عبد العزيز المقالح الصوت الأثير، في فضاءات الأثير والإعلام والأدب والإبداع العربي والإنساني، يحمل سيرةً إبداعية واسعة الأفق والعطاء المعرفي، ومسيرة نضالية وتنويرية بوأته مكانة مرموقة في سرب مجايليه العرب، كواحدٍ من أبرز أعمدة الفكر العربي المعاصر، وأديب وناقد مخضرم شهد تحولات كبرى في مسار الأدب العربي الحديث منذ ستينيات القرن الماضي، فأثرى المكتبة العربية بعشرات المؤلفات القيّمة والأطروحات النقدية وعشرات الدواوين الشعرية والنقدية، وتُرجِمَت أعماله إلى عدة لغات عالمية، وتشرّفتْ باسمه جوائز عربية وعالمية مختلفة..
كما كان لنا برفقة صديقه الأقرب إلى مسيرته الإبداعية والنضالية، محمد عبد السلام منصور، شرف الحصول على فرصة لزيارته في منزله، بعد انتظار طويل لتلاشي مخاوف كورونا، وخروجه من وعكته الصحية التي لازمته خلال الفترة الماضية.
في هذا الحوار المقتضب والاستثنائي، المجيب على أسئلة مجلة لخص المقالح بهدوء مشهد الحاضر والمستقبل.
بداية دكتور عبد العزيز.. يعيش المثقف اليمني في عزلتين طاحنتين؛ عزلة فرضتها الحرب، وتداعياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية، وعزلة فرضتها الجائحة الكونية كورونا.. كيف يستطيع المثقف اليوم كسر نطاق هذه العزلة ؟
بالتواصل المستمر مع الحياة الثقافية بمختلف أبعادها ولا بد من الممانعة، وتحدي الواقع بكل أبعاده ومؤثراته، نستطيع بلا شك كسر العزلة التي صنعتها الحروب والجوائح.
كيف تنظرون لتأثير جائحة كورونا على نمط الحياة اليومية للمفكر والمثقف والكاتب؟
لا أستطيع تحديد موقف على المستوى التفصيلي، ولكن يكفي الإشارة إلى أن هذه الجائحة بما أحدثته من تحولات عالمية ارتبطت بصحة الإنسان، قد أفرزت أنماطا سلوكية ومهنية جديدة على كافة شرائح المجتمع.
طقوس العمل اليومي
أيضا ألقت الجائحة بظلالها على طقوس الأعمال اليومية وسادت لدى موظفي ونخب العالم ملازمة البيت.. ما هي طقوس المقالح اليومية “كتابة وقراءة ومقيلا” في زمن كورونا ؟
هي تلك الطقوس التي اعتدتها في زمن ما قبل الجائحة، أي زمن الإجازات الأسبوعية موزعة بين القراءة والمطالعة، ومع طول البقاء في البيت أحاول التغلب قدر الإمكان على الواقع المستجد المقرون بالملل. ولم يؤثر ذلك على المقيل لكنه خفف منه، بشكل كبير كما خفف من زيارات الأصدقاء اليومية والأسبوعية، وما أثر على تفاصيل الحياة اليومية هو الظروف الصحية التي ألزمتني البيت خلال العام الأخير.
اليأس والأمل
لقد انعكست الحرب الدائرة على نصوصكم، وكانت لغة اليأس تبدو واضحة كمظهر من مظاهرها، كيف نستطيع أن نخرج من دائرة اليأس وصولا لفسحة الامل ؟
بالأمل ذاته والإحساس بأهمية التغيير والاندفاع نحو التغيير.
الحرب والقصيدة
من وجهة نظر نقدية إزاء تأثير الحرب على القصيدة اليمنية.. ما هو تقييمكم لحضور القصيدة الحديثة في زمن الحرب؟
القصيدة الحديثة حاضرة بقوة لعوامل وظروف الحرب التي ألقت بتبعاتها على كل ما له صلة بالحياة اليومية للشعراء والمبدعين.. ومن خلال متابعتي واطلاعي خلال الأعوام الأخيرة، على ما كتبه ويكتبه عدد من الشعراء الشبان منهم خاصة، أستطيع القول: إن ذلك يشكل ديوانا أو ملحمة عن الحرب الضارية التي تأكل بلادنا وترمي بقواها الشابة والفتية إلى محارقها بلا رحمة ولا حساب لما سوف يترتب على هذه الفعل الشنيع –أي الحرب- مستقبلًا من إخلال بتوازن مسار الأجيال وفقدان قوة مصادرها وقودا لحرب ما كان يجب أن تقوم أو تتم بالصورة البشعة التي تتم بها والتي تدمر ما تكوّن عبر العصور من وشائج الأخوة والمواطنة..
وتبعًا لذلك فإن قصيدة الحرب التي كتبت حتى الآن، هي وحدها من سيؤرخ لبؤس هذه المرحلة المؤسفة محليًا وعربيًا، غير أن ما كتب حتى الآن لا يزال في طور التراكم والتفاعل مع الأحداث ولن يتلفت الباحثون والدارسون إلى ما صار ناجزا من نصوص مدهشة بأبعادها الإنسانية التي التقطت بإتقان معاناة الإنسان العربي واليمني جزء لا يتجزأ منه، ولعل أهم ما قرأته في سياق قصائد الحرب، هو قصيدة “هذه الحرب” للشاعر محمد عبد السلام منصور.
الشعر الزواملي
من الظواهر الأدبية الطاغية في سنوات الحرب السبع الأخيرة.. هو الشعر الزواملي.. هل ترى أن هذه الظواهر ستزول بمجرد زوال المؤثرات ؟ أم أنها ستستمر ؟ وماذا عن الزامل كجنس أدبي؟
هي ظاهرة ستنتهي بنهاية الظرف الراهن.. لكن ذلك لا يعني أن الزامل وليد هذه الفترة الزمنية، كما لا يعني أنه مقصور على أزمنة الحروب، فالزامل فن قديم وأصيل في تاريخ اليمن ويمكن النظر إليه كنشيد جماعي يقال عند المناسبات ويكون حضوره أكثر في الحروب والمنازعات القبلية.. وبعض الزوامل ترقى في صياغتها الشعرية إلى درجة تتضاءل معها بعض القصائد الفصحى المكتوبة من وحي تلك المناسبات، وعلى كثرة الباحثين المتميزين في جامعاتنا اليمنية لم يظهر من بينهم من يتصدون للقيام بدراسة هذه الظاهرة التي تجمع بين الأدب والفن.
رواية الحرب
الرواية كجنس أدبي صار حاضرا بقوة في مسارات الحياة الإنسانية المعاصرة، وكثير من الإنتاج الروائي العالمي أرّخ للأزمات والحروب، ولكن وفق نسق موغل في العاطفة والإنسانية.. برأيكم هل كتبت رواية الحرب في اليمن حتى الآن خصوصا والأزمة تدخل عامها السابع.. ؟
لم تكتب رواية الحرب بعد، ربما لأن هذا العمل الإبداعي لم ينضج بعد.
متى سيكتب الساردون رواية الحرب اليمنية ؟
عندما يأتي الداعي لذلك. وتكون الذاكرة السردية قد ارتاحت من صدمات الأحداث المؤلمة والمتلاحقة للحرب الطاحنة، التي تعيق الفكر من تحويلها إلى أعمال سردية وروائية.
تلاشي المهرجانات العربية
كيف تقرؤون المشهد الشعري العربي اليوم ؟ وما سر تلاشي زخم المهرجانات الشعرية الكبيرة التي كانت تملأ الآفاق؟
واقع زمن المهرجانات الشعرية كان موصولا بتفاعلات النخب عبر الجغرافيا العربية والعالمية فتلتقي في أي عاصمة عربية لتقيم مهرجانات مشهورة ومشهودة في الذاكرة العربية والجمعية، لكن ما تشهده النخب والمجتمعات في وطننا العربي اليوم واقع آخر، اختصرته طفرة الحياة التقنية والتواصلية، فصارت المهرجانات غير ذات أهمية في زمن المؤتمرات والمنتديات الافتراضية عبر تقنيات الاتصال الفوري بالصوت والصورة وعبر الانترنت، ناهيك عن ما فرضته الجائحة الكونية “كورونا” من تباعد اجتماعي قسري، على المستوى العالمي وعلى المستوى العربي..
هل لا يزال المقالح يؤمن بأن الثقافة قادرة على إصلاح ما أفسدته السياسة ؟
بلا شك، نعم.
كيف يمكن للثقافة أن تقوم بهذه المهمة في ظروف كهذه.. ؟
ذلك لأن الأمم والشعوب في هذا الزمن المادي والحسي، تحتاج إلى التواصل الفعّال بثقافتها بوصفها الأساس الجامع لأبنائها، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وقد بقيت الثقافة العربية رغم ضمورها وعصور الانحطاط المتلاحقة القوة الروحية المحافظة على الحد الأدنى من التواصل بين أبناء الأمة العربية، وقد حاول كبار المفكرين العرب ودعاة الوحدة بناء المشروع الثقافي المستقبلي، وكانت هناك جهود كبيرة في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات في إحياء هذا المشروع وصياغة مفرداته، وكانت منظمة الثقافة والعلوم قد نجحت في تحديد وتكوين معالم مشروع ثقافي عربي شامل، إلا أن المتغيرات المريعة التي شهدها الوطن العربي وهيأت لاحتلال العراق قد أهالت التراب أو كادت على مشروع عظيم..
ماذا يعني غياب المشروع الثقافي العربي الواحد المناط به هذه المهمة ؟!
سؤال غياب المشروع الثقافي العربي وما يعنيه هذا الغياب للدور المنوط بالثقافة العربي، لا تكون الإجابة عليه بكلمات أو سطور وإنما بكتاب أو مجموعة كتب تدرس الواقع العربي وما تشهده أغلب الأقطار العربية منذ عقود وعلى مختلف المستويات الاقتصادية والثقافية من عجز وافتقار وعدم قدرة على مواجهة مطالب العصر وما يفرضه من تحسين مستوى المعيشة ورفع مستوى التعليم، والحد من الفقر الذي يقف بمعناه القريب والمباشر وراء كل المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية، وفي مقدمتها الحروب والخلافات والتمزق الاجتماعي، ولا خلاص منه ومن تبعاته المريرة في غياب الوحدة والاتحاد وبناء الأسرة العربية القادرة على السير نحو المستقبل بعقول لا تشكو الخواء والجهل، وبطون لا تشكو الفراغ..
ما هي دعوتكم لنخب المثقفين إزاء قضايا الأمة العربية والإسلامية ؟
الاهتمام والانفتاح على الواقع…
الشعر الغنائي
من أسئلة التجربة الإبداعية التي تصدر عن جمهور ومحبي شاعر اليمن الكبير عبد العزيز المقالح سؤال الإنتاج الشعري الغنائي فماذا عن إنتاجكم الشعري الغنائي.. ؟ وماذا عن قصيدة “ظبي اليمن”..؟
لا أهتم بهذا النوع من الشعر، كانت رغبة في التغيير والتجديد، لكني أعترف أن هذا ليس مجالي وأني لست كاتب أغنية، وما نُسب إليّ من كلمات يغنيّها بعض من الفنانين اليمنيين لم تكن سوى تعابير مرتجلة كنت أكتبها أو بالأحرى أمليها في حضور الفنان نفسه، كما هو الحال مع تلك الأغاني التي لحّنها وغناها الفنان القدير أحمد فتحي، فقد جمعتنا في القاهرة في أوائل السبعينيات من القرن المنصرم عندما كنت أواصل دراستي العليا في كلية آداب جامعة عين شمس، وهو يدرس الفن في معهد الموسيقى، وفي تلك الفترة كنا نذهب إلى بعض الأماكن خارج القاهرة وبالقرب من الأهرام ليعزف ويغني بعضًا من أغانيه الأولى، ثم كان يطلب بعض الكلمات لألحان جاهزة.. ولا أخفي أنني كنت لا أود أن تحمل اسمي فقد كانت بسيطة وساذجة..
صنعانية مرَّت من الشارع غبَشْ/ كان الزمن ظمآن، والفجر اشتكى نار العطشْ/ لكنها لما مشت سال الندى/ والورد فتّح وانتعش. صنعانية. صدر المدينة هش/ والشارع تغنى وارتعش/ يا صاحب المغنى اقترب/ واجمع صدى الخطوات/ واقرأ ما نقش. صنعانية..”.. ماذا تتذكر من لحظة هطول هذه القصيدة المغناة..؟
لا أذكر لهذا النص زمنا يؤطره، ولا أذكر إلا أنني وجدت نفسي أكتبها بدون إحساس مسبق، ولعلها الأغنية الوحيدة التي كتبتها بانسجام.
ماذا يعني الحب لشاعر يعيش الغربة عن الديار والبُعد عن الأهل والحبيب..؟
– مثلما تكرر هذا السؤال كثيرا، تتكرر الإجابة عليه بحقيقة لا فكاك منها تفيد بأن النفوس التي لا تعرف الحب، سواء كانت في وطنها أو خارج هذا الوطن، نفوس يابسة وأشبه ما تكون بأوراق الأشجار الذاوية، الحب بكل معانيه العميقة والجميلة غذاء روحي تستمد منه حياة البشر وجودها وحضورها الإيجابي على هذه الأرض، ولا أدري كيف تعيش بعض النفوس بلا حُبْ وأشواق وحنين وأحلام.
أواخر الأعمال
المعروف أنك رغم وضعك الصحّي، لم تنقطع عن القراءة والكتابة، فإذا كان آخر كتاب صدر لكم هو “حكيم الثورة الشيخ حسن الدعيس” وتحديدا في أغسطس 2020م، فما هو آخر كتاب قرأتموه؟
اطلعت خلال العامين الأخيرين اللذين سبقا ظروفي الصحية، على كتب كثيرة، لكن آخر كتاب أستطيع القول بأني قرأته والتحمت مع ما فيه من رؤى فكرية ومعرفية ومفارقات زمنية وثقافية وإنسانية، هو كتاب “حصاد السنين” لمؤلفه زكي نجيب محمود.. وهو كتاب قديم يعود إلى حقبة التسعينيات، لكن أعيد إصدار هذا الكتاب في 2018م.