لا يكتب الروائي عبد الكريم جويطي رواية، بقدر ما يبدع ملحمة سردية تخلق نصية سردية انطلاقا من الغوص العميق والمنصت لتاريخ المغرب، بكل تجلياته المختلفة وتمفْصلاته المتباينة، هذه الرواية الملحمية تؤسس لمشروع روائي ينبع من كتابة عميقة الرؤية، نَسْغُها التاريخ والذاكرة، وثمارها عالم روائي محبوك بطريقة تحفّز القارئ على تتبع نسيج خيوطها الحكائية، ورصد التحولات الرّهيبة والمفارِقة التي تعيشها شخصيات الرواية. إذ نجد المحكيات النصية متشابكة ومدموغة بحس تراجيدي، تكتب تاريخ مدينة بني ملال المنكوبة بوقائع شابت لها الولدان، وتفْتح جسور حوار مع الذات التاريخية، لفهم ما جرى ويجري من انتكاسات وتراجعات، ونقصد من وراء ذلك التاريخ المنسي والمهمّش من الذاكرة الجمعية التي تستحضر الصراع السياسي-الاجتماعي والإبدالات التي شهدها الفضاء الروائي الذي تدور وتتبلور وتتطور فيه أحداث الرواية.
إن رواية «المغاربة» تشتغل بآليات سردية تؤمن بتجاوز السردية المألوفة إلى سردية تنتصر للمختلِف والمُبْتَدَع في المنجز الروائي، وتخلق أفقا سرديا متجدّدا خالقا خطابا روائيا،ينهل من المرجع التاريخي والسياسي والاجتماعي المغربي، من خلال تاريخ بني ملال، كفضاء تجري فيه الأحداث وتتشكّل الرؤية جرّاء ما تعرفه الشخصيات والأمكنة والأزمنة من مسارات سردية متحوّلة، متغيّرة ومفاجئة، نظرا لما يَسِمُ الرواية من خطاب مأساوي كارثي يرافق الفاعلين السرديين في بنية نصية متشظيّة لذوات تعاني من التشظي التاريخي داخل الواقع، وتنتصر لليسار الروائي الثائر على الأشكال الكلاسيكية التقليدية للسرد، وتدخل « في حوار مع النسق السياسي والثقافي الذي يؤطّر المرجع الذي يحكي عنه، حوار ينبني على مساءلة الممكنات التاريخية لبنية هذا النسق باختراق الحدود الفاصلة بين المفكّر فيه واللامفكّر فيه»(2)
(1) متخيّل التاريخ المعطوب:
تؤسس الرواية خطابا روائيا يعكس المسكوت عنه في تاريخ المغرب العميق والوطن ككل، ذلك أن السارد يرحل بنا، عبر سردية، إلى مهاوي الذاكرة المغربية الموشومة بالأعطاب؛ والانعطافات المتّسمة بالدهشة والمفارقَات، لكون تاريخ الذات جزءا من التاريخ الجمعي، فالأعطاب التي تعاني منها كل شخصية من شخصيات الرواية، هي تعبير عن الأعطاب الكبرى للذات الجماعية، ولَعَلَّ هذا ما يميز رواية «المغاربة» التي لم تسقط في البنية الانعكاسية لكتابة نص سردي يتكئ على التاريخ، بقدر ما سعَتْ إلى خلق خطاب روائي مفعم بالشعور التراجيدي والكارثي، الذي عبّرت عنه كل من شخصيتي السارد الأعمى(محمد الغافقي) والعسكري اللتين سافرتا بنا بوساطة المتخيل التاريخي المبدَع، والمتخلّق من المكابدات الذاتية لكل منهما، دون أن ننسى شخصيات أثثت فضاء الرواية هاملت وهوراشيو والباشا بوزكري والباشا عبد السلام والحاج فرح وصفية والجَدّ وتوفيق الصغير وصدقي الصغير، ولعبت الدور المهم في إماطة اللثام عمَّا تعْتُورها من أعطاب تكشف حقيقة الذات الجماعية.» بمنظور يلامس أسئلة الوجود وعلائق الذات بالآخرين وبأفق العيش داخل وطن تبدو أبوابه موصدة أو تكاد « (3)
هكذا تحمل الرواية بين محكياتها المترعة وقائع وأحداثا تغوص في الأعماق القصية لكل شخصية من شخصيات الرواية، إذ الْجَدُّ الذي أُخِذت أرضُه عُنْوة وبذريعة المصلحة العامة، من أجل تشييد تجزئة سكنية، ظلَّ أسيرَ الأرض التي جمّعها في صرّة دلالة على الارتباط العميق بالأرض، مما حوّل الجَدَّ إلى ذاكرة لم تورِّث السارد الأعمى والعسكري إلا المحن والشدائد، والتجارب المريرة في الحياة والعشق والزواج، فميراث العائلة تاريخ الألم وتراجيديا تبْصُم العوالم المتخيلة للرواية، بل يمكن اعتبار هذه التراجيديا السردية هي تراجيديا مدينة منذورة للضغائن السياسية والسلطوية، لكونها الفضاء المجسّد للعديد من التمرّدات والقلاقل التي كانت مدينة بني ملال وجبالها مسرحا لها. فالعسكري الشخصية التي تؤرخ لانعطاف تاريخي عرفه المغرب المتمثل في حرب الصحراء عاد مثقلا بِعَطَبِه، الذي ما هو إلا عطب جماعي، ورسالة تفضح خَساسَة الحرب، وما تخلّفه من ضحايا ومعطوبين، مما ولّد في نفسيته المرارات والانتكاسات النفسية والوجودية، التي عبّر عنها بلغة السرد الاحتجاجي – إن صح التعبير-. ثم السارد الأعمى الذي يقود قافلة السرد والأحداث، فهو الآخر لم يسْلَم من هذا الوضع المأزوم الذي كان هو الآخر ضحية له، فمنذ وجوده داخل النص وهو يصاحب الخيبات فمن الإصابة بالعمى، وما تلا ذلك من تجرع لمرارة واقعه، حيث نجده شخصيةً متوترة مع الذات ومع المحيط، منعزلة وغارقة في مأساتها الوجودية، لكن يبقى عشق صفية البَلْسم الذي حاول به تضميد جرح العمى، فقد اعتبرها بصره الذي افتقده، وعكازه الذي يقوده بين أزقة ودروب وشوارع وبيوت المدينة، لكن هذا الدّواء سيتحول بفعل خيانة حسن أوشن إلى داء عضال، قوّض رهانات السارد الأعمى، إلى النهاية المأساوية .
ويمكن الحديث، داخل بنية الرواية، عن مسارات تراجيدية متعددة لكل الشخصيات، التي شكَّلت نسيج السرد، فإذا كانت الرواية تشرَع مشروعها السردي، من خلال حدث ينبئ بالنهاية انسجاما مع الملفوظ السردي «انتهى كل شيء.» ص 7، لكنها نهاية لبداية خطاب روائي يتفاعل وتنفعل فيه الفواعل السردية، خالقا عوالم تخييلية ترزح تحت ثقل التشظيات، التي تتكبّدها عبْر متواليات حكائية تبدو على المستوى السطحي لا رابط بينها، ولكنها على المستوى العميق تُشكِّل كلاًّ واحدا يكمن في كتابة أعطاب المجتمع المغربي. فالمشهد الدموي -كمفتتح سردي -يقول بأن الرواية تحفل بوقائع ذات منحى يتميَّز بالصراع والتَّوتُّر والإحساس بالاختناق من واقع متكلس ومتصلب لا يشهد أي تحول مهما بلغت الأحداث والإبدالات أوْجَهَا، مما يدل على الركون إلى الثبوتية التاريخية والزمنية والحضارية، وكأن المجتمع المغربي خارج منطق التاريخ والصيرورة الوجودية المتغيِّرة والمتحولة. لكن يبقى التذكُّر، بوساطة المتخيل، الوسيلة الناجعة للإفصاح عمَّا تمرّ به الذات الجماعية من المحن والاستبداد والظلم والشعور بالرُّهاب الداخلي ؛ وبالعدمية يقول السارد: « أسير نحو العدم بروح قانعة، لم تعد تجد بداخلها تلك الطاقة على انتزاع نفس واحد من الحياة، لم تسفح دمائي، بل تسرّبت معها حياتي كلها»ص 9، فالمقول السردي يمنح القدرة على احتمالات سردية ستضيع فيها حياة شخصيات منذورة للعطب الظاهري والباطني، ومن تم إخضاع التاريخ المغربي إلى مِجَسَّة الفحص والغوص لإدراك المنسي والمغيَّب، هذا المنسي يُعَدُّ المحرّك الأساس للرواية، فالمحكي العام يدور حول فكرة جوهرية ذات أبعاد حفرية تحاول، قدر المستطاع، فتح حوار جدلي مع الذاكرة كتاريخ حضاري وسياسي وفكري لاستلهام المحلوم به، وطن َيسَعُ للجميع، تنتفي فيه كل مظاهر الاستبداد السلطوي والثقافي والقبلي، وعليه فالسارد منذ بدايات السرد يؤكِّد على ما أشرنا إليه بالسمة العدمية التي تجلّل الرؤية للعالم، وفي هذا السياق يقول: « أنا الذي نصبت الحياة أمامه جدرانا كثيرة، أنا الذي هفوتُ دائما إلى ما وراء الجدار، وتصوّرت أن مناي رهين بأن أجتاز ما يعترض طريقي ويصدّني. واختزلت الحياة في هذه المسافة التي عليّ أن أغنمها من الأرض لأصل للآخر البعيد (….) أرى بأن كلّ ما مشيته ذهب سدى، وأن سيري دخان وأفقي دخان» ص 10، فالذات الساردة تسعى إلى تكسير كل الحُجُب، التي تقف عائقا أمام معرفة حقيقة الذات الجماعية، غيْر أن كل المحاولات لم تُفْض إلا إلى واقع مدبوغ باللاجدوى والانهيار القيمي (من القيم). هذه السمفونية الجنائزية للذوات معزوفة بأنامل تاريخ البطش والظلم، تاريخ عائلات حاكمة، غايتها الحفاظ على كيانها بعيدا عن رغبة المجتمع في أفق حالم لكنه أفق سديمي ملتبس ومبهم، ومن هنا يمكننا القول إن الرواية تمكنت من « أن تمد جسورا وطيدة مع الرواية في أبعادها الكونية، لأنها ارتادت مناطق الكلام الممنوع، وتوغلت في إنتاج خطاب مركب يمتحّ من المعيش والمحلوم به، من الذاكرة والتاريخ، من الأسطوري والواقعي، من النفسي والجسدي، كأن الرواية في اندفاعاتها الجسور، تستردّ الأصوات التي سرقتها قوى القمع والكبح، لتوسّع الاحتجاج والرفض والمكاشفة» (7)
(2) من الانتماء الوجودي إلى الفقدان التاريخي:
فذات السارد الأعمى موشومة بشروخ عديدة ومختلفة، منها رحيل الْجَدِّ الذي يمثل عنوان العائلة المالكة للأرض، لكنها ستفقد الأرض جرّاء مكر الزمن والتاريخ. وبفقدان الأرض تعبير عن الاجتثات من الأصل، هذا الرحيل للْجَدِّ سيشكِّل همّا وانشغالا للسارد الأعمى، بل هو سبب المكابدات والاحتراقات الذاتية والوجودية، إذ سيصاب بداء ضعف البصر، ومن تم سيقوده إلى العمى والولوج إلى «نادي الظلام». فإذا كان موت الْجَدِّ خلّف ندوبا غائرة في دواخله وفراغا مهولا في حياته، خصوصا وأن الجد كان مثالا للتضحية والحريص على الحفاظ على الأرض، أي الانتماء التاريخي والوجودي، إذ كان يعتبر وجوده مرتبطا بالأرض، وبفقدان الأرض سيُفْقَد الجَدُّ، وتُفْتَحُ سيرة العذابات والمعاناة التي ستطال روح السارد الأعمى، كما يمكن اعتبار الجد، بالنسبة إليه، بصره الذي كان يبصر به، وبرحيله رحل بصره وولج ليل الوجود بعد محاولات أخيه العسكري، الذي بذل كل الجهود من أجل إشفائه، لكن كل ما يتمناه العسكري لن يحققه لأن سفينة الإصابة بالعمى تقودها رياح الحياة ومكْر التاريخ، وأمام هذا الواقع لم يجد العسكري غير كتاب «الأيام» لطه حسين كبديل استشفائي أو كترويض للسارد الأعمى ليتقبل عماه برحابة صدر وإيمان، وينخرط، بدون أي مركب نقص، في حياة المفارقات والمتناقضات، وقد نجح في هذا الأمر كما نجح صِنْوُهُ طه حسين، الذي تمكّن من قهر ظلام البصر والانتصار للبصيرة، وهذا ما تحقق للسارد الأعمى الذي استطاع أن يقود حياته بحكمة البصيرة، وفي فصل «صبح الأعمى»، عبْر مصاحبته لكتاب عميد الأدب، تحدث عنه أمام الباشا بطريقة تنبئ بتضلّعه في الإحاطة بأدب طه حسين. فالمحكي هنا مرتبط أشد الارتباط بذات السارد الأعمى، الذي شَرَعَ تاريخ العائلة وتاريخه الشخصي لكتابة سيرة تراجيدية. هذه السيرة العائلية التي يرويها السارد الأعمى « بمنظور يلامس أسئلة الوجود وعلائق الذات بالآخرين وبأفق العيش داخل وطن تبدو أبوابه موصدة أو تكاد» (8) وعبر التخييل التذويتي، بعبارة أخرى يُذَوِّتُ تاريخ العائلة، من خلال، المتخيل والاسترجاع، ليمنح للأحداث حركية نصية تُثَوِّرُ مجريات السّرد؛ وتحفِّز ذاكرة المتلقي على الركون إلى استيهامات اطّرادية بوساطتها يقف على أعطاب الكائن في الوجود، ومن تمَّ ألا يمكن أن نعتبر ضياع الأرض من الْجَدّ وضياع البصر من السارد الأعمى ضياع للذات وسط تغوُّل تسلُّطي جسّده الباشا وأتباعه؟ وبالتالي فقدان الإنسان المغربي الإرادة على مواجهة مصيره في الحياة. فالسمة الانكسارية والانهزامية بادية بقوة في المحكي العام للرواية؛ إذ استطاع أن يتفاعل السارد الأعمى مع الْجَدِّ بنوع من التّماهِي الشعوري، فهو يغوص في دواخل الجد وكأنّه هو الجدّ الذي يتكبّد صروف وخطوب الحياة، جراء فقدان الأرض يقول السارد الأعمى: «كنت قادرا آنذاك على تخمين الحرائق المشتعلة بداخله. كان حزنه كبيرا وجليلا وعزيزا، حتى فاض عن ذاته وشملني، فصرت حزينا لحزنه ومنكسرا لانكساره» ص29، إن ما يكشف عنه هذا المقول السردي، يختزل تراجيدية ذوات منذورة لأعطاب الذات والتاريخ، الشيء الذي يدلّل على كون الخطاب الروائي يتأسس وفق رؤية مأساوية تفيض بارتجاجات شخصيات تعيش حالة من التّيه التاريخي.والأكثر من ذلك أن شخصية السارد الأعمى تعرّضت لأنواع شتى من الصدمات المفاجئة المباغتة، التي كان لها التأثير القوي والواضح على مسار تطور الأحداث وتثويرها وتأزيمها، مما شكّل منعطفات تحوُّلية في البنية السردية التي اتّسمت بالتّشظّي السردي، مما كان له الأثر الجليّ على تحولات شبكة العلائق بين شخصيات الرواية، ذلك أن مسار السارد الأعمى في علاقته بأحداث النص يبرز مدى التوتر الذي تتصف به شخصيته، نظرا للهزّات النفسية الأليمة، التي تعرَّض لها سواء تعلّق الأمر بالإصابة بالعمى أو بخيانة صديقه أوشن، أو ما سمعه وعاشه مع العسكري من محكيات رئيسَيْ اللجنة، التي جاءت للتحقيق في فضيحة مقبرة الجماجم، كل هذا زاد من توتّر في المشاعر الداخلية والباطنية، وفي العشق وفي خداع الحاج فرح، والأوهام التي عاشها مع العميان في دار الباشا بوزكري، إلى غير ذلك من الوقائع التي لم تَزِدْ الخطاب الروائي إلا مأساوية سوداء – إن صح القول- تفيض بتراجيدية سردية تغرق في تفاصيل حياة ذوات منذورة لصعقات الواقع وعواصفه العنيفة والشديدة، ولعل هذا ما جعل السارد الأعمى يفقد الشعور بجدوى وجوده يقول: « عدتُ وتمدّدتُ على السرير بأنفاس مختنقة، وقلب راكض، وأطراف مرتعشة. قمت لأبحث عن البلغة واحدا والآن صرتُ أشتاتا (…) تجمّعت في صدري صرخة ساخطة، متوحشة سرعان ما تبدّت لإحساسي بلا جدواها، وتحوّلت إلى دمعتين حارتين، وممتلئتين نزلتا حتى عنقي. لم تجريا فوق خدّي، بل في أعماقي»ص153 و154، أليس في هذا الاعتراف السردي بيان واضح عن العمق المأساوي، الذي يُعبِّر عنه السارد الأعمى؟ ألا يدل على أن النظرة الكارثية للذات هي الناطق بلسان تراجيديته؟ ألا يمكن اعتبار السارد الأعمى العنوان البارز لأزمة الفرد داخل بنية مجتمعية من صفاتها الغدر، والاحتيال، والخيانة؟ تلك أسئلة تدفعنا إلى التملّي في خطاب الرواية الذي لا يقول إلا النادر فيما وقع، تاركا لنا فجوات كقراء لملئها، والغوص عميقا في ثنايا رواية محبوكة بجمالية سردية تلمّح ولا تصرّح.
ولا غرو في ذلك مادام الخطاب الروائي الذي تروم إليه هو فتح حوار مع الذاكرة المعطوبة؛ الجريحة، من أجل تجاوز هذه الأعطاب التاريخية والحضارية والسياسية والاجتماعية، وخلق مقومات جديدة واجتراحات ومقترحات علاجية، هي رواية تستنطق التاريخ المنسي للمجتمع المغربي، وتعرّي حقيقة العذابات والويلات، التي عانى منها المجتمع جرّاء سلطة جائرة، مثّلتْها في الرواية عائلة الباشا بوزكري وحاشيته كالحاج فرح، الشيء الذي يعكس واقع التسلط والتجبّر والخيانات المتعددة المشار إليها من لدن أعداء الوطن وعلى رأسهم الكلاوي، كما تكشف عن الثقافة السائدة المهيمنة المتخلفة؛ ثقافة تقليدية، كالالتجاء إلى التداوي بالأعشاب وزيارة الأولياء دليل ساطع على انغراس الأمية والجهل في بنية مجتمعية تدّعي الانفتاح على الآخر والنَّهْل منه، والسَّيْر على منواله، لأن» ثقافة مجتمع محدد هي تعبير عن علاقات الإنتاج السائدة فيه وصياغة للحقائق الأساسية في واقعه المادي الموضوعي، أي أن الوجود هو الذي يحدد الوعي ويفسّره» (11) ولعل الوسائل العلاجية التي جرّبتها عائلة السارد الأعمى خير برهان على ما تمت الإشارة إليه، إذ كشفت عن وعي المجتمع المرتبط بثقافة الأولياء والتشافي التقليدي، وأمام واقع الأمر استطاع السارد الأعمى التكيف مع وضع عماه يقول: « أنا أعمى غرّ، بلا تجربة، ولا مكر دفاعي، وعليّ أن أشحذ حواسي الأخرى لتعوّض فقداني البصر في أيامي الأولى، كنت أدفع صرخة وحشية قوية تتجمّع كعاصفة في حلقي، لعلّها تُحْدث ثلَمة في جدران الظلام التي أطبقت عليّ» ص156.هذا التمثّل التخييلي للمعاناة تجسّد حقيقة واقع العمى حيث نجد شخصية الأعمى تطرح تساؤلات وجودية مرتبطة برحلته في الحياة الموسومة بالخيبات والانكسارات، كـ « تعبير عن إحساس بضياع العالم، بالفقدان والاغتراب وبالمتاهة الضاغطة»(13) التي تبرّر وضع الأعمى في السياق السردي المنتج لخطاب عمى البصر والبصيرة، من خلال تعظيم الليل والظلام، يقول : (الليل الذي لا ترى فيه اليد التي تُعطي والتي تأخذ، والتي تغتال، والتي تتلمّس طريقها إلى جسد مشتهى)ص237. ليجعل نهاية هذه المرارات بالصراع مع رفيقه الخائن معبرا عن زمن الجنون والعمى الهائل بلغة سردية تفوح بالعنف والتوتّر.
3) بيداغوجيا الخيبة السوداء
فإذا كانت نهاية الأعمى (محمد الغافقي) مأساوية فإن حكاية العسكري (عبد الهادي) الذي تعرّض لانفجار لغم في حرب الصحراء نجم عنه قطع رجله، ممّا حتّم عليه العيش حياة معطوبة تنتفي فيها ملامح الأمل والرجاء ويطلّق، من خلالها، المرأة والأولاد والحب والجيش، إنها تجييش العمى كدال سردي معبّر عن الفواجع التي ستلحق العسكري العائد برفقة عكاز سنده و(بوجه خرّبته شظايا لغم أرضي فبدا كأنه تعافى لتوّه من داء الجذري) ص31. هكذا تؤرخ شخصية العسكري تاريخ مسارها السردي بلغة الخسارات التي تبرز الفداحات التي توالت عليه إذ يقول: (كنت الروح التي حملتها لثلاثين سنة تموت ببطء، وقد انتهت صلاحيتها كبضاعة فاسدة) ص 39. فالإحساس بالموت دليل قاطع على التراجيديا الكينوناتية لهذه الشخصية الخارجة إلى الحياة بعطب أبدي، سيزيد الوضع النفسي والروحي مأساة الفقدان التي تتشكّل عبر متواليات حكائية تزكّي هذا المعطى لخطاب روائي يغترف من التاريخ السياسي هويته السردية المتميز بإخفاقات كل الشخصيات الحاملة للأعطاب الموشومة في ذاكرتها المثقلة بالخيبة السوداء، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المآل مأساوي تراجيدي تحبل به الرواية التي تسعى « إلى بلورة خطاب حول الذات يتميز بكونه يغترف من خصوصية التجربتين الفردية والجماعية من الناحية التاريخية والثقافية واللغوية بعيدا عن النظرة الاختزالية والضيقة « (8)
ممّا فرض عليه الانغماس في القراءة كتعويض عن الخسارة العضوية والنفسية، لتبقى الشخصية رهينة هذه الانتكاسات، في وطن لا يرسّخ إلا الاستبداد بتمظهراته السياسية والسلطوية والاجتماعية.
وسيزيد اكتشاف المقبرة الجماعية للجماجم بدون هياكل عظمية من تأزيم الوضع السردي في الرواية، وفي هذا الاكتشاف استدعاء مبطّن للماضي المرير، ماضي الاعتقالات والاغتيالات وعودة مفاجئة للموتى والتاريخ ولزمن الرصاص والقمع، والتي سيتولى رئاستها لخبير هو الآخر أعمى تعرّض والداه لشتى أنواع التعذيب والتنكيل، لتأتي حكاية مجلس العميان المنظم من لدن حاجب الباشا الصغير بغية استرجاع مجالس الشرق البهية، وفي هذا إشارة إلى العلاقة المتشابكة بين الحاجب والباشا، لتكون خاتمة العقد الروائي حكاية الحب والخيانة للكشف عن الأعطاب الاجتماعية التي تنخر جسد المجتمع. لتنهي الرواية مسارها الروائي بتيمة الصراع المفتتح والمنتهى.
4) المستويات اللغوية في الرواية:
تزخر رواية «المغاربة» بزمرة من مستويات اللغة الأدبية جعلها أكثر تنوعا وثراء، وتفتح أفق كتابة رواية متخلّصة من لغة قاموسية، وخالقة للغة سردية مترعة بالماء الشعري – بتعبير القدامى- من هنا يمكننا الحديث عن اللغة الشعرية إذ نجد لغة السارد مكثّفة وتنزاح صوب الأبعاد الشعرية التي تشحن الخطاب بطاقات إيحائية ترميزية، حيث يتعالق الشعري مع الأسلوب البسيط، ويمتزج الأسلوب النثري مع الشاعري في سبيكة تعبيرية تميل إلى العدول وتحقيق المفارقة التي تزيد من الكشف عن واقع الفواعل السردية/ الشخصيات التي ماهي إلا تعبير عن المجتمع بتجلياته المختلفة، ولعل هذه السمات هو الذي منح للرواية الطابع الشاعري للمسرود،وبث روح جمالية في جسد نص روائي متميّز بهذا الاختيار الأسلوبي الشعري ويحبل به، ومن أمثلة ذلك نورد بعض الشواهد السردية المترعة بالنَّفَسِ الشعري، يقول السارد وهو يصف لحظات موت الجَدّ : ( وعبَرتْ وجهه الشاحب دُكنة حنق طارئ، لملمها الوهن بسرعة ليعيد للوجه تصلُّب وحياد غيبوبة عميقة ) ص27 ثم يقول أيضا: (أهيم في أودية نفسي، وأقلّب هواجسي تقليبا )ص143 ونضيف هذا الملفوظ السردي ( وسط هذا الليل والضياع والسير على هدى صحراء لا حدود لها ؟ لا نملك إلا أن نحبّ، لأنه الأداة الوحيدة التي بإمكاننا أن نصنع منها شيئا يبقى ويقاوم. بالحب نهب روحا لحياة يفتك بها الضجر ونهبُ معنى لخرق وجود ممزّق ومتناثر) ص357. فما يمكن الخلوص إليه هو لغة الرواية لغة مشحونة بالطاقة الاستعارية، المجازية والرمزية السردية، ذلك أنها ذات بعد درامي يثير في المتلقي مشاعر فيّاضة، ممزوجة بالمهابة التعبيرية، لغة تمزج الفكر والمشاعر والتجربة وصبّها في قالب أسلوبي متملّص من المرجع التاريخي، مبدعة لغة روائية خلّاقة موشومة بإبداعية الروائي المتمكّن من الصوغ التعبيري. وعليه فالروائي استطاع أن يلبس اللغة السردية لبوسات شعرية بوساطته « انزاحت اللغة عن سياقها لتستحيل تأملا جماليا شعريا أولا، ثم تأملا فلسفيا ثانيا يتناول قضية الوجود الإنساني المشوب بالمعاناة وثقل حمل الإدراك» (9)، ثم الاحتفاء بالشذرات التي لعبت دورا مهما في إضفاء جمالية فنية أثرت الخطاب الروائي، حيث ألقت الضياء على جوانب من إبداعية النص وأفحمت به في عوالم أسلوبية متخيّلة.
خاتمة:
إن رواية « المغاربة» للروائي عبد الكريم جويطي رواية انفلتت من المناولة السطحية للمرجع التاريخي، خالقة رواية تستثمر التاريخ كمقوم من مقومات الكتابة الروائية، صائغة تاريخها السردي من عمق التجربة في كيفية التعامل مع المعطيات التاريخية التي تخدم البناء الروائي دون السقوط في الرواية التاريخية.
رواية عبّرت عن واقع المجتمع المغربي السياسي والاجتماعي والثقافي وفق تصور للكتابة، جوهره الإنسان وغايته الإنسان، وهنا مكمن إبداعية هذه الرواية.
الهوامش:
(1)عبد الكريم جويطي: المغاربة ( رواية)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – المغرب، ط 1، س 2016.
(2) محمد الدوهو: الكتابة ونهج الاختلاف، ص30
(3) محمد برادة: الذات والسرد الروائي، منشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف، ط1، س 2014، ص 194.
(4) الرواية العربية: ممكنات السرد، أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الحادي عشر، ديسمبر 2004، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ص 23.
(5) محمد برادة: الذات والسرد، دار لامان، ط1، س 2014، ص 194.
(6) عبد المنعم تليمة: مداخل إلى علم الجمال الأدبي ومقدمة في نظرية الأدب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، س 2013، ص 136.
(7) إدريس الخضراوي: سرديات الأمة: تخييل التاريخ وثقافة الذاكرة في الرواية المغربية المعاصرة، إفريقيا الشرق، س 2017، ص 86.
(8) نفس المصدر، ص 282.
(9) السرد والحكاية: قراءات في الرواية المغربية (كتاب جماعي)، تنسيق أ.د شعيب حليفي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، ط1، س2010، ص 143.
صالح لبريني*