«جنية المعلم» كانت الكابوس والمُخبر الذي يُحرك خيالاته الأولى. والإيقاع هو الباب الذي ولج منه الشاعر العُماني خميس قلم إلى عالم الشعر الفسيح. أغراه شعر المتنبي حتى أخذ يسرق بعض الأشطر الشعرية ويضمنها في محاولاته الأولى. طارد خميس قلم ذات مرّة أوراقاً صفراء كانت زوابع الرياح تحملها أملاً في أن يجد فيها أبياتاً شعريّة.. ولكن كل ذلك تغير الآن بسبب الوفرة، حتى لتبدو جملته هذه مُرعبة: «ما عاد الشعر ناراً. صار ماءً ينبعُ من كلّ متناقضات الوجود».
خميس قلم مدين للمكان وتمشهداته، ذاك الذي أتاح له السفر في القصيدة والسفر في الذات. يجد مُحرّكه الأول للكتابة كامنا في فرن الحياة اليومي، كما يسيل لعاب قصيدته بسبب جنون البشر واستبسالهم في مكافحة الجمال والحريّة!
يؤمن قلم بأنّ طبيعة الشاعر الحقيقي سماوية، تأنف التواضع والتثاقل إلى الوحول، وبالمقابل عليه أنّ لا يشطح في تعاليه وينقطع في ملكوته متجاهلا مسؤولياته الأرضيّة. كما يجد أنّ من ساهم من الكتاب – بغير الصمت- أثناء إعصار التغيير الذي اجتاح العالم العربي على اختلاف قِبلاتهم بنقدهم ورصدهم واستبصارهم، هم أكثر حياةً ممن تخندق بالسكوت وتمترس بما يظنه عُزلة، فذاك في حقيقته اعتزال، وشتان بينهما.
الشاعر خميس قلم يقرأ الكتب بصبر كبير، وكتب أولى قصائده ليتخلص من الكآبة، ثم تتالت مجموعاته الشعرية ومنها: «مازال تسكنه الخيام» و«حموضة مالحة»، و«شجرة النار»، و«كرنفال الكتابة»، خميس قلم يؤكد على أنّ الشعر إذا امتلك أسباب بقائه سيبقى، وإذا فقد أسباب بقائه فسينقرض كما انقرضت أشكال كثيرة منه.
• خميس قلم شاعر مُجدد متنوع، لا يقف على لون واحد، ولذا فكتابته مُشتعلة ترتوي من جهات شتى من المعرفة. نود أن نعرف أكثر عن البدايات الأولى التي قادتك للشعر. هل كان شيطان الكتابة هو من يأخذ بيدك، أم ثمة ظروف أخرى أيقظت الشعر والكتابة في روح الطفل ذاك؟
في البدايات، لم تكن المفاهيم ساطعة بعد، جغرافيا الأدب كانت محدودة، والهاجس الأكبر في كتابة الشعر هو الإيقاع، الرتم الصوتي المكرور يُطرب النفوس؛ ولطالما سمعت شعراء عمانيين مسنين يتغنون ويترنمون بقصائد مسجلة في أشرطة صوتية، وكم قد قلدت ترنيماتهم عند قراءة «جوهر النظام»، و«الجنة في وصف الجنة» وغيرها من كتب تعتمد على الشعر المنظوم لإيصال محتواها؛ استحوذتْ عليّ الأوزان الشعريّة والقوافي، وكأن ذلك تعويض عن الموسيقى المحظورة، أو انعكاس لأصوات الطبيعة الأليفة إلى أذن القروي؛ كهديل الحمام، وصفير البلابل، وأزيز الفنازيز، وصرير حشرات الليل وسواها. لأقل إذن إن الإيقاع هو الباب الذي ولجت منه إلى عالم الشعر الفسيح.
• من أي غابة تغذى شِعرك الأول؟ ومن أي غابة يتغذى شِعرك اليوم؟
جذوة الشعر كانت تقتات من الحشائش اليابسة المتوفرة حولها، المصادر الشعرية كانت شحيحة قبل الانفجار الالكتروني، فبالإضافة إلى كتب المنظومات الشعرية وجد طفل القرية نسخة مُتهالكة من ديوان المتنبي في مكتبة والده معلم القرآن، وقد استصعب بداية التراكيب الشعريّة والمفردات التي لم يألفها في شعر المنظومات الفقهية، أغراه شعر المتنبي حتى أخذ يسرق بعض الأشطر الشعرية ويضمنها في محاولاته الأولى؛ اشتعلت النار، كان وقودها قصائد المقررات المدرسية الوطنية والقومية، مع القضية الفلسطينية لبس الإيقاع ثياب العاطفة: «فلسطين داري.. ودرب انتصاري». كان لابد من دفتر خاص لتسجيل الأبيات الشعرية المؤثرة، وعلى رأسها أبيات الحكمة، روزنامة التقويم السنوي كانت كنزاً حقيقياً، لا أبالغ إن قلت لكِ يا هدى: إنني مرةً طاردت أوراقاً صفراء كانت زوابع الرياح تحملها أملاً أن أجد أبياتاً شعريّة فيها. هكذا كنت أتغذى بالجذور المتوفرة للشعر.
أمّا اليوم، فرغم سهولة تحصيل الكتب الشعرية، وتراكمها على الرفوف، باختلاف ألوانها، قشوراً وألباباً؛ لا أجد في استنساخها معنى، إنما المعنى أن أرى صورتي: أيامي، أحلامي، أوهامي، مخاوفي على صفحة أوراقي، أن أطفئ بالكلمة لهيب الحياة في جوفي، أن أمطر بها جدب الآخرين حتى تنبت منها غابات من غربةٍ وانتظارٍ وحنين . ما عاد الشعر ناراً. صار ماءً ينبع من كلّ متناقضات الوجود. وحسبه أن يكون سرابا.
• كثر يذهبون للشعر ومن ثم ينطفئون، أو يغيرون الطريق ناحية السرد والرواية.. من الذي كان يُشعل فتيل الشعر فيك ويوقد شعلة الكتابة باستمرار؟
قد تختلف الخطوات والمسارات لكنّ طريق الكتابة واحدة؛ بشعرها ونثرها؛ هي السبيل إلى الخلاص والنور والخلود، وما الأجناس الأدبية، والتصنيفات الفنيّة سوى مراكب في كرنفال الكتابة. أمّا المتنطعون ممن يفاضلون بين قصيدة وقصة ما يخدعون إلاّ أنفسهم إذ يضعون وردة في مقابل برتقالة، أو نخلة إزاء كرمة، ورغم قبولنا بالاختلاف لا نرضى بالحشف ولا بالحصرم. هذا عن الطريق، أمّا عن المحرّك للكتابة إجمالا فهو هذا الفرن الذي ننضج فيه على مهل، فرن الحياة، وإن شئت التخصيص بسؤالك من؟ فالعاقل الذي يُسيل لعاب القصيدة هو جنون البشر؛ كم يدهشني استبسالهم لمكافحة الجمال والحريّة!
• خميس قلم.. الذي نبت في قرية صغيرة وحياة بسيطة، كيف أمكنه الذهاب إلى نصٍ حداثي.. وإن لم يخرج نصه من نسق حياة مدنية، فمن أين له بروح الحداثة..هل ذلك نتاج مغامرة ذاتية أو رؤية خاصة بالعالم أم هي تحولات طبيعية من النص الكلاسيكي إلى أفق أبعد من ذلك..
التحوّل في نمط الكتابة نتيجة حتميّة للتغيّر في نمط الحياة والتفكير وتراكم التجارب واختبارات الأحداث، والطَرق الدائم على باب القصيدة، كما إنّ للمكان أثر بالغ في تشكيل مناخاتي الداخلية، المكان بمرئياته ومسموعاته ومشموماته ومحسوساته، فالخروج من رحم القرية، والترعرع في العاصمة (ما زلت أعتبر مرحلة الدراسة الجامعية في مسقط هي صخرة المعراج لسماوات المعرفة)، ثمّ تجربة الأسفار إلى القاهرة وتونس والخرطوم والنيبال ولندن وغيرها. وما زالت المسافة تلوّحني من سماء أبوظبي عبورا بالبريمي وبهلا حتى مسقط، وقد جاءت نصوص «في حضرة الشمس» ثمرة لتفاعل صوت الداخل مع كائنات المسافة. أنا مدين للمكان وتمشهداته التي أتاحت لي أن أسافر في القصيدة عبره، أن أسافر في ذاتي.
لئن كنت قادراً على رؤية التحول في مسار تجربتي الضيق، فأنا أقدر على الاعتراف بأنّ الطريق شاقّ وطويل، والزاد قليل، لكنّ أحصنة المعاني متأهبة للجري إلى المسافات البعيدة، نحو برارٍ شعريّة حرّة.
• حُبستَ ذات يوم في بئر النوايا الرديئة، متهماً بالخروج عن الظلّ.. وقُلت لنا في إجابة على سؤال سابق: « يسيل لعاب القصيدة بسبب جنون البشر؛ كم يُدهشني استبسالهم لمكافحة الجمال والحريّة!» وقد تمّ توقيفك ذات مرّة 2002م بسبب نصك السردي: «الحاسد والبخيلة» الذي فاز بجائزة ضمن الملتقى الأدبي للشباب. وعلى ضفة أخرى كنت تكتب: «خلاصك اللغة، فاكتب وتحرر».. فكيف تكون «اللغة» هي المحرر والسجان في آن؟
تقوم لغة الأدب على المجاز؛ فالمجاز لديه طاقة لفتح نوافذ اللغة وأبوابها، وإطلاق نسور المعاني وحمائمها إلى الآفاق أو بتركها مواربة، وقد يصنع الكاتب حبساً انفرادياً للغة بانغلاق مجازاتها. هذا من حيث صياغة النص وتلقيه، أمّا من جهة أثره فقد يرتكب النّص تهمةً لكاتبه ويتسبب بحبسه – كما حدث لي وحدث لزملاء وزميلات ويحدث وسيحدث بسبب الخلط الموضوعي بين قيم الكتابة وقيم المجتمع التي تقررها فئة تسلط نفسها وصيّاً، وليس هنا محلّ التوسع في هذا الشأن – وتلك التهمة دلالة مبشّرة على الأثر الذي تتركه الكتابة، ردّا على من يدّعي أن القصائد والقصص والمسرحيات والأدب إجمالاً بذخٌ لا طائل منه، وكأن كفّ غسان كنفاني لم تكن سلاحه!
• ذات مرّة.. حدثتني عن الرجل الأعمى الذي كُنت تقرأ له الكتب في طفولتك.. ليتك تسترجع معنا تفاصيل تلك الأيام البعيدة جدا.. والشغف الذي كبر فيك وأنت تقرأ كلمات أكبر من عمرك وربما من فهمك ؟ وعمّا كان يتكثف بداخلك من شِعرية وثمة أعمى ينظر إلى العالم من خلالك؟
المعلم سليمان بن سلمان ( يا لذاكرتك! ) لم يكن أعمى وحسب، بل كان مصاباً بالعرج كذلك، عاهتان لم تفتّا في صبره وحكمته. نعم أصبتُ بعدوى الشغف للأدب من مجالسته لوالدي، كنت أظنّ أنني كنت أقوده في الدرب من وإلى المنزل غير أني اكتشفت بعد سنين أنه هو من كان يقودني؛ أخذ بيدي إلى دروب مضيئة عبر حواراته وبصيرته، اعتدت أن أقرأ في حضرته متناً ينيره هو بالشرح والتعليق. لطالما عجبت من روحه الفيّاضة بالحماس للمعرفة، ومن صبره. أتذكر مكابدته للخروج من فتحة في جدار طيني هي المخرج الأقرب إلى الشارع، توجّب عليه أن ينحني وأن يعالج بحاسة اللمس أبعاد الفتحة، أن يقدّم قدماً ويؤخر أخرى تلاؤماً مع عرجته، أن يتخلى عن عصاه حتى يصبح خارج الفتحة تماماً، لقد كانت مكابدة بحق، وما أظهر تذمّراً أبداً، كما أتذكر وصيته عن « الرسوخ في العلم والمثابرة في تحصيله « كان مثالاً حيّاً لما ينصح به… لقد أصابني سؤالك بالحنين لاستعادة ذلك الوجه وتلك الخطوات التي لن تعود، لكنها باقية.
• ماهي التحولات التي انتعشت في روحك لدى الانتقال إلى مرحلة الجامعة، ولدى ترؤسك لجماعة الخليل للأدب قبل سنوات. ماذا عن وهج تلك الأيام الساخنة بالقفز فوق مساحات شاسعة.. ماذا عن الصحبة الجديدة والأفكار التي بدأت تنضج على مهل؟
في الجامعة وعيت معنى الاختلاف؛ فمجتمع القرية لا يكاد يُظهر الفروقات في ميول الأفراد ومذاهبهم وتياراتهم الفكريّة. سمعتُ في الجامعة ألواناً من اللهجات ورأيت أنماطاً من العادات والسلوكات الاجتماعية التي لم أعهدها في القرية سواء في طريقة التحية أو الهيئة واللباس أو غيرها. وهناك قابلت عقولاً نهلت من مشارب شتى. لقد ترتب على وعي الاختلاف فضول اكتشاف المختلف وبالتالي التواصل معه بالحوار وربما التأثر به أو التأثير عليه والأهم قبوله. في جماعة الخليل للأدب كان للمذاهب الأدبية والاتجاهات الشعرية الصدارة في حوارات الكُتّاب وجدالاتهم، وقد أثمرت تلك اللقاءات حسب تقييمي؛ فعلى صعيد الشعر مثلاً أخذ في كتابة قصيدة النثر من كان معارضاً لها، ومن لم يفعل اتجه إلى تطوير نصّه العمودي.
وفي مكتبة الجامعة رسمتُ دائرة أوسع للاطلاع على المختلف بما وفّرَته الرفوف من كتب في الأدب وموسوعات في الفن ومحاورات فلسفية ونظريات علميّة… استوعبت من كلّ تلك المختلفات سعيها إلى إئتلاف الإنسان مع حقيقتين أساسيتين: حقيقة الجمال التي يصورها الأدب والفن بالخيال، وحقيقة العقل الذي يترجم منطق الفلسفة ومخبر العلم.
بين ملامح الوجوه وملاحم الصفحات، أو إن شئتِ بين صفحات الوجوه ووجوه الصفحات وجدت ملامحي وصبوت إلى ملاحمي؛ لقد ظلّ حلمنا الأكبر – أنا ورفيقاتي ورفاقي في جماعة الخليل – أن نترك أثراً في الجماعة والجامعة والمجموعة والجموع. كم أنا فخور بمعرفتهم جميعاً من بقي منهم على اتصال ومن شاءت الظروف عنهم انفصالا.
• عادة ما ينظرُ الشاعر إلى أن مكانه الأهم يكمن في «العُزلة»، ولكنك شاعر مُنغمس في الحياة والمشهد الثقافي الحر (وليس المؤسساتي) ومتفاعل مع مستجداته، بل ومتورط أحيانا بتبعاته؟
العزلة هي الحديقة التي أتنزه فيها كما أشتهي، ولابدّ منها. وهي لا تعني تفريغ النفس من الآخرين بل الفراغ لهم؛ في العزلة تحتشد حول الشاعر رؤوس وقلوب يتزاحم بعضها ليرقى إلى قمم غامضة وبعضها يسقط في المهاوي. وليس بالعزلة وحدها يكون الشاعر؛ فهي أحياناً لا تصنع سوى الهلوسات. ورغم حاجة الشاعر إلى الأوهام غير أن الوهم الذي لا يتغذى من الواقع لن يصمد في تراب العزلة؛ حتماً سيجد الشاعر نفسه في الواقع محاصراً بقطيع؛ فالبشر مخلوقات تنزع كغيرها لتعيش في مجموعات، أمم وشعوب وقبائل وطوائف. ولولا مفهوم» الجماعة « و« التقاليد « لما اندرج في المعجم كلمة « مروق « ولما ظهرت عبارة « يغرد خارج السرب».
لعبة الشدّ والجذب هي اللعبة الأهم – في تصوري – للشاعر؛ ففي حين تأنف طبيعته السماوية التواضع والتثاقل إلى الوحول عليه أنّ لا يشطح في تعاليه وينقطع في ملكوته متجاهلا مسؤولياته الأرضيّة. لقد أثبت الكُتاب الذين ساهموا بغير الصمت في إعصار التغيير الذي اجتاح العالم العربي على اختلاف قِبلاتهم بنقدهم ورصدهم واستبصارهم بأنهم أكثر حياةً ممن تخندق بالسكوت وتمترس بما يظنه عزلة، وذاك اعتزال، وشتان بينهما.
• ما هي العلاقة التي تجمعك بمفردة « تمرد» .. من القرية إلى كتابك الأخير «كرنفال الكتابة»؟
التمرد ليس غاية إنما هو مرحلة طبيعية للشاعر في تكوّنه الأول. على الفراشة أن تغادر الشرنقة، لكن حين يتصالح الشاعر مع نفسه ومع الوجود سينطلق ليتجاوز الجاذبية إلى مدارات شعريّة ومدارك معرفيّة أرحب. التوق إلى الانطلاق ليس تمرداً. والشاعر حين يجد في اللغة مساحة ليقول: لا، فسيملأها بصوته ولن يحتاج ليزعج الجيران في أنصاف الليالي بصخبه المكرور: «أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا».
يدرك المتفرّس من الشعراء أنّ التمرد الحقيقي لا يكون إلاّ بالتمرد على الذات التي تركن إلى المألوف ولا ترغب في المجازفة لارتياد مراكب جديدة في خضم الكتابة. وهذا تماماً ما قصدته بمؤاخاة أجناس أدبيةٍ مختلفة في كتابي الأخير «كرنفال الكتابة».
• إلى أي حد يمكن أن يكون شعرك الآن مدينا للقرية التي علمتك دقة الملاحظة وعلمتك تأمل التفاصيل الصغيرة والعابرة، وإلى أي حد ساهمت لسعة عصا والدك «معلم القرية» على ظهرك، في تشكيل نوافذ خيالاتك الأولى؟
لا تظهر تفاصيل المكان الأول إلاّ بمقارنته بالأمكنة اللاحقة، يكون المرء ذائباً في تفاصيل المكان حدّ أنّه لا يُبصره، وحين يتنقّل وينتقل عنه يجد أنه لم ينتقل منه، ما زال جسده يحتفظ بأثر المكان، في ندبة الرأس يلمس حجارة الشقاوة، حروق في يديه علّمته معنى النار، حول وجهه تحوم دبابير صفراء، طعم الحشرات والعصافير المتفحّمة ما زال في فمه، دشداشته مخضرة بالحُمّاض وحشائش لا يعرف اسمها، بذور «سيف الجن» ملتصقة بقفزاته بين نخلة وأختها، أقدامه طُرُق لشظايا الزجاجٌ والأشواك، كلّما نظر إلى شجرة غريبة رأى سدرة الصباح، وكلّما عطش تدفق في جوفه ماء الفلج وطار يعسوب… يبدو أنّ الذاكرة جرفتني قليلا. كنت أقول إن الانتباه للتفاصيل كان متأخراً وأنّ قيمة التفصيل في استثماره فنيّا وليس بمجرد تداعيه بشكل تبذيري..
ما حرّك الخيال ليس عصا والدي المعلم، العصا كانت أداة الانضباط – كما هو العرف التربوي السائد حينها – بترهيب الطلاب وعقابهم بها، وقد نلت حظي منها، أمّا «جنيّة المعلم» فهي ما كان يحفّز خيالي، كان الكلّ مقتنع أنّ معلم القرآن لديه جنيّة وهي من يخبره بأفعالنا الشيطانيّة إن «خربنا» الثمار وإن سبحنا في «الجباة» وإن وإن، صرنا نرسم صوراً قبيحة لذلك المخبر غير الإنسي، تارة ملتحفة بثوب أسود، وأخرى بشعر أشعث تركب ضبعاً، باتت كابوسنا نائمين، وعلمنا – أيضا متأخراً – أنّ كلّ من يرانا من أهل القرية نقتحم إثماً طفولياً يكون هو « جنيّة المعلم».
• الغريب أن تُسأل ذات لقاء: «أي الأعمال الشعرية أقرب إليك فتجيب: «كلها بعيدة عني»؟؟ الكتاب يقولون عادة: إنهم أبناؤنا ولا يمكن أن نفرق بين الأبناء، وها أنت ذا تتنصل من أعمالك.. ما الذي يحدث عندما تنسل القصائد من بين يديك وتذهب إلى قرائها ومشاويرها السرية.. هل تشعر أنّها لم تعد تخصك؟ وهل تعاود قراءة نصوصك القديمة ؟ أم تفقد حرارة العلاقة بها ؟
لا أحد يستطيع أن يُنكر تاريخه. إنّ مَنْ يشبّه كتبه بأبنائه يرى في إنتاجها أثرا منه؛ وبذلك يُدللها وينظر إليها بعين الرضى ويعتبر نقدها تعدّ على أبوّته، دعي الكُتّاب يقولون ما يشاؤون. وحين أقول عن كتبي « كلّها بعيدة عني» فلأني لم أكتب الكتاب الذي يُشبهني أو يُشبه ما أتصوره عن الكتابة وأتطلع إليه. لا يعني ذلك أنني أستنقص مما نشرت إنّما حين أعود لما كتبت أجد في نفسي نشاطاً أكثر وطاقة أكبر لملاحقة الكلمات. لو أن الوقت يتسع! أعني لو أنّ الشعر مهنة يعيش لها وبها الشاعر في هذه البقاع لكان إنتاجه يزداد كمّاً ويتجوّد نوعاً، لكن طالما ينافس الشاعرَ ظروفُ الحياة والوظيفة؛ يضحى نموه بطيئا وأمله في تجسيد نموذجه السامي ضئيلاً..
• هنالك خلاف طويل بين من يكتب قصيدة التفعيلة وبين من يكتب قصيدة النثر وأنت تجمع بينهما؟
كما أسلفت لك، نشأت على ميراث من القصيدة العمودية، ومع إخلاصي لها لم أنقطع عن اكتشاف الأشكال الشعريّة التي خاض فيها الشعراء القدامى ويخوض فيها الشعراء المحدثون، بدايةً واجهت إشكالاً في تلقي قصيدة التفعيلة برموزها وأدواتها غير المعهودة في ذائقتي، وكان للناقد «إحسان عباس» دور جذري في انكشافي على مفاتيح قراءة ذلك النمط من الشعر الملغز، أخلصت كذلك لقراءة التفعيلة ومحاولة كتابتها ولم أتوقف عندها بل تقصيت منابت قصيدة النثر مما أُتيح لي الاطلاع عليه ترجمةً وتنظيراً، وشدّتني آفاقُها من خلال سجالات النقاد «عباس بيضون» و«صبحي حديدي»، «عبدالنبي اصطيف»، «عبدالله الغذامي»، «محمد لطفي اليوسفي» وغيرهم حتى تشكّل لديّ ارتياح أنّ جوهر الشعر ليس الإيقاع، وأنّ عالم الشعر أرحب مما كنت أتصوّر، فخضت فيها مع الخائضين.
• أنت تقول أن الأزمة تكمن في عدم استجابة الجمهور للأشكال الكتابية الجديدة، ولكن ما رأيك في من يقول أن الشاعر متعال ومنكفئ على ذاته؟ ألا يتحمل الشاعر أيضا جزءا من مسؤولية تراجع الشعر؟
أولا: أنا لم أحمل القارئ المسؤولية، ولكني سأتساءل: من أين يظهر هذا التعالي لدى الشاعر.. أليس من خلال النص نفسه.. النص الذي التبس فيه مفهوم الشعر؟ الشاعر الآن يتصارع بين معطيات التراث، وبين معطيات الحداثة لينتج نصا شائكا، ومربكا.. والمتلقي أيضا لم يمتلك آليات تلقي هذا النص من جهة أخرى. أعتقد أنه من الضروري أن يصل للمتلقي ذلك البعد النقدي من خلال الناقد الذي يجب أن يساهم في صنع علاقة بين الشاعر والمتلقي، فالشاعر لا يتحمل وحده هذه المسؤولية الكبيرة، فغياب التوصيف النقدي وغياب القراءات كلها عوامل مساهمة في تثاقل المتلقي إلى النماذج البسيطة، لذا من الطبيعي إذن أن نجد جمهورا ينعت شاعرا بأنه ليس بشاعر لأنه مخالف للنموذج الموجود في رأسهم . مازلنا إلى الآن نتلذذ بقصائد الشعر الجاهلي، ولا ننكر ذلك، وكذلك الأمر في السرد فنحن إلى الآن نتلذذ بقصص ألف ليلة وليلة .. إلا أن لكل أدب ظروفه وزمانه ومكانه.. فالشاعر الحقيقي لا ينقاد وراء الآخرين، بل يتتبع صوته الداخلي الذي يفرض عليه أن يكتب في منطقة لا تكون متعالية على الناس ولا تكون في وحل السوقية.
• لماذا اخترت أمل دنقل من بين جميع الشعراء ليكون موضوع دراستك للماجستير؟
– دنقل شاعر إنساني في المقام الأول، تجربته متفردة، لم يُقدر لها الاستمرار طويلاً. درستُ ثيمة الموت في شعره، «سيرة الموت في شعر أمل دنقل» تتبعت تصويراته للموت وتصوراته عنه في محاور منها: موت الذات، وموت الآخر، والموت قتلا، وكائن الموت… اجتهدت لتحليل قصائده وفق تلك الرؤية المأساوية والدموية للحياة. وقد استفدت كثيراً من تلك الدراسة في صياغة نص «المرثيّة الأخيرة» المنشور في «شجرة النار».
• هل تظن أن تهمة الأسماء المكرسة في الشعر والتي لا تفسح مجالا لغيرها.. حقيقية ؟
أعرف شعراء أصدقاء بدأوا بكتابة الشعر وتوقفوا عن الكتابة. نحن نقيس الشاعر بما ينتج. فأنا مثلا شبه صامت لدي مجموعات قليلة، بينما من كانوا في عمر تجربتنا من كتاب القصة أنتجوا أكثر. النتاج في الشعر أقل بالقياس مع النتاج في القصة. عبدالله الغافري ،علي الرواحي، عبدالله المعمري، مجموعة من الشعراء كتبوا وصمتوا لفترة طويلة، (عاد عبدالله الغافري للنشر في الشعر والقصة باسم عبدالله خليفة عبدالله ).
لا أقول بوجود صنمية لأسماء دون غيرها لأننا من يخلق الأصنام، ومن أراد الشهرة يمكن له أن يحصل عليها وأن يلمع نفسه جيدا. تملق لتتألق، لكن علينا أن نعرف أن الشاعر كائن غامض قد لا يعرف ما يريد، وقد يتصرف أحيانا بحمق شديد إذ يتصالح مع نفسه، ويتعادى مع العالم أو يتعادى مع نفسه ويتصالح مع العالم. في كثير من الأحيان هو لا يعرف ماذا يريد. جوّاب آفاق ومغامر وطائش.
* ألا تجد أنّ نشاط الشاعر العماني خافت بعض الشيء، ونشره قليل؟
ربما في الأعوام السابقة، لكن معدلات النشر في معرض مسقط للكتاب صارت تتزايد عاماً عن عام، هذا إذا اعتبرنا النشر معياراً لقياس ( فولتات ) إضاءة الشاعر. من أعرفهم فقط من شعراء عمانيين يكفون لإنارة هذا الكوكب برمته. ههههه. أذكر كذلك أن الجوائز الشعرية والملتقيات الأدبية أنتجت أسماء شعرية عديدة.
• هل استطاع الشاعر العماني أن يعبر جغرافيته، وأن يملك صوته خارج الحدود ؟
طبعا… والآن وبحكم وسائل الاتصال العالمية صار العماني يتواصل مع العالم بأجمعه. حتى لو لم يسع إلى التواصل مع الآخرين بات الآخرون هم من يصلون إليه، ويتعرفون عليه وعلى نتاجه من دون جهد، فقط بضغطة زر أو لمسة أيقونة، يفتحون مدونته وصفحته.
«أثير» الموقع الذي يشارك في إدارته الشاعر عبدالله العريمي نموذج لانفتاح الشاعر العماني على أصوات خارج الجغرافيا حيث يلتقي في ظهر تلك الصفحة أقلام من سوريا واليمن والعراق ومصر وتونس بل ومن خارج الوطن العربي ليأتلفوا ويتعارفوا مع تجارب الشعراء العمانيين.
• في كتابك «كرنفال الكتابة» .. حدثنا أكثر عن هذه التجربة الخاصة، وفروفاتها عن تجاربك السابقة، وأنت المسكون بتجاوز نفسك في كل مرة ؟
من الجميل أن تقولي «تجاور الأجناس الأدبية» لأنني فعلاً أردت ذلك، رغم أنّي اكتشفت بعد ذلك أنّ ما بين العناصر يتجاوز التجاور إلى التزاور والتمازج في الجانب الموضوعي على الأقل. وقد يرى ظانّ أن ( كرنفال الكتابة ) عنوان تهويلي، فكيف لهذا الكتاب الذي لايتجاوز400 صفحة أن يكون كرنفالاً للكتابة!، وهو ظنٌّ مشروع، على أنّ مقصودي ليس التهويل بل ما ذكرته أنت، أن تمرّ أجناس الكتابة، ما تيسّر منها، جنباً إلى جنب، في طريق واحد دون اصطراع؛ فيضمّها كتاب تأتلف فيه، باختلاف أشكالها وموضوعاتها طويلها وقصيرها، صخبها وأدخنتها، ألوانها ومباهجها وأحزانها كما في موكب الكرنفال، حيث تحتشد المتنافرات لتعطي شكلا منسجماً عاماً دون أن تفقد العناصر المفردة خصوصيتها، فالكتاب ليست شعراً ولا نثراً ولا نصاً مفتوحاً ولا أدب رحلة، ولا طرائف ولا رسائل ولا.. إنّما هو مجموع ذلك. وبعيداً عن التصنيف والتجنيس، الكتابة هي هوية الكتاب. وليت أنّا في كتاب الأرض نتآخى كتلك الأجناس الحبرية.
لو قُدر لي أن أعيد نشر الكتاب لألحقت به عنواناً جزئياً «سأترك الباب مفتوحا».
* هل انتهى زمن الشعر؟
– الشعر طاقة، والطاقة لا تفنى بل تتحول، لكل زمن شعره، تتنوع هيئاته، يتبدل جينياً، زمن المعلقات انتهى، نعم، أمّا المعلقات باقية، تحمل زمنها فيها، ونفجر زمننا منها، ربما نعم لم يعد الشعر سيّد الأذواق، القصيدة العربية خصوصاً.
بطبيعة الحال.. تشكل هذا التحول والتمحور ليواكب تغيرات العصر المختلفة فكانت علاقة الشاعر القديم بالمكان محدودة بسبب قلة التفاصيل التي تحيط به. التفاصيل البصرية، وحتى السمعية فالأصوات التي كان يسمعها الشاعر القديم قليلة جدا. بينما الآن أصبح المكان الضيق الذي نعيش فيه مليئا بالتفاصيل سواء أكانت صوتية أو بصرية أو شميّة أو لمسيّة وهذا هو ما يدفع إلى نتاج مختلف ومتفرد تماما في الشكل الشعري. يتحدث أدونيس في « زمن الشعر « يتحدث عن الغموض، وبعض الآليات والأدوات التي استجلبها الشاعر الحديث وساهم في تغيير وجه الشعر، ولو أخذنا مثالا على هذه التغيرات التي أصابت الشعر. سنجد أن قصيدة النثر خير مثال وهي تحاول أن توجد متاخمة بين العناصر المتميزة والجميلة في النثر والعناصر المتميزة والجميلة في الشعر أي جوهر الشعر وجوهر النثر ليلتقيا في قصيدة واحدة. المسألة تبدو أشبه بالرياضيات. فهذه عناصر النثر في دائرة، وعناصر الشعر في دائرة والعناصر المتقاطعة بين الدائرتين هي قصيدة النثر: الكائن الشعري العصري
في واقعنا لم نعد نرى حفاوة كتب تاريخ الأدب بأساطير الشعراء؛ لكن رغم ذلك فشجرة الشعر مورقة، تجود بثمارها وظلالها، وليس على الشعر أن يكون عدوانيّاً ليدفع عن نفسه تهمة الفناء، بل طالما لديه نزق البقاء، فسيجد صيغة ليصل إلى أرواح الناس حتى لا تتخشب بفعل الجمادات التي تحيط بها. ما باح به سؤالك دون أن يقوله أنّ هنالك سلالة أدبيّة تتناسل وتزاحم الشعر، وهذا يصدق من منظور شعريّ ما، غير أنّه من منظور آخر؛ تدفع تلك المزاحمة إلى تعديل النوع الشعري، وتحفيزه لاقتراح أدوات تعبيرية جديدة تلائم التلقي المعاصر. وعلى كلّ، فإن ما يُظن خطراً يحدق بالشعر، هو من مخاوف الأجناس الأخرى بسبب انفتاح كوكب الكتابة على ذاته. ولا أرى داعياً لذلك الخوف من التداخل الفني بين الشعر وغيره.
حاورته: هدى حمد