تفصيل ما وقع في النهار الذي سبق عودة الصديق ومعه الرسالة وهي تطوي مبلغا من المال في صدرها افقت على الخدشات الدافئة لخيوط الضوء وهى تتزاحم باندفاع ثابت من الفتحات الضيقة للستائر فوق ظلال وجهي السابح في بركة أحلامه .
فتحت الثلاجة وشربت آخر جرعة ماء فيها ثم اطفأت الأنوار المنسية، وتأكدت من نظافة الملابس التي نمت عليها دون أن أدري ثم رتبت الأغطية وتأكدت من إقفال النوافذ تحسبا لاقتحام أي لص حسب ما يشاع في الحي هذه الأيام ، تحسست قضيب المفتاح في جيبي قبل أن القمه فتحة الباب وامسح درجات السلم ببطء شبيه بتسلسل التثاؤب الذي يتتابع على فمي كل صباح ، كان حارس العمارة ما يزال بنفس تكويمته – كما تركته في الليل – ملتفا بأغطية سميكة تعصر جسده الناحل ، ثم رميت بجسدي على أول حافة والتي ما لبثت وأن قفزت منها عندما زحزحني الفضول من مكانى لرؤية ما تحتويه لفافة كبيرة من البشر يتكالبون كزوبعة جامدة حول شيء يتوسط وقوفهم الشامخ وأستطعت أن أجد لرأسى فتحة ضيقة فوق كتف قصير لامرأة مسنة تئن فرائصها من الألم جاحظة عينيها باحمرار – يغرورق فيه الدمع -على مشهد طفلة تتمرغ فوق ساقية من الدم محتضنة بصدرها كرة صغيرة يبدو أنها جرت لاحضارها بعد أن قفزت الكرة من سور الحديقة القريب إلى الشارع فرطمتهما سيارة عاتية وهربت ، هذا ما استنتجته ، ولأن الأمر لا يهمنى ولأنني لا أستطيع فعل أي شىء من أجلها فقد تركت المشهد يبتعد خلفي إلى ان اختفى نهائيا من رأسي . تلمست فتحات جيوبي الضامرة واشتريت صحيفة ثم سحبت كرسيا استعمرته حتى حدود الظهيرة كنت خلالها أردد نظراتي الفارغة بين أوراق الصحيفة وجلساء المقهى الذين تتبدل وجوههم كل نصف ساعة، والحركات المشتتة للبشر من وراء النوافذ، والحوار مع المتسولين وماسحى الأحذية كما أخرجت من جيبي صفة المفاتيح التي تنتهي بمقص للاضافر وسكبن صغيرة، فأخذت أقلم أطراف اصابعي من الزوائد الميتة، والجلد اليابس ، وتحفيف الشعر المتكثف في ظهر الكف ، كما أخذت امرر السكين القصيرة بين حيثيات رأسي وصفحة الرقبة ومسام الأسنان كل ذلك في شرود ينتقل بي إلى أماكن بعيدة، وعندما شعرت أن الجوع قد بدأ ينهر أمعائي أعطيت النادل نقوده وخرجت دون تحديد لاتجاه معين فقد تركت قدمي وشيئا من تفكيري يقودان خطواتي المرتبكة إلى أن وجدتني أطرق بإحدى أصابعي على صديق قديم مر منزله صدفه بطريقي ، اعتذرت بسهولة عن انقطاعي الطويل عنه ، وأنبته بالمقابل على نفس السهو ثم أحضر لي فنجانا نصف ممتلىء من القهوة وعرضت عليه سيجارة من علبتي فرفضها – لا أدخن كثيرا ثم دخلنا في حوار جاد مستعرضين آلام الحياة وضيق صدرها، وشاتمين بعض الأصدقاء الذين هاجرونا دون تلميح ، واعتذرت بكبرياء عن عرضه الفاتر للغداء وعيناي تنظران بلهفة عارمة إلى غليان قدر الطعام المتربع كامير غاضب فوق سطح الطباخة .
تعمدت الدخول في قلب الزحام وانا أجر خطواتي اليائسة، كنت اتعمد ذلك عندما ينتابني شعور بالانكسار بأن اختار اكثر الشوارع صخبا وفوضى لأمشي فوقه دون توقف قريب ، ظنا مني أن ذلك يخلق شيئا من التوازن في نفسي لرؤيتي أشياء ووجوها مختلفة خاصة تلك الوجوه التي تنفجر براكين الحزن من عيونهم إلى أن اصطدمت بجسد صديق صومالي ، ولأن علامات العجلة كانت تتواثب من قامته الفارعة فقد أبحت له بارتباك ودون حذر عن حاجتي ، فجرني من يدي واركضنى خلف ظهره
– اسر ع فموعد الغداء بعد ثوان فقط .
– لا أريد أن اتسبب في ..
– لن تتسبب هيا.
وبعد خطوات طويلة انتهت بباب خشبي فتحه بطرف حذائه وأجلسني في أرض إحدى الغرف واختفى وبعد ثوان
بالفعل تدحرج إلى أذني مزيج من لغط باهت متبوع بصحن عريض تحيط به مجموعة ضخمة من الرؤوس والألسن يتزاحف بخفة – مثل تابوت روحى – إلى أن ركن مثواه فوق الأرض ، ثم خيم صمت خفيف للحظات قصيرة ارتفعت خلالها الرؤوس من سجدتها واركزت نظراتها في وجه الشخص . الذي يتربع في وسط الدائرة – في انتظار الصفقة التي يجب ان تتصاعد من كفيه ايذانا بالهجوم تبعتها وخزة تنبيه من صديقي – اغمس يدك – لا تكن أبله بعدها لم أر سوى الأيادي وهى تتشابك – كأخطبوط ميت – على محيط الصحن الذي اختفى نهائيا من أمام عيني منذ انطلاق الصفقة المشؤومة – ولم أتمكن من مشاهدته إلا بعد أن أصبح نظيفا رأيت فيه الملامح الفاترة لوجهي كما رأيت فيه صديقي يدخل في فمي قطعة كبيرة من البطاطس ويختفي .
وبعد ذلك من أجل الرجوع إلى غرفتي التي يصلني فحيح خوائها المرعب إلى هنا، سلكت نفس الطريق الذي أتيت منه مع اختلاف قليل هو: خلو الشارع ، وشعوري بالتعب ، وكذلك عدم مصادفتي لأي أحد أعرفه واختفاء حارس العمارة من مكانه ووجود رسالة مطوية تتدلى كيد بيضاء من فتحة الباب "عدت ليلا من السفر ولم أجدك . . … فلان ".
محمود الرحبي(قاص عماني )