مثل قرينتها الرواية العربية، ارتبط الظهور الأول للرواية العمانية بشرط غير روائي، ليس فقط لوجود أسباب تتصل بعدم استكمال المجتمع العماني للبنى الاجتماعية والثقافية الملائمة لإنتاج هذا النوع الجديد من الأدب، وإنما أيضا لعدم وجود الوعي الفني الكافي بشروط السرد وآلياته الحديثة.
وما يقوله فيصل دراج عن بدايات الرواية العربية من أنها بدت «معوقة، وافدة، شديدة التلعثم لحظة، ومليئة بالوهم… وهي في الحالين بعيدة البعد كله عن الشرط الأوربي الذي سوّى روايته وأرسل بها إلى ثقافات مغايرة، تحاكيها باضطراب وتملي عليها أن تخلق رواية مختلفة.»( فيصل دراج، الرواية وتأويل التاريخ، المركز الثقافي العربي، 2004، ص5) أقول إن ما يقوله هذا الناقد العربي عن بدايات الرواية العربية بداية القرن العشرين، يمكن أن ينطبق، بهذه الكيفية أو تلك، على بدايات الرواية العمانية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن نفسه.
وهذا البعد الزمني بين بداية الرواية العمانية الناشئة والرواية العربية والأوروبية الأبعد زمنا في هذه النشأة، لا ينطوي فقط على فوارق كبيرة يفرضها التراكم الكمي والنوعي في هذا النوع من الصوغ اللساني، وإنما أيضا على اختلاف الشرط الحضاري والموضوعي الدافع إلى إنتاج الرواية والإبداع في كتابتها. وما كانت الروايات العمانية الأولى قد اتخذته من أسلوب واقعي ذي طبيعة تاريخية واجتماعية وتوثيقية بسيطة ربما فشل في تحقيق أداء متطلبات الرواية الفنية ووظيفة التاريخ في آن معا.
وإذا عرفنا أن من الصعب إطلاق مصطلح(الرواية) على النصوص القليلة التي وضعها عبد الله الطائي وبعض من جاؤوا بعده من أقرانه في الثلث الأخير من القرن الماضي، تبين لنا حجم الجهد الذي يترتب على الكاتب العماني أن يبذله من أجل كتابة روايته الجديدة دون سند محلي أو مدونات سردية ذات علاقة. إذ كما هو الحال في القصة العمانية الناشئة، ما زالت المماثلة بين الحياة والسرد في الكتابة الروائية تطرح على الكاتب العماني مجموعة من المشكلات التي يحاول هذا الكاتب التعامل معها ومعالجتها بأشكال وطرق متباينة في مستوياتها، ولكنها لا تخلو من الحيوية والرغبة الجامحة في التعبير عن الفكر والواقع المعيش بتفاصيله المتباينة وتناقضاته وإشكالاته ومتغيراته الكثيرة، وملامسة الجوانب الإبداعية الأكثر جدة ونجاعة في كتابة هذا النوع الخاص من الأداء النثري.(أنظر، ضياء خضير، القلعة الثانية، دار الانتشار العربي، بيروت، 2009، ص11 – 12)
وستنصب عنايتنا هنا على ذلك العدد القليل من الروايات العمانية التي استطاعت أن تحقق مثل هذا الشرط الذي تبدو فيه الحياة أو مقاطع مخصوصة منها معروضة على شاشة الوعي، وعلى القارئ العماني الذي يُواجه لأول مرة، ربما، بهذا الحشد المدهش من تفاصيل الحياة اليومية، بما فيها من أصوات مختلفة، متعارضة أو منسجمة، ومتداخلة، لتكوّن، داخل الإطار السردي الذي ينتظمها، ملحمة اجتماعية وتاريخية تفتح ذاكرة القارئ وأفق انتظاره على الماضي القريب أوالبعيد نسبيا، وتفسّر له الكيفية التي يظل فيها هذا الماضي قادرا على الفعل، وإلقاء الظل على نوع الحياة التي يحياها هذا القارئ بهذه الطريقة أو تلك في تكوين الحاضر الراهن.
حركة أفقية وعمودية متلازمة ومستمرة داخل النفس والمجتمع الكبير. هذا هو الفعل الروائي الذي جعل من الرواية ملحمة العصور الحديثة، وملحمة البرجوازية، كما يقول هيجل، حتى إذا كان المعول عليه تدمير البطل الذي اعتادت الملحمة القديمة على تقديمه بصورة اخرى مختلفة.
وبالقدر الذي يتصل بسلطنة عمان، يمكن القول إننا نتجه بالفعل إلى ما يسميه ميشيل زيرافا بـ(المؤسسة الروائية) التي يتطور وجودها بالتوازي مع التطور الصناعي والرأسمالي، واتساع المدينة، أو حتى وجودها وجودا واقعيا إشكاليا قائما.( انظر، عبد المالك مرتاض ص 37)
نعم نستطيع الآن أن نزعم مثل هذا الزعم بعد أن توفر للرواية العمانية عدد من المدونات السردية الطويلة التي تؤلف أساسا صالحا لإقامة مثل هذه المؤسسة الإبداعية.
وعلى الرغم من أن هذا العدد ما زال قليلا نسبيا، فإنه فاعل وبالغ الدلالة على وصول الوعي السردي الحديث لدى بعض الكتابالعمانيين مرحلة النضج لإنتاج دلالات سردية تقيم حوارا مغايرا مع الذات ومع الآخر، ورؤية الفضاء الروائي بطريقة اخرى مختلفة، لا تجعلنا نكتفي بمجرد النظر إلى حدود الحكاية، ومعاينة الأحداث، وخامة الواقع المسرود؛ بل لا بد من معاينة جماليات السرد وتقنياته، بما تنطوي عليه من إحساس بمنطق الزمن وما يتصل به من مكان وحدث وشخصية ولغة تحاول ان تصنع توازنها وطباقها الخاص بين مادة الرواية وشكلها.
ومنذ رواية بدرية الشحي( الطواف حول الجمر)جرى تحرير الشكل الروائي العماني من نقاط ضعفه السابقة بما فيها من تبسيط، وترهل، ونزعة توثيقية وتاريخية واجتماعية ناقصة، وتضخم للراوي كلي العلم، ولغة عتيقة لا تتلاءم مع متطلبات السرد الحديث.
وهكذا، يمكن القول إن هذه الرواية التي تمت كتابتها بمسقط عام 1994 وظهرت طبعتها الأولى ببيروت عام 1999، هي التي بدأت هذا الزمن الجديد في تاريخ الرواية العمانية.
ومثلما كانت(زينب) محمد حسين هيكل قد دشنت زمن الرواية الفنية في الأدب المصري منذ عام 1914، فإن(زهرة) بطلة(الطواف حيث الجمر) هي التي دشنت هذا الزمن في تاريخ الرواية العمانية.فبدرية الشحّي، كاتبة هذه الرواية، لم تكتف بمقاربة بعض الإشكاليات الاجتماعية الساخنة، والدفع ببطلتها باتجاه مقاومة التيار، والخروج على الأعراف والتقاليد السائدة في مجتمعها، وإنما وعت أيضا الإشكالات الخاصة بكتابة الرواية الحديثة على صعيد توتر الحدث، ودقة اللغة وفاعليتها، ورسم الشخصيات، ووصف الأمكنة، وإحكام المسافة في الحركة المترددة بين الماضي والحاضر، والمواءمة بين الحدث وفضائه النفسي والخيالي، بين الموقف والمدونة السردية المؤطرة له والمحافظة على توازنه الحكائي.
ولئن واجهت بطلة الرواية الجديدة المتاعب في حياتها العاطفية، وحتى السقوط في حياتها الاجتماعية والأخلاقية، فلأن ذلك هو الثمن الذي يترتب عليها دفعه من أجل أن تضرب مثلا لبنات جنسهامن النساء العمانيات. وذلك ما حدث من قبل لإيما بوفاري حوالي منتصف القرن التاسع عشر حين جعل منها الفرنسي جوستاف فلوبير أنموذجا لحساسية عصر أوروبي جديد إزاء عصر كانت شمس كثير من تقاليده وقيمه توشك أن تغيب مفسحة المجال لظهور قيم وتقاليد أخرى مختلفة، على الرغم من كل ما نعرفه عن بطلة هذه الرواية الفرنسية من أنها لم تستطع الصمود أمام إغراءات المدينة الأوربية الجديدة مدفوعة بضيق الحياة في قريتها، والبرودة العاطفية لزوجها وحاجتها المستمرة إلى المال. وهو ما حدث، كذلك، لزينب محمد حسين هيكل المصري، التي لم تكن بعيدة في أزمتها العاطفية مع من تحب، وزواجها الفاشل ممن لم تحب، عن تلك الفتاة القروية الفرنسية التي ذهبت ضحية لقيم العاصمة أو المدينة الفرنسية والعالمية الجديدة.
وما تقوله زهرة العمانية من أنها تشعر بـ( شعور ذبيحة تقدم للعيد، إحساس بالعري وأنا مكسوة بالثياب، إحساس بالخوف وأنا قوية كفاية.. الله ..الله.. يا رب النساء والرجال، يا رب الضعيف والقوي، خذني حيث أريد للدار التي أحس بها بالأمان والكرامة والفضيلة)
أقول إن ما كانت تشعر به زهره هنا لا يختلف عما اختلج به من قبل قلب صاحبتها الفرنسية وابنة عمها المصرية من مشاعر وأحاسيس عنوانها الرئيس هو إرادة الحرية كما ظهرت في هذه النصوص المفصلية في تاريخ الرواية العالمية والعربية.
لقد فرض على زهرة العمانية، بعد فقدانها لزوجها، أن تتزوج من فتى لا ترضاه ولا تحلم به وحوصرت بالذهب ومراسم الزواج التحضيرية من دون ان يستمع لها أحد وهي تردد: «لا أشتهي أن يكون عبود زوجا، ولا أطيق أن يكون هذا الصغير قريبا مني، يلهث بقرب أذني ويطبع قبلة مجنونة على عنقي، كم أشعر بالتقزز لمجرد التفكير..»(ص 40)
واللحظة التي وقفت فيها زهرة على سطح السفينة الشراعية التي نقلتها إلى زنجبار بعد هروبها، تستحق أن تُروى وتُسجل كلحظة دالة في تاريخ تحرر المرأة العمانية، وليس في تاريخ الرواية النسائية العمانيةوحدها:
«آه ما أحلى الحرية التي تسري في عروقي الآن…
أحب هذي الحياة أحب أن أعيش، فقطأطير بلا توقف، أحلٌق وأرى الكون بأسره تحتي، وأنا للمرة الأولى والأخيرة فوق لا يمسكني شيء ولا تتعب أجنحتي، وهكذا وكما وعدت نفسي وأمام عيني سلطان نافذ الصبر دونما تردد أو تأخير، أمسكت ببرقعي ونزعته عني وبسرعة رهيبة رميته في البحر، لم ألتفت إليه ولا إلى أولئك الحمقى المتناقضين، كان ما يشد نظري ذلك البرقع الذليل الذي كنت أراه يلوح مستنجدا، رأيت وقتها طفلة تعدو، يجرجرها أبوها على شوك السدر، كانت تصرخ مستنجدة أيضا، وكانت مصدومة يقتلها الخوف، أمض لعنك الله للقاع…»(ص113- 114).
( كان كل ما أردت أن أطير في السماء..
أن ألقي السلاسل كلها في زرقة البحر، وأن أحلّق منفردة في السحاب وخلف عالم الشمس..كل ما بغيت أن أصبح جديدة فريدة تماما، عالمي حر ووطني أخضر سماوي..
كل ما بغيت أن تحملني موجة بيضاء إلى أرض تتجاهل أنوثتي وتعاملني بنقاء وحب، تتجاهل عرقي وأصلي وجنسي).(ص140)
وعلى صعيد التقنيات الخاصة بالكتابة الروائية، كانت الكاتبة حريصة على تصدير فصول روايتها هذه بمقتطفات شعرية لشعراء عرب وأجانب، ولكن تأثير ذلك قد بقي هامشيا في الغالب، لأن المحتوى الشعري الحقيقي الذي انطوت عليه هذه الفصول هو الذي مثل المعادل الداخلي غير المعبر عنه بغير هذه الطريقة التي مزجت مزجا ناجحا بين الظواهر الاجتماعية والأحداث النفسية والشعورية الضاغطة، وأبعادها الشعرية والخيالية الممكنة. وذلك لا يتم فقط على صعيد العبارة المفردة، أو الجملة الواصفة والمقررة، وإنما أيضا بنوع من الاسترسال العفوي الذي يستقصي الأبعاد الممكنة للواقعة السردية بحمولتها العاطفية والاجتماعية والسياسية والخيالية ذات الأبعاد الشعرية.
ولا يمكن لذلك أن يتم، بطبيعة الحال، إلا داخل انزياحوتغيير في مفهوم الكتابة الرواية الراهنة نفسها، وهي تنضج على نار هادئة وتتطور ببطء نحو نوع جديد من الشعر، هو في الوقت نفسه ملحمي وتعليمي ، ضمن تغيير لمفهوم الكتابة بدأ يظهر لا كوسيلة شكلية أو طريقة للتحليق الخيالي البعيد عن الواقع، بل في دوره الأساسي ضمن العمل الروائي ذي الطبيعة الاجتماعية والثقافية، وكخبرة منظمة.(انظر، بوتور ص10).
أما الكيفية التي يمكن بواسطتها أن نستدل أو نُدل على وجود هذا الشعر، فغير موجودة إلا في باطن هذا الشعر نفسه، أي في مجموع البناء السردي الذي قامت الرواية على أساسه، فهو وحده الجدير بان يفصح عن ذاته، ويعرّف بنفسه، ويحمل تفسيره الخاص داخل سياق حكائي بعيد عن الآفاق الرومانسيةالتقليدية التي يداخل(الشعر) فصولها بصورة أخرى مختلفة. وهكذا لا تتأتى قوة هذه الرواية فقط من قوة الفعل فيها، ومن طبيعة التحدي الذي واجهته بطلتها الرئيسة، وما أعقب ذلك من أحداث ذات طبيعة دراماتيكية، وإنما أيضا من قدرة الكاتبة على توفير قدر من التوتر بين الواقع والتوقعات، بين الذكر الغريب الطامع، وبين الأنثى العارية من كل شيء غير شجاعتها، ورغبتها العارمة في تغيير نمط العلاقة مع هذا الذكر الذي لا يريد أن يعرف من الأنثى غير صورتها النمطية وعاء للجنس ومطية للتنفيس عن الرغبة بصورتها الشرعية أو المحرمة، وما ينجم عن كل ذلك من مراوحة بين الفعل السردي وقدرة الراوية على استثماره عن طريق الفعل العاطفي المفسّر والمعلق على تناقضات هذا الفعل وما ينطوي عليه، أحيانا، من تلميحات ورغبات داخلية مكبوتة، أو ظاهرة:
(جميع الوجوه التي أعرفها تلاحقني كذئاب مسعورة، تقترب مكشرة عن أنياب كالسكاكين)(ص205)
في حين أن ما تقوله بطلة الرواية وهي تصف غروب الشمس في مالندي الأفريقية لدى وصولها إليها يمثل جانبا من هذه اللغة الشعرية أو الشاعرية التي نتحدث عنها:
(أما المغرب في مالندي هذه فله طعم مختلف، والشمس أقرب مما يجب، بلون صفار البيض الفاقع في قن دجاجنا، وحولها الشفق خجلا، والرجال يتحركون في كل وقت يتهامسون، لكيلا تعلو أصواتهم فتطغى على صوت الإمام الداعي للصلاه، ما أحسست بالغربة وقتها، والسحر هائم على وجهه في الأجواء يلطّف الهواء ويخطف الناس خطفا فيبدون كالأشباح السارية، وبعد الصلاة بدأ البحارة يتصرفون كالأطفال يتراكضون ويتعاركون على الرمال الباردة، أو يخلعون ثيابهم ويستحمون في الماء البارد ..)( ص 151- 152)
( جذوع أشجار النارجيل الشاهقة حكاية ليلية محمومة، فما من ساق تشبه الأخرى، جميعها أصابته حمى الموج، فانحنت، تراقصت وتمايلت على بعضها البعض، ثمارها في الضباب الخفيف تبدو كعيون سوداء متوجسة حذرة، وهناك رائحة جميلة تنتشر في الفضاء، غرائبية موحشة، وجود ربيع معي شجعني على التوغل في غابة النارجيل المظلمة…)( ص 153)
وواضح أن قيمة مثل هذا الأداء الوصفي في الرواية تتحدد على أساس الموقع الذي يحتله في مجمل السرد، والكيفية التي نرى فيها الزمن الحاضر لحظة هذا الغروب الأفريقي وهو يتحرك مع لون الشمس نحو الخلف حيث البيض الفاقعبقنّ الدجاج في القرية العمانية التي خلّفتها بطلة الرواية وراءها، إذ هي حاضرة في قلب هذا المشهد المتحرك مع حركة الرجال وصوت المؤذن للصلاة، والسحر الهائم على سحنات الوجوه…
أما جاذبية الأداء الشعري في المقطوعة الثانية المنقولة هنا من هذا الوصف، فتتأتى من هذا المزج المدهش بين صورة الطبيعة بسيقان أشجارها الملتفة مثل حكايات ليليلة محمومة، وثمارها التي تبدو في الظلام الخفيف كعيون سوداء متوجسة حذرة، وصورة هذه المرأة الوحيدة المحاصرة في غربتها من كل جانب بعيون الرجال. فالرغبة الجنسية الكامنة، ورائحتها المضمرة بين الكلمات تنعكس، بهذه الكيفية أو تلك، على صورة هذه الطبيعة التي لا يفارق فيها العنصر الذكوري(الراضخ) مثل(ربيع) لهيمنة العنصر الأنثوي وسيطرته السحرية المدوخة، ظلال الصورة والزوايا المتطرفة فيها.
و بداية هذا الوصف الأخير تبدأ هكذا:
( نظرت خلفي فوجدت ربيع يتبعني راضخا..)(153)
وتنتهي هكذا:
(وجود ربيع معي شجعني على التوغل في غابة النارجيل المظلمة، كان بداخلي غضب غريب كريه، أكره حتى التفكير في أسبابه، والأوراق اليابسة، والأوراق اليابسةتتكسر بعنف تحت قدمي، أخاف من هكذا مكان تكثر فيه الهوام والحيّات والجن، وارتعدت ..).(153)
وواضح أن هذا التوغل مع(ربيع) في أعماق هذه الغابة يحمل في ذاته نوعا آخر محتملا من التوغل في رغبة جنسية محرمة بدت أشجار النارجيل وسيقانها الملتفة بهذه الحميمية مشاركة فيها ودافعة إليها، حتى إذا كان الفعل الجنسي القادم عن طريق الزواج، الذي يحصل فيما بعد، متجها نحو شخص آخر هو صالح، وليس مع ربيع نفسه.
ويمكننا ان نتحدث بنفس الطريقة، تقريبا، عن نصوص روائية عمانية أخرى كتبت في تواريخ لاحقة من قبل عبد العزيز الفارسي وحسين العبري، ومحمود الرحبي، وهدى الجهوري وجوخة الحارثي ، ونجحت، هي الأخرى، في تحقيق مثل هذه الشروط على مستوى اللغة، والأسلوب، والتقنية، والبناء، من دون أن ننسى ما كتبه آخرون مثل علي المعمري، وأحمد الزبيدي ومحمد عيد العريمي من نصوص روائية حديثة.
لقد حدث تغيير أكيد في البيئة التي يعيش فيها الروائي العماني واتخذت فيها الأشياء والمفاهيم شكلا جديدا عمل على تغيير نظرة هذا الروائي إلى نفسه والعالم من حوله. وما دامت الرواية، في أبسط تعريفاتها، تعبيرا نصيا عن مجتمع يتغير، وصولا إلى الحالة التي يعي فيها هذا المجتمع أنه يتغيّر، فإن من العبث أن يظل الشكل الروائي ثابتا لا يستجيب لعملية التغيير هذه.
ولئن كانت القصة القصيرة التي كتبها كل هؤلاء قبل مغامراتهم الروائية الأولى هي البداية، فلأن القصة القصيرة نفسها تمثل «مختبر الرواية» على حد تعبير ميشيل بوتور(7)، باعتبار هذه الأخيرة أسمى حقل للتعبير عن الحوادث الحسية، وأسمى بيئة تبحث فيها الطريقة التي تظهر لنا فيها الحقيقة، أو التي يمكن أن تظهر لنا فيها ، وبعد أن أصبحت القصة القصيرة والسرود الصغيرة غير صالحة لاستيعاب جميع العلاقات الجديدة التي تنشأ عن هذه البيئة الجديدة، بما فيها من قلق ملازم وتبادل أدوار واختلاط أصوات وتعقيد في العلاقات داخل المدينة الجديدة وخارجها.
وما نعنيه بالتجليات التاريخيةوالظواهر الاجتماعية التي نود التركيز عليها في هذه الورقةليس مجرد الاهتمام بالروايات العمانية التي تعرضت بشكل مباشر لوقائع تاريخيةواجتماعية محددة، كما فعل عبد الله الطائي حين عالج في روايته الثانية ( الشراع الكبير) [كتبت بين 69 و71 وطبعت عام 81] مقاومة العمانيين للاحتلال البرتغالي لبلادهم، وفي روايته الأولى(ملائكة الجبل الأخضر) [كتبت بين 58 و62 وطبعت عام 63] وتناول فيها الأحداث الخاصة بما سميثورة الجبل الأخضر، والانقسامات الداخلية التي تعرضت لها البلاد في منتصف الستينات من القرن الماضي. أما رواية محمد بن سيف الرحبي( السيّد مرّ من هنا) الصادرة عام 2011م، فقد حاولت أن تستحضر، هي الأخرى، جانبا من التاريخ العماني، متمثلا ، هذه المرة، بسيرة سلطان عمان الشهير سعيد بن سلطان الذي أسس خلال حكمه الطويل امبراطوريةامتدت من عمان إلى زنجبار في شرق أفريقيا
مع العلم أن الذين تناولوا التاريخ في رواياتهم من الروائيين العمانيين، لم يعتمدوا فقط على بطون الكتب والمدونات التاريخية، بل حاولوا أيضا معالجة وقائع تاريخية قريبة نسبيا، مازالت ذاكرة بعض العمانيين الأحياء مثقلة بها. وذلك لا يقتصر على عبد الله الطائي في روايتيه المشار إليهما، وإنما يشمل ما كتبه علي المعمري عن الثورة في ظفار في روايته (همس الجسور)، وعن الأحداث والملابسات المحيطة بواحة البريمي في روايته( ابن سولع)، وكذلك ما كتبه أحمد الزبيدي عن الثورة في ظفار في روايته( أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة) الصادرة ببيروت عام 2008، وما انطوت عليه نهاية رواية بدرية الشحي التي مرّ ذكرها من أحداث مأساوية شهدها الوجود العماني في زنجبار عشية إعلان استقلالها عن الدولة العمانية، وتمت روايتها من قبل شاهد عيان هو بطلة الرواية نفسها.
أي أن معالجة الماضي واستحضار بعض وقائعه وأحداثه في هذه الروايات لم يكن بعيدا عن معالجة الحاضر، أو بعض طياته، وما يمور تحت سطحه من صور وملابسات وتحولات وعي تاريخي واجتماعي لم يحسن المؤرخون تسجيل اندثاراته وإبراز تاثيره على صياغة حاضر البلاد العمانية وشخصية مواطنها، بنفس الطريقة التي تمّت في مثل هذه الروايات.
أي أننا نتحدث هنا عن التاريخ بالمعني العميق للكلمة .. هذا التاريخ الذي يندغم فيه العام بالخاص وتتحول الشخصية الروائية داخله إلى نموذج نمطي يمكن أن نرى صورته البشرية أو ظلالها الأساسية في المرحلة التاريخية المعنية بوصفها دالا إنسانيا حيا يضفي على هيكل الاسم المفرد معنى ووجودا حقيقيايزيد على وجوده الورقي المتخيل، وحتى على وجوده اليومي العابر. إذ لا تعني معرفة التاريخ شيئا إذا لم ترتبط بأهمية إدراك الظرف الاجتماعي والقدرة على تحليل عناصر الديمومة والتغير في المعيش اليومي.
والمهم في كل ذلك هو الكيفية التي يعبر فيها جوهر العمل الروائي الأكثر عمقا عن ذاته في السؤال الذي يطرحه عن الإنسان، والكيفية التي يقول فيها الروائي ما يقول به المؤرخ، اتكاء على جوهر إنساني عصي على الثبات، يستقيم زمنا في انتظار انحناء لا هروب منه، كما يقول جورج لوكاش في كتابه الرواية التاريخية.
وإذا كانت الظواهر الاجتماعية التي تتخذ شكل تسجيل تاريخي دقيق لتطور بعض البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والنفسية التي تمّ رصدها في هذه الروايات عديدة ومتداخلة على نحو يجعل من الصعب حصرها في هذه الورقة، فلا بدّ من الاقتصار على استعراض بعضها لرؤية الكيفية التي تمت بها معالجتها سرديا، خصوصا إذا وجدنا تأكيدا واشتراكا في تناولها في أكثر من رواية من هذه الروايات.
في رواية بدرية الشحي المتقدمة جرى التأكيد على حرية المرأة وبناء شخصيتها والشعور بذاتها واستقلالها، بعيدا عن هيمنة الرجل وسيطرته الزوجية أوالأبوية على حياتها، كما أشرنا. في حين تعرضت رواية(سيدات القمر) لجوخة الحارثي لدراسة ملامح مجموعة كبيرة من الشخصيات الأنثوية والرجالية والتقاليد العشائرية، في إطار تطور مراحل زمنية عاشتها عائلة عمانية ريفية تقليدية.
وقد تميزت هذه الرواية الأخيرة بحيويتها البالغة، وجمال لغتها، وتعدد أصواتها، وإحكام بناء شخصياتها الأنثوية والرجالية، وانفتاح رقعة السرد فيها على مساحات داخلية وخارجية مجهولةغطّت مرحلة زمنية مهمة من تاريخ عائلة عمانية متوسطة، بما انطوت عليه من أوضاع اقتصادية، وعلاقات عاطفية، وتقاليد اجتماعية، وفوارق طبقية، وعرقية، وتطورات نفسية وفكرية بالغة الغنى والدلالة.
وهو نفس الإطار الاجتماعي والثقافي الذي ينتظم رواية عبد العزيز الفارسي(تبكي الأرض ..يضحك زحل) بما فيه من حيّز مكاني قروي ينتظم الأفعال السردية والنماذج البشرية التي تميزت أصواتها عن أصوات غيرها، واستقل كل منها بفصل أو أكثر من فصول النص ليباشر بنفسه رواية الأحداث، ويسجل رؤيته للأمور من زاويته الخاصة المتفقة أو المختلفة كثيرا أو قليلا عن رؤية الآخرين.(صدرت طبعة الرواية الأولى عن دار الانتشار العربي ببيروت عام2007).
أما رواية حسين العبري الموسومة بـ(الأحمر والأصفر) فقد اتخذت طابع سيرة ذاتية مطوّلة لشاب عماني عاش طفولته في إحدى القرى المعزولة، وانتقل بعدها إلى المدينة ليكون شاهدا على عالم آخر مختلف في سلوك نسائه ورجاله وعلاقاته الاجتماعية، خصوصا في جوانبها العاطفية والجنسية.
إنها، في مجموعها، نوع من(التربية العاطفية) التي يرصد راويها بضمير الغائب تطور وعي بطلها الشاب القروي بالعالم وبالحياة من حوله على مستويات عدة تحتل العلاقات العاطفية والجنسية مكانا مميزا فيها. علما بأن ضمير الغائب الذي كتبت فيه هذه الرواية( مع وجود بعض الالتفاتات القليلة إلى ضمير المتكلم)يمثل أبسط الصيغ التي تكتب بها الرواية؛ إذ أن كل مرّة يلجأ فيها الكاتب إلى صيغة أخرى يكون ذلك على سبيل المجاز، وهي تًرد إلى صورتها الأساسية المضمرة المتمثلة بهذا الضمير.( انظر بهذا الصدد، ميشيل بوتور، بحوث في الرواية، مرجع سابق، ص63).
الظواهر الاجتماعية
وبما أن الظواهر الاجتماعية التي انطوت عليها الرواية العمانية كثيرة ومتشعبة، فسنحاول هنا أن نقتصر على عرض واحدة منها؛ وهي قضية التمييز العرقي في المجتمع العماني، لرؤية الكيفية التي تمت بها معالجتها داخل المدونة السردية العمانية، بوصفها إحدى المعطيات السلبية القائمة على مستوى الراسب الاجتماعي، والتركيبة القبلية التي ما زالت فاعلة، وما زالت بعض قطاعات من المجتمعات العربية الخليجية تعاني منها. فعلى الرغم من أن علماء البيولوجيا قد كفوا عن تصنيف البشر على أساس عرقي يتصل باللون أو النسب، فإن الوعي القائم في بعض هذه المجتمعات ما زال مؤمنا بفكرة التفوق العرقي وصفاء النسب، وغير ذلك من أمور يجري فيها الخلط بين البيلوجيا والثقافة الشعبية العامة المترسخة في الذاكرة الجمعية.
لقد موّهت العوامل البيئية والاجتماعية والاختلاط والتداخل بين البشر في المجتمع العماني الحديث على الحدود بين الأجناس، وخفّفت، إلى حد ما، من أسر النظرة القائمة على تقسيم البشر إلى أصناف دنيا وعليا، وغيّرت في طبيعة المعاملة القائمة بين الناس على أساس وجود فروق وصفات اجتماعية وثقافية غير شخصية، وغير مسؤولين عنها. ولكن التمييز على أساس العرق أواللون ما زال موجودا مع ذلك على مستوى الحكاية المسرودة. وقد جعلت منه بعض الروايات العمانية موضوعا من موضوعاتها، وقدرا ملازما لبعض شخصياتها ذات الطابع الإشكالي في الغالبية العظمى منها.
ومنذ رواية بدرية الشحي(الطواف حيث الجمر) التي هربت بطلتها(القبيلية) زهرة ذات الحسب والنسب إلى أفريقيا بحثا عن الزوجة الأفريقية الثانية لزوجها المتوفى، وحاولت تجاوز الأعراف والتقاليد الخاصة بالتمييز العرقي القائم بين( الأحرار) و(العبيد) في حياتها التالية التي أمضتها في زنجبار، دخلت روايات عمانية أخرى في صلب هذه الطيّة الاجتماعية الحساسة، مع أن ما فعلته هذه الروايات أو بعضها لا يزيد، في الواقع، عن الكشف عن واقع اجتماعي موجود في زمنها على مستوى الذاكرة والثقافة التقليدية، ومترسخ في الوعي واللاوعي الجمعي، وليس فقط على مستوى واقع الفرز والميز العنصري الظاهر أو المضمر في الحياة الاجتماعيةوالأسرية القائمة آنئذ في المجتمع العماني من الناحية العملية.
ويبدو موقف زهرة في(الطواف حيث الجمر) مختلفا بعض الاختلاف مع هذه المشكلة. فقد خضع هذا الموقف إلى تغيير لافت، تطور فيه من الرفض إلى القبول، من نظرة المرأة(الحرة) إلى(العبيد) الذين يقومون على خدمتها، نحو القبول بمبدأ المساواة بين البشر بصرف النظر عن اللون والعرق. وهو مبدأ فرضه واقع الأمر أثناء وجود زهرة في أفريقيا السوداء بعد تحريم الرق وتجار العبيد، والظروف الاستثنائية التي شهدها وطنها الثاني زنجبار عشية استقلالها وانفصالها عن الدولة العمانية، أكثر مما فرضه موقف الاختيار المبني على قناعات نظرية وأخلاقية عميقة.
لقد كانت زهرة ترى نفسها(ملكة) و(أميرة حقيقية) في الديار الأفريقية بعد أن اشترت المزارع وامتلكت الأرض مع العبيد الذين يعملون فيها.
( أحب كثيرا هذه الحياة، فاليوم أحس أنني في المكان الذي أريد، في المكان الذي أكون فيه ملكة أحكم بصولجاني الخاص، حيث لا يجرؤ فرد – باستثناء كتمبوا السخيف- أن يعارضني أو أن لا يخلص لي، سأصنع من كل هذا حلما بدون نهايات، حلما تحقق أخيرا من العدم
آه كم أتحرق شوقا لأرى نفسي أميرة حقيقية.)(ص218)
ولكن هذا الموقف انقلب بطريقة دراماتيكية حين وجدت زهرة نفسها وحيدة ومحاصرة من قبل هؤلاء(العبيد) داخل مزرعتها نفسها. وكتمبوا(السخيف) كما تصفه هنا يرفض العرض الذي تقدمت به زهرة إليه بالزواج منها، بعد موت زوجها الثاني(صالح) الذي ما زالت تحمل بذرته في بطنها:
(- تزوجني إذن، خذني حيث تريد، سأفعل لك كل ما تشاء، فقط دعوا هذه الأرض، دعوها لي ليس لي مكان آخر.
نظر إليّ بدهشة، وقال من علوه البغيض:
– أنت تطلبين مني الزواج، وماذا عن الفروق التي كنت تتشدقين بها، أتقترنين بعبد أسود، اليوم تعرضين عليّ الزواج؟
– نعم، فقط دع الأرض.
وهزّ رأسه فصعقني:
– لا لن أتزوجك، أنا أيضا لي فروقي الخاصة).(ص274)
ومع أن الأمر في مثل هذا الحوار يستند إلى رؤى ومواقف سياسية متقاطعة، وليس فقط إلى تباين المصالح المادية، فإن اللافت فيه هو هذه النغمة الجديدة التي صار فيها الأفريقي الأسود يرفض الاقتران بهذه المرأة العربية(الحرة) مستندا، هو الآخر، إلى(فروقه الخاصة).
والأمر لا يقف عند كتمبوا الذي كان رجلا أفريقيا متعلما يتحرك ضمن أهداف ودوافع وطنية ويعلن بأنه(عبد لوطنه) وليس لأحد آخر، وإنما يتعداه إلى عبدها الصغير(كوزي) الذي ستضطر زهرة إلى أن تقدم له(عرضا رهيبا) في اللحظات الأخيرة حيث(كان الزمان مختلا، والطلق والصرخات تقترب لتعلن الحقيقة عارية) كما تقول:
( – هناك دائما هروب للأسوأ، ولكني لن أفقد الكثير..
ودرت حول دورة كاملة:
– عندي المال، وما أزال جميلة، وسأخدم بكل سرور أمك وأخواتك التسع الناعمات.)(ص280)
وكل هذا الذي تقوله زهرة وتحاول أن تفعله في الوقت الضائع بعد أن خسرت كل شيء، يختلف عن ذلك الذي كان لها في سالف الأيام، حين كان أحد(عبيدها الصغار) في الجبل بعمان يصبغ وجهه بالنورة لـ(يصبح أبيض) ويقنعها بالزواج منه.(ص266)
وما تقوله لكوزي من أنها تؤمن بـ(أن الناس سواء، وأن الحر حر، وأن الناس جميعهم أحرار، كنت أقول ذلك فقط لم أتعلمه ولم أؤمن به، كنت أعرف أني لا أتزوج الأسود لكيلا أخرب النسل، وأيضا عرفت أن التيس بألف نعجة..)(ص279) أقول إن ما تقوله زهرة هنا قد ظل بلا صدى، وأن كوزي هذا لم يقابل ابتسامتها وعرضها الغريب بغير العبوس، كما تذكر هي ذلك وهي تقدم لهذا الحوار.
أما هدى الجهوري فتعالج في إطار واقع هذه التفرقة العنصرية غير العادلة بين البشر أنموذجا بشريا آخر يحتل مساحة واسعة في روايتها(الأشياء ليست في أماكنها)، وهو شخصية أمل التي تكتشف في وقت مبكر أنها ليست(حرة) مع أن بشرتها لا تختلف في لونها الأسمر عن لون بشرة الغالبية العظمى في هذه البلاد. فهي ليست كـ(العبدات)، وليست أيضا كمنى الحرة الخالصة مع أن لون بشرة هذه الأخيرة أغمق من لون بشرة أمل، لكون أمل هذه(بيسرة) تقع في المنتصف(بحسرة كبيرة)، كما تقول. مما يعني أن الرق مفهوم وثقافة، وليس لونا فقط.
وهذه الكلمة الأخيرة(بيسرة) ستظل تلاحق هذه الفتاة مثل(جريمة نحاسب عليها دون أن نرتكبها) كما تقول، و( أكتشف الآن في خطوتي الأولى في الحياة أنني أنثى بامتيازات ناقصة).(ص17). ووضعها هذا في منزلة بين المنزلتين يجعلها في وضع أقسى من ذلك الذي وجدت عليه أبناء خالتها الذين لا يشعرون بالضيق أو التبرم مثل شعورها مع أنهم بلون أغمق من لونها.(ص18).
( كانت تلك المعادلة الصعبة تدهشني! أحاول أن أنسل منها لكي أبدو فتاة طبيعية لا تهتم كثيرا لمثل هذه التفاصيل التافهة، لكي لا أبدو ممتلئة بالعقد الناتئة على سطح روحي، ولكن دون فائدة).(ص18 – 199)
والمسار الذي تسلكه هذه الشخصية خلال تطور السرد في الرواية يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن كل محاولاتها قد بقيت دون جدوى. فكلمة(بيسرة) تبقى بالنسبة لها أكثر إيلاما من كلمة(عبدة).
(كلمة تضاعف من عدد خساراتي: أنا لست حرة ولست عبدة. أنا الهجين الذي يقع في المنتصف)(ص20)
ومع أن(أمل) حاولت أن تتخفف من وطأة شعورها بالمرارة عن طريق القراءة التي(تساوي الحرية)، وتدفع إلى المعرفة التيتزيد من إحساسها بوطأة الأشياء:
(أنا إلى الآن لم أتعلم كيف أصرخ في وجه حنان وأخبرها أنني وأنت شيء واحد وأن شعري الأجعد لا يبرر نقمتك عليّ. أنا إلى الآن لم أتصالح مع تلك الكلمة التي أسمعها كلما تقدم أحد ما إلى خطبة فتاة في حارتنا لأن أول سؤال يسأله أهل العريس الأصل والفصل. و»ابيسرة» لا يتزوجها الحر، وترفض الزواج بالعبد لكي لا تزداد الطينة بلة)(ص24)
أقول مع أن هذه الكتب التي بدأت أمل تستعيرها من خالتها قد بدأت بالفعل في تغيير وعيها ونظرتها إلى الأشياء، فإن ذلك لم يكن كافيا لحمايتها من قسوة النظرة الاجتماعية، خصوصا بعد أن ارتكبت خطأها أو خطيئتها الأولى المتمثلة في معاشرتها مع الفتى الأسمر(خلوف) الذي ألحّ عليها بضرورة أن تهرب معه بعيدا(لنختبر أجسادنا، لنختبر قدرتها على الاندماج)(ص29)، وما تلا ذلك من علاقات جنسية آثمة جعلت(رائحتها تفوح في الحارة). فقد كانت أمل(تبيع نفسها) كما تقول صديقتها(منى)، و( لكي أفكر فقط أن يصبح لدى الناس مبرر لكي تعاملني بدونية، أشعر أن ثمة ما يستحق نقمتهم عليّ الآن..)(ص155)، كما تعترف هي في حوارها مع صديقتها(منى) لدى زيارة هذه الأخيرة لها في شقتها بمسقط.
وهكذا نرى أن القوة المكتسبة من هذه المعرفة لا تقدم في حالة(أمل) غير بعض الحلول الفردية الخاصة بالحرية الشخصية المشكوك في مدى نجاعتها، طالما بقيت(الأشياء ليست في أماكنها) على الصعيد الاجتماعي، بينما كانت قوة هذه المعرفة والوعي الاجتماعي والسياسي المرافق لها قد قادت كتمبوا إحدى الشخصيات الأفريقية في رواية بدرية الشحي( الطواف حيث الجمر) المتقدمة إلى مواقف وطنية عزلت بين وضعه الشخصي وعلاقاته العاطفية من جهة، وبين وعيه بقضية أبناء وطنه السياسية والقومية، من جهة أخرى.
ولعل اختلاف الفضاء السردي أو الحيز الذي وجدت كل واحدة من هاتين الشخصيتين نفسها منشبكة فيه، هو المسؤول عن ذلك. على الرغم من أننا نذكر أن رواية(كوخ العم توم) لهارييت ستاو التي جعلت من نضال العبيد الأمريكيين وتوقهم نحو الحرية موضوعا لها، كانت من أوائل الكتب التي حرصت أمل على قراءتها، في إشارة منها، فيما يبدو، إلى البعد السياسي والعرقي الذي تنطوي عليه مثل هذه الرواية. ولأن أملوجدت نفسها تشبه(العم توم كثيرا، لأني لا أستطيع أن أدافع عن نفسي أمام مضايقات حنان.)(ص23)
وما يبعث على الدهشة في بناء هذه الرواية، أو ما يخص الجانب الأخير منها هو أنالمغامرة العاطفية التي تقوم بها(منى) صديقة أمل والشخصية الرئيسية الثانية في الرواية، حين تقتحم غرفة حبيبها القديم حازم في الفندق، وتدخل معه في أجواء عاطفية محرّمة بعيدا عن زوجها(محسن) وابنتها( في)، أقول إن ما يبعث على الدهشة هنا هو أن القارئ يتبين لاحقا أن الأمر لم يكن غير حلم من الأحلام. نعم مجرد حلم ووهم كان يعمر رأس منى وأحلام يقظتها، وأنه لا وجود واقعيا لحازم هذا، مع أنه احتل صفحات عديدة من الرواية وتداخل في نسيجها السردي على نحو لا شك فيه ولا برء منه. وهو ما يقتضي من القارئ أن(يعيد ترتيب الحكاية من جديد) حسب العبارة الأخيرة للراوية.
وهو تغيير ذو مغزى ودلالة بالغة هنا. والتفسير الوحيد الذي يمكن لهذا القارئ أن يقدمه وهو يواجه بهذا الإجراء غير المتوقع من قبل الراوية، هو أنه لا يمكن لشخصية مثل شخصية منى ذات الحسب والنسب أن تقع في المحذور وتنقاد لمغامرة عاطفية من هذا النوع، حتى إذا كان الأمر يتصل بمتخيل سردي يبقى ممكنا على صعيد القوة، وليس على صعيد الفعل الواقعي. وهو ما يعني أيضا أن(البيسرة) أمل هي وحدها من يستطيع تحمل مسؤولية الوقوع في المحذور، ويرتكب الخطيئة تحت سمع وبصر المجتمع أو دون ذلك، لأنها مهيئة لذلك بحكم الطبيعة والأصل الذي يحدده اللون ويتدخل العرق في صياغته. الأمر الذي يعني أن هناك خللا لا يقتصر على هذا الانحراف فيالمضمون، وإنما يتعداه إلى إلحاق الأذى بمجمل البناء السردي في رواية هدى الجهوري هذه، أو في هذا الجزء الأخير منها على أقل تقدير.
والسؤال الذي يحق لقارئ هذه الرواية أن يطرحه هنا هو: لماذا يجب أن يقال لهذا القارئ إن هذه المغامرات العاطفية لمنى لم تكن في الواقع غير خيال وحلم ووهم من الأوهام على الرغم من كل التفاصيل الواقعية المعروضة، في حين تظل الأفعال العاطفية المشابهة لصديقتها ورفيقة طفولتها أمل واقعية وحقيقية ولا يرقى إليها الشك؟! وماذا لو قلبنا الصورة وجعلنا هذا الحلم لصيقا بمغامرات أمل والأفعال السردية المتصلة بهذا الجانب من حياتها وسلوكها كأنثى، وثبتنا، على العكس من ذلك، كل ما فكرت به منى وحلمت به على أنه حقيقة لا يرقى إليها الشك؟ وهل سيكون مثل هذا الإجراء ممكنا، أم أن المسألة ليست مجرد لعبة، ولا متخيلا روائيا اعتباطيا غير محكوم بضوابط. وهي، كما نرى، ليست ضوابط فنية يمليها البناء السردي والسيرورة المنطقية للأحداث في الحكاية، وإنما هي انعكاس لـ(ضواغط) اجتماعية تستجيب فيها النص الروائي لضغط متخيل اجتماعي يريد أن يرى ما يجب أن يقع، وليس ما يمكن أن يقع. وهو متخيل لا يسمحلفتاة حرة وبنت أصول متزوجة مثل منى أن(تسقط) أو تسلك سبيلا مثل ذلك الذي سلكته البيسرة أمل التي يضع هذا المجتمع ألف سؤال وسؤال حول أصلها وفصلها منذ ولادتها، وقبل أن ترتكب أي إثم.
واستعراضنا لمجمل الروايات العمانية الخاضعة للدراسة يظهر بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر مضطرد تقريبا، طالما تعلق بشخصية سوداء غير معروفة في أصولها القريبة أو البعيدة. فهي ليست مستعدة فقط لأن تكون موضع سخرية وقبول لشظف العيش وحياة الإذلال والامتهان، وإنما هي، إلى ذلك، قابلة لأن تسقط أو تُسقّط من الناحية الأخلاقية، في حركة تكاد تكون نمطية ومقصودة في البنية السردية، من أجل أن يظهر للملأ مدى قوة التأثير الذي تتركه سلامة الأصل وصفاء اللون وغير ذلك من مزاعم عرقية واعية أو غير واعية، على طبيعة السلوك الذي تسلكه الشخصية داخل مجتمع قبلي مختلف بطبيعته عن تلك الشخصية في أصوله ولون بشرته.
أما رواية جوخة الحارثي سيدات القمر الصادرة عن دار الآداب في بيروت عام 2010 فقد تداخلتبعض الأعراق(غير الصافية) في نسيجها السردي تداخلا له علاقة بتكوين العائلة العمانية المتوسطة التي كانت موضوعا لهذه الرواية. فقد قام بعض(العبيد) و(العبدات) على خدمة هذه العائلة، وألّفوا عناصر هامشية وأساسية في علاقاتها وذكرياتها القريبة والبعيدة. وهم يتراوحون بين شخصيات ذات حضور كبير في الرواية مثل ظريفة وابنها سنجر وزوجته شنّة، ومسعودة وزوجها زيد، وأخرى غائبة مثل حبيب زوج ظريفة وأمها عنكبوته الملقبة بـ(الخيزران). وقد كانت بعض هذه الشخصيات مجتلبة ضمن تجارة العبيد من كينيا، فيما جلب بعضها الآخر من مكران في بلوشستان.
والراوية تذكر لنا فصولا من تاريخ هذه الشخصيات والطريقة التي تم فيها أسرهم ووترحيلهم من بلدانهم الأصلية ثم بيعهم كعبيد في عمان، في تلك اللحظات المفصلية التي كانت فيها تجارة الرقيق قد شارفت على الانتهاء، وأصبحت محرّمة على الصعيد العالمي.
( حين ولد سنجور في إحدى القرى الصغيرة بكينيا كان السيد سعيد بن سلطان يوقع مع بريطانيا الاتفاقية الثانية لحظر تجارة الرقيق… ولكن سنجور لم يكمل العشرين من عمره حتى كان هدفا للقناصة من القرى الأخرى الأكثر قوة، الذي تسللوا إلى قريته الغافية في الظلام، وأعدوا الشراك في عمق الغابة، وحين ذهب سنجور للاحتطاب في الفجر وقع في الشرك الذي التف عليه كقفص فتلقفه القناصون وعادوا به مع آخرين كغنيمة) كما جاء في الرواية.(ص172 – 173)
وهي قصة نمطية تتكرر فصولها مع هؤلاء(العبيد) مهما اختلفت الأمكنة وظروف الاستعباد. فحبيب ذو الأصول البلوشية، مثل سنجور ذي الأصول الأفريقية،
(يتذكر كل شيء: العصابات المحلية التي أغارت على قريتهم طمعا في المال، أو تصفية لثارات قديمة، خليط التجار البلوش والعرب الذين اشتروهم على الساحل، المراكب القذرة الممتلئة التي شحنوهم فيها، داء الرمد الذي استشرى في المراكب، صراخ أمه على أطفالها الآخرين الذين شحنوا في مراكب أخرى، والرضيع الذي مات على صدرها بالجدري فألقاه التجار في البحر..
بيع وأمه في ساحل الباطنة، اشتراه تجار العبيد، وباعوهما إلى تجار آخرين، حتى اشتراهما أخيرا التاجر سليمان. بكت أمه لسنوات طوال، تعاطف الناس في العوافي مع قصتها، لكن أحدا لم يستطع أن يهتدي لمكان أبنائها الآخرين، أما إرجاعها لبلادها فكان ضربا من المستحيلات. فقطاع الطرق والقراصنة سيبيعونهما مرة أخرى بكل تأكيد).(ص112)
غير أن هؤلاء العبيد، أو الذين أصبحوا عبيدا بعد هذه الظروف المتشابهة، ليسوا متشابهين في وعيهم لحياة العبودية التي وجدوا أنفسهم فيها.فظريفة سريّة التاجر سليمان ثم زوجة عبده حبيب قد استمرأت هذه الحياة ولم تكن قادرة على تصور وجود حياة أخرى غيرها. وهي تستنكر موقف ابنها سنجر الذي يريد أن يشق عصا الطاعة على أسياده ويهجر البلد مثل أبيه حبيب، بل إنها لا تريد أنترى ابنها يسمّي ابنته بواحد من الأسماء التي يسمّي بها الأحرار أبناءهم:
( دقّت ظريفة الباب بكل قوتها:» أخرج ياسنجر»
هرول مسرعا: «خير يا أمي!!»
لم ترض أن تدخل غرفته، سارا معا في حوش البيت الكبير أولا ثم خرجا إلى السكك التي تنيرها إضاءات خافتة من البيوت على جانبيها، قالت له:» صحيح اللي سمعته يا سنجر؟ تترك بلدك وأهلك وتسافر؟..
قال سنجر: «نعم، صحيح، وتعالي معي إذا تريدي»
هجمت عليه تشد رقبته: «تسمي بنتك رشا وتريدتهاجر؟»
أفلت يدها بقسوة وصاح فيها: «اسمعي يا أمي ما يهمني اسمها ولو كانت ولد سميتهمحمد أو هلال أو عبد الله..»
صاحت ظريفة: «أيش سيقتلك التاجر سليمان.. تسمّي على اسم أهله وأولاده؟ أنت جنيت يا ولد؟ تكبّر راسك على من؟… من رباك وعلّمك وزوّجك؟».)(ص93)
لقد تشكل وعي ظريفة بالعبودية على نحو آخر مختلف عن وعي ولدها سنجر، وعن أبيه حبيبقبل أن يتركها ويهرب لتتخلص منه ومن صراخه في عمق نومه(نحن أحرار، نحن أحرار)، ومن هذيانه عن الجثث التي ألقيت في البحر، وعن القراصنة وداء الرمد.(ص171).
والأمر لا يتصل فقط بوعي جمعي يقبل أو يرفض هذه العبودية، ويحاول الاستمرار فيها أو الخلاص منها، وإنما أيضا بتفاصيل حياة خاصة وعلاقات دخلت فيها ظريفة أو ظرّوف، كما كانوا يسمونها في بيت التاجر سليمان، ورأت فيها الحياة الوحيدة الممكنة في حال مثل حالها. وهي حياة لم تخل من مباهج ولذاذات خاصة تمتعت بها ظريفة في بعض الأوقات، مع أنها لم تخرجها من حياة العبودية والإذلال التي رافقت خدمتها في البيوت وسهرها على راحة الساكنين فيها.
فقد ارتبطت ظريفة مع التاجر سليمان بعلاقة خاصة كانت فيها سريته قبل زواجها من حبيب. وبقيت على علاقة معه حتى بعد هذا الزواج، الأمر الذي دمّر علاقتها بحبيب الذي كان يصغرها سنا، فكانت( تشعر وهو يضمها إليه بأنها في حضن أحد المراهقين من أولاد الشيخ سعيد الذين عبثوا بها في فجر مراهقتها قبل أن يشتريها التاجر سليمان).( ص171)
والسؤال الخاص بتاريخ الأسلاف والعائلة والبحث عن الجذور الذي كان يؤرق حبيب وابنه سنجر ويدفعهما للبحث عن حياة أخرى، لم يكن مطروحا على ظريفة التي( لم يشغلها السؤال عنهم في الماضي ولا يشغلها الآن، أنّى لعين خيالها أن ترى القرية الأفريقية الصغيرة التي نام فيها قريرا جدها الأكبر قبل أن تكتب له ولأحفاده مصائر أخرى؟).(ص172)
ولا تختلف شخصية خديم الملقب بـ(ولد السيل) في رواية عبد العزيز الفارسي(تبكي الأرض .. يضحك زحل) عن شخصية ظريفة هذه على صعيد الارتباط بالمكان الجديد الذي وجد نفسه فيه. فقد ارتبط بسيده(المحيان بن خلف) وبغيره من أهل القرية بعد أن فقد أباه وأمه في أحد السيول التي وجدوه فيها وحده حيا، فصار موضع عطف ورعاية كثير من النساء والرجال في القرية. وهو يحكي عن نفسه في أحد فصول الرواية على هذا النحو:
(في صغري اكتشفت اختلافي عن كل الأطفال من حولي.في البداية حسبت نفسي أحسن الأطفال. لأنني كنت أظن سيدي المحيان والدي الحقيقي، كما كنت أحسب كل نساء القرية أمهاتي، كل يوم كانت ترعاني أم مختلفة عن اليوم السابق. أحيانا ألعب مع أطفال أظنهم أخوتي، ثم في الغد أجدني ألعب مع أخوة آخرين. هل ناديت المحيان بابا أو أبي يوما؟ لا أذكر ذلك كل ما أذكر أنهم علموني منذ صغري مناداته سيدي. في الرابعة من عمري بدأت أفهم أن أبي الحقيقي غير موجود في القرية، وأن أمي غير موجودة فيها أيضا. بدأت أشعر أني أقل شأنا من باقي الأطفال.)(ص97)
غير أن معرفة خديم ولد السيل المبكرة بأنه أقل شأنا من الآخرين لم تدفعه إلى التمرد أو التفكير بالهرب من سادته على النحو الذي فعله سنجر وأبوه حبيب في رواية جوخة الحارثي المتقدمة. ومحاولة الهرب الفاشلة التي أودت بخديم إلى التهلكة في نهاية الرواية لم تكن نتاج وعيه الخاص بضرورة التخلص من أصفاد العبودية التي وجد نفسه يرسف فيها منذ نعومة أظفاره، وإنما لأن ظروفا طارئة خارج حساباته قد فرضت عليه. فقد دعته عايدة إحدى بنات سادته في القرية إلى الهرب معها بعد أن كشفت له عن حبها له وتعلقها به، خلافا لما كان يعتقده من علاقتها بابن جلدتها خالد و»جنونها به».
وها هو يستمع إليها وهي ترتمي عليه في غرفتها وتعد لخطة الهرب معه عند الفجر، غير مصدق لما تقول :
( – أقول لك مرة أخرى: أنا لا أريدهم.. أريدك أنت.
– لماذا أنا؟ أريد أن أفهم سببا واحدا على الأقل.
– لأنك الرجل الحقيقي الوحيد هنا كلهم مزيفون ومهجنون. أنت الوحيد الذي لا ينتمي في أصله لهذه القرية ويختلف عنهم وعن كل نفاقهم. كل أهل القرية تشبعوا بالنفاق والغدر والخيانة. لقد ورثوا الزيف والأعراف البائسة. أنت لست منهم. أنت أبن الطبيعة والذي لا يعرف الخيانة، ولا يمكن أن يشترك في مؤامرة كبرى ضد إنسان أعزل.)(ص317)
ومع أن خطة الهرب هذه لم تكن موفقة، وأن أهل القرية لاحقوا فتاتهم الحرة وصاحبها(العبد الأسود) خديم واصطادوه ببنادقهم، وهو يحمل ابنتهم، كما تصطاد الحيوانات في الغابة، ثم تركوه في الوادي ليأتي السيل ويأخذ جثته ويغيبها كما غيّب جثتي أبويه من قبل، وليتحقق القدر الذي كتب عليه فيه أن يكون «ولد السيل» في بدء حياته، وفي منتهاه ومماته. أقول على الرغم من هذه النهاية ذات الطابع الدراماتيكي، فإن ما حصل في هذه القصة بين خديم وعايدة يظل بعيدا عن التصديق، وأنه أقرب إلى المتخيل الحكائي الذي يتدخل الراوي في صنعه، منه إلى الحقيقة الواقعية. وأمانة خديم وحرصه على الوفاء لولي نعمته هي التي دفعته إلى التردد في الهرب لولا هذه الواقعة الأخيرة العارضة التي فاجأت خديم وأجبرته على ذلك. وهو في موقفه هذا لا يختلف عن موقف ظريفة في(سيدات القمر) ليس له صلة بوعي العبودية أو التفكير بالخلاص من حياة الرق التي عاش فيها وتصالح مع وضعه الإنساني داخلها.
مع أن نظرة أهل القرية إليه لم تتغير، حتى إذا شهدت علاقاته بهم نوعا من التعاطف أو العطف الذي كان يبديه نحوه بعض منهم. ولكن خطأه أو خطيئته مع إحدى بناتهم كان كافيا لأن يمسح ذلك من ذاكرة القرية كلها، وليتحول خديم بعدها إلى عبد آبق يستحق أن يحرق ولا يدفن بعد قتله.
ولنقرأ هذا المشهد الأخير والحديث الذي يدور فيه بين رجال القرية الثلاثة بعد أن فرغوا من مطاردة خديم وقتله:
(ترك الرجال الثلاثة بنادقهم، وجلسوا في الوادي يأخذون أنفاسهم، كما تبعهم الرجال الذين استطاعوا نزول الوادي والركض وراء خديم. كان الكل متعبا ويلهث بشدة. صوت الطيور الفزعة ملأ الجو. صرخ سهيل لا هثا» أخيرا مات العبد..هذا أقل ما يستحق». لم يكن أبو عايدة بين الرجال، وبدا أنه في الوادي، ولكن على بعد مسافة كبيرة، إذ لم يستطع الركض كبقية الرجال. صرخ ولد شمشوم: «لن ندفنه.. سنترك جثته للدواب». رد سهيل:» بل سنحرقه..» تساءل سعيد الضبعة: «ولكن من أطلق تلك الرصاصة المميتة منا؟» قال سهيل:» أنا طبعا». رد حمدان تجريب: «بل أنا ..» وقال سعيد الضبعة «ويحكم ظننت أن الرصاصةة خرجت من بندقيتي»
وفجأة صرخ أبو عايدة من بعيد:»السيل.. السيل .. السيل «)(ص326)
فإذا أضفنا إلى ذلك نظرة الإذلال والاحتقار وعدم إعارة الاهتمام للمشاعر الشخصية وهدر الكرامة الإنسانية وطريقة التعامل القاسية مع كل هؤلاء الذين وقعوا تحت طائلة العبودية، أقول إذا أضفنا إلى ذلك ما يعانيه هؤء العبيد من شظف عيش وفقر ووقوع في قاع سلم التقسيمات الطبقية، على تضاؤلها وضيقها في مجتمع القرية، تبدى لنا نوع الحياة التي كتب عليهم أن يعيشوا فيها دون ذنب ارتكبوه غير لون بشرتهم المختلف، وعدم الوضوح المزعوم لأصولهم العرقية. وستكون الخطيئة الأخلاقية إن حصلت، كما في حالة خديم هذه، القشة التي تكسر ظهر الجمل بما حمل؛ في حين أن أحدا من الرجال في القرية لم يتكلم أو يوجه أصبع الاتهام علنا إلى عايدة شريكة خديم التي زيّنت له الهرب معها وورطته في فعله الأخلاقي أو اللاأخلاقي الشنيع ذاك. وكأن قتلها مع خديم كان كافيا، قبل أن يأتي السيل الذي أخبر عنه أبو عايدة نفسه ليجرفها مع عشيقها ذي البشرة السوداء ويخفي آثارها، ويغسل معها العار الذي سببته لأهلها وأبناء قريتها.
وإذا أردنا أن نستخلص شيئا من كل هذا، نجد أن العائلة العربية القديمة في القرية، أو المدينة الصغيرة المكونة على غرارها، لا يمكن أن تتكامل وتحظى بالاحترام الكافي في محيطها الاجتماعي ما لم تحو عبيدا وعبدات من الذكور والإناث، ينتظمون في إطار البيت الكبير الذي يضمن لهم الاستمرار والحفاظ على مواقعهم الهامشية فيها. ومن شأن تفتت البنية الاجتماعية القديمة وفقدان العائلة الكبيرة لهويتها وملامح السيادة فيها وغياب رؤوسها القيادية أن يحرم هؤلاء العبيد من امتيازاتهم النسبية، ويعرضهم للضياع إذا لم يكونوا مجهزين بوعي كاف وامتلاك وسائل مادية تضمن استقلالهم وتكوينهم لوحدات اجتماعية جديدة.
ومع انتهاء زمن الرق وتفتت الوحدات الاجتماعية والعائلية الكبيرة، يمكن القول إن رواية مثل رواية جوخة الحارثي(سيدات القمر) هي رواية تشظي العائلة العمانية الوسطى وفقدانها لمجدها القديم، ونضال أفرادها من أجل اكتساب هوية أو هويات وأساليب حياة جديدة داخل المدينة الحديثة جرى فيها استبدال الاستعباد الثابت لبعض العناصر البشرية المجتلبة عنوة من خارج البلاد، بعناصر من الخدم الأسيويين غير الثابتين من الذين تجبرهم الظروف الاقتصادية على بيع أنفسهم لأسياد أولائك العبيد القدماء ولأحفاد أولائك الأسياد. لقد تغير الزمن قليلا. ولذلك تبدو الحركة الرمزية التي وجد فيها الرجال الذين قتلوا خديم في نهاية رواية عبد العزيز الفارسي(تبكي الأرض ..يضحك زحل)، طفلا أسود حيا حمله السيل من إحدى القرى المجاورة ليكون تعويضا للمحيان عن خادمه السابق، أقول تبدو هذه الحركة غريبة على السياق السردي إذا كان المقصود بها إعادة التاريخ، ونوعا من التكرار السردي لما كان موجودا من حكايات، لأنه تفعيل لأصول مفقودة وعودة لزمن عبودية لم يعد موجودا، حتى إذا «أعطي هذا الطفل الجديد الموجود في السيل «اسما جيدا» غير ذلك الذي كان لخديم ولد السيل، حسب المقترح الذي يقدمه حميد الدهانة للمحيان بن خلف.(أنظر، رواية تبكي الأرض ..يضحك زحل، ص327-328)
وما حصل في نهاية رواية هدى الجهوري(الأشياء ليست في أماكنها) من التفاف وتراجع عن الأفعال اللاأخلاقية المنسوبة للفتاة «الحرة» منى، خلافا لـ «البيسرة» أمل، يتفق في إطاره العام مع تلك الحركة الرمزية في الرواية السابقة من محاولة العودة إلى نظام العبودية وتثبيت لفوارق غير موجودة بين البشر إلا على مستوى الذاكرة والثقافة الاجتماعية العامة، مع أنه يمثل في الواقع وعيا مهزوما بالنسبة لراوي الحكاية أو راويتها، ونكوصا غير متوقع على مستوى الشكل السردي المتبع فيها، وتكريسا لفعل غير أخلاقي لشخصيات إنسانية دون أخرى داخل الرواية، على مستوى الموضوع.