حسن مَدَن
كاتب بحريني
سياق هذه الشهادة سيفصح عن مغزى العنوان الذي اخترناه لها، فعلي عبدالله خليفة هو الشاعر والأديب والباحث في الثقافة الشعبيّة، والناشط الثقافي على غير صعيد، إنْ في إصدار الدوريات الثقافية أو المشاركة الفاعلة في تأسيس مؤسسات ثقافيّة مختلفة، محليّة وخليجيّة وحتى دوليّة.
حين كنت أفكر في كتابة مضمون هذه الشهادة عن شاعرنا وأديبنا العزيز الصديق علي عبدالله خليفة، وقعتُ في حيرة حول عن أي من هذه الوجوه المتعددة له سأكتب، أأكتب عن علي خليفة الشاعر والأديب والناشط الثقافي الدؤوب، أم عن علي خليفة الصديق، بحكم علاقة الصّداقة الممتدة بيننا منذ عدة عقود حتى اليوم، فمعرفتي بعلي خليفة تعود إلى أوائل سبعينيات القرن الماضي، ومع أنه ينتمي للجيل الأكبر من جيلي، لم أشعر بهذا الفارق في العمر بيننا، ولم يشعرني علي يومًا بأي صورة من صور «الأستذة» التي عادة ما تحكم العلاقات بين المثقفين من أجيال مختلفة، مع ما كان له، ومنذ ذلك الوقت، من مكانة أدبيّة رياديّة في عالم الشعر، والأدب عامة، ومنذ بداية هذه الألفيّة جمعني مع علي عمل ثقافي في أكثر من مجال ومؤسسة، كمركز عبدالرحمن كانو الثقافي ومنتدى البحرين للكتاب، وأخيرًا في مجلة «الثّقافة الشعبيّة» مع أصدقاء وزملاء آخرين، ولمستُ عن قُرب ما يتحلى به من حب العمل بروح الفريق، ومن قدرته على إدارة هذا العمل الجماعي.
في بداية تفتح اهتماماتي الأدبيّة والثقافيّة قرأتُ أشعار علي خليفة، قبل أن ألتقيه أو أتعرف عليه شخصيًا، خاصة وأننا من منطقتين سكنيتين متباعدتين بعض الشيء، بمعايير البحرين، البلد صغيرة المساحة طبعًا، وما زلت أذكر الصدى الكبير الذي تركه ديوانه الشعري الأول «أنين الصواري» الذي كان أول مجموعة شعرية لواحدٍ من الجيل الجديد لأدباء البحرين، تصدر مطبوعة عن دار نشر، حيث تولت إصداره يومها دار الآداب في بيروت لصاحبها الأديب الراحل سهيل إدريس في العام 1969، لِيَلِيه بعد وقت لم يطل ديوان «البشارة» لقاسم حداد، ثم توالى صدور المجموعات الشّعريّة والقصصيّة لأدباء البحرين الذين كانوا يُعرفون يومها بـ«الأدباء الشباب» تمييزًا لهم عن وجوه الجيل الأدبي السابق لهم، ولأنهم جميعًا كانوا، بالفعل، في مقتبل العمر.
في تلك الفترة بالذات، التي ولجتُ فيها مبكرًا عالم الصحافة، حيث عملت محررًا ومشرفًا على الصفحة الثقافية في مجلة «صدى الأسبوع» لصاحبها المرحوم علي سيّار أحد أبرز رواد الصحافة في البحرين ومنطقة الخليج، صرتُ ألتقي كثيرًا بعلي خليفة، وتطوّرت هذه العلاقة إلى الصداقة التي أشرتُ إليها في مطلع الحديث، وما زالت مستمرة حتى اللحظة، وتعرفتُ مباشرة على تجربته الشعرية وتأثير الموروث الثقافي الشعبي في تأسيس هذه التجربة، خاصة وأنه ابن مدينة «المحرّق»، الجزيرة ذات المكانة التّاريخيّة والحضاريّة المهمة في تاريخ وحاضر البحرين، والمصهر الذي منه خرج الكثيرون من وجوه الفن والأدب والإبداع عامة في البحرين.
وإلى جانب علي خليفة برزت، في الشعر، أسماء أخرى، بينها قاسم حداد وعلي الشرقاوي وحمدة خميس وعبدالحميد القائد ويعقوب المحرقي ويوسف حسن وسعيد العويناتي وإيمان أسيري وآخرون، وفي مجال القصة برزت أسماء محمد عبدالملك وأمين صالح ومحمد الماجد وعبدالقادر عقيل وفوزية رشيد وآخرون أيضًا، وفي مجال النقد الأدبي محمد جابر الأنصاري وأحمد المناعي وحسين الصبّاغ وسواهم.
والحقيقة أنّ هذا الإبداع الجديد له جذوره الراسخة في الواقع وفي البيئة المحليّة بالتأكيد، ولكنه من حيث مضمونه وشكله مغاير لما سبقه، حيث استقى شعراء البحرين الشباب يومها من تجارب روّاد الشعر الحديث في البلدان العربيّة الأخرى كالعراق ومصر ولبنان وغيرها، وإننا لنلحظ دون شك تأثيرات السيّاب والبياتي وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وخليل حاوي وأدونيس وسواهم في القصيدة الجديدة في البحرين، ويعدّ اتجاه علي خليفة إلى إسقاط قضية الغواصين على اللؤلؤ ، والبحّارة عامة، التي كانت تعتبر قضية قطاعات واسعة من الناس في الخليج على واقع الإنسان المعاصر، مُحوّلًا ما فيها من أبعاد إلى مادة شعرية أحد تجليّات البداية الواعية للقصيدة الجديدة، والتي أبرزت بوضوح موقفه تجاه الجهد الإنساني الضائع من جراء سطوة المتاجرين بقوة العاملين في استخراج اللؤلؤ من البحر تحت أقسى الظروف.
عام 1973 أصدر الشاعر ديوانه الثاني (إضاءة لذاكرة الوطن) الذي بدا أنه حقق فيه تقدمًا عن الديوان السابق من حيث غنى الصورة الشعرية وإيحائها، وبرزت في القصيدة رؤية سياسية أكثر وضوحًا، وأبعاد رمزية من التراث الحضاري القديم، لكن قبل ذلك كان قد صدر للشاعر ديوانه الشعري التالي: «عطش النخيل»، باللهجة العاميّة، الذي قدّم تجربة مهمة في كتابة الموّال الشعبي، بمضمون جديد يعكس الاهتمامات والرؤى المختلفة للحركة الأدبيّة الجديدة في البحرين، حتى لو كان التعبير عنها بالعاميّة لا الفصحى وحدها، وكان علي خليفة هو واحد من أبرز مجايليه من شعراء البحرين الجدد، يومها، ممن جمعوا بين الفصحى والعاميّة في كتابة الشعر، فإلى جانبه كان هناك شعراء آخرون من أبرزهم عبدالرحمن رفيع وإبراهيم بوهندي وعلي الشرقاوي، وبالتأكيد أيضاً كان علي خليفة بين أبرز من كتبوا القصيدتين الفصحى والعاميّة على المستوى الخليجي.
مفردته الشعرية نابعة من بيئة محلية
والمفردة الشّعرية العاميّة في شعر علي خليفة ومجايليه من شعراء البحرين نابعة من البيئة المحلية، ذات الطابع المديني والعاكسة لخصائص البنية المجتمعية والثقافية، لذا نجدها مختلفة عن النزوع المنتشر اليوم نحو الشعر النبطي الذي يبدو متسقًا مع بيئته الأولى، صحراوية الطابع، ولكنه ليس على ذات الدرجة من الاتساق مع البيئة المدينية. ونذكر أن الشاعر العراقي الشهير مظفّر النواب، الجامع هو الآخر بين الكتابة بالفصحى والعاميّة، وفي معرض حديثه عن تأثر شعره بعيشه لبعض الوقت في منطقة الأهوار بالعراق قال ما معناه: إن البيئة المائية، حيث النهر أو البحر أو البحيرات، تجعل من الناس أكثر رهافة وحساسيّة ورقّة.
ونعتقد أن هذا ينطبق على المفردة الشعريّة العاميّة عند علي خليفة، كونه ابن المحرق الجزيرة وابن البحرين التي هي مجموعة جزر، بل إن علي خليفة نفسه تناول هذا الأمر في معرض حديثه عن أثر بيئة الماء في المدن الساحليّة الخليجيّة في طراوة المفردة الشعرية عند كتاب القصيدة النبطيّة، مستشهدًا في ذلك بتجربة الشاعر السعودي محمد بن لعبون ( 1790 – 1831)، الذي جاء من الصحراء بوسط نجد حيث «القصيدة النبطية في بهاء لغة البادية وغريب مفرداتها على ابن الحاضرة، تُغَنى على الربابة في فرجة استماع مهما بلغت فهي محدودة، وحين انتقل إلى البحرين عند الطرف الشرقي للجزيرة العربيّة «حيث طراوة اللهجة الخليجية وعذوبة مخارجها وبساطة تراكيب جملها، ولج مرحلة جديدة من أدائه، حيث وجد فضاء أوسع لممارسة فنون الأداء على (الطار) التي أتقنها ابن لعبون ووضع لها الألحان التي عرفت بـ (اللعبونيات)». ويرى علي خليفة أن من يقرأ قصائد ابن لعبون قبل مغادرته نجد، ثم يستمع لنص أغنية: «يا علي صوّت بالصوت الرفيع/ يا مره لا تذبين القناع» التي كتبها بعد مجيئه البحرين وأطبقت شهرتها الآفاق بعد أن أداها أشهر المغنين، ومن بينهم الفنان أحمد الجميري سيكتشف البون الشاسع بين ما كان عليه شعره وما صار إليه.
علي خليفة ليس شاعرًا فقط، فهو باحث في الثّقافة الشعبيّة ومهتمّ بها، وهذا الاهتمام تزامن مع بداياته الشعريّة، فليست مصادفة أن ديوانه الثاني «عطش النخيل» تلى مباشرة ديوان الأول بالفصحى، وإذا كان «أنين الصواري» قد تمثل تجربة البحارة الفقراء وما كان يلحق بهم من غبن وضيم واستغلال، فإن الشاعر اختار لديوانه الثاني عنوان «عطش النخيل»، بما يعكس تناوله لمعاناة فئة أخرى من الفئات الكادحة في المجتمع البحريني والخليجي عامة، هي فئة العاملين في فلاحة الأرض، وهذا الاهتمام بمفردات الثّقافة الشعبيّة هي التي أهلّت الشاعر كي يصبح أول رئيس لمركز التراث الشعبي لدول مجلس التعاون الخليجي، الذي كان منجزًا ثقافيًا مهمًا جرى التخلي عنه لاحقًا للأسف الشديد، وعلي خليفة هو اليوم رئيس المنظمة الدولية للفن الشعبي ورئيس تحرير المجلة الصادرة عنها في البحرين «الثّقافة الشعبيّة».
وحين نتحدث عن علي خليفة الناشط الثقافي، لا بدّ أن نقف عند دوره الكبير مع بقيّة زملائه يومها، في تأسيس أسرة الأدباء والكتّاب في البحرين قبل أكثر من خمسين عامًا، وتبوأ رئاستها أو كان عضوًا في مجلس إدارتها في العديد من الدورات، كما كان له دور رئيسي في تأسيس مركز عبدالرحمن كانو الثقافي الذي يرأس مجلس إدارته، وهو من المؤسسات الثّقافيّة المهمة والفاعلة في البلاد اليوم.
وفي رصيد اشتغالات علي خليفة الثّقافيّة، توليّه إصدار عدد من الدوريات الثقافية المهمة، بينها مجلة «كلمات» التي يمكن وصفها بأول دورية ثقافية في البحرين، كانت تصدر عن «دار الغد»، التي أسسها الشاعر في منتصف السبعينيات، وهي الأخرى يمكن وصفها بأول دار نشر في البحرين، اهتمت بطباعة المنتج الإبداعي المحلي بدرجة أساسيّة، كما عمل مديرًا لتحرير مجلة البحرين الثقافيّة الصادرة عن قطاع الثقافة في البحرين.
لا يمكن كتابة التاريخ الأدبي والثقافي خلال نصف القرن الماضي دون الوقوف عند الدور التأسيسي والريادي لعلي خليفة على أكثر من صعيد، فهو شريك في صنع المحطات الرئيسية في تطوّر هذه الحركة، وما زال يواصل عطاءه في مختلف المجالات.