قبل الموت بقليل
“ما الذي نفعله؟” “إننا نعود إلى البيت” في الطريق إلى البيت كنا. هناك مقاه ومطاعم وحانات كثيرة جلسنا فيها. لم يكن لدى أحد منا فكرة عن بيته الشخصي الذي سيعود إليه بعد ليلة غامضة تغص بالذكريات. لقد كنا غرباء في باريس. لو اننا توقفنا عن الضحك لاكتشفنا أن العالم كان صامتا من حولنا. ما الذي كنا نفعله ليلتها؟ لا شيء وكل شيء. رسامان وشاعر وكاتبة انتهت خطواتهم بهم إلى ساحة الباستيل. اقترحت أن نذهب إلى السجن. صنع أحد الرسامين دوائر في الهواء. قالت الكاتبة “أنا أفهم ما معنى أن تكون باريس على هيأة دوائر” اما الرسام الآخر فقد اقترح علينا أن لا نثقل حديثنا بالزخرف ونذهب مباشرة إلى الحقيقة. ولكن أين تقع الحقيقة؟ لم يسأله أحد. لن يكون الذهاب إلى السجن ملزما لأحد. بدلا من ذلك صرنا نبحث عن مقهى. ولأننا لم نكف عن الضحك فقد صار علينا أن نستفهم عن معنى الموت الذي كنا نسخر منه. كان هناك شخص خامس لم يحضر بسبب موته. لو كان بيننا لكان الأكثر ضحكا. “لقد ذهب إلى بيته” قلتُ وأنا أعرف أنه كان يتمنى أن يُدفن في البانثيون، مقبرة العظماء إلى جانب حبيبه جان بول سارتر. “سيجد هناك كل ما حلم بقراءته من كتب” قالت الروائية وتذكرت أنها اعارته قبل موته نسختها من رواية مارسيل بروست (البحث عن الزمن الضائع) قالت “كان يجد بيته في كل لحظة بفتح فيها ذلك الكتاب” لقد اهتدى صديقنا الميت إلى بيته قبل أن يوافيه الموت. فكرة أن تكون موجودا في كتاب ما هي فكرة ساحرة. قال أحد الرسامين “حدثني ذات مرة عن فلوبير. قال إنه ينوي كتابة ذلك النص الذي حلم مؤلف مدام بوفاري أن يكتبه عن اللاشيء. كان النادل حينها قد جلب لنا خمسة أقداح من النبيذ. أربعة حمراء فيما كان الخامس أبيض. كان صديقنا الميت يهوى شرب النبيذ الأبيض. حين تركنا المقهى التفتنا إلى ذلك القدح. لا يزال ممتلئا. لم يشرب منه صديقنا شيئا.
هذيان هندي
“ما الذي نفعله؟” “إننا نعود إلى البيت” هل قلتها لمربية ابني ذات الأصول الهندية؟ صارت المرأة تنظر إلى الأرض بطريقة دائرية. ربما تحرك بها المتر المربع الذي كانت تقف عليه. بيتها لا يزال في البصرة فيما أحد أبنائها لا يزال أسيرا في إيران، وهو لا يعرف عنوانا لعائلته سوى ذلك البيت المستأجر في بغداد. لو أنها عادت إلى بيتها في البصرة لضاع الولد. سيكون عليها أن تنتظره هنا إلى الأبد. سيكون لضياعها معنى. أخذ الولد معه البيت وغاب. غاب الاثنان معا. الولد والبيت. المرأة المسيحية، ذات الأصول الهندية التي لا تعرف لها بيتا في العالم سوى ذلك الذي تركته مضطرة في البصرة تصر على البقاء في بيت مؤقت ببغداد، خشية أن يعود الولد في أية لحظة فلا يجد بيتا يئويه. بعد سنوات التقيت الولد وقد عاد من الأسر. كلمني كمن يهذي. كانت لديه حكايات، ركب بعضها فوق البعض الآخر. كان والده ينظر إليه بأسى. الرجل الذي عرفته صامتا قرر ذلك اليوم أن يتكلم. أخبرني أنه حين جاء إلى البصرة من الهند لم يكن قد قرر الإقامة. “كنت بحارا في سفينة رست لتفرغ بضاعتها. غير أنني ما أن رايتها حتى اضطرب ميزاني. لقد انمحى أثر بيتي هناك كما لو أنه لم يكن لأبدأ بتشييد بيتي هنا. في البصرة حيث عشت وحيث تمنيت أن أموت” قال لي. كان ينظر إلى ابنه بحزن. لا يعرف الابن العائد من الاسر شيئا عن بيته في الهند.
الحقيبة بيتاً
“ما الذي نفعله؟” “إننا نعود إلى البيت” وهو البيت الذي لم أغادره بعد. ذلك عنوانه كما لو أنه لم يتحرك من مكانه. لقد حملته معي إلى القطار وتجولت به بين مناظر طبيعية، لم يرها من قبل. وضعته في علبة ركنتها في إحدى زوايا الحقيبة. زاوية ميتة لن تصلها يدي وهي تغير محتويات الحقيبة بين سفرة وأخرى. بقي ثابتا في مكانه هناك فيما الحقيبة تتنقل بين الفنادق. ألهذا كلما رأيت حقيبة، خُيل إلي أن هناك بيتا بسكنها؟ يحمل المسافرون بيوتهم معهم. في كل طائرة استقلها أنظر إلى خزانات الأمتعة متخيلا أشكال البيوت التي ترقد هناك. غرف ومطابخ وحمامات وممرات وأبواب وخزانات ملابس ومكتبات وكراس ومناضد وصناديق لحفظ الأوراق وأخرى لحفظ الامتعة. كل حقيبة هي بيت يحمله المرء معه حين يكون غريبا. كنا نقف في مطار ستكهولم، أنا وزوجتي قرب حزام الحقائب حين رأينا حقائبنا الثلاث من بعيد، لم تبد زوجتي رغبة في التقاطها. نظرت إليها حائرا. لم تسألني “أهذا ما تبقى؟” كنت أتمنى لو أنها نطقت، غير أنها ظلت صامتة، فيما مرت الحقائب من غير أن نمد إليها أيدينا. قلت لنفسي “دورة أخرى لا تؤثر في زمن الانتظار. لا تزيد ولا تنقص” اقتربت الحقائب ثانية فإذا بزوجتي تخرج من صمتها “أليست هذه حقائبنا؟” هرعت إلى الحقائب وأخرجتها من الحزام. حين وقفنا إلى جانب الحقائب كان علينا أن نفكر إلى اين نذهب. كنا من غير بيت، نذهب إليه.
أمنية تحت المطر
“ما الذي نفعله؟” “إننا نعود إلى البيت” كنت في الطائرة الكويتية. قادما من لندن في طريقي إلى الكويت. حدث ذلك عام 2007. باستثناء النوم، وهو الذي يجافيني في السفر فإن الأشياء التي يمكن أن أفعلها محدودة. أقرأ كتابا أو أرى فيلما سينمائيا أو استمع إلى الموسيقى فلا أشعر بالضجر. على العموم أنا لست من الناس الضجرين. كان لدي دائما ما أفعله. لا أزال كذلك حتى هذه اللحظة. لذلك لم يكن لدي زمن للانتظار. فأنا لا أنتظر شيئا مفاجئا. أجلس في المقهى في انتظار صديق. ذلك ما يجعلني أقع في مصيدة الأمل. وهو أمل أصنعه مثل مكيدة لنفسي. بسبب تلك المكيدة يجدني صديقي المنتظر في أجمل حالاتي. في تلك الطائرة رغبت يومها في أن أتابع مسار الطائرة. كانت الخريطة تظهر أمامي بأسماء المدن التي نمر فوقها. فجأة ظهرت الموصل. كنا إذن فوق العراق. العراق كان تحتنا. العراق الذي لم أره منذ عشر سنوات. تحت كان العراق. “أسيبقى أبد الدهر هناك؟” سألت وأنا أتحاشى النظر من النافذة. شيء منه لن يظهر. الغيوم تقف بيننا. كانت هناك دائما غيوم تقف بيننا. غير أن شبحي أقنعني أن في إمكانه أن يخترق تلك الغيوم. “ولكن مهلا. إلى إين؟ هل تعرف أحدا هناك” كان علي أن أمسك شيئا مني من التصرف بنزق. لن يفهم قائد الطائرة معنى أن يطلب راكب القفز من الطائرة. “ليس لدي تصريح في أن أفتح الأبواب أثناء التحليق” سيقول لي القبطان. ضحكت وكنتُ على وشك البكاء. أيمكن أن أسقط على جسر المسيب؟ لم تخطئ الطائرة طريقها مثلما كنت آمل. لقد ظهرت بغداد على الخريطة. كانت بغداد تحت وليس العراق. بيتي لا يزال هناك. نعم. بيتي كان هناك. ليس من بيت لي سواه. بعده صارت كل البيوت كيانات مجازية. كان بيتا وليس مأوى. “ما الذي أفعله هنا؟” ثلاثون ألف متر ارتفاعا تكفي لاستدعاء الملائكة. كنت إبرة البوصلة السائبة. كنت صفرا من غير يسار أو يمين. كنت رقما وحيدا من غير أن يكون له معنى. خارج الحساب أقف. أنا الطائر المهاجر الذي يعرف أنه لن يعود إلى وطنه. هل كانت السماء تمطر؟ سأكون سعيدا بذلك المطر. روحي هناك. لربما يظهر بيتي حين يختفي الغيم. كانت أمنية. الآن بعد عشر سنوات من تلك الحادثة صار بيتي هو الآخر أمنية.
اطبخ الكلمات
“ما الذي نفعله؟” “إننا نعود إلى البيت”. في بيتي الأول لم يكن لدي مطبخ. كان هناك مكان مجازي صنعت منه زوجتي مطبخا. حين انتقلت إلى بيتي الثاني عام 1983 فوجئت بسعة المطبخ، فقررت أنه المكان المناسب للكتابة. ذلك القرار السري لم يعطل قرارا، كان قد سبقه في أن يكون لي مكتب في غرفة تغطي الكتب جدرانها. وهو ما أنجزته، حين كلفت النجار الذي صنع أثاث غرفة نومي أن يصنع مكتبة تصل برفوفها إلى السقف. لقد امتلأت تلك المكتبة بالكتب، فصار علينا أن نخترع خزائن للكتب الجديدة الفائضة في غرفتي النوم والاستقبال. في الأيام الأولى حاولت أن أجلس في غرفة المكتبة من أجل الكتابة. كانت هناك منضدة ومصباح ومحبرة وقلم حبر باركر وأوراق. غير أن عيني كانت تلتفت إلى المنضدة التي تتوسط المطبخ. هل كان علي أن استشير أحدا لكي انتقل إلى هناك؟ كانت الروائح في المطبخ أكثر الهاما. منذ ذلك اليوم صار المطبخ مكتبي في كل البيوت التي سكنتها في ما بعد. لذلك كان المطبخ هو المكان الأول الذي كنت أسعى إلى رؤيته في كل بيت كنت أخطط للإقامة فيه. المطبخ، يا له من فضاء يضج بالروائح والأصوات والنكهات والأمزجة والأفكار والصور والتكهنات. لقد تعلمت أن أكتب كمَن يطبخ. الكتابة باعتبارها نوعا من الطبخ. يا لها من نعمة. أنت تتعلم الكتابة في المطبخ. تسلق وتشوي وتقلي ولكن على نار هادئة. ليس زمن الانتظار سوى هدنة. أنا أكتب داخل القدر وفي المقلاة. كنت أصنع من الأبخرة غيوما. تلك الغيوم كانت مادتي التي أصنع منها جملي التي هي عبارة عن صور، يضرب بعضها البعض الآخر بإيقاعه. لقد أعانني باخ على فهم لغة المطبخ. باخ هو طباخ عظيم. بجملة واحدة يمكنه أن ينسج سجادة موسيقية عظيمة. كان فنه باذخا، لذلك لا يمكن اعتباره نوعا من الفن الفقير. لا حدود لخيال مطبخه. ما تعلمته في المطبخ لا يمكن أن أتعلمه من الكتب. حين انتقلت إلى السويد شغفت باقتناء كتب الطبخ وقد كانت مغرية بطباعتها الأنيقة، من غير أن أجرب يوما تصفحها. في بيتي ببغداد، يوم كنت أكتب في المطبخ كانت الكلمات تشكل مادة للطبخ. في الوقت نفسه كانت يدي تقلب الخضروات على نار هادئة. لم أكن منحازا إلى الكلمات. لقد شدني الطبخ إلى الحياة أكثر. ما لم أتعلمه من الكتابة تعلمته من الطبخ. إذا لم تسلق الكلمات أو تشوى أو تقلى فإنها لن تخلص إلى معانيها الغامضة.
قوت الأرض
“ما الذي نفعله؟” “إننا نعود إلى البيت” بيتي هناك. لقد تعبت من تلك الجملة. عشرون سنة وأنا أرددها. ألا يزال بيتي هناك حقا؟ لا تزال خزانات الكتب في مكانها. لقد حمل اقاربي اللصوص كل شيء. اختلفوا في ما بينهم على كل شيء. غير انهم اتفقوا على أن يتركوا الكتب في مكانها. وحدها الكتب ظلت كما تركتها. كان أحد كتب جان جينو لا يزال في مكانه على المنضدة. وهو الكتاب الذي لم أكمل قراءته. تركته مفتوحا. بعد سنوات اتصلت بي السيدة التي سكنت البيت لتسألني “هل أغلقه؟” قلت لها “أغلقيه” وهو ما يعني أنني لن أعود لكي أكمل قراءته. لقد مضيت إلى قدري وكنت أتمنى أن تلحق بي مكتبتي. غير أن كل البشر الذي أسكنتهم في بيتي كانوا يؤكدون أنهم حريصون على أن يحافظوا على الكتب. في اللحظة الأخيرة اكتشفت أن كل التماثيل واللوحات قد اختفت. لم تكن من بين المسروقات. أنكر الجميع وجودها. حتى النخلة المنزلية التي رعيناها أكثر من عشر سنوات لم تعد موجودة. لم يبق من بيتي سوى الكتب. إنها الذريعة الوحيدة التي يمكنني من خلالها الانتماء إلى وطن كان قد طردني في غفلة منه ومني. في الطابق السابع من بناية تقع في شارع شراعوه بالدوحة كانت شقتي الكبيرة تطل على البحر. وقفت ذات مساء على الشرفة وأنا أفكر في المكان الذي سأضع فيه خزانات الكتب. كانت الشقة فارغة ولم أكن أملك كتابا سوى (قوت الأرض) لأندريه جيد. بعد أربع سنوات وقفت على الشرفة نفسها وأنا أفكر بمصير صناديق الكتب التي لم يكن في إمكاني أن أحملها معي إلى باريس في رحلة اللاعودة. كان مشهدا حزينا. كم كنت محظوظا لأنني لم أعشه في بغداد، يوم غادرت مكتبتي الأولى.
بيوت وما من بيت
“ما الذي نفعله؟” “إننا نعود إلى البيت” كنت في طريقي إلى قرية رأيتها على الخريطة. كان اسمها هولتس فريد. كانت الطبيعة من حولي تبارك خطوتي في الهرب بلغة اسوجية خضراء. لقد وعدني هاكبرت بالهاتف بمنزل اختاره لي بعناية حين أخبرته بأني كاتب. كنت اخترق الغابات وأنا أجر بسيارتي عربة حملتها أثاث منزلي السابق. كان ذلك هو بيتي الأول في اسوج وكنت في طريقي إلى بيتي الثاني. الآن وأنا اكتب أحاول أن أتذكر كل البيوت التي تنقلت بينها أثناء اقامتي في أسوج التي أخذت جزءا معتبرا من عمري. لقد تركت في كل بيت من تلك البيوت شيئا مني. شيئا لم أتمكن من أن أنقله معي كما أفعل بالأثاث. فبالرغم من أن واحدا من تلك البيوت لم يقنعني بانتمائي إليه، فإنني وقد تحولت إلى مسافر قد غيرت عاداتي. لقد صرت خفيفا، بما يسر علي العيش في بيوت، صرت أعتبرها مؤقتة، بالرغم من أنني أقمت في عدد منها سنوات طويلة. لقد صرت جاهزا لتدريب حواسي على متغيرات الجغرافيا التي كان يفرضها الانتقال من بيت إلى آخر. كأن تكون غرفة نومي على اليسار من المدخل في حين كانت في بيت سابق على يمينه. لو أخطأت طريقي سأذهب هذه المرة إلى المطبخ. اما بالنسبة للشوارع التي تحيط بتلك البيوت فهي عبارة عن متاهة، صار علي أن أتعلم المشي بين دروبها وأنا أشعر بمتعة خارقة. بيوت كثيرة تنقلت بينها وما من بيت شخصي. لقد كنت ضيفا ولا أزال كذلك. كم كنت محظوظا لأنني عثرت في تلك البيوت على معنى أن يكون المرء مسافرا وضيفا في الوقت نفسه.
ضيوف بيت جدي
“ما الذي نفعله؟” “إننا نعود إلى البيت” جون ون، كاري كوبر، برت لانكستر وسواهم من رعاة البقر في الغرب الأميركي كانوا يحضرون كل مساء ضيوفا في بيت جدي. فمن شرفة ذلك البيت كنا نطل على سينما النصر الصيفي، حيث كانت الأفلام الأميركية تعرض تحت سماء بغداد الصافية. بطريقة أو بأخرى كانت وقائع تلك الأفلام تتحكم بمزاجنا اليومي، فقد كان هناك دائما شيء ما مشترك بين ما نعيشه يوميا والمرويات البصرية التي كنا نعيشها باعتبارها أحداث اليوم السابق، بالرغم من أننا كنا نرى الفيلم نفسه عدة مرات في الأسبوع. لم يكن من الصعب علينا توقع أن تقع سرقة في قطار محمل بالذهب أو أن تنشب معركة بالرصاص الحي في حانة لتنتقل إلى الطريق الوحيدة في المدينة الصغيرة التي يمكن اختراق سجنها والافراج عمَن فيه. كان البعثيون يومها قد أطلقوا العنان لمراهقيهم في ممارسة العنف العشوائي ضد الشعب. لذلك لم تكن الأخبار التي تصل من الخارج مسرة. كان اصطياد الهنود الحمر الذين اتخذوا أشكالا عراقية يتم في الشوارع. لذلك لم تكن أفلام رعاة البقر الأميركية صادمة بما تعرضه من مشاهد قتل مجاني. لم يعد الكثيرون إلى بيوتهم. كانت مدن الأشباح التي بناها الباحثون الاميركيون عن الذهب تخلو من سكانها بعد أن يضربهم اليأس من إمكانية العثور على الذهب. غير أنهم صنعوا حياة لم تكن متخيلة. لا يزال شيء من تلك الحياة يجري على الشاشة، كما لو أنه يستعيد حقائقه الأرضية. “لقد كنا هناك” هل قُدر لراعي بقر سابق أن يقول ذلك؟ لقد كُتب لنا أن نقول كل ليلة تلك الجملة.
القارة المفقودة
“ما الذي نفعله؟” “إننا نعود إلى البيت” ولكن لن أكون على يقين من أن البيت سيكون موجودا في مكانه. ليست هناك مشكلة. ما دمت قد ضيعت حياتك فلن تكون في حاجة إلى بيت تتذكره. بيت بشبابيك تطل على حديقة خلفية وسلم حلزوني وقن للدجاج. سوف لن يوقظك ديك من نومك قبل ان تمس الشمس ستائر غرفتك. أنت تنام لتحلم بأنك تنام في الغرفة التي تركتها غير مرتبة قبل ربع قرن. إنك تعود إلى حلمك كما لو أنك غادرته قبل لحظات. نيسان على الأبواب، في مارس تترك القطط آثار انفعالاتها الحسية على الأبواب. قطتك تنظر إليك بعيني امرأة شهوانية. ستأخذك تلك العينان إلى بيتك. تضحك لأنك ستغادر عذريتك. بيت القطة هو قارتك المفقودة. ستأخذك تلك القطة بعيدا عن بيتك لتسلمك لماضيك. في ذلك الماضي كنت تحلم لتنام من أجل أن تستدعي حلما، أنت من خلقه من نفايات يقظتك. ذلك البيت الذي بنيته حلق بسريرك الذي تركته ليكون شاهدا على مرورك نائما بهذا العالم. لا يزال شعرك على الوسادة. لا تزال قدماك تتواجهان ممتلئتين بالنصائح. هناك ضحك أفقي لا يكف عن المشي وصولا إلى رأس لم يعد في مكانه. أنت هناك كما لم تكن في أية مرة سابقة. ستضع البيت في مكانه على الخريطة. ولكن من أجل أن يكون بيتا عليك أن تفتح نافذته الوحيدة التي تطل على الحديقة السرية. حينها ستكتشف أنك عشت حياتك كلها في ذلك البيت. تلك الجنة هي من ممتلكاتك البصرية. لقد امتلأت عينك بها. كنت تراها وأنت تكتب. “لا بل كتبتها” لكي تتذكرها. “لا بل لكي احلمها. لن يكون في إمكاني أن أتذكر ما أحلمه. الحلم لا يصلح ذكرى” تفتح النافذة لترى وأنت مغمض العينين. يحق لك أن تحلم من غير أن تغمض عينيك. أنت في بيتك المتخيل. ستقع جملة موسيقية بين يديك وتمشي مثل حجلة. أنت مشيت ذات يوم مثل حجلة لتصل إلى ذلك البيت. أخبرتني أن بيتك يقع على بركة ماء. من هناك كنت ترى الحجلات. لقد كنت حجلة.
فاروق يوسف