كُن صديقاً طيباً يا موت !
كُنْ معنىً ثقافياً لأُدرك كُنْهَ حكمتِكَ * الخبيئة !
( محمود درويش «جدارية محمود درويش»)
( ط1: حزيران/ يونيو 2000 ص 60 )
و نعزو إليك ما تعزو الصفات لنفسها..
هكذا نحن, بعد كل ِّ رحيلٍ مباغتٍ أو معلن, نستند الى شجر الحسرات ِ, لنسوغ للموت نشوته, ولتبدأ, ثانية ً, بلاغتنا العاجزة عن استحضار قوتها الكامنة, أصلاً, في الرثاء أو الهجاء, الضفتين اللتين, نصعد بهما إلى أعالي الخسران, نستميل السلوان,الذي هو ليس من شيمنا : شيمنا التي لا تقبل تآخي الصفات المتناقضة, حتى في الصبر, الصبر اللجوج, الذي لا طائل منه, كما كنا نرى, وكما نرى, الآن, مع فارق البصمات ! وكما هو بالفعل ! الصبر اللجوج, الذي تضطرم به حقول التردد تلك التي كنا نرتادها قليلاً مع أصحاب « البين بين» الذين يعتاشون على الغمغمة وعدم الوضوح, أين ذلك كله من قناعاتنا الراهنة, من (بقايانا) التي فينا, من ذاك الذي يوثق الجسارة بحبر أسود كحبر الوشم, ويخرجنا وإياها من براثن الدماثة الكاذبة, ومن سرّ أصحابها.
متوترون, بسببٍ عادل, هكذا كنا.
ومتوترون, بسببٍ طارئ, هكذا كنا.
ومتوترون, بالسببين معاً
و بغياب السببين معاً, هل ترى؟
هل ترى أننا في لجة الضائقة, كنا نقضم من أطراف الجغرافية العربية النيئة, كي نختصر المسافات, ونقرب صفاتها المتآخية, وليس لنا من مطالب, سوى هدأة النفس بعد ظهيرة الرعاة, الذين يطلقون النار على «مواشيهم « أمام أعيننا.. الرعاة الذين كانوا يتدخلون لتسوية أوضاع الكائنات الحية,جميعها, ماعدا قصيدة الموت, تلك التي لم يتدخل المتفائلون, على سويّة اكتمالها. ويا للغرابة !
ماذا, إذن يا محمد البخاري..
يا محمد الموريتاني..
يا محمد البخاري ولد سيد المختار..
أما عدنا, حقاً, نضيق بودك الفائض, الذي كنا,نمسكك, دائماً, متلبساً به, الود الذي يفيض, أحياناً, على حاجة الأصدقاء, فيطالبون باختصاره, ثم ما يلبث الكثير منهم أن يستزيد الكثير منه
ويا للغرابة,
ويا لليتامى,
ويا للمحرومين من حنان الآباء.
ويا للصفات التي كنا نرى أنها لا تليق إلا بمحمد البخاري ولد سيد المختار
ماذا
يا دمَ المرآةِ؟ هذي
مدنٌ نائمةٌ, أم أفق ُ؟
يهطل ُ الليل ُ على الليل كثيفاً,
وضحايايَ
أنين ٌ يملأ الريح َ, وليل ٌ
ضيق ٌ..
تنحني المرآة ُ
مرآتينِ, أيامي ترابٌ
لا غناءٌ ينحني لاسمي :
شظايا
ونياشينُ من الطين ِ
بماذا أثق ُ؟
ولماذا كلُّ شيء حجر ٌ
مكتئب ٌ أو ورق ُ؟
(علي جعفر العلاق. قصيدة (ملكاً كنت على الريح )
مجموعة سيد الوحشتين ط1 2006 ص12)
حتى الصباح أوشك أن يضيق.. على سعته, أوشك أن يضيق, يضيق هو والغيوم التي يلبسها, في هذا الصباح الدمشقي الملتبس, الغيوم تلك, بأردانها الداكنة التي تتدلى كالأجراس الصغيرة, التي تخيم على وجه الأرض الجافة, فلا يستفيق قلب فيها ولا يستفيق صرير !
بغتة ً, يأتيك صوت تعرفه, صوت خليل صويلح, يأتيك في وقتٍ لا تتوقع, فيفرُّ من بين يديك الوقت.. يستميلك إلى ضيق في الصدر, وانسداد في أفق الأمل , الذي هو ضيقٌ في الأساس, وفي الأصل, وفي الحال !
هكذا.. وكأنه لم يعد يعنيك شيء.
لا شيءَ يعنيك, على الأقل, في هذا الوقت الذي يشبه الطعنة النافذة
لم يعد يعنيك شيء.
لا الجرائد التي أخذتها لتقرأ الأخبار فيها, وتعرف منها آخر فصول الطيش والمهازل الوطنية, ولا المجلة التي جرّك أحد عناوينها :
« الصورة والعنف»
لتستدلَّ أو لعلك تستدل ّ على ما يجمع النقيضين في أقبية ٍ متماثلة ٍ من دم.
هكذا يتهدل اليأس, ويغادر الشعر, مكتئباً ملاذه الأخير.
كنت منشرحاً.. نعم كنت منشرحاً.. منشرحاً بالحدود الدنيا التي يحددها لك الوقت, ولا يثقل فيها عليك كما اعتاد على ذلك في الأيام الأخيرة !!
أعددت نفسك, أعددتها فعلاً لتوصل أبنتك البكر إلى مكان تدريبها, ألهذا كنت منشرحاً, أتكون منشرحاً, حقاً,لهذا؟ منشرحاً بالحدود التي يحددها لك المكان الرث, والزمان الذي يثقل عليك بشوائبه الفائضة.
خرجت من البيت,و دونما سبب مباشر عدت إلى البيت. عدت إلى البيت لتأخذ, على غير العادة, ورقة بيضاء واحدة وقلماً أزرق , ووضعتهما في جيب قميصك, واتجهت إلى «مزة جبل» مع ابنتك, حيث تتدرب, وفي الطريق كان عليك أن تستمع إلى حكمة متأخرة, تعطيك, على لسان ابنتك, فرصة أن تستدرك أهمية أن تعيش خارج الضائقة التي تتبدى عليك, دون ضرورة ٍ تاريخية ٍ ! أو اجتماعية ٍ !! أو شخصية ٍ!!!
وحده الصباح كان يقودك, بعد أن تركت ابنتك,وحكمتها الوثوقة, إلى حديقة الأرسوزي, حيث تكون عادة انطلاق قدميك إلى حيث تريد, – وما تريد هو مكان ٌ واحد ٌ ليس إلا! – وحيث اتصالك يصرُّ على أن تلتقي أحد اثنين, ممن تلتقيهم, عادة ً, لتفسير أوصاف الوقت, والنم على الصفات الخاسرة التي تنتشر, هذه الأيام,كالوباء.
لا صبايا عابرات.
لا رنين أجراس يوقظ نيام الرغبات.
لا شيء سوى صرير عجلات السيارات العابرة, وهي تئز كثدييات مذعورة.
صوت خليل صويلح المفاجئ, يشعل في الفؤاد مواقد الأسى ويكتفي بذلك.
-اتصلت بك البارحة, الأربعاء, موبايلك لم يجب. أردت أن أخبرك بموت محمد البخاري.
محمد البخاري ولد سيد المختار؟
ومضيت مفرداً, شارع ٌ يقودك إلى شارع, ومفردة ٌ تقودك إلى أخرى, ولا شيء غير الظنِّ يتهدل كقميص المخمور.
محمد البخاري
محمد الموريتاني
البخاري وكفى, الموريتاني وكفى, ولد سيد المختار وكفى.
الفتى, شديد الولوع بالثقافة, ذاك الذي أصبح جزءاً من المشهد الثقافي في دمشق, ما من مهرجان إلا وتراه فيه, وما من حدث ثقافي إلا ومحمد البخاري أحد عواده, يعرف في السينما, ما يكفي لأن يكون له رأي فيها. ويعرف في الأدب ما يكفي لأن يشارك في ندوات عنه, وفي مؤتمرات عن ظواهره.
يكتب قليلا ً.
ويترجم قليلا ً.
ويقرأ كثيرا ً.
ويعرف في السياسة تفاصيل تكفي لأن تقتنع بأسباب حميّته المحتدمة, ويأسه من واقع عربي, يرفضه ويعاديه.
لم يترك دمشق منذ أن جاءها في أوائل سبعينات القرن الماضي. هو وإياها,كما يقول, صديقان من نوع خاص, قدرها أن تحتمله, يقول ضاحكاً, وقدره أن لا يرى في سواها موقعاً يستحوذ على القلب, يقولها, دائماً, جازماً وبوضوح.
-أنساؤها يا محمد؟
أقول له.
-أشوارعها؟
إلفتها؟
أماؤها يا محمد؟
أحاراتها القديمة, حيث كنت تقودنا بإلحاحك الشفيف؟
أجامعتها يا محمد؟
تلك التي علمتك التفلسف, ولم تصنع منك لا فيلسوفا ً ولا ما يحزنون, كما كنت تقول دائماً.
أأدباؤها؟ ومن مرَّ فيها من كتاب وأدباء؟ أصدقاؤك الذين لم يفلت من مودتك أحد ٌ منهم, ولم يسلم أحد منهم من تثمينك وتقديرك وتوصيفك الودود :
نايف بللوز, طيب تيزيني, محمد دكروب, ممدوح عدوان, علي الجندي, فاتح المدرس, محمد علي اليوسفي, الزاوي أمين, بندر عبد الحميد, ربيعة الجلطي, واسيني الأعرج, يوسف سامي اليوسف, سيف الرحبي, محمود الصغيري, بول شاوول, نزيه أبو عفش, جليل حيدر, محمد لافي, والراحل غالب هلسا, الذي ذكر الروائي خيري الذهبي, صديقك الآخر في مرثيته عنك, أنه كان يقول :
إن في محمد البخاري شيئاً من الملائكة, فأنت تجده في كل مكان.
ولكنه لطيف. واللطف هنا تعبير فلسفي في مقابل الكثيف.
كالملائكة لا تشعر به أيضاً
( ملحق ثورة 16/8/2011)
وغيرهم الكثير الكثير من الأسماء التي كنت ترددها وتستعيد من خلالها ما مضى من وقائع وذكريات. صارت, كما اتفقنا, أنا وأنت, ذات مرة, تثقل علينا ! وتجثم على ذاكرتينا بكل ما فيها من جموح الصبا, واحتدام المشاعر ويقظة الوجدان.
محمد البخاري ولد سيد المختار !
الأسمر, النحيل للغاية, المعبر دائماً, بيدين مرتجفتين غاضبتين, عن سوء حال الأمة, وعدم الرضا عنها, بصوته الواضح, وعربيته الأليفة الصافية.
محمد البخاري, مخزون الوقائع والدلالات, الفتى العربي من موريتانيا, قرر في الأسبوع الثاني من شهر أغسطس 2011 أن يستقر في فلكه الواسع, فنأى جانباً في شقته الصغيرة ليعرف المحبون بعد ذلك, إن عزلةً لثلاثة أيام,أقل أو أكثر, لا احد يدري, كانت كافيةً لأن تؤكد رحيل محمد البخاري ولد سيد المختار.
محمد البخاري المترجم قليلاً في الفلسفة والشعر.
والمؤلف قليلاً في الفكر والسياسة والثقافة
والمثقف كثيراً في هذا وذاك.
لم يحزم الحقائب المهملة, ولم يجهش باكياً مودعاً : أماكن أحبَّ, وبيوتاً سكن َ, وأصدقاء عرف, وبقي في دمشق, كما أراد ذلك وأرادت, وشد َّ وثاقه لأيامها,يباعد بينه وبين «هجرها» أغانٍ منسوجة ٍ من ليالي الرصيف, ومن أماكن يتوارى فيها حنينٌ جارفٌ يترصد النسيان, ويمجد الذكريات التي تبدي مهارتها في أفئدة الأوفياء, خلل ريحٍ نعصف بشجر الكلام, فتورق في القلب أغصان التحنان.
سعداءُ..
نعيش كما لا يعيش أحدْ
قبرنا واسع وجميلْ
عصرنا غامضٌ وثقيلْ
سقفنا غيمة ٌ, ولحافُ بَنِينا زبدْ
ندفع اليأسَ بالأغنيات ْ
ونداري كآبتنا بالجميل من الكلماتْ
ونحب – على قَدْر ما نستطيع- الحياة
ولكننا.. حين نُدعى إلى موتنا
سنموت.. كما لا يموت أحد.
( نزيه أبو عفش. هكذا أتيت هكذا أمضي.
ط1 1989. ص17)
محمد البخاري ولد سيد المختار !
اسمح لي, يا سيدي, للمرة الأخيرة, أن أضع بين يديك وردة ً دمشقية ً بيضاء كخصالك الزاهية, وأعلن حزني وانتحب.
هامش : –
الورقة البيضاء التي أخذتها, على غير العادة,ذاك الصباح والقلم الأزرق, أكانا عدة الرثاء الذي كان يجب أن يكون في المكان الذي كنا فيه نلتقي, ليعلن القلب حداده يا محمد !