الهواري غزالي
ليس أكثر عمقا في الوقوف على الأطلال من ذلك النظر الذي نرنو به حسرةً على حضارات كثيرة تعاقبت مثل تلك التي تعاقبت بخليج تونس. وإذ نقف أعالي جبل المنار بسيدي بوسعيد، ونغمض الجفون للحظات، فإن قرطاج ستظهر عيانا في قلوب المصدّقين، فمن هذا الذي تختفي عن عينه مشاهدُ الحقيقة والآثار العتيقة، وسهول الأرض التي تحيط بها الجبال الغارسة أقدامها في البحر تفيض على لسان يلهج عاليا بذكر العابرين؟
لهذا المنظر ضوءٌ أنصع قليلا من سحر الضوء الذي ينسكب بين جبال ألبانيا وجزيرة كورفو اليونانية في الصيف عند الصبيحة. إنه ضوءٌ يستقدم كثيرا من التمعّن والتّفهم، ومن التّأمل والتّأوُّل، ومن الحديث والكلام. وتنطق قرطاج باللّغة الفينيقية كرتهاداشت وتعني المدينة الجديدة، ولقد بنتها مجموعة من الذين هاجروا لبلاد الشام وعلى رأسهم امرأة تدعى أليسار، ويسميها أهل تونس بعلّيسة، وفي هذه المرأة قولٌ كثيرٌ. ولقد نقل اليونانيون والرومان أخبار قرطاج، ولم يأت عند عرب ما قبل الإسلام شيء يذكر عنها حسب علمي حدّ هذه الساعة، إلا حديث رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) فيما نقله أبو ذرٍّ بقوله : «سَتَفْتَحون أَرضًا يُذكَر فيها القِيراطُ، فَاستَوْصُوا بأَهلِها خيرًا فإنَّ لهم ذِمَّةً ورَحِمًا»، فلا يأخذني الخاطر بهذا الحديث إلا لتونس وما حولها ولا يستبد العقل بي إلا لتأتي الأفكار في ظنون أن يكون المقصود بها قرطاج وما واقعها من بلدان الجوار. فقيراط وقرطاج يتقاسمان الحروف الجذرية نفسها، وإن كان كلاهما لا ينطوي على المعنى نفسه باعتبار اختلاف الأصلين، فالأولى مفردة عربية والثانية فينيقية. والتفسير الذي يجعل من مصر مقصودة بهذا الحديث -كما جاء عند الطّحاوي وغيره- لا يتطابق مع ما ينبغي أن يكون عليه الأمر حقيقة. فلو أراد الحديث بها مصرا لما أشار إليها بالمجاز، إذ كانت مصر إقليما جاور حدودَها العرب وحذق المسلمون المعرفة بها مما سمعوه في القرآن من قصص وأحداث. ولو كانت مصرَ، لقال بها صراحة ولفظا مثلما كان يقول بذلك عن نجد والشام وعن فارس وبلاد الروم، فليس من حاجة لاستخدام المجاز إلى بلد قريب، ومصر أقرب إليهم من كل شيء، إنما يكون المجاز للإشارة إلى أرض بعيدة وإقليم مجهول مثلما هو الحال لبلاد المغول مثلا.
وقد كان للمسلمين أول عهدهم بالإسلام علمٌ بما لنبيهم من حظوة عند المقوقس بعدما أهدى إليه مارية القبطية التي وفدت عليهم من مصر. وإذا زدنا على ذلك كون مفردة الأرض في الحديث وردت نكرة فهو ليس سوى دليل قاطع على أن المقصود بها بلد أبعد منها، فالنكرة تخفي جغرافيًّا المعرفة بالأرض، ولكنها لا تخفي أخبارها التي تداولتها الأمم. وهذا الذي يجعلنا نعتقد أن صدى أخبار قرطاج كان لا يزال يرنّ في أذن العرب والرحالة بعدما اختفت لسبعة قرون قبل مجيء الإسلام. فهل يكون قد وصل إلى مسمع سلاطين العرب وشعرائها وتجارها؟ من المحتمل جدًّا ذلك، فالثقافة الشفهية التي تمتع بها عرب الجاهلية لم تكن لتهمل قرطاج بالذّكر، وسيكون لدى من عرفوا بالتجارة منهم علم بوجودها، فلقد تركت قرطاج إرثا تجاريًّا كبيرا بعدها.
في اليوم الرابع عشر من إقامتي في تونس، حجزت بفضل موقع الآربيانبي بالإنترنت شقة بمدينة الكرم الواقعة على ساحل البحر بين حلق الواد وموقع قرطاج الأثري. استيقظت باكرا، وخرجت لأتناول فطور الصباح بمقهى «ألتا» بوسط المدينة. كان الصباح مضيئا جدا ومغريا، فاكتشاف موقع قرطاج الأثري لم أستطع رسم ملامحه في خيالي الذي تحول حجمه سريعا إلى ما هي عليه مسافة القطر المعتدّةِ بين حواف فنجان القهوة الأبيض المدوّر. لم يكن منّي حينها سوى أن أحتسيه سريعا، ألتقط مفاتيح سيارتي، وأهبّ في سرعة استدراك الماضي البعيد لأصل المدينة المبتغاة بعد عشر دقائق من لهفة القلب السابق إليها. أركن السيارة قبالة البحر، وأتمشى قليلا تجاه الآثار، حيث الهدوء يسمح بالإصغاء لجوقة الطبيعة الصامتة التي يقتطعها بعفوية مرتَجَلَةٍ نشيدُ العصافير. وإذا كان لي أن أسمي قرطاج من جديد، فلا يليق بها من اسمٍ سوى مدينة الزّرقة المشمسة. إن وقوعها بين البحر والتلال وعلى خليج تتراءى لك منه أطراف البرّ والجبال يجعل الانسان يقف على درجات نفسه بين الإدراك لظاهر الأشياء والإحساس العميق بها.
كان نداء قرطاج الذي يزعق في داخلي بكثير من الضوضاء المريبة والصخب العجيب يرسل لي -وأنا ألتقط إشارة التاريخ بقلبي- ما يخبرني بأحزاني القديمة، وببكاء مرير تمزّقت به أحشاء شعوبٍ نبتت كنخل ساحليٍّ بها لكنّها لا تزال قصيَّةً في شعورها الدّفين. وإذا كنت حينذاك لم أتبين بعدُ النداء واضحا، فإنّني كنت على الأقل، لا أزال أحاول فهم سبب مجيئي إلى تونس، وعبدالسلام، يهمس في أذني؛ ليس بعد، ليس بعد…
أدخل الموقع، أشاهد كوكبة من الخلق مطأطئة الرأس منشغلة الخاطر ومنهمكة في نبش الحفر كخلدان السهوب الباردة، أقف قليلا وأتأمل مجموعة من الباحثين الأوروبيين والتونسيّين وهم ينفضون عن الحجارة غبار ماضيها، يفتشون فيها كأنها دُرج الأسرار، بعضهم على قدمٍ وركبة، وبعضهم الآخر على قدمٍ وساق، والبعض الباقي يساعد التراب على كشف نقابه للحياة. وكيفما كانت الحفريات، فإنها تكشف تاريخ الشعوب والأمم وتمنع عنه ما تريده عصابات السياسة من قسمةٍ لها على حساب الأعراق وبخلط في الأوراق ولعبٍ بالهويّات. وما رأيت بلدًا أكثرَ من الحفر في الحجر ومن الكشف عن الأثر، إلا وانسجمت فيه الأجناس، وصارت لكلٍّ فضائل على البلد والنّاس.
أنزل إلى حمّامات أنطونيوس التي تعدّ من أعظم الحمامات التي بناها الرومان بشمال أفريقيا، فأجد بِرَك ماء المطر الخريفي التي استجمعت نفسها وقد كانت تريد التهيّؤ لتفيض كما تفيض أحواض الينابيع، فلكأنّها حوّلت ما تبقّى من تلك البنايات الرومانيّة ذات القبب الحجرية إلى سابق عهدها من أماكن للاغتسال، فمن قال إن الماء ينسى موضع نزوله، والبحر ينسى موضع ابتدائه ؟؟ وأمام البحر الساكن، أبحث عن الحجارة الأولى التي بنى بها الفينيقيون قرطاج فلا أجد أثرَها سوى ما يتبدى لي من خلال اللوحات الرخامية البيضاء الملقاة بين العشب، لوحات تكاد تسمع فيها جلبة الهروب بالنفس من القتل الذَّريع، روما، لم تترك أثرا على حجر، أحرقت ودمّرت وأوغلت في القتل وجعلت من قرطاج بداية عصر الإبادات. روما لم تدمّر قرطاج فحسب، وإنما اجتثت من جذور الأرض روحا حضاريّة متفوّقةً بالتعدّدية العرقية، وبالانسجام بين الشعوب الليبيّة الأفريقيّة والهسبانية والأوروبية، أين كانت التجارة هي العقدة الوثقى المربوطة بالموج المتراوح بين الأقاليم. وبينما صنعت روما برابرة لمن لا يؤمن بها، فإن قرطاج تمدّدت بأفريقيا دون حرب، وتحالفت بمراسي التجارة مع أصحابها. وجعلت سواحل البحار صديقا وشراع الجواري رفيقا.
جلس بمحاذاتي عبدالسلام، بعد أن كان يترنّح في وقوفه من أثر الشمس النّاصعة الشعاع، واستسلم إلى هدوء الصبيحة وهو يتذكّر كلام بومدين الغوث بالسكّاجين. ثم تمتم بكلمات كالعادة، واسترسل قائلا: اسمعني؛ لقد استطاعت روما عام 263 قبل الميلاد أن تنتصر على قرطاج في معركة بحرية قبل أن تقوم بتدمير أسطولها كله عام 241 ق م، وتستفرد بصقلية نهائيا. ولقد بقيت قرطاج تقاوم إلى غاية سقوطها نهائيا عام 146 ق م بعد معركتين كبيرتين، وأكاد أقول، عندما خسر حنّبعل قائد قرطاج القوي معركة زاما الشهيرة عام 202 ق م، تكون قد انتهت أقوى حضارة في منطقة شمال أفريقيا، وصار هذا الإقليم عرضة لغزو الرومان إذ لم يكن لأحد بعد كلّ هذا أن يمانع أو يخالف. أما الأفارقة النوميديون فلا زالوا ينظرون بعيون فارغة هولَ الفجائع وقلوبهم بين صبرٍ على الحال أو تأهّبٍ واستعداد. فقلت له، لكن ألم يذكر المؤرّخون أنّ عواصم نوميديا من قبيل سيگا وكيرتا لم تظهر إلا فور ظهور روما كقوة إقليميّة؟ فلقد تناهى إلى سمعي أن روما هي من قامت بإنشاء نوميديا كقوة ثانية لمساعدتها على القضاء على قرطاج من الجهة البريّة. فهل النوميديون هُرعوا حقيقةً إلى تأسيس مماليك في هذه الفترة رغبةً منهم في القضاء على قرطاج والانتصار لروما أو إحساسا منهم بانهيار وشيك لقرطاج واتّقاء لشرِّ روما ولاحتلالها لهم؟ نظر إليّ عبدالسلام مستغربا، كأن الأقدار التي قضى بها التاريخ تحدثه بشيء ما!!
رفع عبدالسلام عينيه نحو العمود الرُّخامي الواقف وسط الآثار بحمامات أنطونيوس، ثم مشّط بهما الفراغ العامر بالأحاديث المستنزَلة، وقال: عندما قامت قرطاج عام 814 قبل الميلاد، كانت شمال أفريقيا متوزعة بين أقاليم مختلفة، بين ليبيا ذات الجذور القفصية الإثيوبية التي عرفت فيما بعد وفادة القرطاجيين والإغريقيين، ونوميديا ذات الامتداد الجغرافي الواسع الذي يصل بين مدينتي الكاف شرقا وواد ملوية الواقع خلف مدينة وجدة غربا، ثم موريطانيا التي عرفت بعاصمتها طنجة. ولقد استطاعت قرطاج أن تحيط بحوض البحر الأبيض المتوسط، وذلك بتحويل ضفافه إلى موانئ تجارية، مع الاحتفاظ بجانب كبير من ولاء هذه الأراضي لها، فقد كانت لها اليدُ على جزر سردينيا، وصقلية وعلى هسبانيا وسواحل شمال أفريقيا برمتها تقريبا بما في ذلك الجزر التي تقع قبالتها كالجزيرة المسمّاة ليلى بأرشگول.
في الفترة التي أعقبت قيام روما، نشأت نوميديا بفضل وجود عاصمتين رئيستين؛ الأولى جمعت حولها شعب الماسيسيل، وقادها صيفاكس، وهي تقع بالمحاذاة من مدينة عين تموشنت حاليا على بعد 70 كيلومترًا من مسقط رأسك، والثانية جمعت حولها شعب الماسيل، بقيادة گايا، وعاصمتها كيرتا. فاستوقفته سريعا وقلت له: لم أفهم؛ هل تقصد أن صيفاكس النوميدي الأمازيغي كان أميرا على ما نسمّيه اليوم الغرب الجزائري؟ فأردف مجيبا : أجل، استطاع صيفاكس بغلبته على گايا أن يأخذ مدينة كيرتا ويضمها إلى دولته التي عاصمتها سيگا، ولا شكّ أن هذا التوحيد بين الأقاليم هو الأول من نوعه عندكم أنتم النوميديّين، وكان الهدف منه هو العمل على تكوين إقليمٍ آخر ينافس الفينيقيّين اقتصاديا وسياسيا وحضاريا. لكن ما شغل النوميديين حقيقةً لم تكن قرطاج، فقد كشفت هذه العاصمة عن مزيج جغرافي وحضاري بين الفينيقيين والليبيين والأوروبيين الذين نزحوا إليها من هسبانيا، إنما الشغل الشاغل لهم كان منصبًّا على استقواءِ روما، ودنوُّ خطرها منهم وتهديدها لهم.
– لكن كيف لروما أن تأتي إلينا ولم نكن على دين الإسلام بعدُ؟
انفجرت ضحكات عبدالسّلام وارتفعت في السّماء عاليا.. وقال ونبرة السخرية واضحة: أنت لم تفهم شيئا، كيفما كان دينك أو لغتك أو تقاليدك، فإن منطق الأرض هو الذي تعود إليه كلمة الفصل، والأطماع تكون للأرض التي أنت عليها وليس لشيء هو فيك. لذلك، انظر فيما أنت فيه الآن، هل قرطاج كانت مسلمةً حتّى تأتي عليها بالإبادة روما!! أبدا، فوثنيتها لم تشفع لدى روما التي كانت تدين مثلها بالإلهات. لذلك سيكشف خبرُ استيلاء روما على صقلية التابعة لقرطاج آنذاك عن بداية قلق سياسي في نوميديا، فلكأنه أرسل إنذارا للأفارقة جميعا باقتراب الأجل، وهي بعد ستة قرون من التفوق الحضاري، قد بدأ نجمها ينزع للأفول نزوعا. ولقد بحثت قرطاج عن حلفاء داخليين، كما بحث النوميديون عن تمكين هذا التحالف معها من صدّ توسع روما وتثبيت رسم حدودها الأخيرة في الأرض الأوروبية، فكان أن ظهر حليفٌ من منطقتك الساحلية التي ولدتَ على مقربة منها، وهو صيفاكس أمير سيگا -الواقعة بعين تموشنت- والذي لم يكن له من همٍّ سوى البحث عن طريقة لإنقاذ أفريقيا.
– دارت في محجريهما عيناي، واستدار بي بهوُ المكان بقرطاج، وعدت أدراجي إلى طفولتي وأنا أداعب الأمواج صغيرا بتموشنت، يا إلهي، أهنا كان صيفاكس؟ لم يعر عبدالسلام لصمتي اهتماما، بل كان يتمتم بعض الكلمات، كأن وحيا مُهَيمنًا من السماء يأتيه. ثمّ التفت إلى البحر وقال؛ أجل، قرطاج هي صهر سيگا وأميرتها لم تكن سوى زوجة أميركم. فانتابني الفضول، وسألته؛ هلاّ أخبرتني أين تقع سيگا تحديدًا، فأنا لم أسمع أبدا بمكان وجودها حتّى الآن. ولَكَم هي الكتب والمجلات والجرائد والقنوات كثيرة، لكنّ لم أر ولم أسمع ولم أقرأ في حياتي شيئا يخبرني بأنّي أنحدر من قلب عاصمة نوميديا الغربية. ثم لم أفهم، ماذا كانت تفعل أميرة قرطاج بسيگا؟ استمهلني عبدالسلام، ذهب في اتجاه الشمس المتلألئة بسطح البحر قبل أن تشوب وُضَوحَها ظِلالُ بعضِ الغيوم، ولم يلبث أن دنا من حدود الموجة المفصولة عن الرمل، حتّى أرسل أطراف أصابعه داخل الماء متحسّسًا درجة الحرارة فيه، وهو يلقى نظرة ثاقبة خلف الأفق، واصل تمتماته كالعادة، ثم عاد في الأخير كأنّه اِنتعش من جديد، وقال : إنها جبل يقع بما يسمّى اليوم عندكم بأرشگول، ولقد اختلط على المهتمّين القلّةِ من بلدكم انقاسمُهُم بينهم، فمنهم من وضعها موضع ضريح صيفاكس، ومنهم من رأى أن موضعها غير هذا، والأصح أنها تقع على تلةٍ مطلّة على البحر، وبنيتم فوقها فندقًا ومسبحا واسعا ثم تركتم جزءها الخلفيّ معمورا بالنباتات والأشجار، كأنّما منعتم عن الناس أن ينظروا فيها وآثار الأمم مدفونة تحتها. فتدافعت بنفسي إليه مختلطا بها وقلتُ له، وما هو دليلك في هذا ؟ فتناولني بالنّصيحة السريعة وقال: لا تستبق رأي الناس يا ابن عمي، وإنما تخلّف عنها وانظر ثم قل. ها هو الحسن الوزان الغرناطي رحمة الله عليه في القرن السادس عشر الميلادي يخبرنا أن أرشگول مدينة كبيرة قديمة بناها الأفارقة على صخرة يحيط بها البحر من كل جانب ما عدا الجنوب حيث توجد طريق ينزل من الصخر إلى اليابسة وهي واقعة على بعد نحو أربعة عشر ميلا من تلمسان. أمّا البكري، فلقد سمعت له وصفا أدق إذ قال: إنها مدينة كانت على نهر تافنة يقبلُ من قِبَلِها، ويستدير بشرقيها لتدخل فيه السفن اللطاف من البحر إليها، وكان يقابل أرشكول جزيرة غير بعيدة عنها كان يتحصن بها أثناء غزوها، بينها وبين البر قيد صوت رجل جهير في سكون البحر. فقلت له، صحيح، أنت محق، فلقد سبق لي أن رأيت فيديو على اليوتوب يصور أرشكول من علوٍّ مرتفعٍ حيث يبدو نهر تافنة الذي قلّ ماؤه وهو يحيط بالمدينة من جانبها الشرقي، كما تبدو الهضبة كأنها مكان مخصوص بفئة ما من المجتمع. أما المساحة الغابية آخر الهضبة فتكاد تكون المساحة الوحيدة الأكثر خضرة لوفرتها على الشجر الكثيف. كما يظهر على منحدر الطريق الذي تركن به السيارات شريط كانت تقف عليه أسوار المدينة المحيطة بها. إنها فكرة تستحق كلّ الاهتمام، سأضع الفيديو على صفحتي عندما أخلد إلى حاسوبي لأسجل كتابةً ما دار بيننا. أَسْلَمَ عبدالسلام نفسه إلى كثير من الهدوء واستسلم للصّمت، كأنّه لا يريد أن أقاطعه، لكنّه أردف بطيب خاطر وقال؛ لم تكن سيگا عاصمة النوميديّين فحسب، بل تحوّلت إلى عاصمة أبناء عمّنا من الأدارسة الذين سكنوها، فلقد بنوا دولتهم بها بعدما فرّوا من فاس عندما هبّ عليها من كلّ حدبٍ وصوب أنصارُ عبيد الله الشيعي ثم الفاطميون فيما بعد، ولقد بايع الأدارسة أمويّي الأندلس فصارت سيگا مقاطعة أندلسية إلى حين. ولقد عرفت عاصمتكم النّوميديّة أقواما كثيرة، من أهمّها العائلات القرطاجيّة بحكم ما كان بينها وبينكم من المصاهرة والتجارة. ولقد كانت سيگا تدين ببعل آمون القرطاجي الإله الحامي للخصب والمحاصيل، وهو عميد إلهات الشعوب القرطاجية والسامية. وتوجد على مسافة نصف متر في الأرض بسيگا شواهد جنائزية يمجّد فيها هذا الإله ذو الوجه العجوز وذو قرون الكبش المعقوفة. وسوف تدرك يا ابن عمّي ذلك الشبهَ في البناء الذي بين مدن السواحل في شمال أفريقيا كطنجة والرباط وتونس وغيرها، حيث يرتفع جميعها على رؤوس التلال والجبال والهضاب. في هذه اللحظة بالذات، وأنا أنظر إلى جبل بَعل كرنين، أي الإله ذي القرنين، والذي سماه التونسيون فيما بعد ببوقرنين»، أفتش عن نقطة التقاء الأديان بالجبال والحضارات. استغرقت قليلا في وقت وجدتُني أشدّ من ذاكرتي فيه بأطرافِ الحديث الطويلة مع أستاذة التعليم العالي وخبيرة المعهد التونسي للتراث بثينة المرعوي وهي تتحدّث عن عالَم الآثار كيف تخوض جامعاتُ تونس البحث فيه بالتعاون مع جامعات أوروبية، ثمّ كشفت لي من طرفٍ خفيٍّ عن دهشتها من (صَمْبَكَمِ) الجامعات الجزائرية التي لا يصل صداها في شيء من هذا لأدنى العالم إليهم من جيرانهم المغاربة. وقالت لي؛ أجل، يوجد من الآثار ما يثبت وجود قرطاج بجزيرة ليلى قبالة أرشگول.
– إذن سيگا حليفة قرطاج!! تراوحت الكلمات في داخلي بين علوٍّ وانخفاض، كطيرِ السنونو وهو يحلّق في المساء متعبًا.
-غريب فعلا، لماذا تمانع الجزائر في الكشف عن هذه المدينة وهي من الغنى بالتاريخ أن تكون لأهل البلاد أثرة وعزًّا ؟
ارتسمت على شفتي عبدالسلام ضحكةٌ ظاهرها تعجّبٌ وباطنها لا يعلمه إلا الله، وقال، لست أدري، لعلّ بلادكم لا تُعنى مثل سائر البلدان بالآثار، فليس فيها شيء يغنيكم عمّا أنتم فيه من عزّ الانتماء واليقين بتاريخكم!!
في هذه اللحظة، جاء حارس حمّامات أنطونيوس مسرعا، ليخبرني أن الموضع الذي ركنت به سيارتي غير مسموح به، لأنه أمام موضع بيت سفير أجنبي. والشرطة المكلّفة بحراسة محيط قصر قرطاج الرّئاسي تنتظر التحقق من أوراق سيّارتي، التقطت نفسي، ورحت متذمّرا أتلمّس المفاتيح في جيبي.
تسلّمت وثائقي، وقرّرنا الصعود إلى مدينة البونيقيّين، أعلى قمة في قرطاج. يصادفك وأنت تدخلها مكانٌ رحبٌ تنظر منه إلى حلق الواد والكرم وجبال الساحل. توجهنا نحو المدينة البونيقية بين الآثار، اعتاد عبدالسّلام على صعود قمم الجبال، والاستقرار بها، وهو في هذا المكان، يستكمل رغبة الزيارة بقضاء الليلة هنا.
قلت له، هل تعتقد أن هذا مسموحٌ به، وأين البيت الذي قد تأوي إليه فليس ما أراه سوى أحجار مترامية وجدران تهاوت ولم يبق منها سوى رسمٍ وأطلال. فقال لي:
سأتدبّر أمري، لكن قبل ذلك، سأحمل إليك خبرا عن أمرٍ كنت قد سألتني عنه:
صفنبعل أو سوفونيسبا أو صفناء هي ابنة القائد أذربعل، حاكم قرطاج، كانت في غاية الحسن ومنتهى الجمال، وقد تزوجها صيفاكس في عمرها اليافع جدًّا بعد أن وعدتها قرطاج لماسينيسا، ثم استقرّت في الأخير برفقة صيفاكس بسيگا حيث عاصمة نوميديا الموحّدة.
وبحكم كونه قائدا سياسيا لنوميديا الموحّدة، فإن صيفاكس قد وطّد علاقة نوميديا بقرطاج بفضل هذا الزواج، أما قرطاج فإنها كانت ترى بعين السياسة أن هذا الزواج قد يجعلها تربح حربها ضد روما التي ما زالت تتوسّع في أطراف هسبانيا وجزيرة سردينيا. فأن تكون أفريقيا لأصحابها النوميديين خير لها من أن تكون للرّومان.
ولقد دعا صيفاكس إلى عقد لقاء سياسي عظيم بعاصمته، بين سيبيون الأفريقي قائد روما وأذربعل قائد قرطاج، على أمل إيجاد ما يسعهما من حلول يتفادى بها الطرفان الحروب.
فاستدركتُ عليه وقلت: أهذا صحيح، كيف يكون صيفاكس بهذا الشأن من المكرمة والعظمة وقد رأيتُ ضريحه مهملا، تسكنه الريح من أي فجاج هبّت، وتعبث فيه الحيوانات البريّة، ويرتاده من همّهم تشويه المعلم قصدًا؟
فقال؛ هذا صحيح، إن ضريح صيفاكس مثل قدر صيفاكس نفسه، وأنتم معشر النوميديّين لا ترعوا في قادتكم الأمازيغ إلًّا ولا ذمّة ولا تحفظوا لهم عهود الأرض التي ولدتم بها، لكنّ في بلادكم قصدًا بهذا، ولا أحد من القائمين على الدول قد أعطي من الحكم أن يعبث بماضيه وتراثه عبث الأطفال بالتراب مثلما أعطي ذلك لحكّامكم !! لكن، رجاءً يا لْهواري، أعرف أنك تحترق لما آلت إليه بلادُك، دعنا وشأننا من أسئلة السياسة، فأنا لا عادة لي بها ولم أعوّل أبدا عليها.
ثمَّ استأنف قائلا، لقد أدرك صيفاكس، بعد فراغهم من العشاء، أن سيبيون مصمّمٌ على تدمير قرطاج، وأدرك سيبيون من جهة أخرى أن صيفاكس لن يكون إلى جانبه داعما إيّاه في هذه الحرب. في هذه الليلة ذاتها، دُقّت طبول الحرب الأخيرة، بعد أن أضمر صيفاكس موقفه النهائي بدعم قرطاج.
كان على سيبيون، بعد هذا الاستنتاج، أن يخمّن عن طريقة للتّخلص من صيفاكس، فقوّاته بحاجة إلى دعم النّوميديين بأفريقيا، وتوفير ما يساعد جيشه على تجهيزاته ومؤنه في هجومه على قرطاج من جهتها الغربية. وبينما كانت السفينة تشق البحر عائدةً نحو هسبانيا، استمال سيبيون كل الاحتمالات بذهنه، فلم يجد أمامه إلا ماسينيسا الذي كان حينها لا يزال بهسبانيا هو أيضا. لقد كان منفطر القلب مجروح العاطفة يشتعل بألمٍ حارق لتزويج موعودته صفناء بغيره.
وما هي إلا أشهرٌ، حتّى أرسل سيبيون قوات الدّعم لماسينيسا لاسترجاع كيرتا مُلكِ أبيه گايا من يد صيفاكس، ومن ثمّ يزحف نحو سيگا من الجهة الشرقية للقضاء عليها. أرسل سيبيون هو الآخر جيشا من هسبانيا لمحاصرة سيگا من الجهة الشرقية. ولقد وجد صيفاكس نفسه بين فكّي أسدٍ هصور، وقُتل قتلا ذريعا وهو يحارب دفاعا على قرطاج بمعركة السُّهول الكبرى واستسلمت سيگا بعده للإخوة الأعداء، فاستباحوها مع الرومان، فسبوا وأحرقوا وقتلوا ونكّلوا ولم يبق منها بعد التدمير والتنكيل والحرق سوى معبد وضع فيه الرومان نصبًا للإله زحل، ربّ الزراعة والبذور محلّ نصب الإله بعل آمون، ربّ الخصب والمحاصيل.
أُسرت صفناء وأخذت مقيدة إلى كيرتا، وهي تعرف بما هي مقبلة عليه من الأيام المالحة ملوحةَ دمعها الذي يخالط طرف لسانها المرخى من التعب. ماذا يليق بأميرة قرطاجية في ريعان شبابها من مقام ومنزلة وقد فقدتكم جميعا، فلقد أُبِدتُم عن بكرة أبيكم وأُسندتم كذكرى على لوح التاريخ.
(…) أما ماسينيسا، فلم يكن لديه أيّ خيار بخصوصها أمام إصرار روما على الانتقام منها. فماذا يسعه أن يفعل، هل يعتقها، هل يتزوجها، أم يسلمها إلى روما للإعدام؟ وسواء كان سبيُها حبًّا في زواجه منها أم تخليصًا لنفسه من شعور الحنق ضد صيفاكس، فإنه في كلتا الحالتين لا يملك أيّ قرار يجعله يستقل برأيه. فسلطته -مهما علا صولجانها- تظلّ معلّقة بعصبةٍ ربطها جنديٌّ رومانيٌّ على واضح جبينه.
فصِحتُ كأني أخرج كفراشة من شرنقة، يا ليته كان أوفى حقَّ وعده زواجًا بها!!! لعله كان سيحفظ ماء وجهه من مجلبة الرومان إلى أفريقيا. كان عليه أن يستبقي لنفسه بعضا من شهامة صيفاكس ولو رفضًا لبقاء حلفه معقودا مع الرومان بعد أن انتقم لقلبه من غريمه انتقاما.
فقال عبد السّلام: يعرف ماسينيسا، أنّه إذا لم ينصعْ لأوامر روما في تسليمها، فإنَّ حكْمَه سيكون مهدَّدًا بالزَّوال، ولو خالف نفعه السيَّاسي، فلن يعينه زواجه منها في أيِّ فائدة يأخذ بأطرافها من التحالف مع قرطاج. لحسن حظّ ماسينيسا أن صفناء كانت امرأةً جريئة، شهمة وموقعُها من النبل كموقع القمة من رأس الجبل القرطاجي، لقد رأت أن موتها بتجرّعها كأس السّم لهُوَ أحسن حالٍ يمكن أن تكون عليه دون مهانة السبي وذلّ الأسر وشماتة الأعداء. لقد جنّبت صفناء نفسها وقرطاج كلماتٍ لا يعذرها النّاس بها، وجنّبت سيگا عارًا أن تسبى الأميرات فيها دون قتال، وجنّبت خاطبها الأوّل ماسينيسا سبّة الدّهر، لكن لم تجنّب روما اشتعالها بحقدها وقد مُنعت أن تراها مصلوبة في أكثر ساحاتها امتلاءً بالنّاس.
خرجت من المدينة البونيقية، واستمرّ عبد السلام يتجول بين الأحجار، فلقد طلب مني أن أتركه بمفرده، وبينما كنت أهمّ بالخروج، أدرت برأسي في حركة عاجلة لألقي إليه تحية المساء الأخيرة، لكني لم أعثر له على ظلٍّ، كأنه تبخّر فجأةً في فسيح الفضاء.