حمدة خميس شاعرة البدايات المفتوحة
حمدة خميس إحدى الشاعرات الرائدات في حركة الشعر الحديث في منطقة الخليج العربي ومن المؤسسات لأسرة كتاب وأدبا، البحرين . صدرت لها الأعمال التالية: اعتذار للطفولة 1976، الترانيم 1985، مسارات 1993، وأضداد 1994 والشاعرة من القلة اللواتي يمكن رصد نمو تجربتهن الشعرية عبر مسار زمني خصب نسبيا حيث يمكن استقصاء تجربتها الشعرية منذ منتصف الستينات, وهي وان تأثرت بالتيارات السياسية إلا أنها تكاد تكون نذرت نفسها، تماما، شعريا للأنوثة الخصبة سواء كأم, أو حبيبة, أو ابنة, حيث إنها حتى في شعرها السياسي لا يغيب رمز الأمومة عن قصائدها.
ولدت الشاعرة في البحرين عام 1946، وتلقت تعليمها الجامعي في كل من العراق والمغرب, وعملت في حقل التدريس والصحافة وعاشت د. لندن ودمشق والإمارات .
نشرت حمدة خميس أولى محاولاتها الشعرية عام 1969 وكانت بعنوان (شظايا) ثم واصلت نشر قصائدها في المجلات والصحف المحلية حتى أصدرت أول أعمالها الشعرية في عام 1978. وللشاعرة اهتمامات أخرى خاصة بالمسرح وبالطفولة عموما ويذكر الباحث والشاعر البحريني علوي الهاشمي في كتابه " شعراء البحرين المعاصرون " معلومات عديدة عن الشاعرة ويقيم تجربتها بالرأي التالي:
" تتميز تجربة حمدة الشعرية بقوة العاطفة الوجدانية لذاتية التي تسلطها على الموضوعات الوجودية والمضامين لواقعية والأفكار الفلسفية, فتحولها الى كتلة حية من خصوصية تجربتها الذاتية, حتى يبدو بعض قصائدها وكأنها فصائد عاطفية ذات نفس ذاتي محض, فهي تعبر عن تجارب .ذات نزعة وجودية استعانت فيها بالحوار الداخلي وتعدد لأصوات في القصيدة الواحدة مع محاولة الانفلات من شكل القصيدة السيابية » (1).
كما تضمن كتاب علوي الهاشمي " ما قالته النخلة للبحر" دراسة متعددة المستويات لصوت حمدة خميس الشعري، أفرد لصوتها جزءا من دراسته المذكورة بعنوان: " تململ الانسان في المرأة" حيث حاول تقديم دراسة حول عاطفة الحب مند الشاعرة ذاكرا التالى:
" واذا كان الحب عاطفة إنسانية وحاجة بشرية فإن محكها الصحيح هو المجتمع,أي الآخرون, حتى لا تتحول هذه العاطفة الى مستنقع راكد معزول عن مجرى الحياة .
عبر هذا الإحساس الواقعي بعاطفة الحب كانت حمدة خميس في بداية تجربتها مع الشعر تتلمس طريقها الى فضاء احرية ورحابة الحياة, ولكنه طريق يمر بظروف الواقع الصعبة مخترقا جدارها الأصم, داخلا مع احباطاتها في صراع نفسي حاد ينعكس بالضرورة على عاطفة الحب نفسها، بحيث يسود القلق والشك نفس الشاعرة وهي في قمة الإحساس الحب "(2).
وقد ساق الباحث قصيدة (إذا ما قلت لا أدري فلا تغضب لم للشاعرة والمنشورة في عام 1970للتدليل على تحليله السابق لعاطفة الشاعرة في تلك الفترة .
إن مثل هذا الربط بين الشرط الاجتماعي والقصيدة التي تقولها المرأة هو أحد براهين التحجيم الشعري وبالتالي الوجداني للمرأة وربطها بالشرط الاجتماعي المقنن والذي لابد أن ينعكس بشكل مضطرب على الروح الشعرية لقصيدة الحب والعاطفة التي كانت تحاول أن تكتبها الشاعرة في ذلك الوقت .
ولعل فيما ساقه د. رجا سمرين في كتابه " شعر المرأة العربية المعاصر 1945ــ 1970" مثالا واضحا لما يمكن تسميته بالوصاية الذكورية الأدبية على عاطفة المرأة الشاعرة وعدم القدرة على استيعاب تجربتها ومحا ولتها ضمن الطرح الذكوري الفوقي والذي بعينيه يقيم الأمور بشكل قاطع ومنحاز لمحافظته الخاصة يحدد الباحث اتجاهات الشعر النسوي المعاصر بخمسة اتجاهات هي: الاتجاه الذاتي، والاتجاه الموضوعي, والاتجاه القومي، والاتجاه الانساني، والاتجاه الموضوعي. ويحدد الباحث نمو دائرة الاتجاه الذاتي في شعر المرأة العربية المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية معللا أسباب ذلك ــ كما يردها ــ في طبيعة المرأة الأنثوية واتسام شخصيتها بعدم الثبات حيث يوضح أنه يترتب على ذلك عجزها عن تنفيذ كثير من المشروعات التي تتجه الى تحقيقها نتيجة لعدم قدرتها على ضبط نفسها ومواصلة نشاطها، ومعنى ذلك أن سيطرتها على العالم الخارج عن حدود ذاتها تظل محدودة ومن هنا كانت حياة النساء أقل خصبا من حياة الرجال(3) ويكمل الباحث ما شرعه من ترصيف لشعر المرأة العربية بإحساس الوصاية والتفوق الذكوري واصفا شخصية المرأة بالسلبية وعدم الميل للتفكير المجرد البارد ومضيفا اليها عقدة النرجسية الطفولية حيث يفسر ذلك قائلا:
« واذا زادت النرجسية عن حدها عند الفتاة فإنها تزيد من صعوبة العلاقات القائمة بينها وبين البيئة التي تعيش فيها، ومن ثم فإنها تنطوي على نفسها وتصبح كثيرة الشكوى من وحدتها ومن ظلم المجتمع لها، ولعل في هذا تفسيرا لكثرة ما يتردد من شكوى من المجتمع ومن الوحدة في الدواوين الأولى للشواعر المعاصرات على نحوما نجد في " وحدي مع الأيام " لفدوى طوقان و" عاشقة الليل " و" شظايا ورماد" لنازك الملائكة, و"ا للحن الباكي واللحن الشاكي" لجليلة رضا، و«أغاني الصبا" لملك عبدالعزيز «دوحنين " لزبيدة بشير و" لهيب الروح " لفطينة النائب, وغير ذلك من الدواوين التي أصدرتها سواهن من الشواعر في بواكير الصبا وأوائل الشباب, فالشواعر في هذه الدواوين يكثرن من الشكوى ومن وحدتهن ومن المجتمع الظالم الذي لا يفهمهن وهن اللواتي يضممن بين جنباتهن قلوبا حانية تتسع لحب الجميع, وهذه النرجسية الزائدة عن الحد هي التي تفسر لنا انصراف الشواعر عن الواقع الضيق وتحليهن بأحلامهن وأمالهن في عوالم فسيحة من الاوهام والخيالات والتهاويل الجميلة البراقة » (4).
إن ما طرحه د. رجا سمرين هنا هو وجهة نظر كلاسيكية نقدية لكيفية تعامل النقاد العرب مع نصوص الشاعرة العربية, فهي تنال التكريم عندما تمتطي صهوة الفروسية السياسية والخشوع الديني غير أنها عندما تقترب من عالم وجودها العاطفي واليومي تحاط بشتى الاتهامات من الذاتية النرجسية الى الجنون والانحلال الأخلاقي أحيانا.
تقول حمدة خميس عن تجربتها الشعرية:
" تجربتي في الكتابة خاصة ومريرة,فقد كان علي دائما الخروج من جلد الأنثى الناعم والالتحام بخشونة الأحلام, ولقد كان هاجسي هو التعبير عن الهم الإنساني,وليس هم المرأة الجزئي.. انني امرأة لذا فأنا أحمل تراث قرون من الاضطهاد الخاص والمزدوج, وكان على التجربة أن تخرج من اسار الهموم الضيقة التي طرحها أدب المرأة التقليدي لتلتحم بهم الانسان, وطموحاته في الشمول, كما كان عليها أن تكتشف الموقع وتكشفه .
لقد اتسعت تجربتي بصعوبة خاصة بيني وبينك فتراثي الأدبي يضع المرأة في دور المتغزل به لا المتغزل, في دور المتمنع المدلل لا المعطي الباذل ولا المحروم الذي يعاني شظف العيش وخشونة السلوك .. وكان علي أن أخرج من هذا الاستلاب الرهيب, وكان الشعر ساحرا يأخذ بيدي رويدا رويدا نحو منطقة الإضاءة كان علي أن أختار واخترت .. ولم أشعر بالرغبة قط في التراجع عن هذا الاختيار.. وكان الشعر عالما مازلت أرتجف انتشاء كلما احتواني.
انه لغتي رغم الصمت ورغم الضباب ورغم التغييب كان علي أن أخرج من عذرائي لأصنع الصعوبة والاحتمالات, أنني انتشر من خلال حصار النشر، وألتحم بالحلم وأعد ديواني الثاني.. وبالرغم من عدم وصول صوتي للذين أعطوني صوتي.. وبعد ففي الإمكان أبدع مما كان (5).
هكذا بدأت حمدة خميس رؤيتها الشعرية في بداياتها. وما التصاق مصطلح "الشعر الذاتي" إلا محاولة يائسة من النقد العربي الحديث لتحجيم ما لم يتمكنوا من تحجيمه فيما بعد مما جاء في النص المفتوح للذات الشعرية الأنثوية في العالم العربي، والخليج بشكل خاص .
تطرح الشاعرة حمدة خميس بداياتها الشعرية في عملها الأول " اعتذار للطفولة "، وهي في هذا العمل شاعرة المشاعر، والأحاسيس تدور في محاورها ما بين طقسين: الاحتفاء بالحياة, والغصة بها فهي رومانسية في المقام الأول غير أنها حاولت أن تطرح جزءا من تجربة الواقعية في شعرها وخصوصا فيما يتعلق بالقضايا السياسية . وقد حدث هذا ضمن تيار كان طاغيا خلال الستينات والسبعينات ورمى بظلاله على التجربة الشعرية في أغلب انحاء الوطن العربي، إضافة إلى ظروف البحرين الخاصة آنذاك, ونشاط القيادات الوطنية السياسية فيها وخصوصا القومية واليسارية .
يضم العمل الشعري " اعتذار للطفولة" خمس عشرة قصيدة بما فيها مسرحيتها الشعرية القصيرة والمكونة من فصل واحد وتكاد هذه القصيدة المسرحية أن تكون إحدى التجارب المسرحية الشعرية القليلة في منطقة الخليج العربي.
وتتراوح عناوين القصائد ما بين بقايا الرومانسية والواقعية الثورية السائدة في فترة الستينات وعلى سبيل المثال هناك عناوين رومانسية مثل القصائد التالية:
– حوار عن الحب والمستحيل .
– توهج إنسان عبر اللحظة الزمن .
– طقوس للحب .
– تحول الأزمنة الرمادية .
– قسما يا جرح الشعر.
– أقبية الوحشة .
– وحيدون جدا.
وكذلك هناك أمثلة لعناوين واقعية قرأناها في جيل شعراء الستينات مثل:
– فوق رصيف الرفض.
– أغنية من العالم الثالث .
غير ان القصائد أيا كانت في مضأمينها فإنها ممهورة دائما بختم الانوثة الشعرية في مفردات حمدة خميس حيث تستعير صورها ومفرداتها من واقعها كامراة والأمثلة على ذلك كثيرة .
تقول في قصياتها " حوارعن الحب والمستحيل »0.
– تأتين كالعرس
او كالولادة0(8)
– لك الآن في كل حبة قلب
وحبة رمل
جنين.
– ولا تمنحني غير ثوبك للطفل (ص 9)
– من يأت بابي يغن
نسجت من الحب عرسا له . (ص 10).
– بلادي تنامين فوق السواعد
إني حفرتك وشما على صدر طفلي .
– العرس جاء. (ص 11).
إن حمدة خميس وهي تفتتح ديوانها الشعري الأول بقصيدتها "حوار عن الحب والمستحيل » تهيىء القارىء بمفردات سوف تطورها في أعمالها اللاحقة لكنها مفردات لصيقة بالأنثى سواء عبر فعل الولادة أو العواطف التي تشتعل بها الأنثى أما وطفلة وحبيبة .
و"حوار عن الحب والمستحيل " هي مزيج لتجربة حمدة خميس حيث تختلط الرومانسية بالواقعية وحيث تستخدم مفردات الحياة الأنثوية الخاصة بالعرس, والطفل, والحب . والقصيدة بوضوح تدور حول واقعة" تل الزعتر" بهمها الفلسطيني المأسوي العربي وهي حالة وصفية للمشاعر المتوحدة بالطبيعة, والسا ردة لضروب الألم, والمتشبثة بالأمل وتمثل قصيدتها "قصاصات من دفتر امرأة عاشقة في القرن الرابع عشر" استمرارا لما بدأته في قصيدتها الأولى حيث تزاوج الحب بالسياسة, والرجل بالوطن, والحلم بالكابوس, ولننظر الى جملها الشعرية في هذه القصيدة .
– " ارتديت اغترابي"
إنها تحول مشاعرها الموجهة الى رداء وزي تلبسه
– يغازل وجه حبيبي في شرفات السجون
– وغاباتك الموغلات الى جزر النفي
– آه إن انتظارك يبحر في قامتي خنجرا.
-تلك كانت مدائن غدر
شردتني طويلا
شردتني طويلا
شردتني.
ان هذه المشاعر لا يمكن فصلها عن عيون المرأة المحدقة في أحوال الو طن ومأساويته وهي تنقلها عبر الأزمنة في قصيدتها " توهج إنسان عبر اللحظة الزمن " حيث تعددية الأصوات التي تمزج الأزمنة ما بين الخلفية والماضي والحاضر /السياسي والشخصي/ الاحتفاء بالطفولة والحبيب
" المثالي " المنقذ الذي هو في حالات تجلي الغياب . وتمضي حمدة خميس لتسرد شيئا من سيرتها الذاتية في قصيدتها" طقوس للحب " حيث يرد هنا اسم ابنها البكر " زياد" لأول مرة غير أن هذه الإشارة ستتكرر كثيرا في أعمالها القادمة حيث أطفالها دائما حاضرون في القصائد سواء كرمز أو مسمى مشار اليه وهي كما تربط الطفولة القادمة بفكرة الثورة كذلك تفعل بربطها إياها بالأم كما فعلت في قصيدتها " لكم وقتكم … ولي زمني" . إن فكرة الثورة عند حمدة خميس ضاربة بجذورها في الماضي، والمستقبل القادم وما قصيدة حمدة خميس "اعتذار للطفولة " غير خطاب ثوري مباشر ومزيد من الانتظار لتلك الثورة التي تضعها على كاهل الطفولة القادمة, هذا الانتظار العلامة في قصائد حمدة حيث تقول في قصيدتها" تحول الأزمنة الرمادية ".:
هل تأتي شمس الأعراس
يطل على قامتنا المصلوبة
سيف الوعد!؟
أما مسرحيتها " فوق رصيف الرفض" فهي مشهد لحوار بين الجبن والشجاعة بسيط وساذج ورومانسي النزعة .
وفي قصيدتها " حكاية نورس اسمه عزة " تربط القصيدة الخليج بمصر والنيل ضمن توجه الشاعرة العروبي وذلك الاحتشاد لفكرة الثور ة القادمة وهي في قصيدتها " قسما يا جرح الشعر" تكاد تكون قاموسا لمفردات تلك المرحلة الثورية الشعرية سواء بالمباشرة أو المفردات الصاخبة والدموية حيث تتجلى فكرة الحرف المقاتل والنضال عبر الشعر، تقول الشاعرة في قصيدتها:
– يا حرفي قاتل
– كن قنبلة تنسف تاريخ الأموات الأحياء
– كن صوتا .. يحمل في الثورة .
إن هذا الخلط بين السياسي والشخصي يكاد يكون سمة لبقية قصائدها في عملها الأول سواء في أقبية الوحشة, وأغنية من العام الثالث, وكتابة على بقعة ضوء، وكبرياء, ووحيدون جدا.
ويمكن تفسير هذه الروح المقاتلة التي طفت على عمل حمدة خميس الأول بانعكاس مرحلة الفن النضالي الذي كان دائما في الخطاب الأدبي في مرحلة الستينات مختلطا بظروف البحرين الخاصة حيث كانت الحركة الثورية نشيطة وفعالة فيها، وقد التقت هذه الظروف مع صرخة القهر الأنثوي الخاصة بالشاعرة كامرأة تعيش في مجتمع تقليدي بوعي غير تقليدي وقد كان الطريق طويلا ووعرا لكي تستطيع حمدة أن تنطلق من بداياتها تلك الى أعمالها التي أتت بعد "اعتذار للطفولة" بسنين طويلة .
إن قصائد حمدة خميس الأولى كانت قصائد تفعيلة متأثرة بالشعر الفلسطيني والعراقي وخصوصا بدر شاكر السياب رغم أن الشاعرة تقول أنها قد تأثرت كثيرا بالشاعر اللبناني خليل حاوي، ولربما أصابت نصوصها بعضا من سوداوية وتشاؤم خليل الذي التقى بتجاربها الشعرية والحياتية في رؤية لشعر حمدة خميس في عملها الأول " اعتذار للطفولة "، وحوار للكاتب أحمد محمد عطية في كتابه " كلمات من جزر اللؤلؤ" يقول:
"وفي شعر حمدة خميس تبرز الرؤية السياسية, ويمتزج الرمز الشفاف بالواقع المعاش بالتراث البحريني، وخاصة تراث البحر والزرع والنخل وقد تحدثت عن مفهومها للسياسة قائلةفي حوارها مع الناقد البحريني أحمد المناعي: (السياسة من وجهة نظري لا يمكن فصلها إطلاقا عن حياتي عندما أعيش وأحس … وأحب … وأتألم .. وأفرح … أكون إنسانة متلاحمة بكل الأسباب والمبررات التي منحتني هذه الأحاسيس, عندما أحب مثلا، وأشعر بأنه محظور علي أن أفعل ذلك أو أن هناك من يمارس تشويها على فكري، هنا أحس بأني مقهورة .. لذا أرفض التثمريه ومبرراته, وأكون في هذه الحالة داخل السياسة لأن مبررات التشويه هي عادات أو نظم اجتماعية معينة, وكذلك فالألم يعني سياسة ء والفرح كذلك, فمناما أرى هناك ما يحول بين الفرح وبين الإنسان ويسبب له الألم فإني أرفض هذا الحائل, فالرفض هذا سياسي أيضا، إذن صادمت أرفض فإني أمارس السياسة وأتدخل فيها) " مجلة الأقلام " عدد خاص بالأدب العربي في البحرين, مايو 1980)" (6).
ومن الواضح إصرار حمدة خميس السياسي الشعري في نصوصها الأولى مما قد يكون ساهم في ضعف العمل الأول فنيا بسبب الخطاب السياسي المباشر غير أنه أيضا حمل مؤشرات لنزعة حمدة خميس القوية نحو الحريات والتصدي للقهر بحجم وعيها آنذاك .
وإنني التقي في تحليلي لقصائد حمدة خميس الأول مع الناقد أحمد محمد عطية, حيث رأى أن أفضل قصائد الديوان الأول تمثيلا لبدايات حمدة خميس هما القصيدتان الأولى والثانية من الديوان, ففيهما يتعانق الرمز والحلم والواقع, وفيهما تحاول حمدة بناء مفردات عالمها الشعري، وصوره غير أنها تقفز ـ على حد قوله ـ في ديوانها الأول بعض الصياغات النثرية المباشرة والعبارات الخطابية والتقريرية النابهة من حماسة الشاعرة وثورتها أيضا، وقد جاء الكثير من الخطب بلا كشف ولا رؤية جديدة متفجرة توازي حماس الشاعرة في تلك المرحلة .
ولسوف تتخطى حمدة خميس تلك المسألة في أعمالها:لتي تلت عملها الشعري الأول «اعتذار للطفولة " ستحاول الغوص أكثر داخل عالم ذاتها الأنثوية غير أنها لن تهمل ذلك الاحتجاج السياسي الوطني في بعض نصوصها" الترانيم " هو ديوان حمدة خميس الثاني وقد صدر في النصف الأول من الثمانينات, قصائد " الترانيم " هي قصائد كتبت معظمها في السبعينات وتحمل صبغة تلك الفترة الشعرية إذ تدور حول محاور الوطن, والحلم والطفولة والأمومة وهي لا تمثل خطوة كبيرة ومختلفة في المضمون الشعري عن عملها الأول" اعتذار للطفولة " غير أن القصيدة تصبح أقصر وأقل مباشرة عن عملها الأول رغم عدم انتفاء الخطاب المباشر فيها.
تتحرك حمدة خميس ضمن منطقة الحصار في الواقع السياسي, والى وصف مشاهد التمرد على الأوضاع, والحلم بالثورة والتغيير، وامتداد المستقبل الأجمل عبر الأنوثة (الأمومة ) والطفولة, وتوظف في «الترانيم " الموروث الشعري الشعبي، وخصوصا الأهازيج وبعض الأغاني الشعبية,كما أنها تسعي لتوظيف الرموز البيئية المحلية غير أن لفتها الشعرية مازالت غير مميزة في عملها الثاني فيما عدا مخاطبة الطبيعة الموروثة من أنساق الرومانسية الشعرية العربية في الخمسينات ممتزجة بواقعية السيتنات.
في قصيدة حمدة خميس " أمي .. يا مدن البنفسج " وكما فعلت حمدة خميس في قصيدتها السابقة " لكم وقتكم . ولي زمني"، في عملها الشعري الأول, فإنها هنا أيضا، توظف شخصية الأم من جديد رابطة أياها بالوطن والثورة والوعود الجميلة القادمة, كما تستخدم هنا أشعارا من التراث الشعبي الخليجي في القصيدة,غير أن السياسي برغم وجوده يبدو أقل مباشرة وينحو أكثر نحو الرمز البيئي للمنطقة رغم أنها وفي بعض مقاطعها مازالت تمارس طقوس المباشرة الشعرية السياسية كقولها:
– تحدثي بعد يا أمي
عن العشاق الذين تنامين فوق أجفانهم
فيمتشقون بنادقهم
وهي محشوة برصاص حنجرتك المشتعل
الرصاص الذي يصهل في دمائهم !
وهي توظف في هذه القصيدة عناصر كثيرة من البيئة المحلية:
" الأفلاج, أسماء مناطق مثل مسأفي, والبريمي في الإمارات, السدر، والغفغاف وفواكه مثل النارنج, والباباي، والرطب, والنخيل وبعض العطور المحلية مثل العود، والعنب, وماء الورد، والزهور مثل الياسمين,والمشموم وكذلك تستخدم عددا من المفردات الشعبية المحلية مثل الكواكب, واليراير، وغيرها".
وهي في قصيدتها هذه تطرح هذا الاتحاد الانثوي مع خلق المستقبل الافضل حيث تقول .
-" آه من قدرة الخلق في أصابعك أمي"
– أعيدي خلقي وتكويني:
من الضياء
كي أتحد بالمياه والتراب والأكوان
فألد الأجنة والبصائر والثمر".
وتواصل ذكر العناصر التي يعاد الخلق منها في قصيدتها من (الليل, الربيع, الشتاء، الماء، الأرحام, السنابل, الصراط, الجهل, المعرفة, النار، الثلج, الجمرة, الرماد، المطارق, الطين, والحق ).
إن ارتباط الوطن بالولادة وبالأم تارة والطفل أو الطفلة تارة أخرى ما هو إلا محاولة من الشاعرة لخلق مدينتها الفاضلة المدينة أو " الوطن الحلم ». والشاعرة تبحث في أشعارها عن كيف تكون تلك المدينة, عن ملامحها التي تنقب عنها عبر سلسلة قصائدها في أعمالها كلها.
إنها قصيدة غنائية الشخصية في المقام الأول تموج بتراث المنطقة وبيئتها وتمزج الأم بالربوبية والقدرة الكلية ضمن مفهوم الوطن واعادة الخلق, وتمزج الحس السياسي بأمل إعادة الولادة والنظرة الرومانسية باليوتوبيا لعالم ترجو الشاعرة أن يتحقق .
إن هذا الأمل القادم يرتبط بالرحم, فمرة هي الأم ومرة أخرى هي الابنة كما جاء في قصيدتها التي سوف تأتي حيث تعيد تصوير المدن المشتهاة وتربطها بالطفلة القادمة حيث تقول الشاعرة:
– " إقرأ:
إن الذي أن يجيء… تكونين أنت
وان الذي لا يجيء …. تكونين أنت
وأمسح في شهقة البحر دمعي !"
– " معا.. نطعم الحب والخبز
أطفالنا الأنبياء".
– اشرأبت دمائي اليك
قلت: هذي بلادي التي سوف تأتي".
إن القصيدة مفعمة بالانتظار الحلم: الثورة, المدينة المشتهاة, البلاد التي سوف تأتي. حمدة خميس ترفض الواقع المشوه وتحلم بكيان جديد للمنطقة . إنه حلم رومانسي تختلط مفرداته بواقية الثورة المألوفة في شعر حمدة خميس مثل (العنف, الدم, الرمح, القنابل, وغيرها) وأهازيج التراث والأغنيات الشعبية .
وتحاول حمدة خمس أن توظف الصور القرآنية والدينية في قصيدتها " اشراقات" لتصل الى معانيها عبر التماس معونة الغامض, والطبيعة, واحلم ووصف الأشياء بأدواتها الممكنة .
تقول:
ــ استيقظي (من بين هذا الصلب والتر ائب )
ثم تعود الى اللغة الواقعية المباشرة والمضادة أحيانا لروح
الشعر لتقول:
ـــ " وصلي ركعتين:
للطفل في مجاعة الحروب
والرهان:
(قنبلة ذرية
تعيد للإنسان
تكوينه الأول في الخلية)
وركعة للثورة التي تجيء في الأوان
والموقف القضية ".
ثمة محاولة لاستخدام الطقوس الدينية كمدخل لتعزيز الجانب الواقعي الثوري، وربط الصلاة و (الركوع ) بحالة الرفض والمطالبة بالتغيير ولكن بشكل مباشر يضعف الجانب الشعري للقصيدة . ومن الأمثلة على مثل ذلك الضعف نتيجة لهذه المباشرة المقطع التالي:
– " ما بيننا
تمتد غيمة من الكآبة الخفية
ما بيننا
حقل من الألغام
والقنبلة الشظية ".
وتمثل " الألق " بداية القصائد التي تحاول أن تدلف الى ذات الشاعرة فهي" بورتريه » شخص حيث تقول:
-" ترافقني – أينما يممت قلبي وخطوي:
الكآبة الأليفة
واليأس الحميم
والأمل الاجتراع
أعزف على الغصون
وأدعو العصافير والريحان
والسدر".
إن هذه المزاوجة بين الحالة المعنوية والطبيعة تمثل المفتاح الرئيسي لشخصية حمدة خميس في رحلتها الشعرية الممتدة .
ومن القصائد التي تتجلى فيها الأنوثة – الخصبة عند حمدة خميس حيث تربط الأطفال هذه المرة (حرفيا, وواقعيا) بمنطقة الحلم ـ الأمل قصيدتها التي تحمل اسم طفلتها (ريم ) حيث تقول:
– " فأنت تجيئين كالوعد
أنت أنا
تنسجين الطفولة بالحلم
والحلم بالاحتمال الجميل"
– " ها أنت الآن أهزوجتي
وزياد مراجيح حلمي
وها أنكما تفتحان سويا
أمومة قلبي".
أما قصيدة الشاعرة (بيروت يا قلبي المحاصر) فهي نموذج للسرد الواقعي المباشر والممتزج بالحلول الحلم الرومانسي متمثلا بعناصر الطبيعة فهي تقول:
– "في البلاد التي..
كل شي ء يصير السراب الضليل
كل شي ء يصير التوجع والمستحيل "
ـ " كل شي ء يصير السراب
أو يؤسس للمستحيل
كل شي ء يصير قاتلا أو قتيل "!.
أما الحلول فتتجل في الاستنجاد بالطبيعة في مواجهة الحرب, القتل, ولغة السلاح اليومي حيث تقول:
ـ " من يؤسس للنجم أفلاكه "
" إنني أسأل العشب حين يجف "
– " من يفتح البحر ويقرأ وجهك الالهي
ويكتب باللغة الخفية صوت عرسك
وهو يهمس باحتمالات الرعود
وبالزوابع وهي تهجس باحتمالات المجيء "
-" واستدرت ….
أفاتح البحر وأقرأ سر صبرك
والبحر يبكي من جنون الماء في لغتي".
ويمتد النزيف السياسي في شعر حمدة خميس عبر القصائد التالية في ديوانها " الترانيم " ففي (ملصقات عل جدار المدينة ) حيث تعلن حماسها للثورة الإيرانية في بداياتها وتربطها بما قد يحدث في وطنها هي مازجة ذلك بواقعيتها الرومانسية كالعادة حيث تقول:
– " وما حفرت صرختي
غير نهر صفير
يصب الى الأوردة
فيكتبني الشجر المتخفي بوهج الفصول
ويكتبني الشجر المستقر برحم البراكين "
ـ " كيف يهزج الآن صوت الجموع
(بمشهد ) عرس من الدم يسطع
أن العروش التي حدثتنا
بأن الجموع قطيع …
تفر قطيعا من الذعر
وايران تكتب تاريخها
بسطوع الغضب ".
وتستمر هذه الروح السياسية في قصائدها (مراجعة في التضاريس ) و (الدم والمهرجان )، وتأتي (الترانيم ) وهي حوالي ست عشرة قصيدة قصيرة كمدخل للملمح الذي سيتطور في أعمال حمدة خميس الشعرية القادمة حيث تحاول أن تصنع اللحظة الشعرية ــ الومضة . وهذه القصائد هي من تجليات حمدة خمس الرومانسية والواقعية المكثفة مبر لغة الطبيعة في مخاطبة الواقع مثل:
– " وأرسم نوق الجدار
سنابل حب صغيرة
وفيئا بلون النهار"
– أنا الصرخة الموجعة
– للجحيم صداها
– لي الوقت
والوجد ماء انفجاري
انا الصرخة المقبلة "
– "وطني
فاتحة للوقت قرأتك سرا
وتيممت بهجس الشعراء".
وتحمل هذه القصائد العناوين التالية: (دخول ـ تكوين ـ نضوج ـ قراءة ـ اشتعال ـ اشتهاء ـ تقمص ـ نشيد ـ تطاول ـ توهم ـ اقتراح ـ يقظة ـ جموح – مخاطرة ـ رعونة ـ تشرف ).
وفي تقييم لتجربة حمدة خميس في مجموعتها الشعرية الثانية " الترانيم " يطرح أحمد محمد عطية الرأي التالي:
" ويمثل ديوان (الترانيم ) ثاني دواوين الشاعرة البحرينية حمدة خميس, طفرة حقيقية في عالمها الشعري، إذ يبدو أن السنوات السبع الفاصلة بين صدور ديوانها الأول (اعتذار للطفولة )(1978) وديوانها الثاني " الترانيم " (1985) كانت سنوات احتشاد ونضج وتجويد، لذا جاء ديوانها الثاني ليتجاوز هدايتها الأولى الخطابية والمباشرة, وليقفز الى عالم شعري مكتمل توافرت له كل مقومات الخلق الشعري الجديد.وتمكنت فيه الشاعرة من أدائها الفني ومن إبداع قاموسها الشعري المتفرد وعالمها الشعري المميز،ومن شحن كلماتها وأبياتها وقصائدها بصور الواقع ورموزه ورؤاه . المنتقدة بوعي وخبرة وثقافة وحنكة وحكمة من البحرين والخليج ومن الوطن العربي كله,ومن التاريخ العربي والتراث العربي والتراث الشعبي، وتضمين خبرة الأنثى بهموم المرأة البحرينية والخليجية مع عمق الرؤية السياسية والرؤية الفكرية, في مركب شعري بالغ الثراء والإيحاء… تمتزج فيه صور البحر بمعاناة الغرص بمواويل البحرين والخليج الشعبية .. وتتداخل الصحراء مع النخل وينابيع الماء الحلو المنبثقة في الخليج مع ماء الخليج المالح, وتشكل هموم الوطن هموم الذات بلا إسقاط سياسي أو مباشرة أو خطابية, ولكن بعذوبة, لتعبر هذه المرأة الشاعرة بعذوبة وكثافة وشاعرية عن عذاب المرأة الإنسان في المجتمع البحريني والخليجي والعربي، وعن أشواقها وطموحاتها ورؤاها وأحلامها لغد أفضل "(7).
ولعل أهم ملامح مرحلة البدايات هذه عند الشاعرة حمدة خميس الى جانب الهم السياسي والحلم بالحرية هو الاهتمام بالطفولة والتفني بها حيث يتضح ذلك عبر عناوين الأعمال الأولى "اعتذار للطفولة » ثم " ترانيم" وعبر القصائد التي التحمت فيها أنوثة الشاعرة كأم وامرأة وطفلة مع كل ما طرحته من حالات تأملية ومواقف غاضبة ومحتجة, ولحظات استسلام لليأس بمحبة العاشقة للحياة .
لقد بدأت حمدة خميس بخطوات الرفض المقبول والمتاح ضمن مناخ سياسي عربي يحتشد بصرخات الرفض ويوظف الأدب لخدمة الثورات السياسية, كان ذلك الغضب يحمل ملامح حمدة خميس المرتبطة بشجنها ومعاناتها كامرأة خليجية, كما تخلل ذلك الغضب حالات مختلفة من آمال التغيير المنصبة في رموز أنثوية شديدة تمثل فيها الولادة والأمومة أفعال احتضان لمستقبل أفضل . غير أن حمدة خميس تحاول أن تخرج من جلد السبعينات خلال مرحلة الثمانينات والتسعينات بعمليها الشعريين الأخيرين " مسارات " و " أضداد» . هذه المرحلة التي شهدت تطور قصيدة النثر في منطقة الخليج ونمو وتطور عدد من الشاعرات ضمن حركة شعرية حريصة على التغيير وعلى ابتكار وسائل جديدة للتعبير الشعري والدخول في مناخات جديدة للتعبير الشعري خارج شعارات المرحلة السابقة .
في مجموعتها الشعرية "مسارات "والتي صدرت عام 1997 ضمت حمدة خميس عددا من قصائدها المكتوبة في مرحلة الثمانينات وبداية التسعينات, وفي هذه المجموعة الشعرية يتضح أكثر تأثير شاعرين تعترف حمدة خميس دائما بتأثيرهما عليها: والت ويتمان الشاعر الأمريكي ومجموعته " أوراق العشب" بما فيها من حسية تتوحد مع الطبيعة من أجل تحرير الإنسان معنويا وجسديا، وخليل حاوي بأشعاره الغارقة في اليأس والكبرياء التي ترفض الواقع برومانسية ترفض المساواة .
تمضي حمدة خميس في رحلة تضم أحدى وأر بعين قصيدة تبدأها بعنوان " وقت لكل شي ء" وتقدم مجموعة من القصائد الرومانسية التي تتطلع نحو السلام والمحبة في نفس الوقت الذي تسرد فيه صور الدمار والحروب وآلام ومعاناة النفس الإنسانية .
لا نريد الحروب
والدمار
والقتل
نريد نارا للرغيف
وطلقا بهيجا
للولادة!"
أن هذا الإعلان هو مرحلة انتقالية للشاعرة تحدد فيه موقعها من هذا العالم كامرأة, وأم وتخرج من لغة الحرب الدموية (القنابل ــ القتل /الشظايا) الى لغة البيت والرغيف والطلق . وتواصل ذلك في قصيدتها (وقت للطفولة ) والتي تذكر فيها طفليها ريم وقيس,ثم أنها تنشغل أكثر بالعلاقة بين المرأة والرجل لا العلاقة الرومانسية البعيدة,ولكن العلاقة الحقيقية بين شخصين بعقباتها وتوقعاتها. والعلاقة غالبا غير متحققة في قصائد حمدة خميس وها هي تقول في قصيدتها (وقت للعلاقة ):
– " خطان متوازيان نحن
أيها الصديق
خطان متوازيان
قد نتجاوز حد التماس
وقد نتوهم التقاطع
حول الطفولة
لكننا في الجوهر الخفي
أيها الصديق
خطان متوازيان
لا يلتقيان
في شهوة
الروح !
إن الروح القلقة تتململ عند حمدة خميس, وكلما ازدادت التجربة احتشدت أسئلة الروح القصوى. وتستمر أوقات قصيدة حمدة خميس (وقت للكآبة /وقت للتألق / الصديق / وتأتي قصيدتها (امرأة ) لتوقظ الأنثى بداخلها بشدة محاطة بعصب الاتقاد في مواجهة الانطفاء. تواجه الشاعرة تفاصيل البيت والدور الأنثوي والأنا البعيدة رابطة ذلك بالتحقق والوطن البعيد معبرة عن غربتها واغترابها . والجدير بالملاحظة أن معظم قصائد (مسارات ) كتبت أثناء فترة حياة الشاعرة في الشام لعدد من السنوات بعيدا عن وطنها.
تنتقل حمدة خميس في معركتها مع الحياة لتواجه تلك الذات الأنثوية بكل قلقها تحاول أن تكتشف ملامحها وستتحول هذه الذات الأنثوية رويدا رويدا الى محور أساسي في قصيدة حمدة خميس يحل محل تلك الأسئلة الكبرى التي فرضتها عليها مرحلة الستينات والسبعينات وأبعدتها عن أسئلة وجودها الحميمة الى شعارات وخطب سياسية كان الجميع يكتبها في سلة واحدة .
نتناول قصيدة (صلصال ) الروح والقلب والجسد إذ تقول:
– "هذه الروح
يا هذه الروح
من أنت
أي لغو يصوغك من مبدأ الوهم
حتى حضور التوهم
لماذا أسميك روحي
وأزعم أنك أنت .. أنا
جسد / قوقعة
وأنت هلام
راسما خطوتي
في رمال الحياة !
ما الذي يجلد الروح ؟
هذا المتاه ؟!"
تتطور قصائد حمدة خميس في مجموعتها " مسارات » فيما يتعلق بحضور الأنا الأنثوية فتحاول إخراجها بتمرد من حدود ربطها بالوطن رمزيا، وتوظيفها التقليدي في دائرة الأمومة والطفولة . هنا تتحول الأنا الأنثوية الى أنا ناطقة, متململة تبحث عن مداها وخلاصها متحررة من فكرة التوظيف الشعري التقليدي. أن الشاعرة هنا أكثر تمردا من أية مرحلة سابقة في قصائدها وفي بحثها عن ذاتها كامرأة كما توضح القصائد. تقول في قصيدتها " مساواة":
– هأنذا
عارية من زيف التواريخ
مسيجة باحتمالاتي
الكامن في روحي
راسخ في جذور أعماقكم
إنني أنضو غلائل الصيد
وشباك الأنوثة العتيقة
وأنتظم في صفوفكم
كائنا من حليب وألق
من فولاذ وحرير
ليس لي
ما ليس لكم
لا أعلو
ولا أتدنى
بوابات الصباح
تغزل مواعيدها لنا
لا يتقدم أحدنا على الآخر
ماذا يعني الصباح
دون امرأة ورجل؟!
تزداد لغة الشاعرة بساطة واختزالا، ويقل ضوضاؤها بتعدد القضايا وتبحث بأناة وتأمل عن تلك الذات التي تعي شباكها وشركها. وتستمر قصائدها المتأملة والمحتفية بالحياة والطبيعة مثل (العويل /مباغتة / تقاطعات / صدأ/شرود/ تقسيم ).
يضم القسم الثاني من مجموعة " مسارات " قصائد معنونة " صليل الرماد" تبدأ بقصيدة " نصائح " الموجهة لابنها زياد ثم "الشرك" وهي قصيدة تمثل استمرارية التأملية في عالم الأنوثة والمشاعر والطبيعة وتأخذ موقف الاحتفاء بالحياة تقول:
ـ " في الأعالي
ابعد من نجم لا يطاله الكشف
إله أزلي قديم
وأنت
يتربع على وجعي
فأخفق
أخفق
أخفق
في تطاولي واستحالاتي
وريقة صغيرة تهبط
وريقة صغيرة تعلو
ووحدك
قابض على صولجان الخلق
وجوهر الكلمة
وقلبي! "
ومع قصائدها (الضلالة / الرسائل / الكائنات الجميلة ) تتطور مفردات حمدة خميس في ضوء شفيق ورقيق وتصبح هذه المرحلة أكثر وضوحا من المرحلة التي سبقتها كما يتحقق للشاعرة خفرت المباشرة ونمو الجماليات في اللغة الشعرية عبر الوصف / والأحاسيس / والسرد.
وفي قصيدة حمدة خميس (ما ليس لي ) تعلن رفضها للذكورة العادية وعالمها المقفل وتتمرد على دورها الاجتماعي التقليدي ويتنامى الصراع الذي تطرحه الشاعرة مع تطور تجربتها مع الذات والآخر وتحاول أن تستحضر عالما جديدا تصبو اليه, حيث تقول في قصيدتها:
ـ " هذا الذي الآن
ليس لي
الرجل الذي يستحم
قبل أن يغتسل بجسدي
ليس لي
الرجل الذي يتعبه الركض
في متاهاتي
ليس لي
الرجل الصقيل الذي
يهندس أظفاره
قبل أن يخدش رتابتي
ليس لي
الرجل الذي يشبع ما حولي
وينسى جوعي
ليس لي
هذه الجدران الصقيلة
ليست لي
البيت المدجج بالعادي والمألوف
ليس لي
البيت الذي يؤطر معتقلي
ليس لي
الفرس المطهم باللجام
وبالسروج
ليس لي
لي
البرري
ولي
فجر المراعي
لي
صبوة القوس
الطليق
ولي
تيه الآبا ئل
لي
البهاء
وهذا الكون
لي!
إن الشاعرة تنتقل من عالم بداياتها وتحدد صراعها مع الحياة والأنا عبر اكتشاف وكشف متأن للذات والآخر، كما أنها تطور موضوعها كامرأة في قصائدها المتلاحقة .إن رحلة حمدة خميس يمكن أن نلخصها عبر محطات تمثل التالي:
إن مجموعة " مسارات " تكاد تكون الأفضل تمثيلا لحالات حمدة خميس الشعرية المختلفة,إذ أنها تضم نماذج من تجربتها الشعرية تعكس مراحل مختلفة من رحلتها بما فيها بداياتها. تبدأ المجموعة بالجديد من النصوص فالأقدم وبذلك فإنها تمثل تقديما متوازنا لتجربة الشاعرة ورصدا لتجربتها بشكل عام .
تتوالى قصائد العمل: (ترويض / اختلاف /حالات /العودة للطفولة /تشكيل /النجم واللؤلؤة / ملكية / الصمت / الموائد/ الوصية / اختيار/ جمرة / تكوين / بذخ / المسألة / قطرة في القلب / توديع (حيث تكتب الشاعرة رحيلها ومعاناتها لأسباب سياسية ) الشهيد / تناقض / افتراض حيث تعبر عن وحدتها ووحشتها / الهدايا / الصليل (حيث تكتب للمقاومة الوطنية في جنوب لبنان ) إيقاع / تسلل / رماد/ هذا الإنسان / مروق / جس راق (وهي قصيدة لعامل البناء الهندي في الخليج ).
غير أن كل ما كتبته الشاعرة في (مسارات ) يقودها الى حالة التأمل المطلق وسؤالها العميق الذي يلمس وجودها وشعرها إذ تقول في قصيدتها الأخيرة " متاهة ":
-" في البدء كانت بدايتها مفتوحة
مثل قلبي
أخذت بيدي
دربها سالك
والطريق الى وعرها سالك
كنت موقنة أنها راوغتني
لكي أمتحن خطوتي
راوغتني
لكي أعرف السر فيها
وأعرف
أن الخروج الى ضوئها
يقتضي الهدوء الطويل ! "
ولكأن حمدة خميس تختصر بهذه القصيدة رحلتها معها… ضوء ذلك الشعر الذي كان نارا تشتعل في الخارج ثم أصبح شعلة في الداخل, في روح الشاعرة, وأنثاها الكامنة عبر التاريخ في الأعماق, هناك .
المجموعة الرابعة والأخيرة للشاعرة هي " أضداد" تضم ثلاثين قصيدة وقد صدرت في عام 1994. وقصائد هذه المجموعة هي مزيج من هموم الوطن وحبه مصحوبة بغربة حمدة الممتدة داخل الوطن وخارجه مختلطة بقصائد الحب والأصدقاء والأطفال ومتوحدة بمفردات الطبيعة مضاف اليها صورا من الحياة وسخرية سياسية من التحولات في الوطن .
وقد تكون الإضافة الحقيقية لحمدة خميس في هذه المجموعة هي المحاولة الجديدة للقصيدة السياسية ضمن نسق أرقي من قصائدها السياسية القديمة . وخصوصا في قصيدتها" ريشة النسر» (من سيرة التكوين ) حيث تمثل هذه القصيدة تحولا مهما في خطاب حمدة خميس الشعري حيث يختفي المباشر ويتحول الرمز الى واقع كثيف في القصيدة . كما أنها هنا تعتني بالأسطورة وصناعتها عندما تطرح الهم الوطني الحاضر – الدائم في دلالاته الشعرية في وصفها لمنطقة الخليج وتحولاتها.
تقسم الشاعرة قصيدتها الى حركا ت شبه سيمفونية
أ – الحركة الأولي: نشوء حيث المرأة تعود كرمز للوطن من جديد.
تقول الشاعرة:
– " فضة الكون
تجمع ذراتها
تستطيل
على هيئة امرأة
تلف عليها
سوارا من المهرجان
ونخلا يتوجها
ثم تهبط شامخة
وتهبط هادئة
وتهبط عاشقة
من
مياه
الخليج ".
ولعلها المرة الأولى التي توظف فيها الشاعرة المرأة بشكل أسطو ري رابطة إياها بالوطن دون صفة الأمومة أو الطفولة التي كانت تسبغها على ذات الأنثى – الوطن في قصائدها الأولى , وتستمر القصيدة ضمن الحركة الثانية (التباسات ) والحركة الثالثة (التجلي ).
والشاعرة تفعل التقطيع نفسه في قصيدتها السياسية التالية (الأرض ) حيث تطرح الدلالات السياسية في سياق سيمفوني يشبه قصيدة (ريشة النسر). تضم (الأرض ) مقدمة للحركة الأولى ومقدمة للحركة الثانية تقول فيها:
ـ " تمر الهرا وات على جسدي
ما إن تمر …
حتى تغل يداي الى عنقي
ويغل الكلام
ويبطش الكلام
ويبطش بي
قلق موحش
وزئير احتدام
لا يشار الينا
ولا نستشار
نحن الرعايا الرعاع
وهم الأوصياء
ولم يوصهم
احد
ولم يوصهم
احد"
وتمثل بقية قصائد الديوان تنويعات على الاختزال الشعري تكمل ما بدأته الشاعرة في مجموعتها السابقة (مسارات / ضمن نفس الروح الشعرية وتطلق على مجموعة القصائد عنوان م الينابيع ) وهي تضم (تعب, دهشة,احتضان, بنوك, سؤال, قلق, احتجاج, رغبة, غرابة, قطيعة, مؤتمر، طرافة, زيارة, وحشة, أزواج, شرق, حب, توصل, الطريد، السدم ).
لقد نشأت حمدة خميس في بيئة تقليدية شهدت انقلابا سريعا في ظروفها الاقتصادية والاجتماعية . إن قصيدة حمدة خميس هي قصيدة الذاكرة, البسيطة, والمتآخية مع الضحايا سواء في وطنها الصفير أو وطنها الأكبر، وقد عاشت الشاعرة سنوات ثورية شهدتها المنطقة وانعكست عليها حيث وجدت ذاتها فيها فعبرت باستمرار عما هو ضد القهر.كان طبيعيا أن تبدأ بالسياسي المشتعل لكي تصل الى منطقة قهر الأنثى فيما بعد ضمن مفردات ظلت محتفظة بنكهة شعراء الريادة للقصيدة الحديثة . كما أن تجربة الشاعرة الحياتية سواء الغربة القسرية أو الاختيارية خارج أسرار الوطن وداخله إضافة الى تجاربها الحياتية الشخصية الزواج / الولادة / الأطفال / الطلاق والعلاقة التي تبحث عنها ضمن مثالية الرومانسية في البدء ثم وعي الأنثى المستيقظة فيما بعد كل ذلك قد شكل جسد القصيدة عند الشاعرة حمدة خميس والتي كانت من أوائل الشاعرات اللواتي بدأن مسيرة القصيدة الحديثة في المنطقة .
وهكذا فإن حمدة خميس تمثل بداية الخيط لمرحلة ما بعد نازك الملائكة وفدوى طوقان حيث يخكط الهم الوطني بقضايا المرأة وبحثها عن ذاتها. إن في قصائدها جرأة السياسي, وحياء الأنوثة في البدء، ثم صرخات الاعتراض التي تنامت بقوة فيما بعد. كل ذلك مصحوب بروح تأملية تحاول الخروج من كآبتها وأحزانها للو صول الى حكمة ما، ربما حكمة الأنوثة والخلق في آخر الأمر.
ميسون صقر: شاعرة مو شومة بالرث
ميسون صقر القاسمي شاعرة ورسامة من الإمارات, عاشت معظم سني حياتها الشابة في القاهرة,حيث قضت أكثر من أربعة وعشرين عاما فيها بسبب وضع خاص تعرض له والدها والذي كان حاكما للشارقة في فترة زمنية سابقة . أصدرت أربعة أعمال شعرية وأقامت العديد من المعارض التشكيلية . أصدرت ميسون صقر المجموعات الشعرية التالية:
– هكذا أسمي الأشياء 1983
– الريهقان 1992
– جريان في مادة الجسد 1992
– البيت 1992
وقد تطورت تجربة ميسون صقر الشعرية في ظل حركة شعرية حداثية نشيطة في القاهرة ـــ ضمن بدايات ميسون الشعرية ـــ حيث كانت فترة نهاية السبعينات فترة نشيطة شهدت تجمعات أدبية مثل جماعة "إضاءة " و " أصوات " وغيرهما من المجموعات التي كانت مهتمة بنصوص قصائد التفعيلة والنثر ضمن مضامين تجديد للقصيدة وتحاول أن تواكب تطوراتها العربية والإنسانية .
تنمو تجربة ميسون الشعرية _ الإنسانية في أعمالها الشعرية الأربعة عبر لغة فردة, أنيقة ـ حميمة ـ وخاصة . لغة مرسومة بدقة المشاعر. وصدقها، وبفلسفة خاصة ذات رؤية تحاول أن تزاوج بين الباطن والخارج.
واذا كان عنوان أحد أعمال ميسون الشعرية " جريان في مادة الجسد" فإنه عنوان ينطبق على روحها الشعرية في كافة أعمالها منذ عملها الأول " هكذا أسمي الأشياء" وعبورا بـ " البيت"
و" الريهقان ».
إن ميسون بارتباطاتها الإنسانية ــ الشعرية ومحاولاتها المتعددة لحضن العالم ولوعي حضورها الإنساني الشخصي والتاريخي تلجأ الى لغة الجسد، لترتقه تارة وتعيد ترميمه تارة أخرى، لتلاه وتحضنه, وترثيه مهدما في أحيان أخرى.
النسيج الذي يمتد في ذاكرة ميسون .. ذلك النسيج الذي تتعدد ألوانه هو محاولة ميسون للقبض على جسدها الشعري الخاص . ميسون معنية بميسون ومحاولة فهم الذات وتأمل صلاتها بالعالم, العضو والجسد، التوحد والانفصال . صلتها الشعرية تكتسب شرايينها التي تمتد حتى الجدران والسلالم والشوارع والمدن والملابس وغيرها كما هي ممتدة بتأملها الدموي لتلك العلاقة مع الأم والأب والبيت التاريخي بفوضاه النفسية التي فرضها وغرسها في طفولة ميسون التي تقرر أن تلد نفسها وتحضنها كطفلة تخلصا من ماض مربك وجارح أهدى ميسون الحزن وفوضى التاريخ .
ومن ملأمح مستويات اللغة الشعرية التعبيرية عند ميسون:
أولا: اللغة الأنثوية التي تصنع صلتها بالمفردات والألفاظ تعبيرا عن كينونة شديدة الاندماج مع واقع الشعرية الذاتي ــ النفسي حيث لا تغفل ميسون عن تلك الذات الأنثى وخطابها المفتوح الى العالم فهي تتحرك عبر معانيها بيقظة الصلة الأنثوية مع العالم سواء عبر تحسسها للأمور أو جراحها أو جمالياتها بما فيها جماليات الفرح والحزن .
ثانيا: اللغة الفلسفية التأملية التي تفاجىء ذاتها الشعرية بحكمة ما… حكمة خاصة بميسون, غالبا، ما تأتي من دراستها لتقاطعاتها مع العالم, موقفها منه, ومن الآخر والذات .
ثالثا: اللغة الرمزية التجسيدية وهي لغة تطفى على كل شي ء في قصائدها السياسية والحنينية فهي تستخدمها في قصائدها عن صبرا وشاتيلا، وبيروت, وبغداد، ومصر، والخليج .
إن تلك اللغة التجسيدية تخرج القصيدة السياسية عند ميسون من فجاجة السياسي والمباشرة الوصفية والخطابية حيث تتأمله بأنوثة تجسيدية فائقة تتمثل فيها ذلك الحدث السياسي الدموي ـــ القمعي بذاكرتها الأنثوية التاريخية وتجسدها الخاص, وخصوصا في عملها الشعري الأول, "هكذا أسمي الأشياء".
والشاعرة تفعل الشي ء نفسه في علاقتها الحنينية مع الخليج سواء عندما كانت تتحدث عنه عبر المسافة, حيث عاشت معظم سنواتها الشابة في مصر بعيدا عنه, أو عندما أعادت اكتشافه وانتقلت اليه . إنها تعتمد في صلتها معه, على ذاكرتها الحنينية المشوشة والمضطربة بسبب حالتها التاريخية الخاصة, وانتمائها القبلي الذي تضمنت أحداثه المأسوية انعكاسات عميقة ضربت بجذورها في ذاكرة ميسون- الطفلة, ميسون – الشاعرة .
رابعا: اللغة الميتافيزيقية ـ الماورائية وهي لغة لا علاقة لها بالفكر الديني، بتاتا، بل إنها وفي هذا المشهد بالذات تبدو محطمة لأصنام العبادات التقليدية . إن اللغة الميتافيزيقية لدى ميسون هي لغة تعتمد على مفردات الجسد، من جديد، وتوظيفه وظائف حلمية طارحة شفافية خاصة عليه عبر لغته, وخصوصا عندما تتحدث عن الحب, والحزن, وأفراحها الخاصة, وأشياء ذاتها.
إن قصائد ميسون صقر هي قصائد نثرية محاطة بموسيقى كلاسيكية, مفرداتها قوية, ولغتها واضحة, ومعانيها قوية, هي لغة الحلم بتجسيد العبارة الشعرية التي ترتكز على الصورة _ الإحساس . اللون, الجمادات, الروائح, والذاكرة الفولكلورية, أحيانا، كل تلك هي من أدوات ميسون الشعرية في قصائدها. ولأشعار ميسون صقر خصوصية رائعة في تأنيث هذا العالم حيث تأتي بنكهتها الخاصة التي تجد جذورها في الموسيقى أكثر من الاتكاءات النثرية على لغة الشعراء الرواد وأسلوبيتهم . إن لها ذاكرة خاصة, وبمفردات عالم مميز. وهي أقرب الشاعرات الخليجيات والعربيات الى عالم التحرر النسوي، الداخلي في نصها الأدبي فهي بعيدة عن الابتذال والشعارات, وفي استعمالها للغة الجسد الأنثوي تتجاوز المحاولات الأنثوية والذكورية "النزارية " (نسبة الى نزار قباني ولفته الخاصة في التعبير عن الأنثى) فهي لا تقدم الجسد بلغة الاثارة الجنسية أو بذاكرة المقموع المعتمدة على جماليات القبح, إنها تقدم الجسد الأنثوي كمفردات لعالمها الشعري بخصوصية, راقية, توظف فيها أحاسيسها بغريزية الوعي، لا التشيؤ.
في العمل الشعري الأول " هكذا أسمي الأشياء " للشاعرة ميسون صقر تتفتح ظاهرة التوحد الأنثوي التجسدي بالقضايا والحالات الشعرية التي تطرحها. ويأخذ الخطاب مفرداته من الجسد والروح الأنثوية بشكل مغاير ومقتحم للسائد. ويمكننا تتبع ذلك عبر نماذج شعرية مختلفة سنطرحها في النصوص للتدليل على تلك الروح الشعرية الأنثوية وهيمنتها.
تقول الشاعرة في قصيدتها" العرس عند الضفة ط:
ـ " ها أنا الممشوقة كالسيف
في وجه الكآبة
أظل شجرة مباركة
بالختان والبكارة
والخوف والترتيل
والآهة الشجاعة
فباركوني
أصير حفنة من تراب الولادة
أو برزخا من سديم الطهارة ".
إن قصائد الشاعرة السياسية في عملها الأول تعتبر نموذجا واضحا لفعل التأنيث واضفاء ظلاله على كل ما يحيط بها فهي تتحدث عن الماسي والأحداث السياسية بتلك الصيغة, وانظر في المقطع السابق, الى استخدامها لمفردات (الختان, البكارة, الولادة, والطهارة ) وذلك التوحد الأنثوي الكامل بالحدث . فى كذلك تفعل في قصيدتها " وردتان تخلعان سكونهما وقمر في الدم يستحم " حيث تدور القصيدة حول مذابح صبرا وشاتيلا في أجواء بيروت والمخيمات الفلسطينية ويأخذ «الأحمر" رمزا للسياسي الفجائعي، والأنثوي المسكوب باختلاط كامل إذ تقول الشاعرة:
ـ " الأحمر يصبح رمزا .. دما .. وردة
هذا الأحمر الفجائي
ذو الرائحة المسك
في قصائدنا .. في ملابسنا
يتصدر الجرح ".
وفي قصيدتها، " وكنت تتعجل وجه النهار" ورغم أنها تتحرك في سياق الوطن والوطنية غير أنها نموذج واضح لبدايات ميسون وتأنيث القضايا في محاور الحب والجسد من وجهة نظر الأنثى إذ تقول الشاعرة:
ـ " الزمن فعل ماض
وأنا على جسد الأنوثة
مسببة للاحتمال
بكر أم للمدى الشاسع جرح
أم جسد تقلص
فمر بين حرفين
فامتشق رمحا
وانثنى يحمل الخصوبة ".
إن هذا التأمل الاستكشافي للذات حيث يمر السؤال والاحساس عبر تلمس الوجود الأنثوي الخاص ينمو عبر القصائد بشكل مدهش ناقلا إيحاءاته التي تحاول أن تؤنسن الوجود، عبر التأكيد الذاتي لحقيقة أن ذلك الصوت ينطلق من حقيقة وجود " الذات الأنثوية ".
تقول الشاعرة في قصيدتها " الاستدارة ":
ـ " قاتلتني المدنية
رجمتني
اغتصبتني
كنت خرساء
اخاف على بكارة الاشياء
اتقي الجحيم بصمت الجحيم".
إن قانون " الصمت الأخرس" هو مواجهة الخوف للخوف . هذه الذاكرة التي ترى الأنوثة في خانة الضحية المحاصرة بفعل القتل والاغتصاب والتي تواجه كل ذلك بالخرس خوفا على بكارة الاشياء في الروح, وخروجها من وراء المزلاج الى ساحة الطحن حيث يوازي جحيم الصمت جحيم الخارج كفعل انتهاك مزدوج للأنوثة . وتقول الشاعرة في القصيدة نفسها:
ـ " يا حبيبي الذي يكبر معه
أطفال حبي
قد ماتت داخلي امرأة
ولدت داخلي امرأة
واستدرت كاستدارة الربيع للربيع ".
إنا إمرأة جديدة تواجه تلك الأنوثة الخرساء، امرأة لا تواجه لجحيم بل الربيع المورق من أشجار وغصون الصوت الذي نطق . و تستمر ميسون مقر في رصد التحولات التي تحدث للأنثى التي نخرجها من صمتها مختارة عنوانا يذكرنا بقصة آدم وتعلمه لأسماء حيث تقول الشاعرة في قصيدتها "هكذا أسمي الأشياء":
ـ " امرأة تتحول أفعى.. تتلوى
تنام على سرير الموت مسمومة
وعلى سرير الأرض .. تفجع كالنساء
تختبيء جسدا جميلا
إمرأة أخرى تتحول أفعى
وثالثة تتحول, ورابعة وخامسة
جميعهن يتلوين أفاعي
وهذا الوقت المكعب الصامت
يمر بتجربة المخاض …
لكنني أخلع جلدي الثعباني
وألبس امرأة عادية
أسكب سمي وأجذب من أحب
أشيد في عالمي مدنا كبيرة القلب
وفي حلمي المتكون, أتقيأ الرضاعة, وأنهمر
وحين يغمسونني في النفط … أختنق
لكنني أعود في شكل آخر".
إن تحولات الأفعى لدى إناث ميسون صقر هي تحولات تخرج من جحيم الصمت والمدنية محاولة النفاذ بجلدها ضمن وجود لا تستطيع أن تعلنه أو تحميه . أنه وجود الحيلة الأنثوية المعهودة في لمدن الخانقة ذلك الذي يجذب اليها من وما تحب حيث تشيد في عالمها مدنها الشاسعة متخلصة من رداء الرصانة المفروض عليها لتنهمر غير أنها هذه المرة تجد أن وجودها هو حضور العنقاء التي تدخل الى النار وتخرج منها بولادة جديدة .
إن الخارج هو الجحيم بالنسبة للشاعرة فهو الخوف, والقتل، والقهر، والداخل هو الطمأنينة, والحلم, والوجود الذي يمكنها أن تعيش فيه . لذلك فإن مفردة الجحيم تتكرر في قصائدها، فها هي تقول في قصيدتها " يبادرني الحلم ":
– " حين افتح جحيمي للقادمين وأنفر متآلفة مع نفسي
أنذر روحي للجوع وللبساتين وللأخضر المتورد في دائرة الحزن أو قلب الجحيم
أصبح ياقوتة عشق
محمولة فوق أسنة الرماح وردة مؤودة من
دماء العشيرة ".
تطرح الشاعرة أمام جحيم القادمين / التآلف مع النفس وأمام جوع الروح / الأخضر المتورد/ وتصبح ياقوتة عشق / على ألسنة الرماح ووردة مؤودة من دماء العشيرة
إن انتصارها في كل هذه المفارقات يتأتى عبر الجماليات التي تخلقها إزاء القبر، والقسوة, والمصادرة وفي الأخضر تتجل تجسيدات الروح الأنثوية عبر حالاتها المتعددة .
وفي انتصارها للأنوثة تجرح الشاعرة ذاكرة القارىء بما حدث, ويحدث في أجواء العشيرة فها هي بقوة وغضب تصف الحال في قصيدتها، "هذا زمن اللا" إذ تقول:
-: أدركنا عفن الصمت
لكنهم وضعوا في حلوقنا ماء نار مذ كنا صغارا
ووسمونا وشما محروقا بالآهة والرعب
غطوا الوجوه بالبراقع وقالوا خاطئات
تمرغن في الرفض والكلمات المخنوقة
بسوط الخوف
فحملن الخطيئة ".
من ثقافة الصحراء يبدأ جرح الشاعرة لكنه لا ينتهي رغم الحلم الذي يتكثف داخل روحها، ورغم الحرف الذي يمثل مطيتها التي ترحل بها بعيدا عن ذلك الجرح . تقول الشاعرة في قصيدتها "إني احتميت بالصحراء":
– « اه أيها الحقيقة الحلمية
إني فجعت حين اقتربت منك فوجدت وجهك
جامدا كصخر لا يلين
وحين حاولت أن أنغز قلبك بشوكة الحب المبهج
تسربت كالماء من بين اليدين ".
إن الاحتماء بالصحراء هذه المرة هي عودة الأنثى ال كهفها حين تفشل تجربة تجسد الحلم فيما يحميها سواء كان الرجل الذي تحبه أو الحلم الذي يتحول الى جلمود وسراب ماء.
في عمل ميسون صقر الثاني " الريهقان" تحشد عددا كبيرا من القصائد كتبتها بين عامي 1983و 1989 متممة ما بدأته في عملها الأول بإخلاص خاص لقضاياها ومشاعرها وبحثها عن تلك الذات الأنثوية . تقول الشاعرة في قصيدتها,أجرح لامرأة موروثة":
ـ " فوق ساحتي
أفي ء امرأة موشومة بالإرث
متوضئة بحليب القبيلة
عاجزة عصافير جنتي
أفراسي وفرساني
وعبر سكون الصحراء
أرضع نزفي
لكن قلبي
يلمس الصواب والحقيقة ".
إن روح الشاعرة لا تموه واقعها، فهي تعلمه وتعيه جيدا وتواجهه لكي تنفذ من الاستسلام لدور الضحية الدائم . إنها امرأة مثقلة بالإرث ومنتمية لدعاء القبيلة ترضع نزفها وتستمد منه قدرتها على تجاوز آلامها0خارجها مجروح وداخلها يميز بين الصواب وما يواجه ل الحقيقة . إنها أنوثة الوعي التي ندرك جيدا ما يعتمل في داخلها وهي مصممة عل إنقاذ بقايا الروح من لوثة الواقع .
وفي قصيدة أخرى للشاعرة بعنوان "سماء لا تبرح " تقول .
– " سوف أطرح الآن الأنوثة
كي استبي
أنوثة مرجومة
وأحصنة مضرجة ملغومة
وأنطفيء في الزبد
سيقولون استمسكت بالخيط الواهي".
إن هذه اللعبة التي تمارسها الشاعرة, في الهروب بروح الأنوثة من جحيم الخارج, تتلون وتتغير وتحتال عل الخارج السلبي من أجل أن تحيا بعافية مهربة من لغم الخارج . ولعل معظم قصائد
" الريهقان" هي محاولات مختلفة لقول تلك الحالة التي تتشبث الشاعرة في الدفاع عنها والانفلات بصوتها بها بعيدا عن الرجم . ولعل عناوين عدد كبير من قصائدها يشير الى ذلك مثل "( توحد, النار الجوهرة, تقبع بأرصفة السواد، صحراء انتظار، أول الكلام, خلف أسرار البيارق, مجزوءة من موتي، حصار المحار، انفلاتي، بزوغ المرأة الأنثى، ما تسوله نفسي ).
تقول الشاعرة في مقطع من قصيدتها " لحظة من الزمن الطلي الثاني":
-" أعود كي أحادث نفسي
كيف حرر الحب قلبي
نشل أحزاني من جمر الرحيل ورياح الشتاء
المملوء بما يتساقط على جيد امرأة خليجية
بلا وطن … ترحل في عباب الصمت من حيز
الى حيز، تصحبها الرتابة … لا تلوي على شي ء!!
وأقول سوف أفاجئه بالحمامة التي كسرت
حاجز الزمن ".
حديث النفس، مدعاة الحرية ومفاجأة الحمامة التي كسرت حاجز الزمن هو قول واحد لبزوغ حضور تلك الذات الأنثوية في خطاب الشاعرة لذواتها المدركة من أي حيز جغرافي وحضاري هي قادمة . تعلم جيدا ذلك الذي تركته وراءها – الماضي الزمن – وأي ثقل
كان عليها أن تخترق بجناحها نحو أفقها الذي تظلله بحرية الحب .
وتقول الشاعرة في قصيدتها " امرأة تبرح الصحراء":
ـ " أنا المرأة النخلة ـ المرأة الشرخ
الماء قانون انسجامي
الجدار توحد روحي
قلبي الوردة المثخنة
وأنا امتزاج الفراغ
زوجة الفضاء
المرأة ــ المرأة".
كأنما كل قصيدة جديدة في تجربة ميسون هي هندسة إضافية لمعمار البحث عن المرأة بحريتها وذاتها البعيدة .كم هي تحتاج الى رحابة لا جدار لها كي تكتمل هندسة ذلك البناء ولهذا هي زوجة الفضاء وامتزاج الفراغ الذي يحاول أن يجد وجوده خارجا من حصار الشرخ و ثقافته .
ويأتي عمل ميسون صقر الشعري الثالث " البيت " متمما لتلك الهندسة, والروح الانفلاتية التي تحاول الخروج الى فضائها.في «البيت " أنسنة للجدران والذاكرة, وتأنيث لتلك الانسنة حيث كل شيء له جسده المكتمل بذاكرة امرأة البيت ـــ القلعة إنها ذاكرة سوداء لا يخترقها غير عالم الحلم والذي يحاول أن يذهب الى ما هو أبعد من الجدران والسلالم .
" داخل البيت, بين الحجرات " تفتتح الشاعرة بيتا بنص مفتوح قائم على السرد الشعري لما يشبه الحكاية: حكاية السيرة الذاتية للشاعرة( الاب, الأم, والبيت ). تصف عالم ذلك الصدود حيث الجمود، وحيث هي ترسم أو تكتب الشعر لتصنع الحركة في عالم الحلم الذي يحاول اختراق صرامة الطقس البيتي.
تقول الشاعرة في النص:
ـ " لم يكن سقوطه اليوم إذن سوى اقتصاد في اهتزاز البيت كقيمة بارتباكه نحوها، وتفكيك في اللغة .
وأذكر أنني كنت أتحدث مع صديق لا أفهمه ويتخللني ولا يحبني، وأدخل عاطفته المشبعة بالتوحد عن هذه الحركة اليومية في المكان الحاد، وعن هذا الموت الذي يفكك تراكيب قيمنا التي انتظرت طويلا، ويخلخل صرامة أبجدياتنا حتى ظللنا نتحرك في أما كننا طوال اليوم ثم ما لبثنا أن غيرنا ذلك المكان الضيق الى اتساع الروح ".
إنها تقدم لما تود أن تقوله في رحلتها حول هندسة الروح وانفلاتها من حصار الجدران الجاهزة بمشاعرها الصارمة . وتقول في مقطع من نصها,"التجاعيد على الجدران ":
"فما الذي يعنيه المكان ؟! ".
ابتداء للذاكرة تنهش قطعانا من الماشية تسير الى منبع ماء وعشب في الوادي المنحدر في الضفة الأخرى والذي يندرج في أسفل التكوين الأنثوي لجسد إارأة نائمة في العراء. نوافذ بيتها مفتوحة على رجل ساهر على شهوتها، نوافذ حزنها باقية للأبد تفور، ملونة بالزجاج المهشم والبيلسان ".
ترصيف لحياة الجنس, الشهوة, الغذاء وطقوسه, نهم الجسد المغلف بين الجدران وراء عادات
وتقاليد السري والمفضوح هذا هو ما تتحدث عنه الشاعرة وتحاول أن تجلوه في " البيت ".
ومن مقطع من نص بعنوان " اختبار اليقين بالظن, اجتياح الحلم بالرؤية المحضة " تقول الشاعرة:
ـ" هو بيتي … رؤاي من خلالي والتنفس في
هو البيت المقدس ولا بيت لي
كأنه المهدوم محلى قمة رأسي، والأب
العجوز واقف أمام تسربي في الصراخ
أو كأن كله غرفة واحدة تضم أشخاصا".
لكنها تحاول أن تخرج من تلك الغرفة ـ هي التي لا بيت لها لأنه مهدوم فوق رأسها وما أبوها سوى تلك الغرفة المغلقة التي تضم عددا من الأشخاص وهي تحاول أن تنفلت, تتسرب, تطير كلها أفعال للخروج من مسام جدران الحصار. وتسرد الشاعرة ذكرياتها عبر قصائد " المسطور" " رائحة الزعفران, نزيف الدم" لكنها ليست ذكرياتها البصرية المباشرة بل هي ذاكرة الحصن أو الذاكرة السياسية, العائلية لميسون القاسمي. وحينما تصل الى سلالمها تكتب عنها في نصها« سلالم
الروح "، قائلة:
ـ " أبدأ في الريح كي أعصفها وأرجع القلب للفتي الأولى حيث الأساطير موغلة في ذاكرتي، والحب ترسيمة لرعشة طائر لا يضمني".
وفي بحث ميسون عن ذلك الضائع البعيد من وراء الأساطير تنفلت قصائدها الكثيرة في" البيت " حاملة عناوين ذلك البحث مثل: (الوجوه كلها بغبارها، العلاقات بآخرين جماد، أربعة جدران باردة, ليست كمثل النمر الرابض, جسد حر، تلك الثياب النائمة, باب بلا وجنتين, خارج البيت وغيرها).
" جريان في مادة الجسد" هي المجموعة الشعرية الرابعة لميسون صقر وهي تمثل حالة نضوج خاص وثري، ومزاوجة بين الحلم والمتجسد حيث ميسون غير مراقة على الورق, وحيث أعضاؤها منتمية لبعضها البعض حتى وهي تحدق في جروحها وذاكرتها. تقول في عملها هذا:
ـ " مثل الليل
لو سقط ط ثر
لانجرحت حلكتي
ولو قدمي جرت هذا الجسد المبهم
الى دبيب في الخرائب
تلك التي تسكنها شياطين الخيبة
لانغرست في مكان التاريخ وأبجدياته
وتشققت أرواح مشيمية فريدة
منشرحة
تؤهلني
لأن أدحض الفرضية الأولى للظلمة ".
اختراق الظلام بالجسد المبهم, والانغراس في مكامن التاريخ وأبجدياته, وولادة الأرواح الفريدة والمنشرحة التي تؤهل الشاعرة لدحض الفرضية الأولى للظلمة والانعتاق من أسر التقليدي، والخروج بصوت الأنثى من خر ائب الماضي وذلك الشعر الذي يحاول قولها، عبرها نافرا من أكاذيب التاريخ منتميا الى وعيه الناضج, والمستفز للفرضيات التاريخية القادمة من بطء الظلام .
إن ميسون صقر في عملها الشعري الرابع ليست الطفلة التي تحضن ذاتها في" الريهقان "، ولا النازفة التي تضمد جراحها بجدران " البيت "، وهي لا تعاني من ارتباكات البحث عن المعنى في الخارج كما قد فعلت في" هكذا أسمي الأشياء".
إنها هنا أنوثة شعرية قادرة, وواثقة وتقول برؤية متحدية:
– " أحب أن أحكي
عن أبوة تداخلني
وأم تتقمصني
وخيول مستفزة
تجري ضد غنائي".
وعبر كتابة الوعي الذي تقدم له في نصها «فطيرة اليقين " تقول الشاعرة:
ـ "إذن لأقفل نافذة تطل علي فقط, وأقفل تشرنقا لا يلد الفراشات, ولحظة عبر انكماشها في ذاتها، لأفجر نوافذي العميقة السائلة عبر اختلالي, وأفتح عيوني الغائرة بداخلي لآخر مغاير كي يهز ثبات الصور المعلقة على جدران تتلوى وقلبي المستوحش والموحش – البرىء – لا أروضه ".
إن قصائد الشعر تمشي يدا بيد مع نضوجها النفسي الحياتي والذي يرصد بجدية كبيرة مسارات الصوت – التأمل – والحركة في آن واحد قائدا، ميسون صقر عبر ضوء القلب الى حكمتها الخاصة .
تقول الشاعرة في قصيدتها " جريان في مادة الجسد":
– " أرى غلالة الموت على جسدي
ضد كل من يصنع الوجوه الخيرة لوجهي
ضد ارتباكي في هذا العالم
وضد انتهاك عناصر الطبيعة متوغلة في
أرى الثياب مكومة الانتظار ضدي
أرى…..
أنه السؤال الدائم حول الأوردة الأرضية
فلتكن اليد خروجا من الصفع الى التاريخ
هذه القناة التي أستحم من خلالها
لتريني جسدي في الماء، وفي المرآة, وفي خجلي
لتكن ما تحققه في الموت
وفي تهيئة الروح
وفي الكتابة
مناسبا كي أتقدم لها فأرا للتجارب
فليس كل هذا التشتت
كل كل هذا الطلوع لمعرفة الحقيقة
كل هذا الجريان في مادة الجسد
حادثا عرضيا ".
إن اليد وسيلة الشاعرة للخروج من الصفع الى التاريخ .إنها وسيلتها للرؤية, للكتابة, للطلوع الى معرفة التاريخ خروجا من تقاويم ميتة وجارحة وبإدراك نهائي بأن ما ستفعله الشاعرة هو أن تتحول بإبداعها الى كينونة فأر التجارب الذي يصر على الشروع فيما اعتاد التاريخ على إسكاته بالصفع المادي، والمعنوي، في قصيدتها " جسد للكيمياء" تقول:
ـ " لأ نني لا أحمل اليقين
تشك قدماي في خطواتهما
وتشك يدي حين تلامس يدا أخرى
في بغضها أو حبها
ولا أترك للقلب فورانا قد أشك فيه
لهذا أترك جسدي للحساب والكيمياء
وأترك للحب فضاء ـ ثقبا يمر ببط ء منه
كي يتخلص قليلا قليلا من شوائبه
أو لا يمر".
إن مثل هذه القصيدة تختصر أحوال المبدعات العربيات في تاريخهن الحديث حيث تمضي بهن رحلة التململ من همس الصوت الى صرخة الوجود ولأنهن يبتدئن بالبوح فإنهن يتحسسن تلك المادة بحذر مشوب بتجربة الخوف التاريخي عبر تجربة تعددت فيها الأجيال منذ بداية هذا القرن ووصولا الى جيل ميسون صقر مع نهاية القرن العشرين .
ليس من يقين ليصحب تجربة الشاعرة التي تخرج من عباءة فحولة الشعر العربي، لتتحسس طريقا جديدا تعبده مع كل خطوة جديدة لها. إن الشك مرتبط بما هو غير ثابت, ولا يقيني إنه جزء من تجربة الصواب والخطأ وهذا هو شك القدمين,واليد التي لا تدرك مدى البغض أو الحب المحدود لها. وهذا الحذر الخائف من فوران القلب, والجسد المتروك للحساب والكيمياء والوجود المادي المقنن,وحتى !لحب الذي له فضاء كامل لا يستقبله غير ثقب صفير ينقيا من الشوائب أو يمنعه من المرور، أو ليس الحب, أيضا،كالشعر حالة جديدة بإعادة الصياغة والكتابة في تجربة المرأة – المبدعة الجديدة .
وفي قصيدة " أعصاب نيئة" تقول الشاعرة:
ـ " أشكل عرائسك بضفائر حلم
اجدله
يا قامة مشدودة على وتير من أعصاب نيئة
يا تمثالا منحوتا من غبار رخامي
الجسد مكتمل بك
والروح شاقة
فلتقفي شوك بدئك
وليكن حضورك الآن
ويخرج الشجر من يديك
والسهولة من عناقيد ثملة
الجوع عصاب لا يعرفك كعادته
والوطن امتحان صعب في الكيان
وأنت ــ بصعوبة ـــ
لتكن شيئا حرا،
منخطفة في قسوة التكوين ".
إن لهذا الترصيف دلالاته الخاصة بكيف تكتب الشاعرة, وأين تكتب وما العنوان الذي اختارته للقصيدة غير تمثيل نهائي لمعادلة الكتابة المكشوفة انه تجسيد للحالة في ظل" وطن " هو امتحان صعب في الكيان وكتابة حرة " منخطفة في قسوة التكوين".
إن نتاج ميسون صقر الشعري هو خير الدلالات عن المرحلة التي وصل اليها إبداع المرأة الشاعرة العربية ـــ الحديثة . إنه نتاج البوح الجريء، الذي يحاول أن يصل أعضاذا حويته عبر جسد القصيدة . هي لا تهرب من واقعها، ولا منشئها الشخص والمحلي والحضاري فهي ابنة ذلك كله, بامتياز. غير أن روحها القلقة كانت خير جناحين لطيرانها الشعري المصحوب بوعي حساس وعميق لتجربتها الكلية كذات أنثوية عربية مازالت ذاكرتها المادية مستيقظة ومحاطة بالفؤوس والرماح والسيوف التي تشكل ثقافة الفروسية البدوية وخصوصا فيما يتعلق بكائنتين: الأنثى, والقصيدة .
الخاتمة
إن مشروع هذا البحث قام عل السير في طرق غير ممهدة, أكاديميا، في الروح النقدية العربية المعاصرة, لذلك كان الاضطرار كبيرا جدا، من خلال الجهد الذاتي، الى طرح غير كلاسيكي وقراءة عبر أعمال الشاعرات وسيرتهن الذاتية من خلال المعرفة الشخصية جزئيا، ومن خلال المعلومات العامة المعروفة عنهن سواء عبر الاعلام أو الوثائق الممكنة, وان كان البحث قد قدمت قراءته الخاصة من خلال الأعمال الشعرية لكل من حمدة خميس, ونجوم الغانم, وسعاد الصباح, وفوزية السندي، وميسون صقر فإنه من الضروري التأكيد هنا: أولا أن تجربة كل منهن مازالت حية وقابلة للتغير والتطور في اتجاهات مختلفة . وثانيا أنهن لم يطرحن بالصورة العلنية القائمة على فكرة المشروع الثقافي ــ أو شبه الأيديولوجي_الخاصة بالفكر النسوي وانما ربطهن هنا تحت إضاءة البحث عن الذات الأنثوية جاء ليس من منظور التشابه وانما التفرد والتميز في تجربة كل منهن . ثالثا هناك العديد من الشاعرات الأخريات اللواتي قد تنطبق عليهن نفس الدراسة في الدول الخليجية المختلفة غير أن محدودية البحث لم تتسع لتشمل كل تلك الأسماء، لذلك فقد جاءت أسماء الشاعرات الخمس هنا كنموذج لا كإختصار للتجارب الشعرية الاخرى لشاعرات المنطقة .
إن معاناة الشاعرة من خلال الإبداع الفني تكاد تكون متشابهة في مناطق مختلفة من العالم, والمتغير الأساسي هو مدى تطور الصوت الإنساني فيها والذي يضطر غالبا لقطع الرحلة نفسها غير أن البعض يصل الى محطته المتقدمة قبل الآخر.
لقد جاء الفصل الأول في البحث ليطرح ما يشبه الرؤية للنقد الأدبي النسوي في الغرب عبر إضاءات مختلفة غير أن ذلك ليس لالتزام محدد بمنهج وانما لتبادل الخبرات التي تحاول أن تطرح التجربة الأدبية للأصوات النسائية وهي محاولات مازالت تختط طريقها وتبحث عن ملامحها الواضحة والقابلة للتطور ـ وليست الثابتة بالضرورة .
أما الفصل الثاني فإن القراءة لأعمال الشاعرات تمت فيه من خلال ربط الاجتماعي والذاتي بالفني في صوت الشاعرات من خلال أعمالهن الإبداعية . إنها محاولة لقراءة تلك الذوات التي خلق النص بعذاباتها، تناقضاتها، أرقها الخاص, وبحثها عن خلاصها عبر تأنيث العالم .
إنها ليست قراءة فنية ــ نقدية خاصة بالنص على أسس شبه علمية وانما هي قراءة شبه إبداعية . ذاتية في نصوص تلك الذوات الأنثوية المطروحة . إن الغريب في الأمر أن ازدياد الحس المحافظ في المجتمعات العربية يقابله يقظة خاصة في وعي النساء المبدعات ومن هذا المنطلق فإن تجاربهن الشعرية تطرح مقاييس جديدة للتغييرات العميقة نحو الحرية في ظروف تبدو من الخارج محافظة وقسرية وسلطوية أكثر مما يجب .
إذا كان هناك تقصير في هذا البحث فإنني أتحمله بمجمله, وعذري هو أنني محاطة بالأسئلة من الداخل أكثر مما أحمل من أجوبة .
الهوامش
ا – د . علوي الهاشمي، شعراء البحرين المعاصرون, كشاف تحليلي مصور، ص151.
2 – د. علوي الهاشمي, ما قالته النخلة للبحر، الشعر المقامر في البحرين, ص223.
3- د. رجا سمرين, شعر المرأة العربية المعاصرة, ص 117.
4- نفس المرجع السابق,ص 118 .
5 – أحمد محمد عطية, كلمات من جزر اللؤلؤ، ص 277.
6- نفس المرجع السابق, ص 214.
7- نفس المرجع السابق, ص 219.
ظبية خميس (شاعرة وكاتبة من دولة الامارات العربية المتحدة)