مشروع مهم ولافت، تبنته قناة (الأورينت) التي يملكها رجل الأعمال السوري المعروف غسان عبود، تمثل في إنتاج سلسلة من الأفلام التسجيلية التي توثق لأحداث ومسارات وشخصيات الثورة السورية التي انطلقت شرارتها في الخامس عشر من آذار (مارس) عام 2011.
وقد واظبت القناة السورية المعارضة منذ مطلع العام 2012 على بث فيلم وثائقي جديد في سهرة كل يوم خميس، واستطاعت الحفاظ على هذا التقليد عبر جهود إبداعية خلاقة رصدت الكثير من الظواهر الهامة في سجل الثورة السورية، كما سعت في الوقت نفسه لإنجاز أفلام تستعيد الوقائع المرعبة التي عاشها السوريون في ثمانينات القرن العشرين، كمجزرة جسر الشغور (1980) ومجزرة حماه (1982) وطقوس الجحيم التي رواها سجناء قضوا عقوداً في سجن تدمر الصحراوي للسجناء السياسيين، الذي ارتكب فيه نظام الرئيس حافظ الأسد مجزرة أودت بحياة أكثر من 900 سجين عام 1980.
وينجز معظم هذه الأفلام السيناريست والصحفي السوري محمد منصور، الذي تفرغ في الآونة الأخيرة لصناعة الأفلام الوثائقية، وهو الذي سبق له أن أنجز العديد منها في سورية ولبنان والسعودية… وهو هنا يقوم بكتابة سيناريوهات الأفلام وإخراجها، بعد أن تواصل مع العديد من الناشطين الذين يقومون بتصوير موضوعات الأفلام داخل سورية بناء على اسكريبت مسبق.. وعمل إشرافي متواصل.
z المرجعيات الثقافية
يتحدث محمد منصور عن المرجعيات الثقافية التي يشتغل عليها في أفلامه قائلا: «الأفلام التي أنجزها عن الثورة السورية أو من وحيها، مرجعياتها الأساسية مرتبطة بواقع الثورة الإعلامي والحياتي الصعب. فلأول مرة يمنع نظام كل وسائل الإعلام من تغطية أحداث عاصفة تمر بها البلاد على هذا النحو. هذا الحصار الإعلامي غير المسبوق دفع الناس في البداية للتصوير بكاميرات هواتفهم المحمولة، وإرسال صور لبثها ضمن نشرات أخبار المحطات، ثم تطور الأمر إلى اقتناء جوالات بكاميرات ذات دقة أكبر، بهدف توثيق المجازر اليومية والعمليات العسكرية التي كان ينفي النظام حدوثها، فيما دباباته ومدرعاته تجوب البلاد طولا وعرضا.. ثم أصبح الناشطون يستخدمون كاميرات رقمية ذات دقة أفضل. هذا الواقع خلق مرجعية أساسية هي استخدام فن الشارع… كاميرا رجل الشارع، وتصوير رجل الشارع، والتعبير عن إحساس رجل الشارع.. وكانت الخطوة المهمة بالنسبة لي هي الانتقال بهذه الصور من كونها مادة للاستهلاك الإخباري، إلى مادة يتم الشغل عليها واستثمارها في بناء فيلم وثائقي يبقى في الذاكرة».
ويضيف منصور: «مقارنة بالأفلام الوثائقية الهامة التي شكلت ذاكرتنا، والتي كنا نشاهدها في المهرجانات، أو بعض الأفلام الوثائقية الأجنبية التي تعرضها محطات التلفزة العربية، تبدو مرجعية هذه الأفلام إذن مختلفة… إنها محاولة لكتابة تاريخ الثورة من خلال شهود عيان، هم ليسوا محترفي تصوير، أو زاوية رؤية، أو قادرين على خلق عالم متكامل للفيلم الوثائقي، لذا فإن هذا خلق لدي أعباء جديدة في كثير من الأحيان».
z وثائقي بروح درامية!
لاشك أن لأفلام محمد منصور «دراماها» الداخلية الخاصة التي تنبعث من تصادم الصور الواقعية وفجائعيتها.. لكنها فجائعية تهتم برسم الحالة التراجيدية دون الانزلاق إلى ميلودراما تفقد الوثيقة التي تُنبى مصداقيتها.. فالفيلم التسجيلي الذي يعمل عليه، يقوم في الأساس على فكرة وعلى صراع قيمي حاد وهو أمر لصيق بكل الأعمال الفنية التي تؤرخ لثورات، وإلى جانب الفكرة هناك لغة فنية تضفي جاذبية خاصة على السرد الوثائقي، ومن هنا نجد عنايته بالتوظيف الموسيقي ليس بالمعنى التزييني أو الجمالي، بل بالمعنى الدرامي… حتى لتتحول لديه الكثير من اللقطات المصورة بحس واقعي إلى لقطات تختزن الكثير من التعابير والانفعالات، التي يستطيع إبرازها بقوة في سياق أفلامه، ناهيك عن توظيف الأغاني لا سيما أغاني فيروز المسكونة في وجداننا جميعا مساحة من مساحات الحرية والحلم. من هنا يتحدث السيناريست والمخرج محمد منصور، وهو ناقد متمرس في متابعة الدراما السورية والعربية في الأساس، عن اتساع أفق الفيلم الوثائقي، وقدرته على منافسة الأعمال الدرامية ذات الحميمية الحكائية فيقول:
(الفيلم الوثائقي اليوم أصبح أفقاً واسعاً جداً يستفيد من كل الأساليب والأشكال… فهو يمكن أن يستفيد من الفكرة الدرامية لخلق مدخل متخيل لمعاينة عالم واقعي وحياتي وغير مصنوع، ويمكن أن يستفيد من اللعب بالزمن لخلق مستويات تعبيرية ودلالية كما في الرواية، ويمكن أن يستفيد من صيغة التحقيق الاستقصائي لعرض حالة ميدانية، ويمكن أن يستفيد من تداعيات الذاكرة أو العلاقة مع المكان لصوغ عالم شعري وخصوصاً حين يكون هذا الفيلم عن شخصية في لحظة معينة وفي مواجهة سؤال معين».
و حين نسأله أي تلك الأساليب اختار لإنجاز أفلامه… يجيب:
« إنطلاقاً من هذا كله، تركت للموضوع أن يقودني للأسلوب… وتركت للمضمون أن يفتح لي أفقاً للشكل… فتنوعت الأساليب في الأفلام التي أنجزتها، تبعاً لضرورات الهدف. لكن الشيء الأهم الذي شكل تحدياً مستمراً لي هو كيف أجعل الفيلم الوثائقي حالة فنية. بمعنى كنت أبحث عن إمكانية استخدام اللغة الفنية من أجل ألا يبقى الفيلم أسير مشاعر أو خطاب ثوري متقشف، ومن أجل ألا يتحول الفيلم إلى منشور سياسي، أو تحقيق تلفزيوني يسرد معلومات وحسب.
z كيف نصنع فيلماً عن الحولة؟!
يتابع منصور ليقدم لنا مثلاً على هذا الابتكار في الأسلوب :
«على سبيل المثال حين ضج العالم بأخبار مجزرة الحولة (في ريف حمص)، وقفت عاجزاً عن التفكير في كيفية صنع فيلم عن المجزرة لا يتحول إلى مجرد تجميع لمعلومات أو لمواقف إدانة لحدث يدين نفسه بنفسه. من هذا العجز ولدت لدي فكرة جديدة: لماذا لا أصنع فيلماً عن عجزنا عن إنجاز فيلم عن المجزرة؟! قررت أن أستخدم أسلوب الكاميرا الخفية لرصد ردود أفعال إعلاميين على فكرة الفيلم… وللإجابة على سؤال: كيف نصنع فيلما عن الحولة؟!
لا شك أن استخدام أسلوب الكاميرا الخفية التي عرفت باعتبارها مادة للتسلية واللهو، من أجل إنجاز فيلم عن مجزرة هو مغامرة قد تكون ذات ردة فعل معكوسة ومسيئة… لكنني قررت أن أخوض التجربة لأكتشف إمكانية الفيلم الوثائقي في استيعاب كل الأساليب والتقنيات التي تخدم رسالة فيلم ما.
دعوت زملاء إعلاميين إلى مكتبي وأخفيت الكاميرا، وقلت لهم أنني أريد مساعدتهم في التفكير بفيلم عن مجزرة الحولة؟ كيف أبدأ الفيلم؟ من أين؟! ماذا سأقول فيه؟ كيف يمكن أن أعرض صورا لأطفال مذبوحين بالسكاكين على الشاشة؟! وكيف يمكن أن أنهيه؟!
كانت ردود أفعالهم غاية في الصدق لأنهم تحرروا من عبء الكاميرا، وكانت تعبيراتهم وحماستهم وتخوفهم تلقائي وحقيقي. صار الفيلم بالنسبة لي في المونتاج: أن أعرض للمشاهد كيف يُصنع الفيلم في جو من الرغبة التفكير بصوت عال في بشاعة حقيقة المجزرة نفسها. تحول سيناريو الفيلم إلى مناقشة اقتراحات كيف نبدأ وماذا نقول وكيف نختم… ثم ترجمتها بصرياً على الشاشة. وكانت أقسى الاقتراحات على سبيل المثال من الزميلة رولا حيدر التي اقترحت أن نختم الفيلم بعرض صور أطفال قرية الحولة المذبوحين وصور أطفال بشار الأسد وهم يلعبون… كانت المقارنة البصرية متروكة لدرجة حساسية المشاهد… وكنا نجرب كل الاقتراحات كي نكسر الشكل الكلاسيكي للفيلم نفسه في تجربة جديدة وخلاقة لاقت صدى مميزا».
z تفضل أخي عمر!
طريقة منصور الخاصة في المزج بين المقابلات الحية التي يجريها مع الشخصيات الرئيسية التي تظهر في أفلامه، وبين الوثائق العديدة والمباشرة التي يصورها أو يعثر عليها ليعيد توليفها معا في سياق خلاّق رغم بساطة الأدوات، لأن النص هنا يسهم بشكل أو بآخر برفع الصورة إلى مصاف التوثيق الفني. لكن رحلة إلباس الوثيقة ثوباً فنياً لا ينال من صدقيتها بل يؤكدها ويبلورها… لا تبدو رحلة سهلة فالحصول على المادة المصورة لبناء الفيلم، شكل تحدياً حقيقياً ليس في اختيار الشكل الفني فحسب، بل في تلمس جوهر الموضوع بين ركام الصور الملتقطة من سياق تصوير يومي لاهث… وربما خلق هذا التحدي في البداية الرغبة في إيصال وجع الناس الممنوعين من دخول الإعلام عليهم، قبل أن يغدو حالة ديناميكية استطاع محمد منصور أن يجد كل الحلول الممكنة للتكيف مع ضروراتها وصعوبتها… وهنا يروي لنا الكثير من أسرار مطبخ تلك الأفلام وتوليفة صناعة سيناريوهاتها، فيقول:
«بعض الأفلام كتبتُ السيناريو لها بناءً على مادة مصورة بلا سيناريو، وقمت بإخراجها اعتماداً على ما تتيحه عمليات المونتاج من بناء عمارة جديدة من ركام عمارة أخرى أفرزها طوفان الصور التي ترد إليك من ناشطين حول موضوع ما… وهذا يتطلب قدرة كبيرة على الذوبان في تفاصيل لم تكن أنت شاهداً على تصويرها، لكنك كنت قادراً على إعادة إنتاجها مع الحفاظ على الروح نفسها طبعاً… كما حدث مثلاً في أول فيلم صوره ناشطو الثورة في مدينة حمص وقمت بإنجازه. كانت المادة التي وصلتني بداية عبارة عن جولة ميدانية يقوم فيها الناشط عمر التلاوي في حي باب السباع الحمصي الشهير، ليتحدث عن الحصار الذي يعاني منه أهالي الحي من كل النواحي الغذائية والطبية والحياتية.. إلى درجة امتناع البلدية عن ترحيل القمامة، وإقامة حواجز تمنع من خلال حصار شامل ترحيل أكوام القمامة حتى في سيارات أبناء الحي. تأملت في الصور فرأيت فيها تعبيراً عن فكرة العقاب الجماعي، وبدل أن يكون العمل جولة ميدانية، بحثت عن عمر، تأملت في إصراره على قول الحقيقة وهو مطارد من قناصة الموت وعناصر الاعتقال… جعلت منه شخصية درامية في الفيلم، واستفدت من حوار دار خلف الكاميرا بين عمر والمصور أبو بلال الحمصي وهو يقول: (معنا الناشط عمر التلاوي ممثل تنسيقيات حمص القديمة يريد أن يحدثنا عن أوضاع البلد… تفضل أخي عمر…) فاتخذت من العبارة الأخيرة عنواناً للفيلم الذي صار اسمه (تفضل أخي عمر)… فكانت تلقائية العنوان حالة إيحائية تكرس الرغبة في قول حقيقة الألم والمعاناة أمام الكاميرا وفي فضاء الفيلم التسجيلي»
z تنوع الأساليب
استفاد محمد منصور من التواصل الإعلامي بين قناة الأورينت التي كانت أول قناة تتبنى حراك الثورة السورية منذ أول مظاهرة لها في سوق الحميدية بدمشق في الخامس عشر من آذار عام 2011، وبين الناشطين الذين اعتبروا هذه القناة صوتهم، وبعد نجاح تجربة فيلم (تفضل أخي عمر) تطور التواصل مع ناشطي الثورة عبر تنسيق بالغ الحيوية تابعته الزميلة سيلفا كورية التي شاركت في تحقيق كثير من الأفلام وفي ذلك يقول:
«تطور الأمر بفضل المناخ الذي هياته قناة (أورينت) التي احتضنت هذا المشروع، صار الناشطون يتعانون معنا إما في عرض أفكار من واقع مناطقهم لإقرار ما إذا كانت تصلح لفيلم وثائقي، بعد إعطائهم سكريبت أولي للتصوير، أو في طلب أفكار معينة منهم، يقومون هم بتصويرها… وفي كل الأحوال أقوم بكتابة السيناريو وأتابع إخراجه… كما تمكن زملاء إعلاميون بعد السنة الأولى من عمر الثورة السورية وما حققه الثوار من تقدم على الأرض، من دخول سورية وقاموا بتصوير أفلام وثائقية، قمت بكتابة سيناريوهات وإخراج بعضها، أو تولوا هم إنجاز المادة التي صوروها عبر صيغة من التعاون الفني الخلاق وكان من أبرز هؤلاء الزميل إبراهيم مهنا الذي صور في ريف حمص أكثر من ثمانية أفلام، تميزت بجودتها العالية على صعيد تقنية التصوير الاحترافي ومستواه.. والزميل عبيدة بطل الذي صور وحقق فيلمين في مخيم يلاداغي لللاجئين السوريين في تركيا، وثالث في تفتناز قرب إدلب… ومحمود الزيبق الذي صور فيلمين في ريف إدلب كتب سيناريو لأحدهما، وأعد مادة الفيلم الآخر.
z توثيق و تاريخ
يتحدث محمد منصور بحب عن الزملاء الإعلاميين الذين تعاونوا معه في إنجاز بعض هذه الأفلام، ولعل هذا الحب نلمسه أيضاً في تعدد الصيغ التي قدمها للتعاون معهم، فمرة هو كاتب سيناريو لفيلم يخرجه إبراهيم مهنا: (توقيع باللون الأحمر) ومرة هو مخرج لفيلم كتبه محمود الزيبق (لواء الموت) وأخرى هو مخرج وسيناريست لفيلم أو أكثر يصوره ويحقق مادته عبيدة بطل… ناهيك عن تعاونه الناجح مع ناشطين عديدين أمثال: زكي الادلبي الذي ساهم في تصوير فيلم (ابتسامة فوق الركام) ومحمد سعيد الذي صور فيلم (حارسة الغياب).
ولعل هذا الحب نابع أيضاً من إيمان محمد منصور بأهمية الأفلام التسجيلية، لا سيما في التأريخ لمرحلة مفصلية من تاريخ سوريا، يقول:
«التوثيق عبر الأفلام، في كل المراحل مهم. إنه عملية مستمرة لكتابة التاريخ بلغة سمعية وبصرية متنوعة القدارت والأساليب… وهو اقتراب حي من نبض الناس وحكاياتهم اليومية، يشبه العمل الصحفي أو يتقاطع معه، لكنه لا يكتفي به بالطبع؛ لأن العمل التوثيقي يحتاج للغة تحليلية في السرد أو الصورة مدعومة ببعد فني»،. ويشير إلى انه «ورغم كل المصاعب التي تواجهها عملية التوثيق أثناء الثورة وأثناء اشتعال الحدث، إلا انها تبقى أكثر صدقاً، لأنها ابنة اللحظة الحارة المسكونة بالوجع والألم والخوف».
وحول مناخات العمل التي يتم من خلالها التوثيق ليوميات الثورة، والتطورات في رؤية صناعة الفيلم، يقول: «كثير من الأشخاص الذين يتحدثون في الأفلام التي أنجزناها لم يستطيعوا أن يظهروا بوجوههم المكشوفة خوفاً من الملاحقة الأمنية، كثير منهم كان يرغبون في تغيير نبرة أصواتهم تحسباً للاعتقال، لأن لهم ملفات لدى أجهزة الأمن كما يقولون. هذا يجعل الناس تقول الحقيقة فقط، ليس هناك مجال لا للاستعراض ولا لادعاء بطولات».
z مفكرة ثائر دمشقي
ويشير منصور إلى بعض حالات الخوف والإرباك التي كانت تكتنف تصوير بعض الأفلام بعد أشهر من انطلاقة الثورة فيقول:
« حين كنت أحضر مع مجموعة من الشباب لتصوير فيلم عن دمشق في قلب الثورة وعن الأسباب التي تدفع الدمشقيين لهذه الثورة ومنها تشويه مدينتهم وسرقتها وهم الشغفون بماضيها قبل حاضرها في فيلم أسميته (مفكرة ثائر دمشقي) كان التواصل حينها مع الناشطين الذين يصورون لي مقاطع الفيلم في قلب دمشق صعباً جداً بسبب التشديد الأمني، وخصوصاً أنني طلبت تصوير مقطع لأحد ضيوف الفيلم في قمة جبل قاسيون المطل على دمشق لإعطاء بانوراما بصرية للمدينة في زمن الثورة ومن قلب حراكها… وهي منطقة لا تخلو من مظاهر عسكرية.. وأثناء تصوير الفيلم تم اعتقال ثلاثة منهم، وتوقف إنجاز الفيلم ثم عدنا لاستكماله. هناك تاجر دمشقي ظهر ملثماً لكنه طلب منا قبل بث الفيلم أن نموه ما ظهر من الوجه الملثم أيضاً.. كانت العبارة التي تقال لنا دائماً: (هذا نظام مجرم يتفنن في الطريقة التي ينتقم بها من الناس لأتفه الأسباب) هذا الخوف يشعر الناس بالمسؤولية ويدفعهم لقول ما يجري فقط… لكن هذا لا يعني بالمقابل أن الناس بلا خوف سيختلقون روايات عن بطولات لم تحدث بالضرورة. لا… ثمة وسائل للتحقق ولخلق ذلك الفضاء الدرامي الحار الذي يتفاعل فيه المشاهد مع دراما الواقع ومعطياتها… لكن ربما تكون الحماسة ومقدار الإثارة في تلقي صور أناس يعيشون تحت الخطر ويواجهون الحديد والنار، أقل تأثيراً بعد انتهاء الحدث».
z صور بعد عام
إيمان محمد منصور بأهمية الفيلم الوثائقي ودوره في كتابة التاريخ حفزه على إنجاز أفلام عديدة عن أحداث موجعة في الذاكرة السورية، كمجزرة جسر الشغور التي ارتكبها نظام حافظ الأسد عام 1980 والتي أنجز عنها فيلم (الرسوم المدماة) ومجزرة حماه الذي صور في الأردن مع عائلات سورية شهدت المذبحة التي ارتكبها النظام عام 1982 في فيلم متميز أسماه (ذاكرة الرماد) وبث في الذكرى الثلاثين للمجزرة. وفيلم (مملكة الجحيم) الذي رصد شهادات سجناء دخلوا جحيم سجن تدمر الصحراوي الرهيب وأحدهم قضى فيه (24) عاما… لكن هذا الإيمان بالتاريخ جعله يفكر بطريقة معكوسة أيضاً: كيف يمكن أن يتحول الخبر، أو الصورة الخبرية تاريخاً؟، ومن هذا السؤال ولدت فكرة فيلم (صور بعد عام) يقول:
«هذا السؤال أجبت عليه تماماً… كنت أفكر هل يسطيع الفيلم الوثائقي أن يجعل من الخبر الذي يتم تداوله تاريخاً يوثق لمرحلة، أردت أن أجيب على هذا السؤال بشكل عملي بعيداً عن التنظير، فخطر لي أن آخذ خبرا هز وسائل الإعلام العربية والعالمية في الثورة السورية. إنه خبر اقتحام الأمن السوري والشبيحة لقرية البيضا التابعة لمدينة بانياس على الساحل السوري في الثاني عشر من نيسان (إبريل) (2011)، حيث تسرب إلى وسائل الإعلام أول فيديو يظهر رجال الأمن وهم يدوسون الناس في ساحة القرية ويركلون وجوههم وهم مقيدو الأيدي بأحذيتهم… وكان وقع هذه الصور أشبه بالصدمة على الرأي العام السوري والعالمي، إلى درجة أن التلفزيون السوري جند الكثير من المحللين كي يدعوا أن الصور ليست في سورية بل من العراق، وهؤلاء ليسوا الأمن السوري بل البشمركة… قبل أن يثبت صحة الصور ثبوتاً قاطعاً لأن أحد أبناء القرية الذي شوهد وجهه بوضوح فيما بات يعرف بـ (فيديو البيضا الشهير) ظهر في فيديو آخر وهو يعرض هويته السورية ويكذب الإعلام السوري»، يتابع: «عدت إلى هذا الخبر لأنجز عنه فيلماً بعنوان (صور بعد عام) صورت فيه حالة وسائل الإعلام ليلة بث تلك الصور، وكيف انتشرت كالنار في الهشيم، والمعركة الإعلامية التي خاضها التلفزيون السوري لنفي ما حدث، والمعركة الشعبية التي خاضها أهالي قرية البيضا لتأكيد أن قريتهم موجودة على الخارطة السورية، حين قاموا بتصوير الساحة وبعث أبناء القرية بجوالاتهم وبثوا وثائق تؤكد تعرضهم للإذلال… ثم رويت خلفية اقتحام القرية أساساً، وما تلا ذلك من تداعيات على النسيج السكاني للمنطقة المتنوعة طائفياً، وعدت لأخذ شهادات من أبناء القرية بعد عام على نشر تلك الصور… وكيف ينظرون إلى ما جرى لهم، وكيف يتطلعون للمستقبل… فتشكل لدي من كل هذا قصة متكاملة، خرجت من خبر لتغدو لوحة بانورامية عن حدث سيبقى في ذاكرة الثورة السورية ومن آلام وصور أناسها».
z حارسة الغياب
من قائمة الأفلام الثلاثين التي أنتجتها قناة الأورينت وصارت رصيداً هاماً للثورة السورية والذاكرة السورية يستوقفنا فيلم «حارسة الغياب» وهو من إخراج وسيناريو محمد منصور، إنه فيلم صافع على الرغم من بساطة الصور، لأنه فيلم محمول على بعد تراجيدي حقيقي، فانت هنا أمام شخصية حقيقية من لحم ودم، شخصية تقربنا من الروايات و الأفلام العالمية رغم بساطة الحوار والتصوير، ما يجعلنا نطرح الكثير من التساؤلات: ما معنى أن تصبح الأمكنة خاوية من أصحابها، ما معنى أن تتحول امرأة عجوز إلى حارسة غياب؟
الفيلم يبدأ بصورة هذه المرأة العجوز «أم احمد»، امرأة تدور في القرية التي خلت من سكانها ، تطرق بعكازها على أبواب البيوت، ولا أحد فالجميع نزحوا من الموت الموجه إليهم من دبابات الأسد، تقول العجوز أم أحمد التي تقوس ظهرها و انكسر:
«يا حيف ع الشباب… يا حيف ع الزلام يا حيف ع الجدعان. لك يا حيف.. كلب يرحلكم؟ ما بيسوى شحاطة… يا حيف ع الشباب والزلام تدشروا» تتركوا «هالدار»..
ولو انتقلنا إلى مشاهد فيلم «حارسة الغياب»، والذي تشكل قرية «منغ» مسرحه، تلك القرية التي أضحت شرارة لفوهات دبابات نظام الأسد بسبب مجاورتها لمطار عسكري ينكل بها، فإنها مشاهد الفيلم تتوزع بين صور متعددة: قصف دمار بيوت، جمال طبيعة، فوهات دبابات موجهة للقرية، ثم حديث عن حركة نزوح وصولا إلى خواء القرية كلها من سكانها وبقاء أم أحمد العجوز التسعينية وحيدة تدق أبواب بيوت رفيقاتها وأبنائها وأهل قريتها؟! ثم مشهد لهذه المرأة و هي تغني و تلهث و كأنها تريد أن تؤنس القرية من كلّ هذا الخواء. رهافة آسرة في بناء لوحة شعرية نابضة بالتراجيديا يقدمها محمد منصور المخرج والسيناريست معاً، وأمام هذه المشاهد، لابد أن تسكن صورة ام احمد في الوجدان، وهي تقبع هناك وحيدة.. تحرس صمت الغياب.
z لغة شعرية!
حضور اللغة الشعرية في سياق بصري واقعي وأخاذ كما في فيلم (حارسة الغياب) مثلا… يطرح سؤالا حول استخدام منصور للغة الشعرية كصفة متلازمة مع سيناريو معظم الأفلام التي يكتبها، وهنا يقول:
« اللغة الشعرية تطغى على معظم الأفلام الوثائقية التي قدمتها، لكنها ليست وصفة جاهزة. هناك أفلام تقوم على الاستقصاء الميداني، وعلى سرد كم كبير من التفاصيل والوقائع، لا تنفع اللغة الشعرية معها على الإطلاق. اللغة الشعرية تقدم الحالة… الحالة التي يعرضها الفيلم في سياق تأملي أو تحليلي من أجل أن يحولها إلى أيقونة ملتقطة من سياق الحياة اليومية كما في فيلم (حارسة الغياب) الذي يروي قصة عجوز هجر أهل قريتها كلهم القرية… وبقيت هي وحدها هناك تحرص الصمت والغياب وتدق بيوت من رحلوا. هذه اللقطة النادرة والثمينة من سجل يوميات الثورة لا يمكن أن يكتب عنها إلا بلغة شعرية تدعوك لمعايشة الحالة وفهم مظاهر ألقها وخفوتها في الفضاء الروائي العميق… وإلا لتحول الفيلم إلى حكاية تقريرية تصلح لتقرير إنساني في ختام نشرة أخبار وليس كمادة لفيلم».
ونوه منصور إلى ضرورة التمييز:
«بين اللغة الشعرية كفضاء يخلق بعداً تعبيرياً للصورة في الفيلم الوثائقي… وبين اللغة الإنشائية باعتبارها لغة مزركشة لا علاقة لها بلغة الإخراج الذي يجب أن يسير حتى في بنائه المونتاج في إيقاع شعري يعكس بطء الحركة التراجيدية، وحزن الموت، وهذيان الفرح بأسلوب حي ونابض».
z توقيع باللون الأحمر!
من الأفلام التي تلفت النظر في هذا المشروع التوثيقي الهام فيلم «توقيع باللون الأحمر» الذي صوره وأخرجه إبراهيم مهنا، وكتب له السيناريو محمد منصور.
هل تملك نفسك عندما تشاهد الفيلم الوثائقي «توقيع باللون الأحمر» دون أن تبكي و تغص روحك بدمع دفين على «مهيد» الفنان التشكيلي الذي يرصد الفيلم سيرته مع الثورة وصولا إلى استشهاده بعد انتهاء تصوير المقابلة الأساسية معه لهذا الفيلم، حيث تسأل نفسك مرارا و أنت تراه يا الله كم كان قريبا مني… متى عرفته عشت معه دخل في وجداني، وهل ذلك في الحلم أم في الحقيقة. تلك الأسئلة التي لن تجد جوابا عليها لأن مهيد الذي عرفت قد مضى ولن تلتقيه ثانية، ولأن بنية الفيلم قائمة على إشاعة هذا الجو من الألفة التي تجعل من لغة السيناريو وطريقة الإخراج سباقاً محموماً لنقل مهيد من الشاشة إلى الجلوس بجانبك في بيتك… ثم يأخذك وإياه في قمة الحزن كي تقوم بوداعه وتشييعه والغناء له مع عبرات أمه، التي تستعيد بصوتها المجروح أغنية شريفة فاضل الشهيرة عن ابنها الشهيد أيضاً: (طبعاً ما انا أم البطل).
يتخذ الفيلم من شخصية «مهيد»، محورا لكي يقص علينا من خلال المادة التسجيلية كيف يرى هذا الرجل الفنان الثورة السورية.. وكيف يرى نظام الأسد الظالم، بل كيف يجعل من اللون خيطا من خيوط هذه الثورة.. خيطا مرتبطا بالمظاهرات.. وبتشييع الشهداء.. بل بالتوقيع الأخير على شاهدات القبور. مهيد الشاب الذي ترك إقامته في إحدى الدول الأوربية ليلتحق وبطريقته بركب الثورة، لذا فإن الفيلم يمضي بتصعيد درامي لحكاية هذا الشاب، فنراه يلعب باللون… يخرج في المظاهرات، نرصد ردود فعله من تهديم النظام لبيتهِ الحُلم، بيته الذي يشكل مسرحا ممتدا من الطبيعة التي تحيط به، إلى شغب الوانه، ففي إحدى المشاهد الحية، بل أثناء تصوير «مهنا»، للفيلم، يصطدم «مهيد»، بأن بيته هدم بشظايا مدفعية النظام. نراه ينفض غبار الهدم عن لعبة في صالونه… يشعر بالغضب، فيحكي و يحكي عن ممارسات النظام وشبيحته، لكن المفارقة المفجعة، هي ذلك التصعيد التراجيدي لأحداث واقعية، وهي أن يصبح مهيد واحدا من شهداء مدينة «القصي» في ريف حمص.
z رسالة للعالم
لاشك أن هذه الأفلام الوثائقية التي أنتجتها قناة (الأورينت) بإيمان عميق بالمشروع، والتي ينجزها مجموعة من الشباب المبدع، ستتكرس أهميتها الفنية والتاريخية مع مرور الوقت… فهي على صعيد الكم شكلت تحدياً للحاق بحدث يومي لا تنقطع مفاجآته، وهي على صعيد النوع كرست لغة فنية راقية في الشكل يمكن دراسة مزاياها وعيوبها في ضوء ما أتاحته الميديا الحديثة من وسائل كسر السوريون الحصار المفروض عليهم، وهي صرخة حرة متحدية للصمت وإلغاء الذاكرة في المضمون… فهي تهتم في توصيل الرسالة للجميع بعكس التقارير الإخبارية التي تكون أبوابها مغلقة ومحكومة بالاستهلاك اليومي لنشرات الأخبار.. وهي تهتم بقول شيء للتاريخ عما جرى في عام 2011 وما تلاه في سورية الخارجة من زمن الصمت والقمع إلى الحرية
أخيرا لابد من التنويه بأنه ومن البديهي أن حدثا بحجم الثورة االسورية لا يمكن لأي فيلم مهما بلغ زمنه أن يستوفي كل جوانبها، ولا حتى عشرات الساعات والأفلام…
فاتــن حمــــودي
شاعرة وكاتبة من سورية