والعدد الحادي عشر من "نزوى" على مشارف الطبع حملت الينا الأنباء ما هو متوقع منذ زمن، عن رحيل سعد الله ونوس، أحد أهم كتاب المسرح العربي عبر هذا القرن.. عبر سيرته الخصبة والثرية، استطاع ونوس، أن يشكل علامة فريدة قلما وجدنا مثيلا لها في الكتابة المسرحية العربية المتأصلة في جذورها وتربتها وآلامها. جامعا بين البحث عن لغة خاصة في إطارا لتجارب الطليعية المتحققة على الصعيد العالمي، لغة رحبة وصارمة ومشحونة بالدلالات المختلفة حتى الانفجار من فرط ما تحمل من أعباء هذا الواقع العربي ونكباته وظلامه وانهياره.
ابطاله دائما يتحركون في أفق مفعم بالخيانة والدنس والقمح المهيمن على كل النفوس والحيوات يسقطون الواحد تلوا لآخر عدا ذلك الذي يملك شيئا من البصيرة والمقاومة الروحية وسط هذه الأرخبيلات التي لا حدود لها من القتل والجنون والدمار الشامل.
عاش سعد الله سنواته الأخيرة مكابدة مريرة مع مرض السرطان. وفي هذه ا لسنوات أعطانا أصفى وأعمق ما انتجته المخيلة العربية من كتابة مفارقة وكاشفة حتى الرمق الأخير، كأنما هو إحدى شخصياته التراجيدية التي تقاوم واقع الانحلال والبشاعة، بالابداع والروح الخلاق والاختلاف.. يبقى أثر سعد الله ونوس قويا فينا وفي الأجيال المتعاقبة وروحه مشرقة لا
تنمحي بانمحاء جسده الذي أنهكه المرض والترحال الدائم في تخوم النفس العربية المعذبة.
وليس من كلمة نودعك بها أيها الراحل العظيم والصديق الأنقى إلا استحضار عبارة لتوأمك الروحي الكبير عبد الرحمن منيف :
( أعصر لنا من مقلتيك الضياء فإننا مظلمون)
هذه المادة التي كانت معدة للنشر وصلتنا عفو الصدفة عبر البريد من الزميل نديم معلا قبيل نبأ الرحيل.
(يوم من زماننا). هكذا يضع سعد الله ونوس، عنوانا لمسرحيته التي نشرت قبل أكثر من عام، ويلفت عنوان المسرحية الانتباه، لأن دلالته تشير دون مواربة الى الزمن الراهن، في حين أن قراءه ومتفرجيه، اعتادوا على عناوين وأحداث تتقنع بالتاريخ، وان كانت تتوسل الراهن.
إنه زماننا إذن. حاضرنا الذي نواجهه وليس زمنا آخر يستعاد.
هل رأي الكاتب أن فظاعة الراهن، ما عادت تحتمل الاشارات والأنساق والسياقات التي تنهض على حامل تاريخي (بمعنى الماضي) وأنه لابد من تسمية الأشياء بأسمائها، ووضع النقاط على الحروف ؟
يبدو أنه لم يعد ممكنا إحالة هذا الراهن الى الماضي، أو جعله يتدثر بغطاء تاريخي قد يزيد من سماكة الحاجز بين زمنين، أو شكلين، ليسا مختلفين فحسب، وانما متضادان، ولعل هذا الراهن (زماننا) لا يشبه إلا نفسه، فلقد انحلت الروابط الأخلاقية والسياسية والتربوية وتصدعت القيم وأفلت الجشع والتكالب من عقاله واختلط الزائف بالحقيقي، حتى ليخيل اليك أنك وحيد أو مجنون، أو كائن هبط من كوكب آخر!
هو ذا شأن فاروق – بطل المسرحية – معلم الرياضيات – الذي تستغرق رحلته الاكتشافية يوما واحدا، في أيام الشتاء القائمة الباردة – كما يضيف المؤلف (الراوي). إنه يرى كيف تتقوض المؤسسات، التربوية والسياسية والدينية، وكيف تخرج عن مسارها الطبيعي والصحيح، وكيف يمارس القائمون عليها عملية تضليل فاضحة، وكيف يتحولون ومؤسساتهم، ومن ثم الأفراد العاملون فيها الى دمى تحركها امرأة، من منزلها الذي تتقاطع فيه المصالح والرغبات والاتجاهات كلها. إنها تمثل دائرة، تحتوي المدرسة والجامع ومركز السلطة. ولكي تقرأ حالة المنطقة، عليك أن تمر بمنزل (الست فدوى) فهو المركز، وما الدوائر الأخرى الصغيرة، إلا الأطراف. والدوائر الكبيرة قادرة على ابتلاع الدوائر الصغيرة أو تحطيمها، بما لديها من سلطة سرية وعلنية، فهي التي تقدم (البضاعة) للزبائن، ومن ثم تملي عليهم شروطها، ولكي تحدد ملامح فدوى تماما وينجلي عالمها الداخلي يتركها الكاتب تحكي حكا يتها: (تزوجت زواجا عائليا مرتبا. أرادوا أن يشفوني من قصة حب كئيبة إلا أن الزوج اكتشف أن البضاعة مغشوشة) وأنه لا بد من (البازار) طالما أن البكارة مهتوكة (والبازار مع والدها) وحصل الزوج من والدها على (الاكرامية والتعويض) وأخذ جزءا من تجارته (وتحول الى مستخدم في متجر صغير لها) (وهي الآن
تبني مملكة من الثروة والمشاريع والطموحات).
(إنها الدنيا الحقيقية يا فاروق.. الدنيا المبنية من الطين والدم والشهوات والشراهة) الدنيا الفعلية التي نحيا بها، أما تلك التي كنت تظن أنها الدنيا فليست إلا أوهاما ونفاقا..).
عاشت (فدوى) الجديدة على أشلاء (فدوى القديمة) فدوى القديمة كانت فتاة ككل الفتيات في مثل سنها وبيئتها تحلم بالحب والزواج والأسرة والحياة النظيفة، بيد أنها خدعت وانتهت قصة حبها نهاية مأساوية، فأرادت أن تخرج من الرماد وتعيد بناء حياتها من جديد، فتزوجت رجلا لا تحبه، فكان الابن النموذجي لعصره، يتقن لغته ومفرداته ويجاهر بالانتماء اليه : (البضاعة) (الاكرامية) (البازار) كلها إشارات الى الحياة – السوق والى السوق – الانفتاح. ولقد قصد الكاتب من هذه الاشارات تعميق الاحساس باللعبة الانفتاحية وتحول كل شيء الى سلعة. عالم من (التشيؤ) و(السلع).
(فدوى) الجديدة تأسست فلسفتها على هذا العالم : الزائف بالنسبة اليها حقيقي والحقيقي زائف ! إنها تخرج المفاهيم من أنساقها وسياقاتها الطبيعية، لتشيد أنساقها ومفاهيمها الخاصة بها خارج المتعارف عليه، وتبشر – بأنها العسل القادم وبالفردوس القادم. أنبت فساد الزوج – وفساده جزء من الفساد العام – فسادا جديدا هو : (فدوى) الجديدة وأثمر بالتالي متوالية من الفساد، كان آخرها زوجة فاروق هذا (الدونكيشوتي) الباحث عن النقاء والبياض في عالم ملوث حتى النخاع.
انتشر سرطان (الست فدوى) في خلايا المجتمع، امتد واستطال، حتى وصل قلب المدرسة والمسجد والسلطة. في المدرسة يكتشف فاروق، أن الطالبات يرتدن بيتها وان بعضهن تكاد أن تفاخر بذلك ! مدير المدرسة ليس أكثر من حاجب في مملكتها وقد تشرب أفكارها وفلسفتها: (واجبي أن أحمي المدرسة من جرثومة السياسة، وأن أربي الطلاب على الولاء والطاعة) (الفتيات المتورطات ولاؤهن لا تشوبه شائبة)!
والخطر قادم من السياسة، من الأفكار اذا تنير العقل. لأنها يمكن أن تتحول قوة مادية على الأرض، يمكن أن تكون نذير تغير، أو بؤرة توتر تخلخل السائد، أو تفلح في هز أركانه. الولاء السياسي إذن، مقدم على الأخلاق.
الكتاب – أي كتاب – يفسد عقول الناشئة وعليه يغدو الكواكبي – مفكر عصر النهضة – ومن وجهة نظر المدير إياه، (مشبوها في صلاته وكتاباته) لأنه يشرح الاستبداد ويجلو طبائعه. وهكذا تتعمق (فلسفة) فدوى وتجد لها مريدين ويصعد (فكر) السوق، ليعيد ترتيب الأوضاع كما تشتهي (فدوى). الولاء السياسي، في صميمه، ولاء للسوق لأنه يتغذى به، بل إنه – الولاء السياسي – مشروط بالعائد المادي الذي توفره العلاقات المتداخلة، ألم يقل مدير المدرسة عن (الست فدوى) (إنها امرأة كريمة وخدوعة !) وطالما أن المساءلة في عرف مثل هذه الفلسفة، سياسية قبل كل شيء، وآلية تكتفي بالوقوف عند حدود التأكيد والتكرار والترديد والمزايدة، فإن أحدا لا يقلقه ما آلت اليه الأخلاق، فهي لا تهدد أمن البلد!
(فدوى) شخصية مركزية وهي كما يقول عنها فاروق :(تخرب البيوت وتفرق الجميع في وحل الفساد) وعلى الرغم من أن فاروق هو الذي يحرك ويدفع ويواجه،وحيدا :لا أن (فدوى لم هي الأكثر حضورا، ذراعها الطويلة تصل الى كل مكان، عن طريق الجنس وقد تحول (بضاعة) بل لعل له رواجا في مجتمع مازال الكبت يعشش فيه. وأهمية (فدوى) كشخصية محورية تكمن في أنها هي التي تزيد من إحساس (فاروق) بالغربة، وهي التوكيد على أنه يعيش خارج الزمن. هي التي تخترق المؤسسات والأفراد وهي التي تجر الجميع الى الخراب. في صورة (فدوى) بعض من (مدام باتشي) في مسرحية بيرانديللو (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) كلتاهما تغرر بالنساء وتضعان (المطرزات) وبعض الأشغال اليدوية طعما لاصطيادهن، وكلتاهما تستغلان الفقر والحاجة الى المال، لسوقهن الى الدعارة. واذا كانت (مدام باتشي) تتخفى، فإن (فدوى) أقرب الى العلانية في ممارستها الوضيعة، لاختلاف الظرف والتاريخ.
وصل خرابها الى المسجد. وأدرك الشيخ متولي أن سحرها لا يقاوم، وزعم أن أفضالها على أهل الخير، بنية واضحة للعيان (ما دفعته الست فدوى لرفع مآذن هذا الجامع وتزيين قبابه يربو عما دفعه أي محسن في هذا الحي مع هذا تأتي لترميمها بالنمائم والشبهات) ويرى الشيخ أن الحديث عن الدعارة في بيت (فدوى) ضرب من الخوض في اعراض الناس وهو ليس ممن يفعلون ذلك ! وينحرف بالموضوع الرئيسي الى أحاديث جانبية هامشية، كي يغطي على تورطه في السكوت عنها، فيفيض في الحديث عن العلوم الحديثة (المستحقرة) متجاهلا المنكر الذي، يفترس المدرسة، بعد أن عرف مصدره. هناك الخطر قادم من جرثومة السياسة، وهنا المنكر أن تغتاب اعراض الناس. خطاب واحد ولكن بمفردات مختلفة. تهميش الجوهري والأساسي، وابراز الثانوي والعابر. وفي كلتا الحالتين قلب للمفاهيم والقيم رأسا على عقب. إنها فلسفة (فدوى) تطل برأسها. ينفر الشيخ من الحديث عن المنكر الحقيقي، الماثل أمامه، ليفرق في الحديث عن (آداب الاستنجاء).
يخرج (فاروق) من عند الشيخ، متابعا رحلته الاستكشافية، ليدخل الى مكتب مدير المنطقة أو المحافظ، حاملا معه قضيته، وهي إيقاف الفساد في المدرسة، قبل أن يستشري والأهم من ذلك كشف من يقف وراءه ويغذيه. ومدير المنطقة يمثل ما يمكن أن نسميه بالمؤسسة السياسية، وعليه فإن لخطابه دلالات سياسية رسمية، ومهما حاول أن يطبقها بطابعه الخاص. إنه يرتكز في حديثه على فلسفة تتقاطع مع فلسفة (فدوى) فيما يتعلق (بالقيم والمفاهيم) و(الجديد والقديم) و(التكيف) مع المتغيرات والانفتاح والمعرفة.. الخ ويبدو أنه ينظر الى سوك ابنته وانحرافها، على أنه استيعاب (مذهل) لروح العصر و(ذكاء) نادر. إنها في عرفه (نموذج) في هذا الاتجاه جدير بأن (يقلد)! (الرشوة) (الفساد) (النهب) قاموس بائد، يستخدمه الناس ليعرقلوا الانفتاح ويضيف قائلا: (كل شيء يتغير.المباديء والتصورات والقيم والأخلاق. كل شيء يتغير. ويتحلل الى غبار) أما الانهيار الذي يعصف بالمجتمع ويهز أركانه، فإن له تفسيرا (مدهشا) لديه. (الضغوط النفسية والأمراض سببها عدم القدرة على الدخول في مغامرة العصر، والتخلي عن القديم). ولكن ماذا عن الثورة ؟
(الثورة الحقيقية هي الانفتاح على العصر ومنجزاته)!
هكذا يختزل الكارثة التي تحيق بالمجتمع وتوشك أن تهلكه، منطلقا من وضع رأس الهرم في أسفله، ومتناغما – الى أبعد الحدود – مع فلسفة (فدوى).
فلسفة واحدة تتناسل فلسفات، وجوه عدة لعملة واحدة. أما (فاروق) فهو الذي يواجه هذا كله ومن أين لمعلم الرياضيات، أن يعرف هذا كله، وهو الذي اختار علما دقيقا ومنغلقا في أن معا؟ ألم يقل له أخوه (إن الرياضيات كالشعر لا تعلمها شيئا عن الحياة).
العالم أو الفنان في مجتمع كهذا، أو بعبارة أدق في مجتمع تقبض عليه مثل هذه الوجوه، فائض عن الحاجة، كائن طفيلي ! إنه حقيقة لا ينتمي الى هذا العالم، الذي يجد نفسه فيه غريبا وحيدا. وفاروق بطل ونوس، نموذج للمثقف الاختصاصي الذي يجد نفسه غارقا فيه إذا خرج أو تجاوز الخطوط الحمر لاختصاصه، يتوه ويفرق. إنه غير قادر على فك رموز واشارات العالم الذي يواجهه، لأنها خارج الأشياء التي تعلمها فهي عادة لا تدرس. تأتيه الرسالة فيعجز عن فك شفرتها وبالتالي لا يتلقاها. ليس ثمة تواصل مع الخارج. عالمه الداخلي لا يتواصل مع الخارج، وتلك مشكلة تدفعه نحو الانفصام. يتدخل المؤلف (الراوي) لينبش لنا – نحن القراء أو المتفرجين – ما يدور داخله. "الساعات تدور". عبارة يكررها المؤلف حتى تبدو وكأنها لازمة تخترق المسرحية كلها، انو إشارة أو علامة لحركة الزمن، والزمن يتحرك الى الامام وهو – فاروق – مسمر في مكانه ! والحركة لا تنطوي على المعنى الفيزيائي المباشر بل على ذلك الداخلي، النفسي، وما يجري فيه. ثمة عدم تساوق أو اتساق بينه وبين الوسط الذي يعيش فيه (يعيش خارج الزمن).
هل هو مسؤول فعلا عما جرى ويجري حوله ؟ هل ثمة خيار حر أمامه ؟
لا يبدو الكاتب متسرعا في إدانة بطله، بل إنه ينأى عن صورة البطل الايجابي أو البطل – الشهيد أو البطل – الضحية ليقيم نوعا من التوازن، متجاوزا الصورة المتفائلة أو الصورة – النموذج، بين سطوة الوسط أو المحيط (بكل قسوته) وبين خياره الشخصي،التوازن بعبارة أدق مسؤوليته هو. فهو مسؤول عن تقوقعه داخل جدران اختصاصه (الرياضيات) وعن غفلته تجاه الكارثة المحدقة، أو التغير الجهنمي الذي يحاصره لكنني أجد نفسي، في محاولة لاضاءة هذه الشخصية، من جوانبها كافة، أتساءل عن مدى قدرته حتى ولو نما وعيه، خارج اختصاصه وامتد، ليشكل الصورة – النقيضة أي المثقف الشامل – ذلك النموذج الذي غاب عن حياتنا الثقافية – على الفعل أو على إعادة الأمور الى نصابها؟
هل هو مسؤول فعلا عما جرى ويجري له وحوله ؟ هل ثمة خيار أخر أمامه ؟ إن فاروق ليس من النوع الذي يمكن أن يوسم بضيق الأفق أو السذاجة، بيد أنه ليس من أولئك الذين اشتعل وعيهم مبكرا، فعرفوا أن هذه النتائج وليد شرعي لتلك المقدمات، وأن خلف هذا الخراب، أصابع تحرك الأشياء حركتها الحقيقية، لقد انكفأ داخل اختصاصه (الرياضيات) وتشرنق داخل مفاهيم ومعادلات، ليس لها نظير في الواقع الموضوعي. هل بوسعنا القول إنه الموقف الشاعري، في مواجهة واقع ينضح فجاجة وفظاظة وسوقية ؟
إنه ليس شاعرا رومانسيا، تعيقه رؤيته المثخنة بالخيال، عن إدراك العالم الآخر، الذي يتعامل معه، بل شاعري في كونه النقيض للزيف، والغريب من المثال. لقد نما وعيه داخل اختصاصه، فحسب أن هذا كاف. وعندما أضاءت رحلته الزمنية القصيرة، وعبر المسرحية (أربع وعشرين ساعة) عقله وكشفت الطريق أمامه، قرر أن ينتحر! الوعي أو الاكتشاف مقرون بالموت، الموت نهاية المعرفة والمعرفة العاجزة ضرب من الموت. في مسرحية ونوس (رحلة حنظلة من الغفلة الى اليقظة) يرتبط الوعي أو المعرفة، بالموقف الايجابي من الواقع. أما في (يوم من زماننا) فيبدو مثل هذا الموقف (يوتوبيا) من نوع خاص، أو يبدو وعيا معطلا وقد أناخ الواقع بمتغيراته، التي تفوق الخيال، طيه. لم تعد صورة البطل – الضحية أو البطل – الشهيد تثير أحدا لأن الكارثة من الهول، بشكل أنها لا تمزق فحسب وانما تلغي، تبيد تصفي..
يتخلى الكاتب إذن عن النهايات المتفائلة، عن حنظلة وعن عرقوب (الملك هو الملك) وعن منصور (مغامرة رأس المملوك) ويهيىء لفاروق طقوس الموت وشاعريته واحتفاليته !
(لم يعد له زمان ولم يعد له مكان) فأية نهاية ايجابية لمن يختنق ؟
آخر الأحلام، آخر بقعة لم تصلها القذارة يجرفها التيار. زوجته تدخل منزل (فدوى)! كل شيء هش وكل شيء يتساقط، التلوث نهر أسود يدخل البيوت من جهاتها الأربع.
لا تحتل زوجة فاروق سوى مساحة متواضعة في النص، ليس لأنها تعيش على هامش الواقع، وانما لأنها صدى زوجها. لا يكاد القاريء أو المتفرج يتبين ملامحها في معمعة الشخصيات الأخرى، كونها أقرب الى النمط منها الى القراءة التي يجلجل صوتها.
إنها تحب زوجها، وتخشي عليه من العطب بل إنها ترى فيه (آنية خزفية ستتحطم إذا خرجت الى الدنيا الحقيقية). هذه الصورة تختزل حقيقة فاروق، سريع الانكسار. تريد الزوجة أن تحتفظ بآنيتها الزخرفية سليمة لكنها – في سبيل ذلك – تحطم نفسها هي إذن تتوحد في الزوج، تفرق فيه، وفي الوقت نفسه تنفصل عنه لتقاوم الكسر. زوجها المرآة وهي الصورة، ترى نفسها من خلاله واذا كانت قد تلوثت، فقد فعلت ذلك من أجله، وهو يدرك جيدا أنها (كانت جوهرة حتى تقوض العالم وانهاره).
في المشهد الخامس وقد استوعب فاروق وتمثل آلية الخراب، وتراكمت الصور المتلاحقة السريعة في ذهنه يستل سكين المطبخ ويتأمله متأملا في الوقت ذاته، حاله. يسقط ذكرياته على السكين يؤنسها فإذا هي تفجر وظيفتها الاستعمالية وتتحول في يده الى وجهها الآخر (أصابعها الناعمة تلتف على المقبض الخشبي. كان يحس هذا ا لالتفات لدنا ومثيرا). الدم يرعبه والسكين، التي يجب أن يغسل بها عاره صارت جزءا من الذكريات ! ويصل نداؤها اليه (هي السكين التي اشتريتها وبيدي سأغرسها في قلبي الذي تلوث دمه) (لقد أفسدت كل شيء، أفسدت كل ما هو جميل في حياتنا) تكف السكين بدلالتها المركبة عن كونها سكينا لتغدو أداة مهملة !
امرأة تريد أن تنتشل زوجها من هاوية تتسع فوهتها، وفي الوقت نفسه تريد أن تظل نظيفة. صراع يتشكل داخلها ويؤرقها، كصراعه هو مع العفن الذي يملأ الأمكنة كلها. هي تصارع نفسها وهو يصارع دولة الفساد. هو وهي في طرف والعالم الصغير في الطرف الآخر. أي تكافؤ هذا؟
لم يعد الصراع – كما في مسرحيات ونوس المسيسة مثلا – بين مجموعات وأفراد بل صار بين فرد أو اثنين والعالم الذي يعيشان فيه طه. صراع بين التلوث والنقاء لعله لم يعد ينهض على مقابله بين أقنعة تمثل مرجعيات سياسية – اجتماعية مباشرة لأن الذين ساروا في ركب الفساد، أو الذين روجوا لبضاعته، انزلقوا من مواقعهم وتخلوا عن انتماءاتهم الأساسية، ليصبحوا أشرس وأقذر من أعدائهم التقليديين. ويبدو هذا الوضع جليا في مسرحية ونوس (ملحمة السراب). هي تنهي صراعها مع نفسها، وهو أيضا ينهي صراعه مع العالم الصغير، ومع نفسه (زوجته دفعت الى الفساد من أجله) ويعي أن هزيمة خصومه مستحيلة، وأن تغيير الواقع، لمن لا مكان ولا زمان له، يعادل الانتحار، ويحزم حقائبه وينشر أشرعته ويقرر الرحيل، هي أيضا راحلة، هي التي تحبه والتي تلوثت لأنها تحبه. هي نصفه الآخر الذي لا يطاوعه الرحيل بدونه، إذ كيف يترك بعضا من أشلائه خلفه ويمضي؟(إذن سنرحل معا) (سنكون معا وسيكون رحيلنا كالزفاف) (ونمضي في البياض في فضاء من البياض) (ولكنك ملوثة وستبقعين البياض) (أرجوك لا تفسد الحلم) (كنت حجرا).
البياض في مواجهة السواد والبياض لا ينفك عن مدلوله : النقاء والتطهر والانغماس في لجة البياض يعني الفرص في النظافة، للاغتسال من عفن السواد. وتوكيد الكاتب على البياض واختياره لونا للرحيل، يعني أيضا أنه يدخل في نسق آخر، ويكتسب دلالة أخرى، إذ هو مرتبط بالموت، فيغدو الموت أبيض، لأنه – أي الموت – طريق للخلاص. الموت احتفال ! لأنه ينقي الروح ويخلص الجسد من عفنه. إنه بالنسبة لفاروق وزوجته يحررهما من التلوث.
الرحيل زفاف، أو سيكون كالزفاف، فالأشرعة البيضاء لها لون العرس، حياة ستولد من جديد. الرحيل. الابحار. ابتعاد عن الخراب والوحشة والفوضى. ليس ثمة طريق آخر سوى الانتحار فلقد أغلقت الدروب كلها، وانتفت الخيارات الأخرى أمام بطل ونوس وزوجته.. هل الموت على هذه الطريقة وفي مثل هذه الظروف انتصار على عالم غارق في العهر حتى رأسه ؟ قد يكون الحديث عن انتصار، يتحقق بالموت، نوعا من الآلية التي تنطوي على شفافية رومانسية، ولا تصمد أمام الواقع،لأن الموت في أبسط حالاته، انتفاء وتلاش، وعدم ولأن الطرف الآخر، يظل يمارس حياته ويزيد العالم وحشة. من هنا تمتد أصبع الادانة، غير المباشرة، لفاروق وان كانت تضيع وسط هذا الطقس الاحتفالي الذي يقيمه له الكاتب في النهاية.
وقد يكون لذلك الايقاع الزمني السريع ( 24 ساعة) الذي اختاره الكاتب دور في تحديد مسار الأحداث. فالبطل، وان تمثل بسرعة ما جرى إلا أنه لم يستطع أو بالكاد استطاع التقاط أنفاسه. إنه زمن موضوعي، أكثر منه مسرحي كما أشرنا الى ذلك وان كان المستوى الآخر للزمن المسرحي (الزمن الحاضر) (زماننا) يبرز، كعلامة فارقة في مسرحية (يوم من زماننا) ليدل. ودون مواربة، على الزمن الحاضر الذي ترتهن اليه الشخصيات، والذي تشكل خلفيته الفضاء الذي تتحدد مواقفها وأفعالها، في علاقاتها بالواقع، من خلاله، إن ماضي الشخصيات إذ يتوارى خلف حاضرها، يتوقف عن الفعل، وان أطل برأسه عبر الحديث عن وحدة فاروق، وصورة أمه الراحلة وطفولته. يمكن القول بزمن واحد يهيمن ويسود ومستوى واحد لا تخترقه أزمنة أخرى. ويقابل هذا الزمن الواحد، تعدد في الأمكنة، لكنها أي الأمكنة، لا تحظي في مسرحيات ونوس، بإرشادات خاصة أو وصف خاص بحيث يعطيك قراءة تلتحم بالقراءة الدرامية فتتحقق إضاءة شاملة تحيط بالنص ككل. ثمة خمسة مشاهد وخمسة أمكنة، ليس لها كيانها المميز (مكتب مدير الثانوية، أحد أروقة الجامع مكتب مدير المنطقة، غرفة الست فدوى، المطبخ في منزل فاروق). واذا استثنينا غرفة (الست فدوى) والى حد ما مكتب مدير المنطقة، فان المكان لا يرتدي أهمية خاصة لعله يترك للمخرج تشكيله.
غرفة (الست فدوى) تنطق دلالة واحدة هي : الغواية، وفيها من الالفة والاتساع ما يساعد الزائر على الدخول في عالمها، والشروع في البوح وتجاوز الكلفة.
(مرايا كبيرة تتوزع على الجدران، مرتبة بصورة تبرز المرء في كل جهاته. الاضاءة موزعة توزيعا أنيقا. تجويف في الحائط يخفي سريرا عريضا. لوحة لامرأة عارية..)
المكان هنا معد بعناية للتأثير في الزائر، وبالتالي فإنه يفعل فعله في الشخصيات وكأنه يعيد تشكيل أمزجتها هنا.
تلازم النزعة الملحمية معظم مسرحيات ونوس، وهي بالنسبة اليه مرادفة لايقاظ الوعي من جهة وعدم الاستسلام للإيهام، من جهة أخرى بيد أنه في (يوم من زماننا) بدا وكأنه استدرك المؤلف (الراوي) فالحدث مبني بطريقة تقليدية، من حيث نموه وصعوده نحو الذروة ومن ثم هبوطه باتجاه الحل وثمة خط واحد يمر عبر المشاهد كلها – خط فاروق – بعيدا عن استقلالية كل مشهد. المؤلف (الراوي) متعدد الوظائف هنا: يكسر الايهام، يمهد لحدث آت ويعلق على آخر مضى، يصف معاناة البطل، يؤكد على ما يرده الكاتب ضروريا وكأنه يضع خطا أحمر تحته، يروي جزءا من حكاية إحدى الشخصيات، يرسم بعض ملامحها.. إن دور الراوي يتقلص، كما يبدو لي، تبعا لميل الكاتب الى الأخذ بعين الاعتبار، تراجع النبرة السياسية – الاجتماعية وخطابها اللاهب، والاتجاه الى تقديم النص – الشهادة حيث أضحى الواقع عصيا على افتعال التفاؤل، وتبدو أيضا، في هذا السياق لعبة فدوى ونرجس، هامشية، كونها تعرض ما يمكن أن تدعوه تحصيل حاصل. أضف الى ذلك أن الجو المحقون بالتوتر قد لا يحتمل تسلية في غير موضعها.
(يوم من زماننا) شأنها شأن معظم مسرحيات ونوس الأخيرة، لا تحتفي بالمشهدي قدر احتفائها بالذهني – السجالي اذا صح هذا التعبير. قد يكون التوكيد على وضوح الرسالة، وسلامة تلقيها، هو ما يقلقه في هذه المرحلة.
نديم معلا ( ناقد وباحث مسرحي جامعي سوري)