ولد بيير ميشون في 28 مارس/آذار 1945، في بلدة كادرس، بمنطقة لاكروز، حيث كان والداه مُدرِّسَين. وبعد عدة سنوات كرَّسها للدراسات الأدبية وللمسرح (ماجستر عن مسرح أرتو)، ظهر أول كتاب له وهو في سن السابعة والثلاثين وهي رواية (حيوات صغيرة)، الذي اعترف لاحقا أنها أنقذته من مخاطر أن يعيش مشردا، وفتحت له طريق الأدب وأن يصبح كاتبا. وفي سنة 2009 حصل على الجائزة الكبرى للرواية التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية عن كتابه “الإحدى عشر”، وفي سنة 2015، حصل على جائزة مارجريت يورسنار عن مجمل أعماله.
ويقيم هذا الكاتب الفرنسي، الذي لا تروقه الأضواء، في شقة صغيرة، محاطا بالكتب، في مدينة أورليان. بعيدا عن صخب العاصمة وعن دسائس الوسط الأدبي الباريسي، المكتفي بنفسه، وهو ما جعل الكاتب والمفكر الفرنسي الكبير ريجيس دوبري، يُظهر بعد انسحابه من لجنة تحكيم الغونكور الأدبية، سنة 2015، بعض الحزن لأن كاتبا كبيرا مثل بيير ميشون لا يعرفه الكثيرون، الذين يقتنون الكتب الحائزة على جوائز، أو الكتب الجماهيرية. وفي موقف دوبري نوع من الالتفاتة، أيضا، إلى الروائي الفرنسي الكبير باسكال كينيارد، الذي لا تعرف مبيعات رواياته بما فيها الفائزة بالغونكور، نجاحاً كبيراً، مقارنة مع فائزين آخرين، أقل منه جودة وموهبة وإبداعا.
يبقى أن نشير إلى أن الطبعة الأولى هذه الرواية التي ترجمناها صدرت سنة 1989.
كان قد زاول مِهَناً؛ كفه اليمنى ينقصها أصبعان ؛ لم يعد شابا، لِطريقته في اللبس، اللامبالية المتعبة، وللدهشة المترفعة لحاجبيه، للثقل الملتوي لفكَّيه تحت اللحية المرنة، لأنفه البارز، استنتجت أنه من أبناء الشرق. كان أصلع؛ كان جالسا، لا يتحرك. كان يرمش قليلا ليحتفظ بصورة مركب شراعي يتباعد، منجرفا هنا وهناك، متضائلا بلا معين، نحو جزيرة سترومبولي، أو بياض بطون طيور النورس الذي يظهر عندما تغير اتجاهها في الشمس، عندما ترتفع ببطء، وتعرض نفسها بشكل لا نهائي. كان بلا شك يتوق إلى الاستمتاع بالأشياء؛ كان حسير البصر. أو ربما لم يكن ينظر سوى إلى البحر، الامتداد الشاسع الذي لا يحضن، الاستعارة العجوز المجنونة.
أسفل الطريق تحت الظلال، على بعد خطوات منه، كنت أراقبه. ربما لم يرني، لانشغاله بالاستمتاع بالأشياء الواضحة؛ لكنه على الأرجح كان يظنني أحد خدمه، أو صيادا. بعد وقت بدا لي طويلا، أدار نحوي وجهه، وحيّاني؛ رددت التحية دون أن أقول اسمه. رأيت أنه يحمل على صدره صورة المسيح تزينها براعم، كانت أغصانها ملوية الأطراف تشبه الشكائم، عنيفة كما يصنعها البرابرة.
هنا بدأ، رغم أن عمرينا كانا جد مختلفين، رغم أني كذبت وأنا أدعي، أني ظننته شخصا آخر، أيا كان هذا الآخر، وكذب هو مُوافقا على هذه الغيرية، هنا بدأ ما يجب أن أسميه صداقتنا. منذ ذلك اليوم الأول، جلست بالقرب منه على المقعد الحجري؛ وبما أني أيضا كنت أراقب الأشرعة، تحدثنا طبيعيا عن الملاحة، عن أصدقاء التجديف والسفن السوداء، عن الملاحة وعن الشعر الإغريقي: لأن أحدهما لا يذكر دون الآخر، إلى درجة أننا لا نعرف من منهما هو نص الآخر، وهل في البداية تم رمي هياكل ضعيفة مطلية، أو أمتارا من تراكيب جمل دقيقة، على محض صدفة البحر واللغات. كان من جهته يعتقد أن القصيدة سبقت السفينة، كما وجد الأب قبل الابن؛ تذكرت أنه قيل لي إنه أريوسي. وأنا أنظر إليه لمحت إلى أنني إلى البحر وإلى اللغات سأضيف الجموع، وإلى السفينة، إلى القصيدة، الرجال المرموقين، الأقوياء الذين يتردد صدى أسمائهم مثل أبيات شعر، المرئيين من بعيد مثل أشرعة. لم يجب بشيء. داعبتْ كفّه المبتورة الأصابع لحيته ببطء. بعد أن مالت الشمس لم يعد ظل شجرة بلوط الفلين يحميه: لمعت قطرات من العرق على قمة رأسه حيث يخفق وريد صغير؛ كانت شفتاه تلتقيان في تحرك مثابر يتغذى منه العجزة من شيء لا نعرفه، طعم حلو نحلم به أو كلمات منذ مدة طويلة تستوجب الصمت. بدا لي فقيرا جدا وعاريا، يطمح إلى السكون، يخشى الصمت. انتظرت أن يتكلم؛ كانت صيحات طيور النورس غير المنسجمة تملأ السماء: وهو يرفع عينيه، وبحركة غامضة ربما كانت تدلني إلى الأصوات المظلمة التي يحملها طيران نهاري جدا، بدأ: «الموسيقى، أيضا، العزف على القيثارة…»؛ ثم رافعا في طرف ذراعه الأيمن ما لم يعُد كفّاً: «كنتُ عازفا جيدا.»
عندما افترقنا، كانت جميع الأشرعة قد اختفت من البحر الذي كان قد حل عليه الليل، والذي كان لونُهُ خمريّا، حتما، بما أن الإغريق تحدثوا عن ذلك. صعد الطريق بصعوبة نحو الفيلا المتواضعة التي يسكنها، على المنحدر الوعر في نتوء خليج مونتي روزا، وهو يرفع طرف ثوبه القديم بعناية مضحكة، ويتوقف كي يأخذ نفسا خفيفا، ثم ينظر حينئذ إلى الأرض كما نفعل عندما ننظر إلى أنفسنا. كان صندله يرفع قليلا من الغبار الأحمر؛ يتلاشى أثره. لم تكن الشمس غير المرئية تضيء في عرض البحر سوى نصف سترومبولي، مثلث ذهب عنيف على الامتداد الشاسع القوي، المصبوغ، المطلق، مثل تاج على الأرجوان. توارى. سمعت حمارا ينهق؛ عمّ الليل.
كانت مفاجآت حياة في بدايتها قد قادتني إلى (ليباري). كنتُ شابا وأرعن. كان العالم هو الميدان الذي سأظهر فيه غطرستي؛ كنت أنتفض؛ حريتي الحديثة كانت بلا حدود لا يمكن دحرها. أنا ابن كودونتيوس، الذي كان رئيسا جنرالا لسلاح الفرسان في أراضي سكيثيا؛ أَدينُ لمنصب والدي الرفيع بطفولة في سجن من ذهب وعطلة دائمة، طباع صبي مدلل جدا، ومهدد بالموت بشكل دائم. كان كودونتيوس يتحالف مع البرابرة المضطربي الخطى، الذين لم تكن الأسلحة وحدها قادرة على كبحهم؛ كعربون عن حسن النية، سلمني رهينة لمن أبرم معهم حلفا. ابن أمير، تربيت مع أمراء، ما دام والدي يحترم عهده؛ إن خانه كنت سأمرّ، في لحظة، على حد السيف. كانت حياتي معلقة بذلك العهد الأبوي. كنتُ طفلا عندما سُلِّمْتُ في نهاية عصر نبلاء ستيليكو إلى القوط الذين كانوا يهددون مدينة رافينّا. لم أعرف ألاريك، مَلكَهُم: عندما اجتاح روما، كنتُ في بانونيا، في بلاط بعيد مهمته الاعتناء بتربية أبنائه، بعيدا عن جلبة سلاحه. هذا الغائب الرفيع الشأن، الذي لا يمكن لبصري ولا للهزيمة أن يصلا إليه، الذي لم يكن يظهر، ومع ذلك كان، هناك، يضرب بحزم وسداد، هذا الظل الذي كان من حولي يسمونه ديفيد الثاني، ربما كان والدي حسب قلبي؛ كنت أصلي من أجله، مع أبنائه؛ كنت أتمنى، بحماس وبرعب، من دون شك، أن يرن بوق أتباعه الحاد والمشؤوم الذي يطلقون عليه في روما القرن الأجش، فوق الكابيتول؛ وربما كان لصلواتي وزن في ميزان السماء كي تَثقُل فيها خطايا روما، كما على هذه الأخيرة أيدي البرابرة الثقيلة. علمني شعراء من أمتهم، تحولوا إلى اللغات النبيلة وما يزالون متحمسين من اكتشافهم، الآداب؛ حدثني الأساقفة الآريوسيون الذين كانوا يعلموننا التعاليم الدينية عن النور المستعار من الابن، عن أكبر وميض وعن قِدَم الأب السحيق، وعن أسبقية الحركة التي لا توصف على اليد، العدم على الفعل، القوة المطلقة الفارغة على خشب الصليب المتراص. لم أكن ميالا جدا إلى تصديقهم، أنا الذي كان والدي كودونتيوس يَعِدُني بالعذاب الوشيك المؤجل دوما، والذي كان والدي الآخر، والد أولئك الأطفال الذين أناديهم إخوتي، يسطع بكل تألق تحت سماوات غير مرئية، على أرض يخليها من سكانها، يعيدها إلى ذلك العدم الذي بدأ منه كل شيء. حاليا، أنا خادم الإمبراطورية؛ قبلت إذن رمز نيقية؛ أحاول الاعتقاد بأن الأب والابن معاصران، لهما نفس الرغبة، نفس الأبدية ونفس المعاناة، وأنهما من نفس العجين. أترك للبرابرة براهين العقل، التي تعتبر هرطقة.
كنت في مراهقتي عندما انتزعتني مناورة جديدة من كودونتيوس من ذلك البلاط؛ سُلّمتُ إلى بلاط أكثر فظاظة، بلاط الهون Huns. هناك، لا وجود لأسقف ولا لشاعر؛ لكني أدين لهم بكوني لم أعد أطلق اللحية، وبكوني أشرب أحيانا حتى أصير التراب الذي أسقط عليه، وبكوني أنظر إلى الفضاء، بشغف. يقال إنهم ولدوا من متاجرة بين ساحرات سكيثيا وأرواح شيطانية. لكن لا: إنهم عرضة للدموع ، للماضي، يعيشون رغم ما فقدوه؛ هم معوزون وسذّج، تحت رحمة رغبات غامضة لا يُلبّيها شيء، يحبون ما يلمع وما لا يملكون؛ الفتيات الشابات يضحكن بشكل مبالغ، الرؤساء مختالون. هم يخشون الموت.
عند عودتي، كان عمري تسع عشرة سنة. دخلت تحت إمرة الإمبراطور هونوريوس، مما يعني إمرة أخته بلاسيديا، التي يتوقف عليها كل شيء. كنت متعلما، فارسا جيدا، ابن جنرال؛ كنت أعرف البرابرة؛ وعلى الفور تسلمت مناصب عسكرية. كانت صقلية لا تدفع الضرائب، بشكل جيد، وكان القراصنة يستولون على السفن القليلة التي كانت تحمل قراب الخمر والحبوب التي تتعطف بإرسالها إلى روما؛ وتم إرسال بعض ثلاثيات المجاديف من أسطول رافينّا إلى جزيرة ليباري من أجل أن ترسو في جُونٍ سري، ومن هناك تقوم على طول شواطئ صقلية القريبة بعمليات شرطة؛ رغم حداثة سني، كان لي في هذه العملية دور مهم ودرجة أعلى، شرّفتُها. بعد مواجهات انتصرنا فيها على قراصنة من كل الأمم، أصبح الوضع روتينا؛ ومع ذلك بقينا مقيمين هناك بعض الوقت، تحت الأسلحة لكن غير فاعلين، ختم ظاهر وعبثي لإمبراطورية قديمة. كان الوقت الأزرق يضعفنا. كنت أستمتع بذلك الطقس الذي لم تعرفه طفولتي؛ وكما يكون المرء في شبابه، كنت فخورا، بشكل أخرق، باكتشاف هذا المكان الوعر والخليع الذي بسطته السماء من أجلي، وحدي؛ كنت أهنئ نفسي بتذوقه، كما لو كانت متعتي فألا على عريكتي الصلبة: أشجار التين تزهر من أجلي، وضد شهيتي تمد أشجار التين الشوكي أشواكها عبثا، وتسلم لبّها في الأخير، من أجلي تضحك فتيات الصيادين. خمر المنطقة الشديد السواد، وجسد الصغيرة هونوريا الصاخب التي تشاركني الفراش، أتخماني، أخيرا. مع التخمة يأتي القلق. حينها قررت أن أراه.
قليلون جدا، من دون شك، من كان في الجزيرة يعرف؛ ربما، لا أحد. لم يعد من وجود لنبلاء رومانيين، الفيلات من عهد أغسطس تسقط خرابا تحت أكوام اللبلاب، تلك الخاصة بـقسطنطين كان يحتلها الرهبان. سمعت من فم بلاسيديا أنه موجود هناك، أنه يعيش في ذلك المنزل في نتوء الخليج، قبالة سترومبولي. وكونها أخبرتني بذلك، بينما رئيس أسطولنا نفسه لا يعرف شيئا، كان كاف كي أخمن الأمر الذي تخبئه تحت هذا الاعتراف: كانت تتوقع مني أن أعاين إذا كان وجود المشرقي هنا وحياتُه البسيطة يُشكّلان تهديدا؛ وأن يُطرَح السؤال عليّ، وحدي؛ وأني، من دون شك، أكون قد أديت واجبي، إن أجبت بالإيجاب، بما أن سيفي كان في خدمتها.
تحدثتُ عن لقائنا الأول. منذ ذلك الحين، كنت أهبط تقريبا كل مساء المنحدر إلى المقعد الحجري الصغير حيث كان، بعد ساعات لافحة، يستسلم للريح الخفيفة القادمة من عرض البحر، لكل هذه الزرقة حيث يهدد بركان وتهرب أشرعة، يجهد نفسه كي ينسى أو أن يتذكر، الواحد والآخر بدون شك، الواحد ثم الآخر، الواحد يُغيظ الآخر، وهو يفني نفسه من أجل إخفائه، كما نفعل جميعنا، بلا فائدة. إذا كان قد أرسل، وهو ينتظرني، بصره نحو الطريق الذي أقدم منه ورآني، فإنه يُلوّح بيده بحركة صغيرة، مرحة ولكنها طفولية ومرتبكة، تظل معلقة في الهواء لفترة طويلة إلى شيء لا نعرفه، كما لو كان يتساءل أين يوقف هذه العلامة الودية لكن المحيرة، كما لو كان يخشى دوما أن يقدم لي أكثر أو أقل مما يجب؛ بعد كل هذه السنوات، كان ما يزال يبحث عبثا عن وضعية تناسبه. استمر البركان، وتغيرت الأشرعة؛ كنت أجلس بالقرب منه في ظل أشجار بلوط الفلين المغبر. كنا نتحدث. أو بالأحرى كان يتحدث، مع لحظات صمت طويلة، كلمات تظل فجأة معلقة مثل حركته، توقف مسحور يدفعنا إلى تأمل البحر، حتى يصبح بنفسجيا، ثم أسود، وحينئذ كنا نفترق دون حديث، ما لم تُساهم كلمة مني في إطلاق كلامه المتناسق، هذا النفس الصغير الذي يختفي بسرعة الذي هو حياته نفسها ويمددها مرة أخرى إلى الليل، إلى تلك المحاكاة الحفيفة والمرئية للا مرئي، للصمت، وفي فمه الذي لم أعد أراه يصبح محكي حياته الليل نفسه، ذلك الهمس العنيد حيث تظهر النجوم، واحدة تلو الأخرى. كان يكذب.
كان مولده متواضعا، في سوريا. قال لي إنه في العصور القديمة، كانت بالقرب من أنطاكية غابة من أشجار الغار، ليست سوى غابة، لكنها كانت معبدا لأبولو: لاحق إله النهار الحورية دافني؛ هربت منه، ربما بسبب تأجج رغبتها؛ ضاعف من حميته؛ كان يضحك، حتما سيحصل عليها؛ فضلت أن تتحول إلى شجرة غار، على أن تتحمل عناق أجمل الخالدين. أكمة أنطاكية كانت ذلك الهروب، عنف الرغبة المسحوقة، تلك الأذرع الجميلة التي امتدت أغصانا. أخذ الحجاج يتوافدون. في هذا المعبد الأخضر الكبير، حيث كل شجرة هي الحورية الفاضلة، وكل نَفَس إلهاً خائبا، في تلك الطراوة المزهرة، النابضة بالحياة، غير الراضية، كانت جداته قد بعن، خلال حكم أسلاف جوليان وحكم جوليان نفسه، تماثيل صغيرة من الفخار للإله. مات جوليان، أصبح الإله المحتدم من الماضي؛ عندما ألغى ثيودوسيوس العبادة، باعت الجدات، ثم الأم، السمك في المرفأ. كان السمك يُدرّ أقل مما كان يُدرُّه الإله. هو، كان قد ولد في هذا الحنين، في مرارة صاحبات المتجر اللواتي أصبحن ينتقلن من مهنة إلى مهنة أقل. وكانت جداته، وهن تحت الشمس الحارقة يعرضن السردين، يتحدثن عن الإله في أكمته من الظلال، ذلك الإله الذي لم يكن سوى مُعير اسم للأيام الضائعة: كان أبولو شبابَهُنّ، التماثيل الهشة التي لمستها أكفهن في سن العشرين، الغمزات تحت الأشجار والقلب الذي يخفق بسرعة عندما ينظر إلى إحداهنّ حاجٌّ ممشوق، كله نشاط وطلاقة لسان، أمرد مثل أبولو، صلف مثله، ربما أبولو نفسه مرة أخرى، ينظر إليها مطولا، حاج رأته في الصباح، تمنته طيلة النهار، والذي فيما بعد، عند الليل تتبعه بارتعاش تحت أشجار الغار، حيث ستحط عليها يده. أحد هؤلاء، الرجل، الذي لم تره أمه إلاّ اللحظة التي تشابكت فيها الأيدي، وحيث في عجالة معتمة تَتَابَعَ الباقي، كان والده.
كما هو شأن أيّ واحد منا، فإن أقدم ذكرى بالنسبة إليه كانت والدته، أو ربما المجهود الذي بذله كي يتملص من والدته. كان يتحدث عنها، بيضاء على المرفأ الأزرق؛ كانت تحيطه، كانت تصدُرُ منها رائحة السمك، كانت تبتسم بكامل وجهها؛ في بعض الأحيان لا يتذكر الوجه، لكن الابتسامة تبقى، معلقة، غير مادية، مثل صفة للروح، مثل شيء لم ينتم للجسد لكن فقط استعمله من أجل أن يظهر مرة وللأبد، في أنطاكية، في القرن الماضي، والذي، بعيدا عن ذلك الجسد الضائع في ذاكرة والضائع تحت الأرض، يواصل الظهور على الأشياء التي يحسنها، تحت سماء ليباري، في العينين الحسيرتين لعجوز. هكذا ربما تبتسم له النجوم. لماذا كان سيكذب حول هذه الأشياء؟
ولماذا يكذب، أيضا، حول الموسيقى؟ جيّدا كان أم متواضعا، لا أشك في أنه كان موسيقيا. عندما كان طفلا، كانوا ينادونه دعابة « ابن أبولو»، كما نقول ابن لا شيء؛ وبمن دون شك فينا يخص التماثيل الصغيرة، ذلك الأب الغامض كان يمسك أداة غامضة، انتفاخٌ منحنٍ للطين حول شقوق صغيرة متوازية تمثل الأوتار، أداة من الطين الأبكم تنتج أخرى، من الخشب الرنان وشعر الخيل؛ هذيان شرقيات المرفأ، نداؤهن المستعجل للبحّارة وهبوطهن الحنيني في المساءات، الأشرعة ذات المراسي التي تجذب مهنا الريح أصواتا، كل هذا ربما دفعه إلى النغمة؛ ابتسامة والدته خاصة، الموجَّهة للا شيء، بكاؤها من لا شيء، الندم اللانهائي وبلا سبب، الأمل الكبير وبلا هدف، كل هذا لا يمكن إلاّ أن يكون موضوعا للغناء. كان عمره اثنتي عشرة سنة، أو ربما خمس عشرة، عندما جاءت فرقة إيطالية من الممثلين بالإيماء إلى أنطاكية، ورآها. كانوا يقدمون عروضهم ليلا لقيصر ما أو ضابط أو قنصل روماني في الفيلات الرخامية التي تحرسها السياط والكلاب، المتربعة خلف مجازات السنط واللوف؛ كانوا يتمرنون في المرفأ، حيث يحصلون على بعض القطع. رأى الطفل القيثارات والمزاهر والمزامير والطبلات؛ تعرّف أيضا على آلة الرب. من تلك الآلات الغريبة، من تلك الأخشاب السوداء الوسخة، من تلك الجلود الفارغة والعصي المجوفة، من اللسينات النحاسية، ينبعث، فجأة، فوق العازفين المتبجحين، من قبل، والجدّيين، الآن، في تلك الوضعية التي هي تصنّعٌ كامل، لكن تأمل عجيب أيضا، ينبعث ويعم شيء مدهش ؛ شيء متوجع كما لو أن كل ما يدمي القلب كان مجتمعا فيه وبلا سبب شُغّل من طرف مستبد متحجر، لكنه شيء لسبب غير مفهوم مبتهج بالنصر مثل ابتسامة طاغية، مَرِح مثل الصباح بموت الطاغية. كان المرفأ يصمت، تجتمع النساء ويستمعن: مرور قيصر ما لم يكن ليوهن حركاتهن بهذا الشكل، ليجعل أعينهن تكبر بشكل أقل، ليضفي لطفا أقل على أيديهن الخشنة الشاغرة فجأة، التي فقط تنتظر الحب، أو شيئا أسوأ، أكثر استسلاما. كانت والدته تبتسم. مع آخرين، كان الطفل يتبع الموسيقيين نحو الفيلات؛ كان القيمون على الفيلات يطردونهم بالسياط، في حواجز اللوف؛ ثابر؛ أخيرا، عن استمتاع أو تعب، أخذته إحدى مغنيات الجوقة، أو ربما إحدى الفتيات الخفيفات، المجبولات على الدموع، اللواتي يخلعن ثيابهن على صوت القيثارة ويرقصن عاريات على زرابي ذات بتلات عند القناصل، تحت حمايتها. تم قبوله ضمن عدد الخدم الصغار الذين يلفون القيثارات، يرتقون الأوتار التالفة، يمدون إلى الممثلين الأقنعة وإلى الفتيات المناديل التي يبعثرها الرقص عند أقدامهن. عاش في أرجوان الأصوات، كل ليلة. أخبرني أنه في نهاية إحدى الليالي، قبل أن يغادر أنطاكية، ذهب إلى الأجمة حيث ربما حملت به والدته؛ كان هناك قمر بين الأغصان وذكرى إله موسيقي؛ كان متحمسا كما هو الحال في تلك السن، أخذ على نفسه عهودا. أخبرني أنه لم يوف بها. لم يقل لي كيف بكت والدته عندما غادر، بكاء وشكاوى امرأة من عامة الشعب، ذلك الحزن الصاخب، الطفولي، الطائش.
تبع أسياده من الإسكندرية إلى برقة، ومن برقة إلى أفسس، ومن أفسس إلى سيراكوز؛ ذهب إلى روما وإلى الغال. العبور طويل، البحر ممل، نخشى الغرق، نخاف أن نتذكر؛ لدينا الوقت لنتعلم من فم رفيق عجوز، القليل مما يكفي من هوميروس وفيرجيل، الأقل أيضا من أوفيد، لإعادة صياغة الأغاني كي تتابع الصور التي تم تقريرها في نسق جديد، تثرى بكلمة وتفتقر بأخرى، تدهش وتقلق بذلك الاختلاف البسيط. لدينا الوقت كي نصبح مسيحيين، مثل الآخرين: لم نندهش بتاتا من هذا الوحي، عرفنا من جهتنا أن أبولو، يشبه الأب، ونحن الابن. ثم إنه إمكاننا أن نجعل تلك الصلوات لهذا الإله الذي هو ثلاثة، موسيقى، في نغم واحد لا يتجزأ حصص الثلاثة، ونُهدي للأب المزاهر الباردة الثابتة مثل أنجم، للابن نزق القيثارة، وللروح المزمار. لدينا الوقت، أخيرا، لنخلع ثياب تلك التي أخذتنا تحت حمايتها لغرض آخر غير الرقص، وأن نتعلم القليل مما ينبغي من الحب كي نستطيع الغناء في تناغم. هو، إن كان قد جرب جميع الآلات وتعلم العزف عليها، فإن اختياره وقع على القيثارة؛ كان حينها يتوفر على جميع أصابعه، كان ماهرا، أصبح أستاذا في العزف. أكد أنه بعد عشر سنوات من مغادرته أنطاكية، في عز شبابه، لم يكن هناك ما يحتاج أن يتعلمه من أحد؛ كان يكتب ويؤلف الأغاني والباليه، كانت لديه فرقته الخاصة من ممثلي الإيماء، والمغنين والراقصين، كان يتعامل شخصيا مع القناصل. جميل بلا شك، في دلماسية بلون الزعفران وعباءة بلون داكن، كان يعبر بخطى واثقة المجازات حيث يسقط الياسمين البري على بياض الرخام، واللوف؛ القيمون الذين أصبحوا ينحنون نحوه، يطردون بسياطهم العوام الصغار الذين يتشبثون بذيله؛ الصفير العنيف بين الروائح الثرية كان يسره، يحزنه، يحمله على الغناء؛ وفي الأمسيات، في الشكل نصف الدائري للأسرة المائلة من حيث تنظر إليك الأرستقراطيات بأعين تائهة، مغشاة بالخمر أو الندم، برغبات وجيزة، عندما نظهر في تلك الدائرة، عندما يأخذ عازفو الآلات أماكنهم، وتنتظر الراقصات بلا حركة، بنفس مشدود، وهن يرتعدن مثل طائر واقف، كأنهن جاثمات، يقدمن رجلا على أخرى، ويفتحن أيديهن حتى تحاذي صُدورهن، ينتظرن الإشارة التي سترمي بهن خارج أنفسهن، تبعدهن بلا رادع في طيران المناديل، واللحم الممنوح للأصوات العنيفة، للإيقاعات الشرسة، كان هو وحده، بضربة من ريشته، من يقرر مرة أخرى في ذلك الحُكم، ذلك السقوط، ذلك الموت المزعوم وتلك المحاكاة للحب، كل شيء يمسكه بأطراف أصابعه. ذلك الأرجوان، كان هو وحده من ينسجه، الآن. إذا كان هذا أحد وعود أجمة أنطاكية، فهو لم يحنث به.
منذ زمن طويل لم يتحدث عن هذا الأمر، ماضٍ أو محض خيال، خيال محض لأنه ماض؛ ربما لم يتحدث عنه، أبدا. ملاطفتي، التي لم تكن في البداية سوى نفاق، لكن التي تحولت مع مرور الأيام إلى شيء آخر، حثته على ذلك. كنت أنظر إليه جيدا وهو يتحدث؛ هو، كان ينظر أمامه؛ كنت أفكر في دلماسية زعفرانية، في الجمال الشرقي، الصاخب، النسوي قليلا، الذي لم يتبق منه في الحاجبين سوى الاندهاش من خسارته، في الرغبات التي انتهت في بطون النورس، في هذا الفن المشتت الذي لم يعد شيء يشهد عليه. أصابعه غير المكتملة تلمس الأحجار المصقولة لصورة المسيح، تداعب الأحجار الكريمة الملونة بفظاظة، تلك التي يحبها البرابرة؛ الأداة الأخرى، المتواضعة، الإغريقية، القديمة، التي لم تكن شيئا وتنقل كل شيء، تلك التي أمسك بها أبولو والده وهو من بعده بتقوى، طموح أو تعاظم، لن يلمسها أبدا.
استعادة الذكريات هذه لم تكن تثيره؛ كان يتحدث عنها بأسف، لكن كان عليه أن يتحدث، وكان حديثه يولد بلا توقف من تلك الممانعة، من ذلك الندم، من تلك الرغبة في الخرس: كما لو أن كل ذلك – ذلك النجاح الظاهر، تلك السلطة حتى ولو كانت مدعاة، كما لو أن لا شيء كفاه أبدا، وأن يقوله أقل مما أن يكون قد عاشه. لكن كافٍ أو لا، لم يكن عنده سوى هذا كي يذكره، لأنه لا يعرف أن يصمت. كان بعيدا عن هدفه: الراقصات جميلات وعاريات، ينحنين لقيثارتك، لكنهن لسن جميعهن لك عندما تصمت الموسيقى؛ القيثارة لها فقط سبعة أوتار، وحتى لو توفرت على عدد أكبر لما كان ذلك كافيا لفروق الريح الدقيقة، لفروق القلب؛ لم نكن قد رأينا لحدّ ذلك اليوم سوى رجل واحد يعود للحياة، لكنه لم يكن رجلا تماما ولم يكن موسيقيا؛ أما بالنسبة للخطاب، فهو لا يتحدث عن زهرة ليلك في الماضي في أزمير في يونيو/حزيران وأنت في الثانية والعشرين، تنتظرك أرستقراطية سبق أن ابتسمت لك، والتي سبق أن لمست كتفيها، وأنها تحمل ثوبا بلون الكبريت، وأن لحمها أبيض من الزهرة، لكن عن أية ليلكة كانت، أو، أسوأ من ذلك، من تلك التي استنشقها بالأمس، دون أن يلاحظ ذلك، الرجل الذي يستمع إليك. من تلك اللحظة، أصبح، ربما، غير مُبالٍ إن كان قد باع السردين لنساء أنطاكية، أو لازمات موسيقية للقناصل.
كان يحدث أن أتحدث أيضا، خلال لحظات الصمت الطويلة في حديثه؛ أخبرته عن رافينّا وبلاطها البارد، السلطات، شهيتي الفتية؛ طفولتي، قلتها له. لا أعرف إن كان يستمع. لكن ذات مرة – على منحدر أشجار الزيتون الشاسع على يسارنا، كانت آخر شمس لا تزال تعم على صلابة أوراق الشجر، تسلح فيها جحافل متوقفة، دروع فرسان قوطيّون؛ رياح خفيفة كانت تهيج الجيش؛ لن ينتصر على الليل؛ حمير صغيرة كانت تهرول بين الأشجار – ذات مرة، حدثته عن بلاسيديا، السمراء، عديمة الرحمة، التي أنهكت أحد الملوك القوطيين وأحد أرستقراطيي بلاد الغال، والتي تقتسم حاليا فراش أخيها وتسود مكانه على إمبراطورية الغرب. حكيت له عن لقائي الأول مع ذلك المذخر، ذلك الصرح من التيجان، من اللآلئ، من دمقس على دمقس مكوم، هرم منسوج بالذهب بفتحة في الوسط، وتلك الفتحة كانت الإمبراطورية. كانت أشجار الزيتون تكون تلاحما داكنا، تولد النجوم. استدار ناحيتي؛ كان ينظر إلي بتركيز في الظلام؛ أخذ نفسه: «قُدتُ قصيدة العرس في زفافها على أستولف، القوطي.»
ابتعد، شيء دقيق كان يقلق مضجعه. كان يضحك.
طبعا، عرس ناربون كان كارثة. كان الممثلون يلعبون أدوارا ليست لهم، والأدوار بلا شك كانت تحوم حول الرجال مثل الحنين، تشدق حزين، عدم اكتمال فظ ونحس: ملك قوطي، والذي منذ موت ألاريك، لم يعد شيئا، كما سيقنعه متآمرو برشلونة بذلك قريبا بشكل نهائي، بحد سيوفهم؛ ابنة تيودوز، بلاسيديا، التي ولدت في البحبوحة، كانت رهينة ذلك البلاط التافه، دمية ذلك الملك العاجز الذي تحكمه؛ أساقفة رومانيون يبالغون في إلحادهم، لإثارة إعجاب البرابرة الآريوسيين؛ ومن أجل جمهور من زعماء قوطيين تُعيقهم ثيابهم، خرقى، مذهولين، أرستقراطيات بعيون مرسومة متحركات، مثل المحظيات، يتكلفن الابتسام. أن يكون الموسيقي هو نفسه أيضا شيئا آخر، لم يلغ هذا: كان قد قاد قصيدة العرس، حسم أمر الجوقات والرقصات، لحَّن وغنّى المدائح؛ ربما عَظَّم خلسة، بفضل كذب القيثارة، الكذبة الدنيئة لأعراس روما مع البرابرة؛ تلك المهزلة الفخمة، كان بالإمكان أن تكون تتويج مسار مهني موسيقي، ولم يكن في هذا ما يضحك، بعد أن لم يعد موسيقيا، بعد أن أصبح عجوزا، وينقصه أصبعان كي يكون رجلا.
قلت له ذلك بقسوة. كنت أحس بسيفي يلمس فخذي. فكرت لحظة في قرصان أصيب بجرح في الكبد، ظل يحتضر على ظهر المركب خلال ساعات، في الشمس الحارقة، في نظرته المرعوبة عندما استللت سيفي أخيرا كي أُجهزَ عليه. كان الليل حالكا، لم نعد نسمع الزيزان؛ كان البحر يتدافع في الأسفل، بلا توقف؛ بالقرب مني، لم يعد نفس العجوز الصغير يضحك. صمت طويلا ؛ ربما كان يفكر في أبهة ناربون السخيفة لكن الوديعة، في النافورات التي تجري في الرخام، في قصيدة العرس التي لم تكن سوى أماكن معروفة أسطورية مستترة بكلمات رنانة، لكن التي كانت قصيدته. كنت أخمن أن ما جعله يضحك لا يكمن هنا. لكني كنت يافعا، لم أكن أرغب في معرفة ذلك ؛ نهضت، انصرفت؛ أمسكني من كُمّ ردائي، برفق جعلني أجلس، بصوت أخويّ، جدّيّ تقريبا، قال لي: « إن قمة مساري المهني، إذا كان لي مسار، وإن كانت نقطة كتلك موجودة، كان موتُ ألاريك.»
كان قد التقى ألاريك في بلاد الغال، في سبتمبر/أيلول. كان يعزف في فيلات شمال ليون، حيث كانوا يعرفون أن القوطيين يقتربون منها كل يوم؛ الفصل والريف كانا عذبين، كل صباح كانت الشمس تطلع من ضباب أخضر؛ قرب الشتاء والبرابرة الوشيك، مذاق ذلك الصيف في نهايته، القليل من الأمل أيضا، كان يدفع الأرستقراطيين إلى التبذير، إلى النساء، إلى الأعمال الجميلة العبثية بحيث ترمى أكياس الذهب بين أقدام الراقصات العارية. في إحدى الليالي، في إحدى فيلات منطقة أوتون، بينما كانت الموسيقى مرة أخرى تحاول دفع بعض الآجال المحتملة، سُمِع ركض في الساحة: دخل فرسان يلبسون دروعا، يزينون خوذهم بشعارات سيلفستر، بالأغصان، بأفواه مفتوحة، بالصلبان؛ من الردهة حيث بدوا في النور المعكوس لحاملي مشاعل العتبة الصغار أشبه بأشباح، أيائل الليل، طلبوا بلغة روما، ضيافة كان بإمكانهم فرضها والتي لم يكن أحد يملك الجرأة، ولا الحماقة ليرفضها. في اليوم الموالي، في الحراسة الغريبة لهؤلاء الضباط ذوي القرون، انطلق الموسيقيون عبر طرق لموافاة مخيم القوطيين، من أجل تسلية أحد الملوك. قال لي إنه حتى النهاية سيعيد القيام بهذا السفر، في الأخضر الرائع والمفقود للأبد لغابات بلاد الغال، في نهاية الصيف، عبر طرق ملبدة بالظلال، حيث الأيائل نفسها في بعض الأحيان تقودك نحو فرجة الغابة التي تعرفها، التي نتمناها، فرجة السماء الصافية التي على حافتها يتربع ملك الغابات على عرشه، أو أن العرش فارغ وأن منبع كل موسيقى ربما هو الذي تصمُتُ فيه، وتتأجل إلى الأبد، في انتظار موسيقيٍّ يمسك أغانيه ودموعه، بين أشجار بندق، في عبق أوراق. هيا، نحو ساكن أجمة أنطاكية، كانوا يسيرون هناك في الأخضر السماوي للغاليين.
وصلوا إلى مخيم القوطيين عند سقوط الليل. تم إدخالهم تحت خيمة فسيحة حيث قيل لهم إنهم سيعزفون في الحال. انسحب الجنود. كان في طرف الخيمة رجل يرتدي معطفا مبطنا بالفرو، كان ضخما، يدير إليهم بظهره، كان جالسا أمام إبريق نبيذ ؛ ذلك الظهر كان يخفي تقريبا بالكامل امرأة عجوزا صغيرة كان الرجل يحدثها بصوت خافت، لكن بتغييرات محتدة في نبرات الصوت ربما كانت رقيقة. بسطوا قيثاراتهم بصمت، أخذت الراقصات أوضاعهن، صدورهن مرتفعة في أيديهن الممنوحة، أمسك الممثلون أقنعتهم، احتضن قيثارته، من أجل ذلك الظهر الذي لا يتحرك. اختفت العجوز بخطوات صغيرة، دون نظرة. في النهاية استدار الرجل دفعة واحدة، كما نحرك وزنا ثقيلا: كان أحمر لكن بأناقة، مدمرا، كبيرا، يطلق لحيته ويقطب مثل زيوس؛ بدا له جميلا، لشدة ما كانت نظرته تناقض كل نظرة أخرى، تنكر كل منافس، ولا ترى أبعد منك ربما سوى شيء مؤسف وجذاب؛ تحت هذا، وداعة غريبة. نظر إلى الموسيقي، ضرب الموسيقيّ القيثارة. عزفوا؛ كان ألاريك يشرب؛ لا شيء غير هذا. أحيانا كان أحد العبيد يمر ويضع إبريقا آخر من النبيذ، يغير المشاعل: جسده الخائف والذي يعود بسرعة إلى الظل كان أقل واقعية من تلك المواجهة لنظرة فارغة لملك مع موسيقى غير محسوسة. الراقصات، مذعورات أو مرعوبات، كن كأنهن يمشين نائمات؛ سقطت إحداهن، نهضت وحاولت بدون جدوى استعادة الإيقاع، أجهشت بالبكاء. كانت نظرة ألاريك تحوم على ذلك مثل نظرة ثور على مَرْج، لكن بوقاحة مؤدبة، ساكنة. اكتشف الموسيقي مذهولا أنه من أجل تلك النظرة كان يعزف، منذ الأبد. ربما من أجل أن يضع حدا لعذاب الراقصات، أبدى ألاريك رغبته في سماع أبيات شعرية؛ غنوا مرة أخرى سقوط طروادة، ملك إيثاكا الكاذب يشتغل على آلته الغادرة، الكذبة التي تُسقط عروشا وترمي في سريرك المَلِكات الأسيرات؛ بدا له أنه لم يغن أبدا تلك الأشياء. طلع الصبح، كان ألاريك قد أسرف في الشرب؛ استسلم للنوم. أخيرا قام بحركة تهدئة، كما نضع حدّاً لمعركة؛ شكر الفرقة بأدب، وحتى بعاطفة: كان كلامه مُنطلقاً بشكل غير عادي، سهلا. عند عتبة الخيمة، القيثارة ثقيلة في طرف ذراعه، استنشق الموسيقيُّ السماءَ كما لم يفعل ذلك منذ أنطاكية. عَلِمَ خلال النهار أن ألاريك أخذه في خدمته، في خدمة ملك القوطيين الأوحد، مقابل أجر يناسبه.
قيل لي كل هذا دفعة واحدة، كأنه اعتراف. «أعطاني هذا الصليب كعربون على تفاهمنا. منذ ست وعشرين سنة وأنا أحمله». أحس بانفعال، استأذن، وعلى الفور طواه الليل: ربما استرجع أنفاسه في المنحدر، كان يتوقف بتقتير، ينطلق من جديد، أصابعه الثلاث تضغط على قلبه العجوز المضطرب تحت صورة المسيح البربرية.
التحقتُ بمخيمنا عبر شط البحر. كان سكان الجزيرة يقولون إنه عند بعض العلامات، يمكن أن نخمن أن سترومبولي سيدخل قريبا في إحدى ثوراته الهادئة، التي يبدو أنها تضع في الليالي توهجا في عرض البحر؛ لكنه لم يكن هناك سوى جبل ميت على البحر الإسفلتي. لم أستطع نزع أفكاري من تلك الخيمة، حيث في إحدى الليالي، قبل أن أولد، حدثَ شيءٌ مَا بين سوريٍّ جميل يرتدي دلماسية وعملاق يرتدي معطفا مبطنا بالفرو كان ينظر إليه، وهو جالس؛ لا يهم إن كان ذلك الشيء قد أخذ شكل الموسيقى المصطدمة بالسلطة، المهداة إلى السلطة، ربما أقوى من ذلك الشيء الذي تصطدم وتهدى إليه، أو الشكل الأكثر عنفا للسلطة الخالصة في مواجهة نفسها؛ كنت أعرف أن ما حدث، التحدي، الصراع المميت وغير المتكافئ، قد جرى بالفعل. أجل، حدث ذلك قبل ولادتي. الرجل ذو المعطف المبطن بالفرو، الملك المتناقض ذو اللحية الجوبيترية، واللسان المنطلق، الرجل الذي اصطدم به قدرٌ انطلق نحوه من أنطاكية، كان هو نفسه، الرجل الذي رغبت فيما بعد، بكلّ قواي، أن يكون والدي، رغما عن كل منطق؛ كان قلبي قد دق لذكره، لمجرد اسمه؛ والصورة التي رسمها العجوز اليتيم، رغم كونها مسرحية، لم تخذلني، ربما لأنها كانت مسرحية، أو لأنها كانت حقيقية. أجل، إنّ هذه اللامبالاة القوية، هذه العاطفة الحزينة، كانت هي التي تخلّت عنّي هناك، في بانونيا، بينما كانت، بتبرّم إلهي، تسحق الإمبراطورية وتنتصر بسهولة فائقة على ابن أبولو، الذي أهدته صورة مسيح مصلوب، من أجل اللهو، من أجل الصداقة، ربما من أجل لا شيء. يقول المانويون إن الأب قاس، وإنه أَسِفٌ، وإنه لا يعرف. إنه لا يترك سوى أيتام؛ وأبناؤه إن أحبهم، يصلبهم. الأم المفقودة تضحك في النجوم، على نتوء خليج مونتي روزا ينام الشيخ العجوز مثل طفل.
في اليوم الموالي، لم يكن هناك. لم أنتظر طويلا؛ أخذت المنحدر نحو الفيلا حيثُ قمت، في مرات نادرة، بزيارته على ذلك النحو. كنا بعيدين عن بلاد الغال الخضراء: كانت هناك بعض أشجار السرو؛ لكن على الواجهة، كان اللبلاب الأزرق يتسلق ويتدفق، ثم يتلاشى في الأعلى في أقوى إزهار للسماء. كان يملك عبدين صغيرين من المنطقة، خاملين ومخادعين، لا يطيعانه؛ جسداهما النحيلان والمدبوغان، ربما كانا يتوسلان لحم النبيلات المفقود، الأجساد العارية الثقيلة بالفساتين الكبريتية، عندما تسقط في نبات الليلك. أحدهما، المجعد، استقبلني عند الباب بضحكة خبيثة: كان السيد في غرفة الجلوس يشرب نبيذا أسودا. كان الضوء يندفع؛ كنت عرقانا ومبهورا، تطرفت عيناي كي أستطيع رؤيته: كان جالسا القرفصاء في ركن ظليل، على البلاط مباشرة، رأسه مائل كأنه يفكر، رأسه الأصلع تحميه ثلاثة أصابع. فكرت بسخرية أنه دوري كي أتأمل، وأنا واقف، رجلا جالسا يشرب. أحسست برغبة في أن أجرحه، في أن أصيبه، في أن أقترب منه: وأنا أقف في الضوء القوي، تجرأت على أن أسأله فجأة كيف فَقَدَ السبابة والإبهام اللتين يمسكان ريشة العزف، يحددان ما نريده ويستحوذان عليه؛ نظر إليّ لحظة وهو لاهٍ، ثم: « صدفة، قال لي، صدفة. سيف…» كنس البقية بظهر يده، ثم مباشرة» تبعته حتى النهاية، بالأحرى، جرفني، مثل الباقي؛ والقوة التي كانت تدفعه نحو الأمام أراحتني من تلك التي دفعتني إليه، أو ربما أغاظته. يكذب الناس كثيرا، ولا أحد يعرف شيئا؛ يقال إنه مثل ياهو، مثل نبوخذ نصر، كان وباء من الرب؛ هذا ممكن؛ لكن لا أحد أبدا رأى رأسه الكبيرة لطفل مقطب، لهيكل عظمي غليظ، لشفتين بدم داكن، لكل ما هو مرتبط بالليل، جيوب تحت العينين، سحنة آجورية ولحية سوداء، تُصدر في النهار الجملة الأكثر موسيقية، الأكثر تناغما وحنينية. كان يبدو كأنه يتهكم، يتحدى كل شيء، لكن ربما كان يسخر من نفسه. صحيح أنه لمبعوثي هونوريوس الباهت الذين كانوا وهم يرتجفون يهددونه بجحافل مهيبة لا حصر لها، الجوبيترية، الهرقلية، الباتاف، كما لو أن كل تلك الأجسام العتيقة المدرعة، الغارقة في الوحل والمسفوكة منذ تراجان، استطاعت أن تنبعث من جديد، أن تنهض مترنحة من أوحال ألمانيا حيث تتعفن، وتأتي كمرعبة، غارقة في الوحل، لتحارب -، أجاب بأنه مسرور من ذلك العدد الكبير، لأنه كلما كان العشب كثيفا، كلما عضت فيه المِحَشّة؛ وكان يعجبه أن يكون المِحَشّة. لكنهم لا يعرفون أنه كان يحب صفير المحشات الهادئ صباح الربيع، وأنه كان يحس تجاه تلك الأشغال بحنين عبدٍ آبق أو قاطع طريق، وأنه كان يطلب من قيثارتي تصوير السنبلة المنحية، فترات الحصاد، قيلولات الصيف البطيئة التي يقوم بها الآلهة الريفيون، خلف الرحى، أو عندما يستيقظون مشاكسين، في الأكمات. يقال أيضا، إنه عندما كان يسير بدون فرامل نحو روما المفتوحة لملاقاته أتى الناسك ريميني، رافعا الصليب وهو يزعق، يرعد من بعيد ويقسم عليه بالأقانيم الثلاثة أن يعود أدراجه، بحركات عريضة ساخطة موزعا في الجهات الأربع سخط الأب، والابن والروح القدس، وآمين التي تربطهم، يقال إنه أمام ألويته المتوقفة تقدم وحده ببساطة نحو تلك الخلقة الصغيرة الشجاعة، المتجشئة والقذرة، وأخذ بطريقة حميمة الناسك القديس تحت ذراعه، وهو يضحك، قال إنه يود ألا يذهب، لو كان الأمر يتعلق به وحده، لكن قوة مجهولة، وبلا شك، خارقة للطبيعة، تدفعه نحو روما رغما عنه، تدوسه وترميه في الهاوية أو تجلسه بالقوة على ذلك العرش وتسحق كتفيه مثل خفاش جاثم. قوة، أجل، وليس كلمة طيبة. لأننا لا نقول إن ذلك كان مثل موسيقى، مثل أوركسترا ملائكة متعلقين، في السحاب الذي يتحرك، الأوركسترا التي تتبع، دائما، النغمة التي كانت دائما ما تُفلت منه، تهرب بعيدا، خلف أشجار الحور، بعد أن نعبر النهر، ثم خلف التلال مرة أخرى، ثم على ذلك الهيكل المحروق بدا أنها تقف، ترتعش لحظة في اللهب، في العويل، كانت هناك، لا، كانت بعيدة مع الدخان، بدون هدنة تهرب أمامه نحو روما هنالك. وعندما استولى محاربوه على روما، على صوت ترتيل المزامير وهم يفرمون بكثافة، أيضا باسم الأقانيم الثلاثة التي لم تكن تماما نفس أقانيم الناسك، عندما تحت المذابح المكسرة وحِقاق القربان المقدس المصهورة في جميع الكنائس، ونسيج حرير النبيلات الذي وضع للأحصنة ورخام القصور الذي أصبح مبولة ، بحث عن ذلك الغناء، عندما أصاخ السمع لصراخ العذارى اللواتي سبين، لصياح القيمات ولخرخرة كل شيء، عندما عرف أن ذلك الغناء لم يكن تحت الأرجوان، ولا تحت الرتبة الجديدة والرنانة، التي من أجله وحده أحدثت، «القائد العام لجيوش الغرب»، ولا أكثر من ذلك في قلب كل ذهب الغرب البارد، الذي أصبح الآن تحت تصرفه، عندما مائة مرة أمر البوق الأجش ذلك الغناء بالظهور فوق الكابيتول، تألقت أغنية بسيطة فوق المنتدى في الرماد الأخير، اجتازت الأبواب، انطلقت نحو الجنوب، فتبعها. لم تكن الرغبة في الذهب، ولا المجازر، ولا أن يكون أول الأحياء؛ كانت تلك الجملة اللامتناهية التي تفلت دائما، تذهب بعيدا مع السحاب، لا توافي سوى الجثمان؛ كان ذلك ما ينقصه، وربما كان العالم. من أجل تلك الهوة، كنت أعزف على القيثارة.
كانت الشمس قد مالت؛ في إحدى زوايا غرفة الجلوس كان شعاع من الضوء ما زال يهتز، حيث كانت ترقص ذرات ضئيلة، بدون اسم، مكرسة للهرب، ربما مثل أغنية ألاريك البسيطة. جلست قرب الصهريج الذي عمت برودته كليتي؛ شربت أيضا، نبيذا ممزوجا، قبالته، هو الذي كان يشرب نبيذا خالصا. لم يكن النبيذ وحده السبب: وهو يتحدث عن ألاريك، وكما لو كان في ذلك الاسم وحده سحر، موسيقى، كان شديد الحماس بقدر ما كان قليله وهو يتحدث عن نفسه؛ كان في صوته ولع وغضب يتعذر تفسيره. كان يمسك رأسه بين كفيه، يكبس فيها شيئا لا يجب قوله، لكن فمه الأشد سرعة، المتهور والعاشق للأسوء، كان يقوله؛ خضّب خط دقيق من النبيذ لحيته الرمادية؛ كان أحيانا يتوقف وينظر إلي منذهلا، مندهشا من معرفته كل هذا الذي يقوله لي، مندهشا من سماع نفسه يقوله، لجندي صغير مضحك كان لا يزال طفلا تقريبا، والذي لا يعرفه كثيرا، لكن الذي، وهو طفل، أحب غياب ألاريك. قام عبد صغير – الآخر، مشقوق الشفة – بتكشيرات وراء ظهره، قلده ونعق ألاريك، ألاريك، الكلمة التي لم تكن إعاقته ولا لغته الأم تسمحان له بالنطق بها بشكل سليم، والتي بدت كأنها صيحة طائر قاس، وعنيد. نهض متثاقلا وطرده بحركة منهكة، بتعب، كما نبعد كلبا. اختفى الصغير في اللبلاب، حيث ظل يُسمع اسم ألاريك الكبير الذي تغير. تابع العجوز: «لكنها كانت معركة. لم أكن سوى الشكل المتردي، القابل للاستدعاء والصرف، للموسيقى الأخرى، تلك التي تصفر حيث تريد، انعكاس لازم وغير كاف، مثل قنديل زيت صغير في ليل ألاريك، عندما كان يصبو، عند استبعاد كل وميض آخر، إلى الشمس الساطعة. لكن لأنه كان يصبو إلى الشمس، لأن ذلك السعير وحده كان من الممكن أن يهدئه، لأنه كان يطلب مني الشمس وكان يعرف جيدا أني لا أستطيع أن أخرجها له من كُمّ معطفي، بسبب هذا كانت شعلتي الصغيرة المستاءة تحترق بنقاء، مرتفعة وواضحة بلا توقف، ومهما كانت عاجزة، كانت تخيب أملي وتشوش علي، كانت ترضيني. كان ينظر إلى الشعلة الصغيرة تضمحل، غنائي، حياتي، بلطف؛ ومرة أخرى كان يشكرني بأدب، بصبر، كما نشكر، بحذر، عاجزا، هو ليس عاجزا لأن البعض قد يكونون غير عاجزين، لكن لأننا لا نستطيع إلا أن نكون عاجزين، كما لو أنه، مثلا، أمر أن تسرج أحصنته بعارضات، أو أن تنصب خيمته على وحل فيضان، وأن النتيجة الكارثية لا تدهشه، وأنه مع ذلك يشكر العامل، وإن تهشمت كليتا الحصان أو غمرت المياه الخيمة، لأن العامل قام بما يستطيعه، وهو كان ملكا له أعرافٌ. وأحيانا كانت الشمس قريبة من شروقها، الأغنية الأساسية الصغيرة المتوقدة في أطراف أصابعي التي كانت تعتقد أنها تقريبا تبلغها، كم كنت سعيدا، سعيدا لأني لم أكُن كافيا، وسعيدا لإجهاد نفسي، بدون توقف، نحو ما سيكون كافيا، إن كان هذا موجودا. ربما مثل الابن، الذي كان مستاءً من كونه فقط نورا مستعارا لكنه ممتلئٌ حُبّاً لمنبع كل الأنوار، يرهق نفسه عبثا كي يلمع مثل الأب ويصبح جديرا به، وأن المعركة الخاسرة هي اختصاصه الوحيد، وأنه في تألق الصليب أخيرا، أشواك ودم، عظام مهشمة، وفي هذيان الاختناق يضحك فجأة ويظن أنه هو من يتوهج، وأنه من يحكُم العالم مثل مسمار مغروز من ذهب، هو نفسه وليس تلك الشمس التي تسحق رأسه، تمزق فمه وتُعميه.»حل الليل؛ حملت رياح المساء صياح طيور النورس؛ طائر، أو مشقوق شفة، يكرر ثلاثة مقاطع في الأكمة المزهرة.
نادى على المجعد الذي جاء مرتخيا، يجر رجليه الحافيتين في غبار البلاط: كان يرغب في مزيد من الشراب، وكان جائعا. دائما بلا مبالاة، وكأنه يؤدي مهمة غير جديرة بشخصيته الكبيرة، أحضر المجعد بعض الزيتون والجبن والفول، الكثير من النبيذ. جلس بالقرب منا وأخذنا نأكل. خرج مشقوق الشفة بصمت من الظل، اقترب بخبث، أخذ مكانه بدوره وبصق، بصوت مسموع، نوى الزيتون، حتى وصلت إلى الصهريج حيث اضطربت بعض النجوم؛ لم نكن نرى الوجوه: أربعة رجال مظلمين يأكلون، بجشع، ويشربون بسرعة، بدون احتراس، مثلما نفعل في الظلام؛ مثلما في العجلة نعيش، بالتحسس. نشبت مشادة عنيفة وكبرت بين العبدين الصغيرين الثملين؛ كانا يشتمان بعضهما البعض من بين أسنانهما؛ نهضا دفعة واحدة واختفيا في الأزهار المدهوسة، بضربات عمياء، نحو بعض الغرف: قصعةٌ من خشب صدماها في هروبهما رنّت، طويلا، على البلاط، مثل خذروف، مثل فم عنيد يقول نفس الأسماء، نفس الفكرة البليدة، المتكرّرة مثل حكمة، بصوت خافت أكثر فأكثر حتى النوم. كان قد توقف عن الأكل، لكني كنتُ أسمعه يصب النبيذ لنفسه؛ كنت أخمن كفه اليسرى تحتضن القدح، والأخرى التي لم تعد تمكنه حتى من أن يثمل لكن فقط من ملامسة ما هو غير نافع، بالٍ، الشيء الذي نتذكره، اليمنى، تلمس بلا شك صليب ألاريك. عندما تكلم تحدث سريعا وبحدة، كمن يريد أن ينهي الأمر: «ثمّ مات. كانت قد عبرتْ لاتسيو، الموسيقى الصغيرة، تجرّ وراءها تلك الحاشية الكبيرة، تلك الرغبة الملكية التي تحمل بين ذراعيها جلبتها من العربات، من الأعيان الأيائل، من التراتيل مع قساوستها، من الأبواق الجشّ واللغات المختلطة، من النزاعات الداخلية بين المرتزقة الآلانيين، والهونيون، والجرمانيون، كل سيثيا تسافر رغما عنها مثل نهر حوّل مجراه، جامحة لكن تسير إلى الأمام، لكنها تتبع ذلك الظهر العريض بالمعطف المبطن بالفرو الذي كان يسمع شيئا دقيقا؛ كانت قد عبرت لاتسيو وكامبانيا كانت قد رقصت في نابولي، وبيستوم، وكابوا، وكانت تجر الملك بدون رحمة، نحو الأسفل، بخطى شاقة، نحو هذا الجنوب حيث نحن، نحو صقلية حيث جاء لموافاتها، من يدري، ليضمها إلى قلبه ويستريح بين ذراعيها الكبيرتين المهدهدتين الحاضنتين، صقلية التي كان يظن أن الملائكة فوقها في حالة مثيرة للشفقة أخيرا ستتوقف وعبر سلالم كبيرة حريرية الملمس إليه ستنزل، متقلدة القياثير ضمن الأجنحة والمزمار أخيرا مسخر، تابع، لأفواهها الذهبية؛ صقلية حيث ربما حصل على ما يريد، زوجة، عازف آخر على القيثارة، لقب، تخلّ، لماذا لا يتعلق الأمر بابن، والذي لم يره أبدا. عندما وصلنا إلى لوكانيا، شيء ما أغضبه؛ كنا نسير في غابات خلال أيام بأكملها، دون توقف أو راحة، والمساء كان يجدنا في نقطة الانطلاق؛ هل كانت خيمته منصوبة، عندما كان يتفضل ويطلب أن تنصب ولا يرمي جسده مباشرة على الأرض، وأن نعزف من أجله؛ تصبح وداعته بحيث أظن أننا لو بدل المزاهر ضربنا أغصانا يابسة وفردنا بين قرني رأس ثور حبالا كي نقلد قيثارة، لكان تظاهر بأنه لم يلحظ ذلك. لكني رغم ذلك كنت أعزف بشكل أفضل. كان ذلك في الربيع، في لوكانيا؛ توجد هنالك غابات بلوط شاسعة على مرتفعات ثقيلة، كما في بلاد الغال نحو أوتون؛ كان سيرنا يفك أحزمة من الأوراق، يحني في الندى أزهارا بلون الكبريت، ليلك؛ وكان كل الأخضر المتدرج يداعب نظراتنا، كل طراوة الأرض المخبأة في الطحلب تحت أرجلنا، كنا نتقدم بشعور من الإجلال تحت تلك القباب التي كانت كأنها اختيرت عمدا من أجل أن تسحقنا هناك، تنادينا وربما تحررنا عندما، في الصباح في مايو، تنط الأيائل في فجوات النهار، إذا ظلت معلقة على نحو ظاهر، تختفي: من أكمة إلى أخرى كانت تقفز معها، الأغنية الصغيرة، وكان يجري وراءها. كانت قد عددت نغماتها الأولى من أجل ألاريك، في سيثيا، في غابات مشابهة، سفريات مفاجئة في نهايتها يمكث آلهة محاربون أو موسيقيون، محاربون وموسيقيون، متشدقون بالكلام مثل رياح الشرد المليئة بالطيور، آلهة تتغير وتكون مرة كل ما هو نهارا مرئي بين الأوراق، مرة أخرى الأوراق القاتمة ما عدا في النهار، وإذا ما اقترب الطفل المرتعش، وصدغاه يضطربان، وعيناه مبللتان، ويداه مخدوشتان في العليق، فإنه لن يرى على عرش فظ التربيع سوى رجل وحيد مرفوع، جذع تالف، كبير، رُفعَ واقفا وتُوّج باللبلاب، عملاق من خشب ميت، لا شيء. كان الملك يرتعش كما فعل الطفل، أراد ألا يعير الأمر اهتماما ويتقدم، ومرة أخرى كان سيره المنتصر هروبا. لكنه إزاء الانتصار أو الاندحار يتم الوقوف: ففي لوكانيا توجد، أيضا، في التخوم، مستنقعات تتعفن فيها أكوامٌ من الغابة المتهاوية، باضطرابات نتنة؛ وهناك، يأخذ منك بعوضٌ نزيه جدا قليلا من الدم ويقدم لك عوضه الموت، بعوضٌ صغير ذاق الدم الكثيف للقائد العام لجيوش الغرب، وأرداه قتيلا. هذا ما قيل. لكن ربما لم يكن يرغب في التقدم أبعد من ذلك. صقلية … لا يهم .»
صدرت عنه ضحكة صغيرة. بدا لي أن الكف الجدعاء، الكف المتعبة، تلك التي عاشت شيئا ما أكثر من الأخرى، تدفع شيئا في الظلام، كلمات لن يقولها، كل غابات لوكانيا المتذكرة، والتي لا يمكن التعرف عليها، ملك يتحشرج ومرة أخيرة يبتسم لصديقه، لكن ربما كان هذيانا وحسبه أحدا آخر. كنا نشرب بشكل أسرع فأسرع، دون أن ينسكب شيء. كأنما من الصهريج حيث تعيد النجوم نفسها، كأنما من المربع المظلم فوقنا حيث لا تلمع كالمعتاد – لكن لا، من ذلك الفم القديم المنطفئ في الليل، بدأ الصوت:» ها هو قد مات. الكل يعرف البقية. كنا نعرف ما يريد، وقد تم ذلك. يجري نهر هناك، كثيف، أسود، في التخوم عند الغابات المتهاوية، نهر بوزينتو: ثلاثة أيام كل سيثيا ثكلى، غضبى، بواسطة المجارف، السيوف، بالدروع الكاملة، حفرت قناة موازية للنهر، في سحاب كثيف من البعوض؛ كل ذلك الجيش من الوحل، من الألسن المختلفة، تورط حتى الأوراك، في خوذه القرناء في أطراف الأذرع حمل التراب الميت، كسر أشجار البلوط كما كان قد فعل مع أعمدة المعابد، وكما فعل عند تهشيم المعابد ردد التراتيل، من أجل جثمان كبير ينتظر، ووجهه متوجه نحو السحاب؛ ذلك الجيش الذي لا شيء دقيق سيغني من أجله أبدا، لكن الذي ربما كان ينجز، بشكل جازم، أعلى واقعة سلاح تخصه. وعندما تم ضخ كل المياه، وهي تتذمر إلى القناة، عندما تم تجفيف سرير النهر المباشر، في ذلك الوحل حيث كان سمك الشبوط يموت، حيث تفاجأت جذور لولبية لأول وآخر مرة بالنهار، كل سيثيا نزلت في الحفرة، متمرغة، متأوهة، مثيرة للشفقة مثلما عادت جحافل ألمانيا، المنبعثة من جديد، إلى مستنقعاتها، كل سيثيا حفرت ثانية حفرة كبيرة، رمت فيها الغنائم التي أخذت من روما، الآلهة والأشياء الصغيرة التي كانت غالية عند السابين Sabins، عند قرطاج، عند الإغريق، راية اللبرومة التي سار تحتها قسطنطين، سبعة قرون من الانتصار، وفوق كل ذلك أخيرا رمى مثل كيس ذهب وفرو الملك، الذي غرق، برفق، في دوامات كبيرة، وبطنه في الهواء، اختفى فجأة تحت الشبوط. حينئذ، بمزيد من التراتيل كما بالنسبة للهجوم النهائي، بضربات كبيرة من السيوف أو بملء الأيدي، أزاحت سيثيا متهللة حواجز القناة، فمرت كل مياه العالم، العنيفة، القوية، ببساطة على جسد أمير سيثي كان قد مشى في روما في طليعة القياصرة. على تلك الضفة غنيت، لمرة واحدة وإلى الأبد.»
سمعت حينئذ شيئا مدهشا، صوتا متهدجا، متأوها، صوتا شديد القدم أخذ يغني بصوت خافت، كما يغمغم العجزة. لم يكن مصحوبا بأية قيثارة. كانت يونانية؛ تعرفت فيها على عوليس مستجوبا إريبوس، الذي لم يكن أشد سوادا من بوزينتو لكنه تحدَّثَ عن كثير من الملوك، عوليس محاورا الجثامين الكبيرة الثرثارة، عندما ذبح، من أجل شهيتها المفتوحة، النعاج فجاءت منجذبة، شرهة مثل عجزة، خرفة مثل عجزة، تلحس الدم الأسود وتقص حياتها. لا بد أنه بالتأكيد كرر هذه المقاطع الوثنية في لوكانيا، بمناسبة غياب ملك مسيحي لم يعد له مكان، ملك قفز في نهر واستحوذ بغموض على الكون، ملك لم يكن له قبر تماما، كما هو الأمر بالنسبة للرب الأب نفسه. بدا لي – لكني كنت قد أسرفت في الشرب، أني كنت تائهاً، ولم يكن الأمر مُهمّاً لأن ذلك الصوت المنتمي لليل كان أكثر تناغما من أي صوت -، بدا لي أن غناءه لم يكن متناغما. وصل إلى الأبيات حيث أغاممنون، العملاق، الذي لا يهم أن نعرف إن كانت أغنية صغيرة قد نادته من طروادة بما أنه، اليومَ، الأغنيةُ نفسُها، الظل العملاق، المتهدج، يلوح، يستمتع بحلوى جهنمية وبعدها فقط يأخذ في البكاء، باحثا عن ابنه، فيجيبه عوليس: «أتْريدي، لماذا تسألني؟ لا يمكن أن أعرف إن كان حيا أو ميتا. لا يجدي أن نقول ما تذهب به الرياح.» تهدج صوته. كان قد غنى من أجلي كما فعل من أجل ملك انغمر. كان يبكي بصمت. أحسست برغبة في أن أدفئه، في أن أضمه إلي. صببت له قدحا من النبيذ، بطريقة خرقاء مددته له في الظلام؛ لمست أصابعه أصابعي حينما أمسكه؛ كان يرتعش؛ شرب بصوت مسموع، مثل العجزة، مثل الأموات.
قام ببعض خطوات، مال على الصهريج؛ نظر فيه مطولا إلى ظله الذي يصعب تحديده، الواضح فقط لعدم وجود نجوم حيث كان ظله، حيث كان. قال أيضا: «أظن أني أزداد كل يوم شبها بـألاريك؛ إنها رؤية من عقلي العجوز بلا شك: هذا الوجه الشرقي الذي تعيده لي مرآتي، المفزوع، الصبور، لا شيء مشترك بينه وبين الوجه النافذ الصبر، المبخر، الدموي، للآخر. ربما الاحتضار سيعطي لِوِجنتَيَّ ذلك الدمَ الانتصاري، الموت البارد سيبخّرني؛ سأكون ألاريك، عندما لن أكون هنا. هذا التضليل يساعدني على العيش: الطفل أبدا لا يلحق بالأب، هما يجريان، يجريان خلف موسيقى لن يحصلا عليها، يجريان خلف الروح القدس. الروح القدس نفسه… رماني الأب بعيدا عن وجهه، هو يعضّ الوحل عشرين باعا تحت النهر؛ لم يَصْلُبني؛ تركني على هذه الجزيرة، حيث دون أن أغني، أنتظرُ الروح القدس، الموت الفريد، وأنا أنظر إلى البحر الثابت والمتعب مثل الوقت، مثل طيران العصافير ومثل ضجيج الأسلحة، والذي ليس أكثر منهم، لا يُبْرز الأبدية. «ثلاثة أصابع ضمت كتفي. لمعت أحجار صورة المسيح المصلوب بشكل ضعيف. ودعني. تخطيت مشقوق الشفة الذي كان نائما على العتبة في قليل من القمر، مثل إنديميون. كان القمر يهمس أيضا على أشجار السنديان الفليني التي أجتازها؛ كان عصفور ليلي ينادي، برفق، بصبر؛ نباتات تحت الشجر تعيش مثل الليل دائما، باللمس، بالانتظار، بالصبر؛ ظننت أني أرى فيها ظلالا؛ مثلما في إحدى أكمات أنطاكية، مثلما في غابات لوكانيا ذات الأشجار الضخمة، مثلما تحت نهر، ومثلما ربما في السماوات المليئة بالنجوم، لم يكن هناك أحد.
حدث ذلك بعد وقت قصير من تلك الليلة، أظن أن مبعوثين جاءوا من رافينا؛ وأخبرونا عن تقدم الوندال السريع في إسبانيا، ومرة أخرى، عن هزيمة من كنا نُصر على أن نعتبرهم فيالقنا. أخبرونا أيضا أن وقت السبات الذي سميناه حياة هونوريوس كان قد وصل إلى نهايته؛ وأن الاستسقاء الإمبراطوري كان قد دفن؛ إلى أن تتضح النوايا الحسنة لصاحبتي المقام الرفيع، اللتين في القتال أو رقص الآباء والإخوة تعدان الضربات وتحكمان الإمبراطوريات، بلخريا في الشرق كما بلاسيديا في الغرب، أن تقررا من جون الغاصب أو فالنتنيان الابن، سيلبس أرجوان الغرب؛ كان الغاصب شجاعا، والابن عاجزا، لم نكن نشك في تنصيب الأخير؛ وكل هذا أعادنا في الحال إلى روما. كان علينا تمضية الليل في السفن كي ننطلق في الصباح؛ لم أكن قد ودعت صديقي العجوز؛ عند حلول المساء، رأيت المجعد يجر قدميه الحافيتين على الأرصفة حيث كان يتاجر في السمك، ناديتُهُ، طلبتُ منه أن يخبر سيده. خِفْت أن ينسى، فرميت له ببعض القطع البرونزية كي أعزز ذاكرته. أقلعنا مع الصباح الذي كان منعشا، جديدا، بزرقة شابة أبهجتني، كنا نرى أعماق المياه، كان البحر أملس، سهل التوقعات مثل فتاة، خلف ذلك الأفق الصافي كان المستقبل يمد لي ذراعيه. انزلقت المراكب ثلاثية المجاديف بدون مجهود، تبعت المضيق، انحرفت أمام مونتي روزا. كانت الشمس تضرب مثل ريشة عازف؛ الجوقة العالمية، خانعة، كانت أشجارها من الزيتون وأشرعتها، والحمير الصغيرة وطيور النورس الكبيرة، تستجيب، تتمايل. رأيت فيلا نتوء الخليج، رأيت أشجار السنديان الفليني؛ اقتربت المراكب في حزمة المجاديف، في ابتهاجها المزبد: كان هناك، على المقعد الصغير. خفق قلبي في صدري؛ نزعت معطفي وحركته بكل قواي فوق رأسي، وأنا أقفز وأطلق صيحات مثل جرو صغير؛ هنالك تحت أشجار السنديان الفليني ارتفعت يد وقامت بحركة صغيرة طفولية، مثابرة تقريبا، مراوغة؛ كانت المراكب تطير في رشقات المجاديف، ألف شمس كانت ترقص في الزبد؛ كانت الجزيرة تضمحل؛ سقط المعطف عند قدمي، لم أعد أقفز: بعيدا، بعيدا، أكثر فأكثر، بالكاد يُرى، عبر الدموع الآن، استمر الوداع الصغير المتضائل، المتحفظ، الأخوي، الغائب، آخر حركة من يد مبتورة الأصابع والتي لن أراها أبدا، الحركة الأخيرة، في نظري، من بريسكوس أتّالوس، إمبراطور الغرب.
II
كنت أعرف هذا: وُلد أتّالوس في الشرق. لا أحد يعرف في أي شيء أمضى شبابه، إن كان له أب أو أم؛ لا أحد يعرف من أي حلم كبير، قيثارة في الأكمات، دغل متوهج حيث تُسَلّم لك قوانين وسلطة، شجيرات مزهرة بينها نلمح أجسادا عارية في الحمى المفرطة للرغبات الأولى، من أية رؤية، أو سلطة عيل في أن يجعل منها حقيقة، حياته؛ لا أحد، ربما سواي. بحث طويلا عن نصيب. التقى ألاريك بين 400 و410 من الميلاد؛ ربما كان في الأربعين؛ يقول البعض إنه في تلك الفترة كان يعزف على القيثارة؛ آخرون، الذين كانوا على دراية، الأقل ثقة، يؤكدون أنه كان حاكما لـروما عندما استحوذ عليها القوطي: لا أريد تصديقهم. كان ألاريك يقوم بحروبه حينئذ في إيطاليا أو في ناربون، ربما تحت أسوار روما، ربما فقط في غابة أوتون؛ كان يعرف أنه سينتصر؛ لم يواجهه أي جيش جدير بالذكر: هونوريوس كان مختبئا في رافينّا الحصينة خلف مستنقعاتها، يغفو، يحلم بنفسه إمبراطورا. كان ألاريك سيهزم روما، لكن عن سخرية أو تقوى، أو ربما عن تواضع، كان يريد أن يجتاح روما بموافقة روما وكما بأمرٍ من روما: كان يريد أن يقاد هذا الجيش، كل سيثيا، التي كان يمسك بها بتصلب باليد اليسرى، على نحو متعاظم إلى اليوم العظيم ضد روما بيُمْنى إمبراطور لروما. كان له الكثير من الكبرياء كي يقبل أن يكون هو هذا الإمبراطور؛ ومن يدري، ربما كان يريد اقتسام أغنيته الصغيرة، أن يقدمها لشخص آخر كي يستمع إليها وأن يتجاهلها قيلا. حطت عيناه على الموسيقيّ التابع له، أو على موظف المدينة الذي أتى يفاوض، على بريسكوس أتالوس إذا، السوري، الوسيم، العلاّمة؛ وتم اختياره؛ كما يخلق الأب المعتزل ابنا مرئيا، كما تستجيب الموسيقى اللانهائية لمحدودية القيثارة، كما يجب تسميتها ملائكة الأشياء التي لا يوصف والتي ستظهر في الضوء الكثير، أراد ألاريك أن يتجلى في هذا الأخير. في معسكر قوطي، في قلب إحدى الليالي المليئة بالمشاعل المدخنة والجحافل الثملة، ودروع تتصادم في قرقعات صاخبة، وصياح في ألف لغة لقيصر أو أغسطس، وقائد منتصر، ينحني إلى الأرض، تحيةً له، قُوّادٌ ذوو قرون، يدهنه بالزيت المقدس أحبار الدانوب، استخفت به كل سيثيا التي هتفت له، يختفي تحت الذراع المألوف لعملاق بمعطف من الفرو، والذي كان يمازحه بالهمس في أذنه، بريسكوس أتّالوس زُجّ به في مستقبل زاهر أو خانق، وكما في الحلم، لبس الأرجوان وتقلد التاج.
كان حكما صغيرا. نعرف أن أول قرار إمبراطوري أصدره كان هو ترقية ألاريك إلى الدرجة القريبة للقائد العام لجيوش الغرب؛ وفي ظلّ هذا القائد، أصبحت كل سيثيا كما بفعل سحري الغربَ يسحقُ الغرب. يروق لي الاعتقاد بأنّ والدي غودونتيوس، الذي باعني كلامهُ، أصبح منذ ذلك الحين مسؤولا بكلامه وأفعاله أمام هذين الاثنين. يمكن أن نتساءل إن ضحكا من ذلك معا؛ لا أعتقد ذلك؛ أظن أنهما عشية ذلك التعيين، انسحبا في خيمة العملاق، بعد أن رمى شريطه الأرجواني ومعطف الفرو على ظهر أحد المقاعد، غنى الإمبراطور المزعوم من أجل جنراله المفترض إحدى أكذوبات عوليس، المرة، ربما، التي صرخ فيها ملء فمه بأنه لا يوجد أحد للسخرية من العملاق الأعور الذي أعاده هو إلى الليل، أو تلك المرة الأخرى التي تصنّعَ فيها دورَ المتسول الأبكم، العاجز، كي يمحو من سطح الأرض الزاعمين الذين يسهبون في خطبهم. وأثناء إعادة تلك الأبيات، والإنصات إليها، كانا جدّيين جدا، وربما متأسفين. يقال إن خطاباته القليلة كانت غامضة، فارغة، متكلفة؛ أود جيدا تصديق ذلك: لم يكن كفؤا لوضوح السياسات المصطنع، لشبح الكلام عندما يكون فعّالا، مُواطنيّاً؛ كان يحب ويخشى الفعل، بهرجته في النهار، سلطته الفارغة، الرنانة. يؤكدون أن كل روما كانت تحتقره: لا أشك في ذلك. يقال أيضا إنه بفعل الخيلاء أعلم هونوريوس، نسخته، الإمبراطور الزائف الآخر، أنه إن كان يملك الحكمة كي يتنازل عن الأرجوان، سيسمح له بتمضية بقية أيامه على جزيرة بعيدة، قرب بركان ما؛ لا أرى في ذلك غرورا، لكن رأفة، وانعداما تاما للإيمان بلقب إمبراطور.
كان ألاريك يشاركه قلة الإيمان تلك. سنة بعد ذلك، في ريميني، جرد القوطيُ بيده أتّالوس من شريط الأرجوان وخلصه من التاج. كانت طرق ذلك السيد غامضة: أود الاعتقاد أنه لم يجرد بريكسوس إلا لأنه في ذلك العالم كان يوجد أباطرة كثر وموسيقيون بقدر أقل. طلب القيصر المعزول وحصل على أن يسير مع قيثارته في معسكر القوطيين، كما كان قد فعل ذلك لحظة في الأرجوان؛ رأت فيه النفوس الجميلة، والسياسيون، وقِراب الريح، جُبنا؛ لكن النفوس الجميلة، إذا كانت تفهم شرفَ روما، والاحترام العبثي للذات والآخرين، فإنها لا تسمع بعض الأغنيات الصغيرة التي كان الاثنان، ربما دون شرف، يطاردانها؛ نسيتْ كيف مات الابن كي تستمتع الأغنية الصغيرة الجلية بخزيه، تنبثق أكثر صفاء، وتصنع له في ثلاثة أيام من القبر جسدا مغرّداً، مستعبدا وربما حررت الجموع حتى انقضاء القرون. يحلو لي الاعتقاد أنه بالنسبة إليه، وهو الذي لم يكن يعرف سوى هذا، لم يكن يَهُمُّهُ، كثيرا، أن يكون أو لا، علاوة على ذلك، إمبراطورا.
منذ تلك اللحظة، أخذ يُمثّل شخصيَتَيْ الإمبراطور والموسيقيّ بالتعاقب. أعاد ألاريك تكليفه عدة مرات، وكان يجرده ثانية: حسب احتياجاته، ربما حسب مزاجه، كان يخرج من الكواليس عازف قيثارة، أو يجلس ببساطة على درجات العرش حيث يُصدر قيصر وديع مَراسيمَه، ويختفي. مات ألاريك؛ يُعتقد أن أتّالوس لم يَعُد يغني، واكتفى في البلاط القوطي بإحدى المهام المربحة وغير المحددة، كُونْت الخدم أو رئيس التشريفات. نعرف بالتأكيد أنه قاد قصيدة الزفاف في عرس أتولف مع بلاسيديا؛ أريد أن أعتقد أن الأمر كان على شكل ابتسامة، وأنه أعجبه، هو، طيف إمبراطور وموسيقيّ معتزل، أن يقدم أغنية خيالية لانعكاس لا يمكن التعرف عليه لألاريك، سيد للعالم لا يسود شيئا؛ أود أن أعتقد أنه غنى بأمل أن تعود إليه، لحظة، من القبر، النظرةُ اللطيفة والمتهكمة قليلا لملك لا يشبع. تهاوى القوطيون، سقط أتّالوس بين يدي هونوريوس: هذا الأخير، قبل أن ينفيه إلى الجزيرة التي كانت ضحيته قد اقترحتها عليه من قبل، اقتلع أصبعين من كفه اليمنى، بكل احتفال الخزي الذي يشتهيه الأقوياء، عندما لا يكونون كذلك. لا أعرف الحقيقة حول بريسكوس أتّالوس: لكني أعتقد أني أعرف أنه بعد مرور الفأس، عندما رأى على الأرض هذين الشيئين اللذين لم يكونا هو، اعتقد أن والدته كانت قد أخذت وهي تضحك أصبعيه في فمها؛ في أنطاكية هنالك حيث توجد أكمة، وحيث تُباعُ الأسماك، عندما يطعمك ثديٌ، ولا يعرف المرءُ، بعد، أن يغني، بل، فقط، الضحك والبكاء؛ اعتقَد، أيضا، أنهم في النهاية سيتركونه بسلام: لم يعد أحد يطالبه أن يكون إمبراطورا أو موسيقيا؛ ولم يعد يطالب نفسه بذلك. الدولة، القِربة الفارغة العتيقة، قدّمتا له منفىً، ونفقة: ماذا يريد أكثر كي ينسحب ويتذكر، ويتخيّل ما حدث؟
اليوم، وأنا في سهل شالون، يرتكز تفكيري عليه. يبزغ الصبح: الأكمات مليئة برماة السهام السيثيين، الأشجار تهتز، الطيور تشحذ مناقيرها على ضوء الصباح الذي يولد. كل أوروبا هنا. ليس سوى الأغاني. ليس سوى الصمت. أنا متأهب: سأحارب هذا ألاريك الآخر، الذي يطلق عليه اليوم أتيلا؛ الصغير أتيلا الذي بصحبته، منذ زمن بعيد، تعلمتُ ركوب الخيل: كان يرغب في كل شيء هو الآخر، في الريح التي تصفر؛ الأغنية التي يسمعها، أود أن تتوقف، هنا. سواء مات بيدي أو متُّ بيده، فلن يُشبع جوعه، ولن يسمع حل اللغز؛ ليس أكثر مما سأسمعه أنا، أيتوس، باتريس الغرب، القائد العام للجيوش، سيد ولعبة في يد إمبراطور دمية؛ ليس أكثر من ذلك الذي لم تفتأ عظامه تتعفن تحت أحد الأنهار؛ ليس أكثر من بريسكوس أتّالوس، إمبراطور كريه وموسيقي مريب، مات لا أعرف كيف، بين عبدين صعبي المراس، اللذين ربما يبكيانه الآن تحت اللبلاب، أتّالوس الذي يعيش كلامه في داخلي، والذي يتواصل قدَرُه في داخلي: فليكن، اليوم، أخيرا، منتصرا على ألاريك.
في هذه الحقول الكاتالونية، سيحسم الأمر. فليتقاتل آباء وإخوة من أجل لا شيء وليتعانقوا هذا المساء على يمين الأب؛ فَلْيَمُتْ ابن ألاريك هذا، تيودوريك، أخي، الذي مع القوطيين من أنصاره يقود جناحي الأيمن، بيدِ أخي، أتيلا. كلّ هذا يتعبني حتى الموت. كل هذا يجب أن يكون. فلنتحارب. تركض أحصنة، تمر سهام مثل طيران أبي منجل. خوذتي. إليك، حصاني: هذه السماء السريعة فوقي هي سماء ليباري، التي لم أرها منذ ثلاثين سنة؛ بركان، يقال إنه أحيانا يستيقظ فيها؛ من هذه الجزر حيث يحكم أيولوس، الريح التي تتحرك، الأغنية التي تصفر لك دوما، ستنبثق، ربما، لبضعة أيام، الروح القدس، التي ستتخلص من هذه القصص عن الأب والابن. نحن لن نكون هناك.
—–
بيير ميشون
ترجمة: محمد المزديوي *