كلمة رئيس التحرير

لا تستطيع مجلة، أي مجلة وربما في أي مكان، أن ترسم ملامحها وتحدد وجهتها منذ العدد الأول أو الثاني، لكنها تحاول أن تقدم المؤشرات الأولى لطموحها ووجهتها عبر الدرب الثقافي الطويل والصعب. وليس من التهويل في شيء إذا قلنا أن إصدار مجلة ثقافية بطموح يتوسل الجدية والإبداع، والتنوير هو دخول في مغامرة على نحو من الأنحاء، مغامرة البحث والسفر خارج المألوف والمنمَّط والمستهلك، وهو ما تعكسه ردود الأفعال المتباينة تجاه المجلة منذ عددها الأول. ردود أفعال من قبل كتَّاب ومؤسسات وصحافة، ومن فئات مختلفة تتراوح بين الاحتفاء -وهو الغالب- وبين النقد الحقيقي المسؤول الذي نصغي إليه ونستفيد منه، وبين الهجوم الواعي لأهدافه، والهجوم الجاهل والعدائي، حيث إن هناك دائما رأيًا مسبقًا ونمذجة عمياء لا سبيل إلى نقضها، بغض النظر عن المجلة وأهميتها ومستواها. ومثل هذا الدور التنويري والتحديثي، في مناخات شتى، ورغم كونه أصبح بداهة، تظل بداهة متجددة السجال والمراجع والمعطيات، ضمن شروط واقع خاص، ونظل بحاجة للرجوع إليها والنقاش حولها ربما في الوطن العربي قاطبة. ما أحوجنا للرجوع إلى الكثير من البدهيات وتفحصها من قبل مثقفينا ومفكرينا بتبيان السياقات المتعددة لمنشئها وتاريخها ومسارها، في زمن شهد انفجار كل المفاهيم والرؤى التي سادت برهة وأفضت الوقائع والتاريخ بها وبغيرها إلى العطب والهلاك .

(نزوى) منذ بداياتها الأولى حاولتْ أن تشكِّل منبرًا مفتوحا لجميع الكتاب والأدباء من مختلف الأجيال والأماكن والتوجهات الإبداعية والجماليّة بمقترحاتها وأفكارها، أي تلك الخارطة الموَّارة بالتناقضات الحميمة، بالمحبة والضغينة والصراع.

أسماء متحققة أخذت حيِّزًا من الشهرة والإنجاز، وأخرى واعدة، في الطريق إلى شغل حيّزها الخاص.. وهكذا…

منذ بدايتها عام 1994، حاولت (نزوى) أن تكون هذا المنبر الذي يلتقي فيه الأصدقاء من كل مكان لقاء الإبداع والحريّة، مهما كانت الالتباسات والمعوقات التي عادة ما تواجه أي عمل ينحى هذا الاتجاه، خاصة إذا كان في مناخ ما زال في طور التأسيس على صعيد الثقافة الحديثة وأسئلتها الإشكالية وواقعها المدني. في هذا السياق، حيث الحداثة والعلمانية قرينتا الإلحاد والمروق.

هذا المناخ الذي لا يعرفه إلا من خَبِر مرارتَه وعنْفَه المدلهم.. المحرر المسؤول والفني والعامل في إطار المجلة من أجل استمرارية إصدارها الفصلي، ليس إلا مسؤولًا عن تنظيم مواد الأصدقاء، الكتاب والشعراء، على مساحة المجلة حسب «الخطة» الموضوعة للأعداد المتعاقبة.. إنه منظِّم حركة مرور المادة ليس أكثر. هناك من يتوهمها «سلطة» وتلك هواية لدى البعض. السلطة هواية جماليّة ، غرام وعشق وهيام، حتى لمن لا يملك من أمرها شيئا. حضور وهمها يتطاول على من يمتلك سدتها الواقعية وعناصرها. البعض الآخر يحدق في رعب الموت وعبور الكائن، فلا يرى إلا سلطة العَدَم..

وهذه (هواية) أخرى، إذا وحّدنا الهواية بالهاجس الأساسي للذات والمصير..

نحاول التحرير والنشر من غير شلليّة ولا محاور ولا طموح إحداث انقلاب في وضع الثقافة والفن، دعك من المجتمع. من يكون على رأس (منبر) في الوسط الثقافي (العربي خاصة) مهما كانت محدودية تأثيره، عليه أن يفكر بالخروج من هذا المضيق بأقل الخسائر فداحةً وجراحًا. مضى ذلك الزمن الذي تشكل فيه المجلات تيارات تزعم خلق تغييرات مفصلية في سياق الأدب والتاريخ.

سيف الرحبي