محمد طروس
هل من السهل أن تُحاور شخصًا يمتهن الحوار؟ شخصًا يستضيفُ كبارَ المثقفين والمبدعين العرب، يحاورهم، يُسائلهم، يأخذهم إلى حيث يريد، في سلاسة ولطف وتدبير ذكيّ لما يقدم من نفحات معرفيّة، وخوالج إنسانيّة، وفسحات فكرية وجمالية؟ هل هذا الأمر ممكن؟ نعم ممكن جدًّا، خصوصا إذا كان الحوار عادة أدمنّاها معًا. والحوار موصول بيني وبين الأديب والإعلامي المغربي ياسين عدنان منذ أكثر من عقد. حوارات لا تتوقف ولا تنتهي. حوارات حول السينما والتلفزيون والآداب والثقافة بشكل عام. كلّما بادرته بفكرة أو مفهوم، ألفيتُ ياسين عدنان متوثّبا للحوار، ومستعدًّا للغوص في أدق أسئلة الثقافة والمعرفة والجمال. بهذه الروح، نقترح هذا الحوار مع صاحب “بيت ياسين” الشاعر والقاص والروائي المغربي المشتغل في مجال الصّحافة المكتوبة منذ بداية التسعينيّات قبل أن يبلور تجربة متميّزة في التلفزيون في برنامجه الثقافي “مشارف” في التلفزيون المغربي منذ 2006، ثم من خلال “بيت ياسين” الذي يقدّمه حاليًّا على شاشة تلفزيون الغد. وإليكم نص الحوار:
أنت تشتغل في التلفزيون منذ زمن، وتقدم البرامج الثقافية بوتيرة أسبوعية منذ 2006. حدثني عن دهشة البداية، ثم حدثني أيضا عن المسافة التي قطعتها لتتحول من منشط إلى نجم؟
أولا لنتفق على ألا نجومية هناك. في البرنامج الثقافي، النجم الحقيقيّ هو السؤال. السؤال والفكرة وأسلوب بناء الحلقة هم نجوم البرنامج. أمَّا الصحافي المذيع والمنشط فليس أكثر من وسيط. نجاحُه يُقاس في نظري بمدى توفُّقه في طرح الأسئلة الحقيقية وصياغتها بلغة صافية تجعل السؤال يصل واضحًا للضيف والمتفرج على حدٍّ سواء، وتجعل القلق الفكري الكامن وراء السؤال يتسرَّب إلى عقل المشاهد ووجدانه. هذا من حيث المبدأ. أما بالنسبة لدهشة البداية، فمرة أخرى، لا دهشة هناك؛ فأنا ابن الساحة الثقافية والأدبية، وكان لي على الدوام ذلك الشعور بالمرارة الذي يحسُّه غيري من الأدباء والكتّاب تجاه التلفزيون الذي لم ينفتح بما يكفي على الأفق الثقافي. بل وتكرَّس هناك وَهْم لدى البعض بأن طبيعة التلفزيون الترفيهية تجعله بالضرورة بعيدا عن الأفق الذي تنشده الثقافة. وكنت على الدوام متحفظًا بهذا التصوّر ببساطة لأنني أعتقد أن للتلفزيون، خاصة حينما يكون عموميّا ووطنيّا، دورا تربويّا تثقيفيّا لا يجب التخلي عنه؛ لذا حينما وجدت نفسي مع بداية 2006 أمام مسؤوليّة إعداد وتقديم برنامج “مشارف” على القناة المغربية “الأولى” بوتيرة أسبوعيّة، وجدتُ الفرصة مواتية للمساهمة في تجسير ما كنت أتصوّره هوّة قائمة بين الثقافة والتلفزيون. وهكذا حرصت على امتداد 12 سنة عبر “مشارف” على إتاحة الفرصة لجمهور المتعلمين الواسع بمن فيهم أولئك الذين استقالوا من القراءة وتوقّفوا عن اقتناء الكتاب لجعلهم قريبين مع ذلك من الجديد الثقافيّ والأدبيّ وجعلهم يتقاسمون مع المثقفين والأدباء المغاربة أسئلتهم وقلقهم الثقافي. كان سؤالي المركزي هو: كيف نحوِّل السؤال الثقافي إلى شأن عام لا يخصّ النخبة المثقفة وحدها، بل يمكن أن يشاركهم فيه عموم المواطنين – المشاهدين؟ هذا هو السؤال الذي اتخذته رهانًا لي واشتغلت لسنوات في أفقه.
ومع ذلك، اسمح لي بأن أراجعك. فحينما أتحدّث عن النجم وعن النجومية فأنا أتحدث هنا لغة التلفزيون، وأفكر بمنطق التلفزيون. التلفزيون صناعة، وهو صانع للنجوم. لهذا أكرر: كيف تحولت أثناء ممارستك للعمل التلفزيوني من منشط إلى نجمٍ له حضور وقادر على ممارسة نوع من التأثير على جمهورك، ما أمّن لبرنامجك الأول “مشارف” الاستمرار لأكثر من عقد من الزمن قبل أن يقودك إلى تجربة أرحب في “بيت ياسين”؟
هناك أكيد أمور لها علاقة بالقبول، لحسن الحظ أن الكاميرا قابلتني بحدبٍ منذ البداية، ولم تصدّني. ربما تلقائيّة الحوار، وأنا حريصٌ على ألا يُفقدني الإعداد تلقائيّتي وتلقائيّة الحوار الذي أديره. فمع أنّ برنامجي ليس مباشرًا إلا أنّني كنتُ على الدوام حريصًا على الاشتغال في ظروف المباشر. هكذا أضمن للحلقة تلقائيّتها وطراوتها. حتى الارتباكات الصغيرة، التلعثم، أحرص عليه وأغتني به وأحوِّله إلى عنصر مُعزِّز لمصداقية الحوار. ثم هناك الإعداد الجيّد الذي أشرت إليه قبل قليل. لا يمكنني أن أناقش كاتبا في كتاب لم أقرأه شخصيا. وهذا يمنحني فرصة توليد الأسئلة. والأسئلة المُولّدة التي تنبعُ من صلب الحوار أو التي تُستلُّ طرية من جواب الضيف، انطلاقا من معرفتك السابقة به واطلاعك القبلي على إنتاجه واستيعابك لفكره ولمضامين كتابه أو كتبه، هي التي تعطي للحوار حيويته وتُخلف أثرا طيبا في نفسية المتلقي. هل يمكن اعتبار هذه العناصر مؤثرة فيما أسميتَه “صناعة النجم”؟ لست متأكّدًا؛ إنما دعني أُضف أيضا أن هذه الصناعة تتمُّ في الغالب خارج الورشة الإعلامية حيث تُنتج المادة التلفزيونية، بل في منطقة أخرى هي منطقة التسويق والترويج و”الماركوتينغ”. أنت فقط توفّر لهم بعض الأسباب والضَّمانات. وهنا أعطي مثالا بالبرنامج الجديد “بيت ياسين”، لنتوقّف عند عنوانه. فحينما اقترح عليّ المنتج الفني للبرنامج الأستاذ مشهور أبو الفتوح “بيت ياسين” عنوانًا، تهيّبتُ في البداية ولم أتحمس؛ بل بدأت أحشدُ له ولإدارة القناة البدائل وأقترح عليهم العنوان تلو العنوان؛ لكن المُنتج كان على العكس مني متحمّسًا لهذا العنوان بالذات. كانت قناة الغد قد تعاقدت مع منشط تلفزيوني له تجربة لا بأس بها في الميدان، وهي تريد استثمار هذه التجربة بدءا بالاسم الشخصيّ وانطلاقا منه. إصرار المنتج الفني على هذا العنوان بالذات يعود ربما إلى كونه ابن منطق التلفزيون فيما أنا رغم كل هذه السنوات من العمل التلفزيوني أحرص على أن تظل قدماي على الدوام فوق أرض الثقافة لا تبرحُها.
ومع ذلك، فقد برحتَ أرض الثقافة، وإلا ما كنت لتنجح في التلفزيون؛ لأنّ النجاح في العمل التلفزيوني وهو ما يوصل بالضرورة إلى “النجوميّة” يقوم ليس فقط على الصناعة كما ذكرت؛ لكن يجب أن تكون للمنشط استعدادات، طبعًا شخصية المنشط حاسمة. لكن هناك تفاصيل أخرى مثل كيف يتحكم هذا الأخير في أدائه الجسدي، الهندمة، والإيتوس بشكل عام. المؤكّد أنك بذلت مجهودًا في هذا الصّدد؟
هذا طبيعيّ؛ لكن المؤكّد أيضا هو أنني كنتُ في حالة تفاوض وتجاذب دائمة ما بين المرجعيّتين والخلفيّتين. حينما انطلق برنامج مشارف في 2006 عشت منذ البداية قلق الهندام، لا تنس أنني كنت قادمًا من تجربة شعرية متمرّدة اسمها “الغارة الشعرية” التي أطلقناها في مراكش مع بداية التسعينيّات من القرن الماضي، لذلك لم أكن أتخيّل نفسي أطل على الناس وأنا أرتدي بدلة وربطة عنق. ما زلت أذكر مقالة مضيئة للشاعر الصديق قاسم حدّاد نشرها تحت عنوان “الذهاب إلى الشعر بعنق حرة”. وحكى عن أول ملتقى شعريّ عربيّ يشارك فيه خارج البحرين سنة 1970، وكيف جاء إلى بيروت بربطة عنق لم يعرف كيف يرتديها، وفيما هو يبحث عمن يعينه على ذلك، نصحه شاعر سوداني بأن يترك ربطة عنقه جانبًا. فالأفضل أن يذهب المرء إلى الشعر بعنق حرة. كذلك، وجدت نفسي محرجًا وأنا ألج أستوديوهات القناة الأولى الرسمية. ارتديت ربطة العنق خلال أول أيام التصوير فقط، ثم نبذتُها تمامًا. وفضّلت بدوري الذهاب إلى السؤال الثقافي بعُنق حرة. هكذا بقيت وفيًّا لأسلوبي البسيط في اللباس: قميص فوقه سترة (جاكيت)، وسروال جينز في الغالب. أحيانًا أرتدي بذلة، لكن دائما بلا ربطة عنق. خلال 12 سنة كنت أسجل حلقات “مشارف” بملابسي الخاصة. لم يحدث أن اقترحوا عليّ في القناة جهة تتكلف بأمر الملابس كما حصل مع برامج أخرى. وهذا بقدر ما كلفني أن أجدّد دولاب ملابسي باستمرار، بقدر ما حرَّرني وجعلني أحافظ على أسلوبي لا أغيّره. أما الحركة، خصوصا حركة اليدين، فكان تدبير أمرها صعبا عليَّ في البداية. فأنا من النوع الذي ينخرط في النقاش بكل جوارحه، وهذا يجعلني أستعمل يدي وجسدي بكثافة خلال النقاش. عادة اكتسبناها من حلقات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب أيام النضال الطلابي بالجامعة، ومن نقاشاتنا الثقافية المطوّلة في دور الشباب. هذا الأمر أتعبني جدا في البداية. كيف تُحيّد جسدك ويديك أثناء الحوار؟ تمرينٌ قاسٍ أخضعت نفسي له في السنوات الأولى كمن يُخضع نفسه لحِمْيةٍ مضطرا. ولعلّي توفقت نسبيا في لجم يديَّ والحدّ من انفلات حركتي أمام الكاميرا.
ونحن نتحدث عن استعدادات المنشط وشخصيته، يجب ألا ننسى لغة هذا الأخير ودورها في تجسير الهوّة مع المشاهد؛ خصوصا إذا كان يحمل رهان تحويل السؤال الثقافي إلى شأن عام لا يخصّ النخبة المثقفة وحدها. كيف أمكنك تحقيق مثل هذا الرهان في وقت نعرف فيه أن لغة الثقافة ليست دائما في متناول المشاهد العادي؟
لا أخفيك أن سؤال اللغة ظل دائما يؤرّقني: كيف أفتح نقاشًا ثقافيًّا وفكريًّا وأدبيًّا بلغةٍ سهلةِ المأخذِ مُتاحةٍ لعموم المشاهدين. لغَةٌ سلسةٌ دونما إسفاف، فصيحةٌ بلا تفاصح، رصينةٌ من غير تَقْعير، مبذولةٌ دونما ابتذال؟
كنتُ على الدوام مشغولا بهاجس اللغة، أردتها منذ البداية لغةً حيّةً تتيح الحوار السلس مع الجميع. رغم تخصّصي الجامعي في الأدب الإنجليزي فأنا مرتبطٌ بالعربية وآدابها قارئا وكاتبا منذ اليفاع. إنما في البرنامج كان عليَّ أن أقدِّم مُقترحي الخاص: بلورة لغة إعلامية رشيقة لا تتنازل عن فصاحتها ولا تتعالى مُتفاصحةً على المشاهدين.
لذا كنت على الدوام أدافع عن العربية بأسلوبي، دون مزايدة ولا ادّعاء. لست أصوليًّا لغويًّا، وأنبذ الانغلاق، أؤمن أنّ اللغات حيّة، وأعتبر التفاعل بينها أمرًا طبيعيًّا بل ومطلوبا. فهناك أكثر من 1600 مفردة فارسيّة دخلت إلى قاموس اللغة العربية، بل حتى القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين يتضمّن أكثر من أربعين كلمة فارسيّة؛ مما يعني أن الصفاء اللغوي الخالصَ محضُ وهمٍ ومجرّدُ أسطورة؛ لذا لا أعرف شخصيًّا كيف أغلق على “عربيتي الفصحى” النوافذ، ولا أريد حمايتها من لغتي المغربيّة الدّارجة، حيث التلاقي أهلٌ والتساكن سهلٌ بين الأمازيغية والضّاد ولغات الجوار.
لكن لنتفق مع ذلك على أن المعركة الحقيقية التي تبقى أشقَّ وأكثر تعقيدًا هي كيف نؤمِّن للمثقفين – من حملة الأقلام ومنتجي الأفكار وصُنّاع الوجدان – حقّهم المشروع في التواصل مع قرّائهم، الذين لا يقرؤون، عبر الوسيط المتاح والأكثر ديمقراطية: التلفزيون؟ كيف تساهم برامجنا في بلورة لغةٍ قادرةٍ على النفاذ إلى قلوب الناس وعقولهم؟ لغة تختلف عن لغة الكتب والأطاريح الجامعية. لغة رشيقة لا تتعالى على المشاهدين. خصوصا وأنني مقتنع تماما بأنه عبر التلفزيون لا الكتب والندوات يمكننا أن نحوِّل الشأن الثقافي اليوم إلى شأن عام، وعبر التلفزيون والإذاعة قبل الصحف والمجلات يمكن للمثقف أن يُسهم في خلق نقاش عموميّ حقيقيّ في المجتمع. لكن، لتحقيق هذا الهدف، يجب أولًا تحرير الخطاب من الأجهزة المفاهيميّة ولغة التخصص والمرجعيّات والإحالات والأسماء الطنّانة التي يتغيّى منها بعضهم إبهار المشاهدين فيما هم في الواقع يعرقلون التواصل معهم ويدفعونهم دفعا إلى تغيير القناة. نوقف التسجيل أحيانًا حينما نحس بأننا ابتعدنا عن الفكرة وبدأنا نؤثث لحظة النقاش بالمفاهيم والإحالات وأسماء المفكرين. الجمهور العام يريد أفكارًا واضحة، هو مستعدٌّ لأن يبذل مجهودًا، لكن لا يجب أن نطرده خارج مدار النقاش بالإغراق في اللغة الأكاديميّة أو بالانغلاق داخل لغة بالغة الجزالة. من المهم أن نترك النوافذ مفتوحة على عربيّتنا لكي يجدها الجمهور قريبة في المتناول. إن اللغة الوسطى التي بلورتها نشرات الأخبار الإذاعية والتلفزيونية هي مكسبٌ علينا المحافظة عليه. هذه اللغة العصرية البسيطة الرشيقة المُيسَّرة التي بلورها الإعلام تبقى لغة أصيلة خرجت من رحم العربية الفصحى لكنها تطوّرت عبر الاحتكاك بالسجلات الشفهية واللغات الأجنبية المتداولة في بلداننا. وطبعًا، لا ضرر في أن يسترسل الكلام الفصيح ما لم يكن الاسترسال مفتعلا، ولا بأس من الاستطراد بلسان عامّي، فقد يُسعِف القول الدّارج بما لا تستطيعه المعاجم والقواميس. لكن، لنتفق على أن الدّارجة والفصحى والعربية الوسطى التي بينهما تبقى تنويعات داخل مكوّن واحد، ذاك أن لغة الشعب تبقى امتدادا للفصحى، فلا قطيعة هناك. وكل تجريم لمثل هذا التفاعل يبقى مصادرةً على المطلوب ومعاندةً للطبيعة: طبيعة اللغة ذاتها.
طبعا، هناك وعي نظري واضح بالمسألة اللغوية، وفعلا قوة برامجك تتجلى أيضا في تلك اللغة الأنيقة غير المتعالية كما وصفتها؛ لكن اللغة بالنّهاية معطى ثقافي، والتلفزيون في رأي البعض وسيلة ترفيه لا أداة تثقيف. كيف دبّرت هذا التباعد بين الثقافة والتلفزيون أنت المنشغل بالثقافة المشتغل في التلفزيون؟
صحيح أن العلاقة بين الثقافة والتلفزيون ملتبسة، وتجسير الهوة بينهما ليس مسألة سهلة بسيطة. لكن مع ذلك يجب الانطلاق من مفارقة أكثر غرابة في مجتمعنا العربي. وهي أنه بقدر ما تُسرف شعوبنا في استهلاك الصور وبشراهة، تتعامل النخبة المثقفة لدينا مع الصورة ووسائطها بالكثير من الحيْطة والحذر، وأحيانا بتجاهل. وإذا كان البعض يتفادى التلفزيون، خصوصًا القنوات الوطنيّة، بسبب شُبهة تماهيها مع الخطابات الرسميّة؛ فإنّ من مثقفينا العرب من يرى أن التواصل عبر التلفزيون من حيث المبدأ يشكل إساءة إلى نُبل الكلمة ونيلا من شرف الثقافة. هكذا تحافظ هذه الفئة من المثقفين على نقائها باتّقاء الظهور على الشاشة دون أن تطرح للتفكير إمكانية المراهنة على هذا الوسيط الحيوي في معركتها الأساسيّة، معركة دعم ديناميّة التثقيف والتحديث داخل المُجتمعات العربيّة.
لقد انتقلت شعوبنا العربيّة مع الأسف من الشفاهيّة إلى استهلاك الصورة قبل أن تكتسب عادة استهلاك الصحيفة والمجلة والكتاب. لأجل ذلك سرعان ما اكتسح التلفزيون المشهد ليصير المرجع الأوّل لدينا، بل والوحيد بالنسبة للفئات الأميّة من مجتمعنا العربي. وحينما يغيب المثقف عن هذا المعترك، فإن الجوّ سيخلو طبعًا لغيره، وكلنا يعرف من يصول ويجول على شاشاتنا العربية اليوم ومَن اكتسح المشهد.
وإذا كانت فئة من المثقفين تتحاشى الظهور التلفزيوني؛ فإنّ المثقّف الذي اقتنع بأهمية هذا الوسيط وأولوية التواصل مع الناس عبره لا يجد الطريق معبّدة نحو عقول المشاهدين. فزمن الثقافة في التلفزيون محدود أصلا، ومقصيّ إلى فترة الجزء الثاني من السهرة وأحيانا إلى منتصف الليل بعيدًا عن فترات الذروة التي ينذرها التلفزيون لفئات أخرى محظية عادة ما تستفيد من الزمن التلفزيوني بحاتمية لافتة: ممثلين وفكاهيين حتى ولو كانوا مبتدئين، مطربين ومطربات حتى ولو كانوا من الدرجة الثانية، سياسيين وحزبيين حتى ولو كانوا مجرد تجّار انتخابات. لكن منطق التلفزيونات العربيّة قدَّر أن هؤلاء أقرب إلى الوجدان العربي وأقدر على مخاطبته من نخبة ثقافية وأدبية وفكرية “متحذلقة” تدّعي أنها هي من يصنع الوجدان. هكذا يخصِّص التلفزيون العربيّ لمحظيِّيه مساحة البثّ الكافية ليتواصلوا مع مشاهديهم الأعزاء في أوقات الذروة، وهو أمرٌ بقدر ما يحبط الأدباء والمفكّرين والفاعلين الثقافيّين في بلادنا العربية يعكس توجيهًا للمشاهدة وتبخيسا لصُنّاع الوجدان من أدباء ومبدعين ومثقفين.
وعموما التلفزيون اليوم سلطة حقيقية وسط مجتمعات يجب أن نعترف بأن حسّها النقدي ضعيف؛ لذا فالنماذج التي تسوَّق في فترات الذروة هي بالتأكيد، في تقدير العموم، أهمّ من تلك التي لا تظهر إلا في منتصف الليل؛ بغضِّ النظر عن الفكرة والخطاب والرؤية، فزمن البث ومساحته سلطتان حاسمتان تُرجِّحان الكفة لصالح فئات ضد أخرى.
لكن، برأيك، من سمح للتلفزيون بأن يُعلي من قيمة المشتغلين بالتمثيل مثلًا ويقلل من شأن المثقفين عبر اختيارات البرمجة والبث؟
طبعا للتلفزيون حساباتُه المشروعة، فالمنافسة على أشدِّها بين القنوات، والمُشاهد ملول متبرِّم وشدُّ انتباهه وضمان ولائه يحتاج إلى مجهودٍ جبّار. لأجل ذلك تبذل إدارات التلفزيونات العربية قصارى جهدها لكي تظل دائما عند حسن ظن “مشاهديها الأوفياء”. ولأن الوفاء اليوم صار قابلا للقياس، فللمتابعة نِسَبٌ معلومة والمُعلِنون يتعاملون مع المحطات التلفزيونية بناء على هذه النسب لتتطور الأمور باتجاه مقاربة تشاركيّة صار معها المعلنون ينتجون برامجهم أحيانا أو يفرضون نجومهم خصوصا في الدراما والكوميديا الرمضانيّة، وكل ذلك في سياق عربي نعرف أعطابه السياسيّة والاقتصادية وتردِّي وضعه التربوي والاختلالات التي طالت منظومة القيم لديه.
إن التلفزيونات التي نحكي عنها عموميّة في الغالب ويسري عليها ما يسري على المرفق العموميّ، لذا فهي مطالبة بما نطالب به باقي المرافق العمومية من خدمات يجب تقديمها للمواطنين لتبرير وجودها وتسويغ ما تحصل عليه من دعم ماليّ حكوميّ مموَّل من جيوب دافعي الضرائب. لذلك نتجرّأ على طرح السؤال الآتي: ماذا عن دور الوسيط التلفزيوني في بلدان تحتاج إلى تأهيل حضاري وتنمية بشرية كبلداننا؟ أوليس مطالبًا بالاضطلاع بمهام الإعلام والتربية والتثقيف، إلى جانب الترفيه طبعًا؟ السؤال مزعج والتحدّي صعب، لذلك فضلَتْ أغلب القنوات العربية التعامل معه بمنطق “كم من حاجة قضيناها بتركها”. هكذا تحوَّلت الشعوب والمجتمعات إلى “مشاهدين أعزاء” الكل يخطب ودهم بالحق والباطل، وتكرست هيمنة شركات الإعلان وشركات الإنتاج المرتبطة بها مُوَطِّدة حضورها في كواليس المحطات العربية لتفتح إنتاجنا التلفزيوني على أفق تجاريٍّ محض. فتغيّرت المعايير لتُتوَّج نسبة المشاهدة قيمة القيم، بل هي التي تحدِّد قيمة المنتوج التلفزيوني، ليصير المضمون الجادّ والعمق الفكري والوظيفة التربوية مجرّد كلام فارغ لا يصمد أمام ديكتاتورية نسبة المشاهدة وحمِيَ وطيس المنافسة بين القنوات وها نحن نلهث جميعا باتجاه المجهول.
وحتى الآن ما زلنا لم ننتبه إلى أن هذه المنافسة تتمُّ أصلًا في المعترك الخطأ. فالتنافس على الرفع من نسب المشاهدة بجميع الوسائل والمواد حتى لو كانت خردة مسلسلات مكسيكية رخيصة أو مجموعة من “السيتكومات” الملفّقة، والفوز بأكبر نصيب ممكن من كعكة الإعلانات حتى ولو جاء ذلك على حساب هوية القناة والتزاماتها إزاء المجتمع، مثل هذه المنافسة لا نجد فيها رابحًا. لأننا ببساطة قد نكسب المزيد من المشاهدين وبالتالي المزيد من الإعلانات؛ لكننا نخسر الإنسان. وأعتقد أن قنواتنا الوطنية والعربية، خصوصا تلك المُلزَمة بواجب الخدمة العمومية أو المشغولة بهواجس التحديث والتنوير، معنية بمصاحبة المشروع المجتمعيّ الشامل في مجال التنمية البشرية. إذ لا يمكن للدولة أن تفتح أوراشا اقتصادية وتنموية، خصوصا على مستوى التنمية البشرية، دون أن يساهم الإعلام – والتلفزيون بالخصوص – في مصاحبة هذه الأوراش بمجهود محسوس في مجال تأهيل الإنسان على المستوى الثقافي والتربوي والقيمي. وهنا لا أتصوّر أن بإمكان المسلسلات المكسيكيّة أن تفي بالغرض مهما علت نسب مشاهدتها. لا بدّ من إنتاجٍ أصيلٍ أوّلًا، ولا بد من موادّ وفقراتٍ أكثرَ جديّة ومسؤوليّة: دراما وطنية عميقة وذكية تنصت لتحوّلات المجتمع وتفتح مشاهديها على خيارات هادفة وتُروِّج من خلال أبطالها لقيم إيجابية سواء انتمت إلى المنظومة القيمية الأصيلة كقيم التكافل والتآزر والقناعة، أو إلى المنظومة الحديثة بكل ما تكثفه من قيم المواطنة والحرية والاختلاف واحترام الآخر، برامج إخبارية تقارب مادتَها بموضوعية ومهنية وبروح تحليلية نزيهة، وبرامج ثقافية تصدُر عن اقتناع بأولوية الثقافة في معركة التنمية البشرية وبناء المواطنة الفاعلة وتأخذ بعين الاعتبار أهمية وحساسية دور الوسيط التلفزيوني في تثقيف المجتمع خصوصا مع اكتفاء الغالبية العظمى من مواطنينا بالتلفزيون كوسيط يقدّم الأخبار والمعرفة في ظل ما ذكرناه من تراجع للقراءة التي لا يتجاوز متوسطها لدى الفرد العربي ست دقائق سنويا مقابل 200 ساعة بالنسبة للفرد الأوروبي.
لأجل ذلك يصير تعزيز البرمجة الثقافية في التلفزيون مطلبًا حيويًّا؟
بالفعل؛ يجب تعزيز البرمجة الثقافية في كل التلفزيونات العربية الواعية بدورها الحضاري والتربوي، يجب أن تكسب الثقافة مساحات جديدة على الشاشة؛ لأن التلفزيون كوسيط صار يلعب اليوم دورًا محوريًّا في صناعة الرأي العام والوجدان الجمعي. وعلينا أن نختار، هل نريد شعوبا يقظة لها حد أدنى من المعرفة والوعي والقدرة على التمييز؟ أم نريد كائنات استهلاكية هشة لا مناعة لها ومستعدة لابتلاع أي خطاب مهما كان سطحيا وحتى لو كان خطيرا وتتلقى الفرجة السطحية والتفاهات برضى وتسليم؟ عمومًا حاجة التلفزيون إلى الثقافة وأهمية الوسيط التلفزيوني في الترويج للثقافة والخطاب الثقافي يفتحنا على نقاش طويل وجدّي نحن مهزومون فيه إذا ما واجهَنا خبراءُ نسب المتابعة بمنطقهم وحساباتهم وما يبرِّرون به اختياراتهم التجارية المحضة من إكراهات. لذلك نحتاج وباستعجال إلى قرارات سياسيّة شجاعة من طرف الحكومات إذا كانت لهذه الأخيرة مشاريع مجتمعية حقيقية وكانت تحتاج شعوبها فعلا في معارك المستقبل وفي تحديات بناء الإنسان.
لقد شاهدنا كيف لعبت بعض الفضائيات العربيّة لعبة الإعلام السياسي التحريضي ونجحت في ذلك سياسيا وتجاريا، وكيف ردت عليها فضائيات أخرى مهمة بالمسلسلات المكسيكية الماراثونية المُدَبلجة وهو ما وجدت فيه بعض الأنظمة السياسية والقنوات الرسمية التابعة لها فرصة لاسترداد المشاهدين خصوصا من النساء وفئة الشباب. لكن، أعتقد أن الوقت قد حان لكي يجرب التلفزيون العربي طريقا ثالثا لا تحريض فيه ولا استبلاد.
إن الثقافة هي عنوان هذا الطريق الثالث؛ لكنّ جزءًا مهمًّا من الإعلام المرئي العربي يعيش في انفصال تامّ عن أية خلفيّة ثقافيّة، وبدأ يبتعد بالتدريج عن مقاربة قضايا السياسة والمجتمع والفن انطلاقا من منظور ثقافي؛ مع أنّ للثقافة دورًا جوهريًّا في تأطير المجتمع وتخليق الحياة العامة وتحصين المجال السياسيّ من التطرف والمذهبية المنغلقة، وكذا في إضفاء المعنى والرّوح والدلالة على الإنتاج الفنيّ بمختلف أصنافه. والإحساس بأن بإمكاننا اليوم أن نتطور ونتقدم ونساهم في تحديث الفن والمجتمع والعمران والسياسة بدون حاجة إلى الثقافة وبدون خلفية ثقافية تؤطر ذلك كله أمر يدعو فعلًا إلى القلق.
هناك هوة سحيقة اليوم بين النخبة الثقافية والمجتمع. والتلفزيون العمومي الذي يُفترض فيه أن يضع إمكاناته ومساحات بثه في خدمة المواطنين لا المعلنين مُطالبٌ بفسح المجال أمام المثقفين للمساهمة في تأطير المجتمع وتوعيته فكريا وتحصينه ثقافيا وتفتيح مداركه وتعزيز قدراته على النقد والحوار. هذه مسؤولية التلفزيون العمومي وواجبه بوصفه مرفقًا يقدم خدمة للمجتمع، ومسؤولية المحطات التلفزيونية الخاصة التي ما زالت تؤمن بأن للتلفزيون دورًا في التحديث وبناء الإنسان. فلماذا نجد كل صعوبات الكون في تنبيه التلفزيونات العربية إلى أدوارها البدهيّة، وفي إقناعها بأنها مطالبة باحتضان مثقفي الأمة وإعطائهم الفرصة ليطلوا عبر شاشتها ويُسمِعوا أصواتهم من خلالها؟
إن الإعلام بشكل عام، وليس التلفزيون فقط، يتحمل مسؤولية كبرى في لعب دور الوساطة ما بين الثقافة والأدب من جهة والمجتمع من جهة أخرى؛ لكنّ المشكلة هي أن الإنتاج الرمزي لا يحظى بالاعتبار اللازم في قنواتنا العربية لأن منطق الاستهلاك لا يعترف بما هو رمزي. والإنتاج الثقافي والإبداع الأدبي يدخلان في إطار الإنتاج الرمزي الذي يساهم في صناعة الوجدان العام ويرفع من تحضُّر المجتمعات. والأدب بالخصوص ما زال مظلومًا في مجتمعاتنا العربية. فلا أحد من خبراء نسب المشاهدة يبدو مستعدًّا لاستيعاب أولوية أن يساهم التلفزيون في دعم الأدب والإنتاج الأدبي وأن يعتبر ذلك جزءا من دوره في بناء مجتمعات متزنة، منفتحة، بل وحالمة أيضًا بالمعنى المنتج الخلاق لهذه الكلمة.
وإذا كان المثقفون العرب اليوم من مختلف الأقطار يطالبون بمضاعفة المادة الثقافية وتعزيزها بمساحات أوسع في خرائط البرمجة وأيضا بتوقيت أفضل يتيح لهم التواصل مع أكبر عدد من مواطنيهم، فإن الحاجة إلى الثقافة في التلفزيونات العربية تتعدّى هذه المطالب إلى تحدّيات أكثر جوهرية. فما نحتاجه اليوم باستعجال هو توسيع مجال الثقافة أوّلًا لتتجاوز حدود الأدب والإنتاج الفكري والفلسفي. نحتاج فعلا إلى إخراج البرامج الثقافية من شرنقة النظرة الأدبية الضيقة إلى الأفق الثقافي الواسع. فإضافة إلى الانشغال بالأسئلة الأدبية والإبداعية والفكرية، من المهم أن تتحوّل البرامج الثقافية إلى منابر يمارس من خلالها الفاعلون الثقافيون في البلاد العربية حوارهم مع المجتمع وقضاياه. فتبنّي المقاربة الثقافية لقضايا المجتمع يمكنه أن يحتلّ مكانة محورية في صلب السياسة التحريرية لبرامجنا. نحن في أمس الحاجة إلى صوت المثقف ليدلي بدلوه في الشأن السياسي والديني والاقتصادي والاجتماعي، وليقترح تحليله الخاص لمختلف الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة. وهناك اليوم العديد من الموضوعات المطروحة للنقاش المجتمعي في العالم العربي نتصوّر أن المقاربة الثقافية قد تُنْصِفها أكثر مما تفعل لغة السياسة وذرائعية السياسيين. بل حتى ونحن نعيش الحراك، وكنا قبل سنوات في قلب حراك ديموقراطي قوي في إطار ما سمي بالربيع العربي، حينها اكتشفنا كم نحن في حاجة ماسَّة إلى صوت المثقف لصناعة رأيٍ عامٍ يعرف ما يريد أيضًا وليس فقط ما لا يريد. إن الديمقراطية أفكار ورؤى ونقاش، وهي تصدر عن الفكر وتأتي من الكتب مهما تغزَّلنا بحيوية الشارع. إن الديمقراطية حوار أفكار وصراع مشاريع مجتمعية وبناء مؤسسات، قبل أن يكون غضبا وشعارات. والتلفزيون الذكي هو الذي يستطيع في مثل هذه الظروف الخاصة وفي لحظات التحول الدقيقة إتاحة المجال أمام النقاش المعرفي بطريقة تخدم إعمال العقل وتعيد للتفكير النقديّ موقعه داخل الفضاء التلفزيوني العمومي وداخل المجتمع، والمراهنة على الحوار لكي نذهب به أبعد من الشعار.
لهذا قد يكون تأسيس قنوات ثقافية متخصصة هو الحل؟
أبدا؛ هذا ليس حلا. الحل هو تعزيز حضور الثقافة في القنوات المؤثرة. وعلى المثقفين أن ينتبهوا إلى أن هناك في إدارات بعض التلفزيونات العربية، خصوصًا الرسمية، من يريد عزلهم داخل “غيتوهات” تلفزيونيّة يتحاورون داخلها بالشفرات والرموز بطريقة تعمِّق اغترابهم عن مجتمعاتهم. لأجل ذلك عليهم أن يتحرّكوا هم أيضا باتجاه التلفزيون للمطالبة بحقهم المشروع في التواصل مع “قراء” لا يقرؤون، عبر الوسيط المتاح والأكثر ديمقراطية، التلفزيون، وأن يبذلوا مجهودا تواصليا لجعل السؤال الثقافي والسجال الأدبي والموقف الفكري في المُتناول. إذ لا يمكن للبلدان العربية أن تتقدم نحو المستقبل فقط بنخبتها السياسية. فالنخبة الثقافية تبقى ذات دور أساسي. المثقفون يُنتجون الأفكار التي تحرك المجتمعات. ومن الضروري تحقيق نوع من المصالحة ما بين منتجي الأفكار ببلداننا والتلفزيون الذي يبقى القناة الأكثر فعالية في مجال الترويج للأفكار وتقريبها من مدارك المواطنين؛ لذا فردم الهوة بين المثقف والمجتمع يجب أن يُعتمَد هدفا مركزيا لكل القنوات الحريصة على خدمة مشاهديها وعلى استقرار بلدانها.
هناك طابع استعجالي لمطلبَيْ تعزيز البرمجة الثقافية في التلفزيون وإتاحة المجال أمام المقاربة الثقافية لقضايا المجتمع. فحاجة التلفزيون إلى الثقافة هي أكبر مما نتصور. إن التلفزيون، باعتباره آلية تنشئة اجتماعية ذات دور حاسم في المجتمعات الحديثة، يحتاج إلى أن تخضَع برمجتُه من ألفها إلى يائها إلى تصور ثقافي واضح. والنقاش منذ البداية لا يمكنه أن يكون إلا ثقافيا. ويجب أن يبدأ بمعرفة طبيعة الإنسان عندنا، تركيبته النفسية، شرطه السوسيولوجي، قيمه وتطلعاته، وكذا ثقافته السياسيّة ونوعيّة المستقبل الذي نريده للبلاد دولةً ومجتمعًا. وحينما تتشكل لدينا تصوّرات واضحة عن الفرد والمجتمع يمكن إذّاك لدورتي الإنتاج والبرمجة أن تنطلقا بسلاسة ووضوح. حينها فقط سنكتشف أن اختيار فقرات سهرة نهاية الأسبوع الفنية هو في العمق مسألة ثقافية. وأن اختيار سلسلة لرسوم الأطفال المتحركة قرار يستحيل اتخاذه دونما تنسيق مع رجال التربية في البلد. وأن الدراما، سواء أنتجناها في استوديوهاتنا المحلية أو استوردناها من أصقاع بعيدة، تظل في صلب مسألة القيم، ويمكنها أن تلعب دورا خطيرا في بلبلة قيم المجتمع ما لم نناقشها بجدية، انطلاقا من تشخيص سوسيولوجي واضح للتحولات التي تطال منظومة القيم لدينا.
لم تعد الأسرة ولا المدرسة ولا الشارع ولا غيرها من فضاءات التنشئة الاجتماعية تمارس التأثير نفسه الذي كان لها في السابق على نفسيّة الطفل وسلوك المراهق. لم يعد المسجد والمقهى والسوق وفضاءات الاجتماع التقليدية تمارس على الكبار التأثير نفسه الذي كان لها في السابق. فقد صار التلفزيون اليوم الآلية الأكثر تأثيرًا على البشر: صغارا وكبارا، أفرادا ومجتمعات. ووحده التصوّر الثقافي العميق الواضح يمكنه أن يتحكّم في آلية بهذه الخطورة ويكبح جماحها. ومع ذلك مازال بيننا من يرى أن التلفزيون سيفقد بريقه ووهجه إذا ما ذكرت داخل استوديوهاته، ولو عرَضًا، كلمة ثقافة.
وعيُك النظريّ هذا هل كان ضمن المحدِّدات التي أطّرت وسوّغت انتقالك من “الأولى” المغربية إلى قناة “الغد”، ومن “مشارف” إلى “بيت ياسين”؟
أولًا يجب الاعتراف بأنه منذ تلك الجمعة البعيدة في 21 أبريل 2006 حتى الأربعاء 2 يناير 2019، حينما بُثّتْ آخرُ حلقات “مشارف”، قطعتُ رفقة الزميل أحمد النجم، مخرج البرنامج ورفيقي في هذه التجربة منذ البداية حتى آخر يوم تصوير، أزيد من اثني عشر عامًا ترحَّل البرنامج خلالها من الجمعة إلى الخميس فالأربعاء: مستقَرِّه الأخير. جدّدَ ديكورَه مرّة واحدة فقط، لكنه لحسن الحظ ظل أسبوعيًّا يُجدّد الضيوف والأسئلة، ويُواتِر القضايا والمدارات. لكن بصراحة كنت على الدوام أطالب بتطوير البرنامج، بفتحه على مساحة زمنية أرحب، بإيلائه عناية إنتاجيّة أفضل. مع الأسف لم يتحقق شيءٌ من ذلك للبرنامج ووجدت نفسي في السنوات الأخيرة أراوِح ذات المكان مستسلمًا للتكرار والاعتيادية التي يرفضها المنطق التلفزيوني الذي يفترض التجديد ويفرضه. في قناة “الغد” وجدتُ نفسي ببساطة أمام شروط إنتاجية أفضل. هذا أهم شيء. المجهود الذي نحرص على بذله على مستوى الإعداد والتحضير ستعزِّزه شروط إنتاجية بدت لي واعدة محفِّزة. ما يعني أنَّ عرض “الغد” حقق لي فرصة المزيد من الاستثمار تلفزيونيًّا في المادة الثقافية التي أقترحها. أنا ابن الصحافة الثقافية، مارستُها في الجريدة والمجلة والإذاعة ثم التلفزيون. لكن إذا كان جمهور الثقافة العادي مستعد بشكل طبيعي لمتابعة أسئلة الثقافة مهما تغيرت الوسائط، فالجمهور العام – جمهور التلفزيون – لا يمكن استقطاب اهتمامه دون أن تستثمر في ذلك تلفزيونيًّا. فاستدراجُه وضمانُ وفائه لموعد تلفزيوني ما لا تحدده فقط صفتا الجدية والعمق، بل اعتبارات أخرى تقنية وفنية، منها: بلورة فورمات جذابة، بناء بلاتوهات ثرية على مستوى الديكور، إبداع تصور إخراجي مبتكر، إلى جانب جودة الإضاءة والتصوير وما إليه.
قناة الغد حققت لك كل هذا؟
أولًا، قناة “الغد” هي قناة إخبارية بالأساس، لكنها من القنوات العربية النادرة التي تحاول مقاربة قضايا السياسة والمجتمع انطلاقا من منظور ثقافي، إضافة إلى أنها قناة حرصت منذ انطلاقتها الأولى على أن تؤمِّن للثقافة حيّزًا معتبرًا في برمجتها. فللقناة مواعيدها الثقافية الأسبوعية المعروفة قبل “بيت ياسين”، أذكر من بينها البرنامجين الحواريين “القنديل” لأكرم خزام، و”يتفكرون” لخالد منتصر، دون الحديث عن مواعيد أخرى بمضمونٍ ثقافي جادّ وهادف من قبيل “قالت لي”، “حبر على الرصيف”، “هجريون”، “في العشرين”، “مُنع من التداول”، “35 ملم” مع إبراهيم عيسى، “متواليات” يوسف زيدان، و”زمن” مع حسين فهمي. لكن، ما كانت إدارة القناة تبحث عنه هو برنامج سهرة. نوع من السمر الثقافي والفكري والفني السلس الذي يمكن برمجتُه مساء الجمعة. لهذا تمت برمجة “بيت ياسين” مساء الجمعة على الساعة العاشرة وخمس دقائق مساء بتوقيت القاهرة (التاسعة وخمس دقائق بالتوقيت المغربي) في نفس التوقيت الذي تقدِّم فيه العديد من القنوات سهراتها الفنية الخاصة بعطلة نهاية الأسبوع. التحدّي صعب جدا، ولا يخلو من مجازفة. لكن قناة الغد ركبت غمار التحدي: تجريب الثقافة مادة لسهرة نهاية الأسبوع. طبعا هذا رهان صعب له إكراهاته ومقتضياته. أهمها بالنسبة لي ولباقي فريق البرنامج: توسيع مدار الثقافة لكيلا تبقى حكرًا على الأدباء والمفكرين فقط، هكذا انفتحنا أيضا على الفنانين الصادرين في تجاربهم ومُنجَزهم الفني عن رؤى ثقافية وفكرية ومجتمعية جادة. ترشيق اللغة أكثر لتصير أشبه ما يكون بلُغة التخاطب اليومي العادية دون السقوط في التدريج الكلي الذي يبقى غير مقبول ولا مستساغ في برنامج عربي يقدم على قناة عربية. هكذا اعتمد البرنامج لغة فصحى ميسَّرة لا تتعالى على العامية ولا تتردد من الاستفادة من الدَّوارِج العربية المُتاحة كلها واستثمارها خلال الحوار دون أي موقف سابق ولا مركب نقص. ثم الانحياز لخيار الحوار السلس الذي يعرف كيف يعجن كلا من ذاكرة الطفولة والمعلومات الشخصية الطريفة والبوح الذاتي مع السجالات الثقافية والرؤى الفكرية والتصورات الفلسفية والاختيارات الأدبية والفنية. هل هذا ممكن؟ أزعم أنه كذلك، أو على الأقل هذا ما نحاوله. لهذا ستلاحظ أننا لم نعد نكتفي كما كان عليه الحال في “مشارف” بأن نطرح خلال الحلقة الواحدة سؤالا فكريا محدّدا أو نتناول قضية أدبية بعينها أو نُسائل ظاهرة ثقافية خاصة. في “بيت ياسين” الوضع مختلف: النقاش مفتوح لا يخلو من تبسُّط في الحديث وتدرُّج في الحوار وتقليبٍ للموضوعات وتنوُّع في المدارات، في جوّ حميميّ ما دام الأمر يتعلق بزيارة حبّية وسُفرة طعام وجلسة مفتوحة بين أصدقاء. فالأمر يتعلق بصديق من عالم الثقافة والأدب والفن يزورك في بيتك، تستقبله بالباب ثم تتنقلان ما بين غرفة المعيشة والسفرة، قبل التحول إلى المكتبة لشرب الشاي. والطبيعي أن يتنوع الحوار بتنوع مجالس البيت ومقاماته، إذ لكل مقام مقال. لهذا “بيت ياسين” مفتوح أكثر ومتنوع أكثر والنقاش فيه أكثر عفوية من “مشارف”. طبعا كل القضايا الفكرية والأدبية التي تشغل بال ضيوفنا وتحظى باهتمامهم تفكيرًا وتأليفًا نناقشها معهم، إنما بلغة مُتاحةٍ للعموم، وبنوع من التبسُّط مع المشاهدين لتقديم فرجة ثقافية فيها إمتاع ومؤانسة وليست عسيرة لا على الفهم ولا على الهضم.
لكن ماذا عن بنية البرنامج؟ فالجديد في “بيت ياسين” هو البيت نفسه كفضاء؟
جاء اختيار البيت كفكرة وكتصور ثم كديكور للبرنامج وكجوّ عام لتأكيد طابع الألفة التي يَنْشُدها هذا الموعد التلفزيوني. ينطلق البرنامج من قناعة مفادها أن الحوار حول الثقافة والفن يمكن نقله بسلاسة إلى المقهى والشارع والبيت. البيت بما هو رمز للألفة وهندستها، كما يقول باشلار. تلك الألفة الدافئة التي تتخذ من البيت شكلها وتمثيلها الحيّ. البيت، تحديدا، ما دام هدف كل منتوج تلفزيوني الوصول إلى بيوت الناس، فلمَ لا نستدعيهم نحن أيضا إلى بيت تلفزيوني يستثمر في الألفة. وبالمناسبة، فستون في المائة من ضيوف “بيت ياسين، وربما أكثر، سبق لي استضافتهم في “مشارف” ويمكنني أن أؤكد لك أنهم يبدون أكثر انطلاقا في “بيت ياسين”. ممّا يعني أن فضاء البيت الأليف يمارس تأثيره على الضيوف قبل المشاهدين. ومرة أخرى أكرر أن اختيار البيت كفضاء ألفة يتجاوب مع هدف البرنامج الأساسي الذي يبقى هو ضخّ المزيد من الدفء والحميمية في النقاش الثقافي، إضافة إلى حرصه على التطرّق إلى الجوانب الإنسانية الخاصة بضيوفه، من أجل أن يتعرّف الجمهور على مثقفيه بشكل أفضل ويقترب أكثر من حميميتهم وإنسانيتهم. لأجل ذلك، جاءت فقرة “السفرة” التي نقترحها في البرنامج لتسنُد هذا التوجّه. فالأدباء والمفكرون وأهل الثقافة بشرٌ “يأكلون الطعام”. وهذا التّبسُّط معهم من خلال دردشة على السّفرة أمر مُستحَبّ إنسانيا وتلفزيونيا. والحقيقة أن كل الأسئلة الثقافية الحارقة قابلة، متى ما كانت لغة الحوار رشيقة غير مقعرة، لأن تُستعاد في البيت والمقهى، بحيث يمكن أن ننعش بها حديث الأسرة على السُّفرة، فتنتعش الثقافة أكثر بتَماسِّها الحميم مع الحياة، وللتلفزيون دور بالغ الحيوية يمكن أن يلعبه في هذا الإطار. وعموما ليست السّفرة وحدها ما نحرص عليه في البرنامج لتحقيق هذا الهدف. بل هناك أيضًا تنويع مدارات الإنتاج الإبداعي وفتحها على الإبداع الفني الراقي الصادر عن وعي والتزام، مثلما ذكرت سابقا، وهو ما وسّع من دائرة ضيوفنا وسمح للموسيقى والغناء بأن تتسرّب إلى البرنامج لتزيد من تلطيف أجوائه. هكذا تلاحظ مثلا أن للموسيقى والغناء حضورًا في الحلقات التي نستضيف فيها فنانين محسوبين على الطرب الأصيل والأغنية الملتزمة والفن البديل المُمانِع للانحدار العام للذوق الفنّي الذي نقاوم لكيلا ننتهي إليه جميعًا. هذه عناصر متفرقة أنا واثق من أن اجتماعها هو ما أكسب البرنامج مع توالي الحلقات خصوصيته وتميّزه.
وأخيرًا اسمح لي أن ألفت نظرك إلى مقولة الكاتب البلجيكي موريس ماترلينك “يعتقدون أن لا شيء سوف يحدث، فقط لأنهم أغلقوا أبوابهم” التي تتكرّر باستمرار في لقطة رقنها على الآلة الكاتبة. هذه الجملة بالنسبة لنا دالة وتعبّر عن تصوّرنا للبيت الذي نريده. نريد بيتا دافئا أكيد، لكن مفتوحا أيضًا. نريد بيوتا بأبواب مفتوحة، على الاستضافة. الاستضافة بمعناها العام الشامل. أن نستضيف شخصا، فكرة، رأيا، كتابا. هذا يستدعي أن يكون الباب مفتوحا. لهذا فالأمر يتعلق ببيت بابه مفتوح على الدوام في وجه الجديد الطريف. فالبيت هو هو، لكنّه يتجدّد من حلقة الى أخرى ويتعدّد، بتجدُّد ضيوفه وتعدُّدهم.
لكن ما رأيك في أنّ برنامج “بيت ياسين” يعطي الانطباع بأنه مصوّر بأسلوب سينمائي؟
فعلا هذا صحيح، واسمح لي بأن أحييك لأنك كنت أول من انتبه لهذا الأمر وتحدثت عنه باستفاضة في أحد اللقاءات بالمغرب. إنما عموما، وحتى خارج “بيت ياسين”، أعتقد أن أمام التلفزيون بشكل عام الكثير لكي يستفيده من السينما. وما على المشتغلين بهذا الحقل إلا أن يتواضعوا أمام الفن السابع ويتعلموا منه. لذلك، ولكي نهرب من روتينية البرامج الحوارية الثقافية، استجرنا في “بيت ياسين” بالسينما وحاولنا استثمار ما تُتيحه أمامنا من إمكانيات سردية وفنية هائلة. هكذا يمكن حتى للمشاهد غير المتخصّص الذي يتابع حلقاتنا عبر اليوتيوب أن يلاحظ أن التصوير في “بيت ياسين” سينمائي وليس تلفزيونيا، نفس الشيء ينطبق على التأطير والإضاءة. وسبق لك أن نبهتني الأخ طروس في حوار سابق معك إلى أنه حتى على مستوى السيناريو وبناء الحلقة التي تنطلق بمشهد انتظار يتمُّ تقديم “المُضيف” للمشاهد كشخصية وليس كمذيع. وهي فكرة نبيهة منك أحببتها وتبنَّيتُها. لأنه فعلا كما لاحظتَ، هناك شخصية تستقبل شخصية أخرى في بيتها، وينحبِكُ الحوار بين الشخصيتين بشكل يحاول قدر الإمكان التخفّف من تلفزيونيته، ويسترسل السرد وتتعاقب الكادرات (استقبال بالباب / ليفينغ / سُفرة / مكتب) وتتوالى التفاصيل الدراماتورجية على امتداد الحلقة لتُعمِّق فنيا هذا المنحى السينمائي الذي يحاوله البرنامج بوعي. طبعا السينما هي الأصل، هي أصل التلفزيون، مما قد يعني أنها وراءه. بيد أنها يجب أن تظل أمامه أيضًا وباستمرار. فأنا مقتنع بأن السينما هي أفق التلفزيون، والتلفزيون الذي لا يضع السينما، بكلّ ممكناتها الفنية والجمالية، أفقا له ينتكس ويتراجع ويُبتذَل.
هناك الجانب السينمائي، وهذا من صميم التصور الفني للبرنامج والعملية الإخراجية، لكن هناك عنصر آخر يثيرني في “بيت ياسين” هو بنيته الحكاية. كل حلقة هي حكاية. ياسين عدنان ترسخ لدينا مع توالي الحلقات ليس مذيعا أو منشطا تلفزيونيا، ولكن بوصفه حكّاء، ثم مؤلفًا؟ فهل التأليف ممكن في التلفزيون؟
هذه يا صديقي تهمة لا أنكرها وشرف لا أدَّعيه؛ فأما التهمة التي لا أنكر فهي تهمة الحكي؛ فأنا سارد يكتب القصة والرواية، كما أنني مشدود إلى فنون القول الشعبية خصوصا وأنني من مراكش، إحدى أهم عواصم التراث الشفوي في العالم العربي؛ لذا من الطبيعي أن أجد في نفسي ميلا فطريا للحكي، ونزوعًا طبيعيا لاستدراج ضيوفي إلى اجتراح الحكايا؛ لكن العبرة بالاستفادة من هذه الحكايات في بناء الحلقة التي غالبا ما تكون مقاصدها محدّدة سلفا، إنه أمر أشبه ما يكون بالقصص القرآني الذي يُروى للاعتبار، أو بلغة القرآن في سورة الأعراف: “فاقصُص القَصَص لعلهم يتفكرون”. بهذا المعنى، نحرص على استدعاء الحكايات في البرنامج ليس بغرض التسلية والترفيه، وإنما بغرض التحريض على التفكير. وغالبًا ما تكون الحكايات التي نسوقها أو نستدرج الضيوف لحكيها محكومة بمقاصد واضحة، أو مُكثِّفة لقيم التحديث والحرية والاختلاف. هذا عن التهمة التي لا أنكر، أما التأليف فشرفٌ يصعب على المرء ادّعاؤه خصوصا في مجال التلفزيون. ومع ذلك لا أنكر أن لدينا في “بيت ياسين” توقًا لاقتراح كتابة خاصة بالبرنامج. من ذلك مثلا أننا، وبشكل واعٍ، أقصينا المُشاهد تمامًا. لا نُرحِّب به في بداية الحلقة ولا نودّعه في نهايتها ولا ننظر إطلاقًا إليه. بل نتجاهل تماما الكاميرات؛ لأنّ أيّ نظرة طائشة نحو هذه الكاميرا أو تلك ستضع عينك في عين المشاهد وهذا ما نتفاداه، فأنا مشدود تمامًا للضيف، أنتظره وأستقبله وأتبسط معه وأدعوه إلى السفرة ثم إلى الشاي ولا أخاطب سواه. بهذا المعنى يمكن اعتبار بناء سيناريو الحلقة وكتابة “السكريبت” الخاص بها نوعًا من التأليف مُفارقًا للكتابة التلفزيونية الكلاسيكية التي يكون المشاهد في قلبها. كل البرامج الحوارية تتوجه إلى المشاهد مباشرة، تحييه وترحب به وتخاطبه وتتوجه إليه بالخلاصات. أما بالنسبة لنا، فقد اخترنا عدم إقحام المُشاهد نهائيا، عدم الضغط عليه، فتماما مثلما يؤلف كاتب السيناريو عمله الدرامي وهو لا يشغل باله إلا بشخوصه وحوارات هذه الشخصيات، فيما يظل الجمهور في خلفية المشهد تمامًا، حاولنا نحن أيضا ترك نفس المسافة مع المشاهد. صحيح أنّنا نكتب له؛ لكنّنا لا نستدعيه مباشرة لا خلال عملية الكتابة أو “التأليف”، ولا أثناء “التمثيل”. تعمّدت هنا أن أستعمل كلمة التمثيل؛ لأنني أرى في هذا السياق الذي نحن بصدده أن التمثيل عنصر جذب آخر خلال البرنامج. فهناك جانب من التمثيل العفوي المُحبَّب ينخرط معنا فيه، بتواطؤ جميل، كل ضيوف البرنامج، حتى أكثرهم جدية ورصانة، وهذا في تقديري عنصر آخر يفتح هذا البرنامج الثقافي على بعد آخر من أبعاد الفرجة والترفيه المُحبَّبة والمرحّب بها في المادة التلفزيونية.
إذن البرنامج نجح في الاستفادة من تقنيات السينما ومهارة الحكي، لكن أحس أن هناك استفادة مهمة من الإنترنت، لعلها أساسية اليوم؟
هذا صحيح، ولقد سبق لي التأكيد في أكثر من حوار سابق على أن التلفزيونات المنغلقة المتعالية على الحياة الافتراضية والفضاء الإلكتروني سيتراجع دورها. فيما القنوات التلفزيونية المتفاعلة مع الفضاء الأزرق الحريصة على الامتداد فيه والتوسُّع من خلاله، عبر اليوتيوب والفيسبوك وتويتر والأنستغرام، ستفرض نفسها بوصفها مُزوِّدًا أساسيًّا لهذا الفضاء بالمواد الثقافية. لقد صارت العلاقة اليوم متداخلة بين التلفزيونات ووسائل التواصل الاجتماعي، والتواشج بينهما بلغ حدًّا لم يعد بالإمكان معه أن يؤثِّر التلفزيون أو يحقّق إشعاعًا خارج المدار الإلكتروني. ولا أخفيك أن عددًا من أصدقائي من الأدباء والمبدعين العرب يتابعون حلقات “بيت ياسين” عبر هواتفهم وكومبيوتراتهم الشخصية سواء خلال بثه المباشر عبر الإنترنت أو من خلال تسجيلات الحلقات المُتاحة على اليوتيوب وعلى الموقع الإلكتروني للقناة. أمّا المتابعة التلفزيونية المباشرة، فهي لم تعد سوى الوجه الرسميّ والأصلي للمشاهدة. وجهٌ أساسي لكنه ليس كافيًا، والاطمئنان إليه وحده يضعك تلفزيونيًّا خارج العصر.
لكن إذا كانت ديكتاتورية نسبة المتابعة تقهر البرامج الثقافية في التلفزيون، فهنا يبدو وكأن هذا السيف الظالم المسلط على رقابها لا يكفي لتنضاف إليه على الانترنت ديكتاتورية جديدة هي ديكتاتورية اللايكات، وهي أشد مضاضة بالمناسبة. خصوصا حينما تُطرح البرامج الثقافية في فضاء إلكتروني من المعروف أن مواقع النميمة والإشاعة والفضائح هي التي تسيطر عليه في عالمنا العربي وهي التي تتصدَّره؛ لكن هذا لا يعني أننا مطالبون بإخلاء المجال لهذه المواقع والمواد لتتفشى على اليوتيوب وتستفحل؛ بل علينا اقتراح البدائل، علينا الثقة في ذكاء الناس ومخاطبة هذا الذكاء تحديدا. إن الموقف الثقافي النقدي يفرض على الجميع أن يرتابوا قليلا ولا ينساقوا بشكل أعمى وراء هذه الدكتاتوريات الغوغائية؛ لأنّ اعتباراتها ليست مهنيّة وفيها كثير من الاعتباطية وتقوم في أحايين كثيرة على تمجيد البلاهة والترويج لها. إذن؛ علينا أن نتفق على أن البرامج الثقافية ليست الأعلى مشاهدة على التلفزيون ولا يمكنها أن تكون كذلك لأن التلفزيون أداة ترفيه بالأساس، وهي ليست برامج ترفيهية، ثم إنها ليست الأكثر رواجا على الإنترنت ولا يمكنها أن تكون كذلك لأنها بالضبط تقترح نفسها ضد البلاهة السائدة في الفضاء الإلكتروني؛ لكن دورها هو المُمانعة، وعلى العقلاء المراهنة عليها للاضطلاع بهذا الدور لكيلا يعم السخف وتزحف علينا الرداءة والرثاثة.
لا شكّ أنك متابع لما يقدم على القنوات العربية من برامج ثقافية. كيف تنظر إلى هذه البرامج؟ كيف تقيمها من موقع المشاهد أولا ثم من موقع المهني العامل في المجال نفسه؟
لنتفق على أن المشاكل الأساسية لإعلامنا الثقافي في التلفزيون هي في الأصل مشاكل إنتاجية، تتعلق بالإمكانات الإنتاجية كما أسلفنا الذكر. وحينما تأخذ بعين الاعتبار التحديات الإنتاجية التي تحيط بعملية إنجاز برنامج مثل “روافد” الذي يقوم بإعداده وتقديمه وإخراجه طاقم صغير جدا يكاد ينحصر في فرد واحد هو الزميل أحمد علي الزين؛ فإنّ الحصيلة في هذه الحالة تصبح بمثابة إنجازٍ مُبهر؛ لذا فالتحدّي الأصعب المطروح على العاملين في هذا المجال هو كيف يمكن الاحتيال على البُخل الإنتاجي الذي تواجَه به برامجنا الثقافية؟ ولتحقيق هكذا التِفافٍ على ضعف الإمكانات الانتاجية، يتم مضاعفة الجهود على مستوى الإعداد تحديدا؛ لهذا بالضبط علينا في النقاش ألا نرفع السقف عاليًا أمام زملائنا. كما يجب ألا نطالبهم بإعادة اختراع العجلة. أحيانًا أستغرب حين أسمع بعض المتابعين لإعلامنا الثقافي يرددون بأن كل برامجنا الثقافية العربية متشابهة ومستنسخة. سمعت هذا الرأي من أكاديميين متخصصين ومتابعين جديين لمشهدنا الإعلامي واستغربت هذا الرأي؛ إذ لا يمكننا الحديث عن التطابق والاستنساخ في هذا المجال. أولا، لأن أغلب برامجنا حوارية، والبرنامج الحواري له نظام وبناء وشكل معروف مهما تغيّرت القنوات والمضامين واللغات والبلدان. البرنامج الحواري سواء تابعته على قناة مكسيكية أو فلبينية له نفس البنية. تماما مثل مباراة في كرة القدم. لها القوانين نفسها ونظام اللعب نفسه. فهل سنقول بأن مباريات كرة القدم في عالمنا العربي مستنسخة؟ لا، السؤال هو هل أنت قادر فنيا وتقنيا كطاقم على العمل بشكل خلّاق؟ هل أنت باعتبارك محاورًا قادر على أن توفّر لضيفك الإعداد الجيّد وأن تقدِّم أسئلتك بسلاسة وبتدرُّج وحساب مدروس؟ أنا عمومًا متابِعٌ للبرامج الثقافية الفرنسيّة والإنجليزية على ندرتها، ويمكنني الزعم بأنّ ما يُنْتَج عندنا في العالم العربي مُشَرِّف إلى حدّ ما. لنأخذ مثلا سيناريو برنامج “المشاء” الذي يقدمه زميلنا الشاعر والروائي التونسي جمال العرضاوي. بالنسبة إليّ السيناريو ممتاز، مريح، فيه اجتهاد وخيال تلفزيوني، فيه غنى بصري وتنقُّل مبهج بين مواقع التصوير، دون أن يفرّط بالمضمون. هذه تجربة عربيّة يمكن أن يُتَعَلَّم منها. نفس الشيء يقال عن “روافد”. نفس الشيء يقال عن “مش ممنوع” للزميل عماد دبور. الفلسطيني خالد الحروب في “الكتاب خير جليس” والمغربي محمد نور الدين أفاية في “مدارات” صار برنامجاهما اليوم مرجعيين بالنسبة لي على الأقل، لأنهما فعلا من جيل البرامج الثقافية التي تابعتها شخصيا بإدمان وتعلمت منها مباشرة. نحن نشتغل من داخل بنية محددة سلفًا، ومن داخل تقليد تلفزيوني مؤسَّس راسِخ، فقط نجتهد في الأداء ونحاول خلق بعض التنويعات. فمثلا بالنسبة لي حين أضفتُ فقرة السفرة ضمن فقرات “بيت ياسين” كنت أحاول عبرها أن أتبسّط أكثر من المشاهد. على الأقل صار بإمكان جمهور الأدب والثقافة أن يروا كتّابهم المفضلين يأكلون. المثقَّف رجل يمشي في الأسواق ويأكل الطّعام. هذا تنويع صغير، لكن دائما من داخل البنية، بنية البرنامج الحواري كما هو متعارف عليه تلفزيونيا. وبصراحة، كنت أتمنّى لو أننا توقّفنا عند هذه البرامج الثقافية العربية بالتحليل لنرى ما الذي يصنع فرادة كل برنامج على حدة وما هي خاصياته المميّزة، والدعوة موجهة لك بوصفك متخصصا في تحليل الخطاب التلفزيوني لإنجاز هذه المهمة. على الأقل لكي لا نتصوّر أن هذه البرامج سواء منها ما يسجل في “البلاطو” كبرنامج بروين حبيب وبرنامج زاهي وهبي، أو ما يتيح منها التجول مع الضيف في بلدته ومدينته كـ”روافد” و”المشاء” و”مش ممنوع” و”القنديل” هي كلها برامج متطابقة مستنسخة. لا، هذا غير صحيح. هناك دينامية وتنوع، ما نحتاجه هو أن تقتنع إدارات التلفزيونات العربية بأهمية الثقافة وأولويتها. إذ بالثقافة فقط، يمكننا أن نطوّع التلفزيون ونستثمره في معركة بناء الإنسان.