بأن مسالة وجهة النظر الأخرى يمكن أن يعبر عنها بواسطة فيلم آخر، وأن أكثر ما يثير دهشته الفكرة الشائعة بأن الفيلم التسجيلي يجب أن يكون "موضوعيا".
يقول فنان السينما الكبير "هل نطلب "الموضوعية » في الشاهد الذي يدلي بشهادته أمام المحكمة. كلا، إنما نطلب منه أن يكون صادقا في شهادته ".
سمير فريد(ناقد سينمائي من مصر)