سلك الشعر العربي منذ أولياته الى يومنا هذا تقريبا دروبا وعرة المسالك, ومحفوفة بالمخاطر وغياب الطمأنينة والاستقرار, شأنه في ذلك شأن البيئة التي أنجبته, والتي أقل ما يقال في حقها إنها محط الحل والترحال وموعد التناحر والصدام القبلي المتأجج النعرات والعداوة.
من هذا المنطلق وجدنا الشعر العربي لم يعرف في مغامرته الشاسعة المساحة والطويلة العمر والمدى, ما عرفته بقية أشعار الأمم الاخرى, والتي وإن تضايق في وجهها المطاف أحيانا فإنها حظيت في أغلب مراحل تدرجها بحرية الاندفاع وحركية الابتداع ورحابة المد والجزر, ونكهة المراجعة لا غيبوية الاتباع والمحافظة.
لقد جاء الشعر العربي الى هذا العالم من مخاض القبيلة, ونشأ وترعرع وتربى بين أحضانها, ومن مضاربها استنشق أول نكهة للحياة, ومن طنبها وعمدها وأوتادها وأثافيها استشرف ديمومة النظام وسذاجة الانسجام, فحظي الشعر بين تلك المضارب الموحشة في معظم حالاتها بما يحظى به أحد افرادها البررة والمنسجم قلبا وقالبا مع كيانها المرصوف برباط الدم والاعراف, فما كان منه سوى أن ذاب داخل هذا الحرم القبلي المقدس يكر إذا كرت:
قوم إذا سمعوا الصراخ رأيتهم
ما بين ملجم مهره أو سافع
ويفر إذا فرت, يواسي من تواسيه ويناصر المظلوم والظالم:
حديث على بطون ضبة كلها
إن ظالما فيها وإن مظلوما
ويساجل العداوة من تساجله:
أسجالك العداوة ما بقينا
وإن متنا نورثها البنينا
ويفخر بمن أنجبه لا بما أنجب: ومن هنا تتجلى أولى نقاط التدمير للذات الفرد حيث تصبح ملغاة داخل الحرم الكلي أو داخل الأخرى وهذا ما حدا بزهير بن أبي سلمى أن يقول:
وما كان من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة
وتغرس إلا في منابتها النخل?
أو كما يفصح الآخر على الرغم من اختياره لمسلك مناهض لقيم القبيلة المتمثلة في الصعلكة: إلا أنه ما ينفك ينضج بما في وعائه من الولاء اللاشعوري للقبيلة أو لأحد أفرادها قائلا:
وإني لمهد من ثنائي فقاصد
به لابن عم الصدق شمس بن مالك
أهز به في ندوة الحي عطفه
كما هز عطفي بالهجان الأوارك(2)
لقد ملكت طقوس القبيلة على الشاعر كيانه ومصيره, وذلك بفرض عاداتها وشعائرها, على الأنسام التي تغذي أحاسيسه وقد يجد كل متتبع لمسيرة الشعر هذه القيم مرصوفة فيما أجمعوا على تسميته بالعرف القبلي, والذي أصبح يعرف فيما بعد »بعمود الشعر« المقدس والويل كل الويل لمن تخامره نفسه من انتهاك هذه المحصنات فمصيره الانسلاخ من جسم القبيلة ويفرد افراد البعير المعبد, لذا تجدنا ونحن نستقصي متون ديوان العرب الذي هو »خزانة حكمتها ومستنبط آدابها ومستودع علومها« (3) نجد فيه أقدم الأصوات تصرح بمثل هذا الولاء اللامشروط تجاه القبيلة:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت
وان ترشد غزية أرشد
أو أن يشمل الولاء حد الطرفين روحا وجسدا بالسير في ركب العصبية والتخييل بما يرضي الجماعة وقول أوس بن حجر أحد أقطاب الشعر يعتبر خير دليل على ما نقول:
أقول بما صبت علي غمامتي ودهري
وفي حبــل العشيــرة أحطــب
فغمامة الشاعر هنا لا توهمنا بالحرية في استلهام الخواطر واستجلائها; بل هي غمامة من حصيلة نقع سنابك فرسان الحي والانتماء; أو هي من نيران الضيفان الموقدة, إنها غاصة من القبيلة وإلى القبيلة وما دهر الشاعر فيه سوى حصيلة النتاج التفاعلي بين الفرد والكل وبين واجبه في القبيلة أثناء مثولها أمام الأمر الواقع.
قد لا يخفي علينا ما للظروف الحياتية البدوية من مؤثرات ساهمت في توصيل رباط التوادد والتلاحم على حساب النزوع الى التفرد والانشغال بهموم الذات والتي من خصائصها عادة البث المفعم بالتباريح الصادقة, وبإشكالية الحياة كما يتلقاها محك المعاناة, أما في حالة انعدام الرؤية الذاتية في الرؤية الكلية فان مدار فلك التلقي والارسال يصبح رهينة لاستقطاب الحدث من زاوية تنعدم فيها غالبا رغبة الاحساس بتجاوز حد المغامرة إلى الداخل قصد النفاذ الى بؤرة النور وهتك حجب الظلمة والظل.
لكن هذا الادراك الجمعي للتخييل لم يقف حاجزا صلبا أمام نفاذة صيرورة »الشعرية« (4) ولم ينف عنها رغم الستائر القبلية الاكتحال بوهج الرؤيا الصميمية والوثوب الى مزمور الشعر الصافي وإذا ما عثرنا على مثل الادراك الذي يعتبر نشازا فلا يمكننا أن نجعل منه وعدا لأمر معقول, بل هو رذاذ من بقايا حلم في اللاشعور الفطري لا يجد حرجا من التعبير عن ذاتيته حين يجد الفرصة سانحة للمثول في ساحة الواقع: من هنا كان في امكاننا أن نلمس ذبذبات ماهية الشعر الحقيقي حين يغيب شاعر كطرفة بن العبد في رحلة السكر الغيبية قاتلا على سبيل المثال:
رأيت القوافي ينلجن موالجا
تضايق عنها أن تولجها الإبر(5)
فإنك لو تدبرت هذا التصريح الخطير لاستجليت منه أن مهمة الشعر الملقاة على عاتق هؤلاء أكبر من أن تستقصى, إنها دعوة صريحة للولوج إلى الأعماق والحفر على الصخر بازميل من وهج قصد النفاذ إلى بؤرة النور الحقيقية.
ومن الغريب أن تتجلى باستمرار ظاهرة البحث عن الشعر, الشعر عند شاعر كطرفة بن العبد أحد الرموز الشابة والواعدة والتي كان في مقدورها, لو لم تسيج بطقوس القبيلة, لجادت من الابداع بما يفوق المتبقي من محصول حصاده. فالمتتبع لشعره يحس بحشرجة تنغص على الشاعر الرغبة في الانطلاق لكنه يطفئها بوعود تتمثل في شق طرقات بعيدة على الأقنوم القبلي, من هناك تجده يرضى بالمراوحة فتارة يجعلك تشعر بانسجامه مع واقعه المحتوم وأحيانا تجده كمن يعتذر أمام قضاء لا مراد له; ومرة أخرى تحس بطاقته تتفجر فيعبر عن مخزونه تجاه القبيلة وتجاه نفسه قائلا:
ولست بحلال التلاع مخافة
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
فتجد النكوص والولاء, لأن إيمانه بفاعلية القول الشعري قوي وها هو يعبر عن ذلك في إحدى التفاتاته الرائعة في مجال البديع:
بحسام سيفك أو لسانك
والكلم الأصيل كأرغب الكلم
فكأنه في عجز البيت ظن أن معترضا يقول له: كيف يكون مجرى اللسان والسيف واحدا? لذا تراه التفت ليقول: »والكلم الأصيل كأرغب الكلم« (6) وتجده يؤكد على صميمية الشعرية مرة أخرى بقوله:
وإن أحسن بيت أنت قائله
بيت يقال إذ أنشدته صدقا
لكن كما سبق وأن ذكرت كل ذلك من تحصيل حطام الرغبة وشرعة الأضغاث المدفونة تحت رماد الارادة المدمرة على صخرة أشعة القبيلة المتشابكة التضاد والتفاعل, ومثل هذا الادراك السالف الذكر فإننا لا نعثر عليه سوى عند أولئك المسكونين بحمل همين: هم الولاء, وهم الانعتاق محنة الانصياع ورغبة التمرد, وما صراخ الأعشى حليف العقار ببعيد عن رغبة طرفة فلا مجال للغرابة هنا فكلاهما يعب من معين واحد مشحون بقبضة الثنائية المحتومة.
إنه يدرك ما هو الشعر حين يطرب كما يقال:
والشعر يستنزل الكريم
كما استنزل رعد السحابة السبلا
فبالرغم من الدعوة الظاهرة لماهية الشعر التي بإمكانها تفجير الماء ولو من الحجارة, فإنها دعوة كذلك لابراز مدى مفعول هذه الشعلة السحرية التي لا تعجز عن هز الفروع من الأصول وزعزعة ما لا يقوى الدهر على استئصاله واستنطاقه.
وقريب من هذا الوهج الغريب قول حسان وهو يوازي بين مفعول صارمين: إلا انه يغلب الشعر على السيف حين يستخلص قائلا:
لساني وسيفي صارمان كلاهما
ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي(7)
إنها دعوة كما ترى تريد مخاطبة الناس كما لو كانوا ورقا لا شوك فيهم, وتحث على مقاطعتهم إذا استحالوا الى شوك لا ورق فيه لذا تشعر بوهج التمرد عاليا وصريحا في موقف الشاعر سويد بن حذاق الذي لا يخدع ببهرجة من يرى في الملوك شموسا ودونهم الكواكب: إنه بموقفه الشجاع الشاعري كأنه يجعل حدا لدمار النفس- الشعر- أمام نسج الطقوس العنكبوتية المبهجرة لهالة من النفاية, في حقيقة الأمر, دون مرتبة مملكة الشعراء التي يسودها العدل والمحبة, فها هو يرد الاغراء مخاطبا جلادا لا يعرف قيمة الكلمة- المعاناة- عمرو بن هند قائلا:
أبى القلب أن يأتي السدير وأهله
وإن قيل عيش في السدير غزير
بها البق والحمى وأسد خفية
وعمرو بن هند يعتدي ويجور
وتلك خلاصة المطب ونتيجة الوقوع في لعبة الطقوس, إنه حلم الأحرار من شعراء الكلمة والإحساس, لكن شبح التيه والخروج بغير رجعة في صحراء منعدمة الظل بات يهدد مثل هذا النزوع إلى الانعتاق والرفض, أو بالغربة الداخلية, فراحت من هناك تقلم أظافر الغضب, وتقص الأجنحة, ويروض التمرد وتحسر نظرة الشوق الى المغامرة, فكان من نتاج هذا الأمر الواقع تفجر رغبة السفر داخل ضباب الحلم فتحولت نظرة الشعراء شطر مضارب الحي تستنطق مواطن الذكرى وكأني بهم ينشرون آخر ما في توهجهم من تعاويذ طقوسي على ما كان بالإمكان أن يعلو صرحا أو معبدا يراق على جنباته الحب والحرية; وما وقوف الشعراء على أطلال الحي الدارسة; إلا من شجون الكلام المبحوح والموثوق بحبال النعرة القبلية, وقد يكون مثل هذا الوقوف الاجباري داخليا والاختياري خارجيا من قبل الشاعر عملة ذات وجهين أحد وجوهها التعبير عن الولاء اللامشروط لشعائر القبيلة مجسما في التعلق بمن سكن الديار لا بما تبقى في عرصاتها أو هو الانعتاق, ولو الضمني, للشعرية حتى تخلق من الذكرى فيضا لوهج مكبوت يتحسس السامع في تباريحه ما يعبر عن الذات الفرد أو الذات الكل, لأنه كما يقول أحد الشعراء:
ولم أفهم معانيهــا ولكن
شــجت كبدي فلم أجهـــل شجاها
وفي هذه الحال قد يفوز المنهزم بغنيمة الاياب أو ينجو برأس طمرة ولجام على حد قول حسان بن ثابت حين يحتدم الصراع بين الولاء المشروط واللامشروط, وقد لا نجانب الصواب إذا استنتجنا أن تمسك بعض الشعراء أو جلهم بالمطلع الطللي ما هو إلا تعبير عن الولاء اللامشروط لقيم القبيلة وما خلو قصائد الصعاليك من هذه التعويذة أو الترنيمة الجنائزية إلا فيه ما فيه من الرفض الصارخ لكل قيم القبيلة وتصبح في هذه الحال المقدمة الطللية جزءا لا يتجزأ من العرف الشعري الذي سيعرف بعمود الشعر كما يحدده النقد فيما بعد, فالولاء إذا يشمل كل شيء حتى استنشاق الأحاسيس من الديار المقفرات, وهذا ما جعل الشعر العربي يتفرد بهذه الظاهرة ويظل مسكونا بها موكولا بتقليدها وكأن التطبع فيها غلب الطبع وأصبح القارئ يجد فيها لوطة بالقلب وتعلقا بالنفس لهذا نجد ناقدا كابن قتيبة أو كالحاتمي تلفت انتباهه ظاهرة الأطلال ولا يجد لها مخرجا سوى التعليق عليها بقوله: ».. بالمنظوم سبقت العرب الى وصف الطلول والآثار والبكاء على معالم الديار وتأبين ما تعفى من مراسمها بالرياح والأمطار, ووصف ما محته الأيام من محاسن صورها وطوته بالبلى من أردية مغانيها وأحالته من أعيان معانيها وما أخلقته العهاد من جديد معاهدها وأبقته الأنواء من أواريها وأوتادها, ولعبت به الحوادث من ملاعبها وأبدعه من وصف بال من آياتها بالبهجة والنظرة والتضوع بنسيم الأحبة وإستضحاك رسومها بعد خلوها من ساكنها« (8) فهذا ما تبقى كحد أقصى من الروح الشعرية المتمردة التي رضيت عموما بسيطرة الطرف المضاد.
قبالة هذا الزخم التفاعلي تهلهل خباء الشعر الواسع الأطراف وبقي عموده الأيد الذي أحيط بقداسة العباد بل زاد حد تقديسه الى درجة وقوفه كحد فاصل بين الاتباع والولاء, أو التمرد والانزواء وتحول إلى عقبة كؤود في وجه محاولات العودة الى تلك التوترات المهزومة, أو محاولة أي صيغة جديدة للوثوب بالشعر نحو الأعلى او الأسفل ومنذ تحول هذه المحاولات الى شكل حركة تطمح إلى التجديد وتبرز في شكل هزة جمالية محتشمة تهدد ركن الاتباع الركين كشفت الحرب عن وجهها الحقيقي وأميط اللثام العدائي تجاه الجديد حتى ولو كان جيدا فحوصرت أقلية المتمردين على عمود الشعر وأصبح يشار اليهم بشارات لا تمت لحقيقة الفن بصلة, لكن دواعي الحرب كما تقتضي أو تحتم تبيح استخدام كل الأسلحة من كلا الطرفين ومن هناك اتضح ميدان المعركة, واشتعلت النار القبيلة من جديد, وما دام الحق كما يراه السلفيون الى جانبهم فإنهم أصبحوا لا يرون فصلا للمعركة إلا بإبادة الطرف المتمرد واستئصاله من جذوره وبهذا حملت معركة القديم والجديد في شعرنا العربي منذ أوليتها إلى يومنا هذا هاجس حب التدمير للطرف المضاد أو المتمرد عن القيم العرفية ولم تقبل أبدا محاولة لايجاد صيغة للتفاوض والتقارب أو وسيلة للتعايش والتزامن في جو سلمي مفعم بتبادل التجارب والمعاناة.
فإذا كان هذا ما يمكن أن تنعت به مسيرة الشعر في جدليتها فإننا يمكن إضفاء قالبها على جميع أشكال التعبير الأخرى أو على جميع معترك الحياة العربية بمختلف أنماطها السياسية والاجتماعية والثقافية. ولما كانت ولا تزال الغلبة من نصيب الاتباعية السلفوية فان جميع محاولات التجديد في مختلف الميادين على طول وعرض المساحة العربية ظلت, وما تزال, ترى كحركات تمردية أو صعلكة هامشية مآلها التدمير أو الذوبان أو الخنوع أو الغربة وراء قضبان القيود والسدود.
ولا يسعنا هنا إلا أن نبرز إلى أي مدى بلغت مثل هذه اللعبة الخطيرة ومدى فاعلية سيطرتها بقوة الحديد والعناد حتى مكنت لنفسها من القلوب وراحت تهيل اسقاطاتها العرفية على كل ما تحيط به حتى مكنت لنفسها من توسيع القاعدة واحتواء جل المبدعين في فلكها إلى ان بلغ بها الحد أن تجعل من أكثريتهم بيادق وكلت لهم مهمة الدفاع عن قداسة عرفية مشروعة بحكم الولاء اللامشروط فتحول الشعر إلى بضاعة مزجاة مما جعل أحد الشعراء يرد على أحد عملاء النقد حين سأله قائلا:
»لماذا لا تطيل الشعر? فرد عليه لست أبيعه مذارعة« (9)
فنسي هؤلاء أو تناسوا أن الشعر على قدر البقاع وأن المكثار فيه كحاطب الليل تستهويه غابته المظلمة, فلا يعود منها سوى بهاجس الفزع.
لكن جهود المبدعين الحقيقيين لم تجد نفسها داخل هذه الغابة الموكل الى حطابها أن يحطب في حبل العشيرة أو الملك حتى ولو كان جائرا, وتحت وطأة هذه النظرة السلفوية راحت تبدد طاقات المد الابداعي الأصيل تارة في لجة الأمداح المجانية ومرة في متاهات المعارك الهاشمية التي هي من صنيع مخرجي مسرحية القديم والجديد; وما تأوه شاعر كجرير على ما فات منه من شعر صاف الا شهادة ضمنية على ما استشعره من ضغط فوقي رمى به في أتون معارك جوفاء أبعدته عن جادة الشعر الخالص فهو يقول متأسفا: »لولا ما شغلني من هذه الكلاب- يقصد كلاب الشعر الأخطل والفرزدق والبعيث وما كان بينهم من تكادم- لشببت تشبيبا تحن العجوز منه إلى شبابها« (01) ولعله بهذا التصريح يكشف لنا عن جزء صغير من دائرة اللعبة الخبيثة التي كانت سببا في إثارة فتنة شعرية تمثلت في النقائض وسخر لها عملاء الشعر ممن لا يربط بينهم لا دين ولا قيم ولا مبادئ سوى شهوة التهريج والقبول بدور الصنيع حتى ترضى عليه وارثة عرش القبيلة ويفرش لها طبق الولاء بورود من السباب والشتم مخلفا وراءه الرغبات الصادقة في أتون من الفتنة الهاشمية حتى يجد نفسه إما تابعا أو خانعا أو غائبا عن دائرة النور; فمن تصريح جرير المشوب بالحسرة والمرارة ندرك مدى إحساسه بالذنب وهو يتخلى عن مهمة نبيلة خلق من أجلها ويتحول إلى أحد بيادق المسرحية الجيدة الحبك.
وإذا نحن تتبعنا مسيرة النقد المواكبة لمثل هذا الشعر فإننا لا نألو جهدا من العثور عما يدعم اعتراف جرير الذي أجمع النقد في حقه على تفوقه على خصومه« وقالوا: ؛كان له في الشعر ضروب لا يعرفها الفرزدق- لا تنفتح شاعريته لها- وماتت امرأة الفرزدق نوار فناح عليها بشعر جرير.
لولا الحياء لهاجني استعبار
ولزرت قبرك والحبيب يزار(11)
وذلك لم لشعر جرير من لوطة بالقلب اعترف له بها خصومه حسب رواية الاصمعي التي تقول ؛إن الفرزدق والأخطل اجتمعا فقال الأخطل للفرزدق: أنا والله وأنت; أشعر من جرير; غير انه رزق من سيرورة شعره ما لم نرزقه; لقد قلت بيتا لا أحسب أحدا قال أهجى منه وهو:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم
قالوا لأمهم بولي على النار
فحسب رأي النقاد فإنه جمع فيه أفانين الهجاء ما لم تجتمع في غيره; من نسبه الى البخل بإطفاء النار لئلا يهتدي بها الأضياف ثم بالبخل بإيقادها للسارين; لئلا يهتدوا بها ثم بالظن بحطبها, ثم أخبر عن قلتها ونزرتها ووصفها بأن بولة تطفئها, ثم خص بول العجوز وهو أقل من بول الشابة ووصفهم بابتذال أمهاتهم في أثناء ذلك عنهم بالبخل بالماء. فلم يبق فن من فنون الهجاء السخيف إلا وقد اشتمل عليه هذا البيت… إلا أن الأخطل أدرك سرا آخر بحدسه الشاعري فيعترف به قائلا: وقال جرير
والتغلبي إذا تنحنح للقرى
حك استه وتمثل الأمثالا
فلم تبق سقاءة, ولا أمة إلا روته. قال الأصمعي: فحكما له بسيرورة الشعر(12).
فبهذا الحكم يضعنا الأصمعي أمام خاصية من خصوصيات الشعر على درجة عالية من الأهمية, ومن العجيب الغريب أنه وأمثاله ظلوا يقاومون مثل هذه السيرورة التي تتمثل في روح الفن الصميمية والتواقة للتعبير عما يعجن بالداخل لا عما يفرغ فيها وينتظر منها تمثله, وفي معرض حديث الأخطل ما يدل على مدى نفاذ شعر جرير في الأوساط المدمرة التي في حقيقة الشعر نجده خلق من أجلها لا من أجل عبدالملك بن مروان الذي كان يرى خراج خرسان مثلا لا يفي بمتطلبات مطبخه… أو أن ينصب نفسه حكما للشعر. فيقمع كما فعل في العديد من المرات مع جرير والفرزدق والأخطل وذي الرمة وغيرهم من »المتكادمين« أو كأن يأمر ابنه هشام بن عبدالملك بجلد الشاعر المجيد عبدالله بن عمر العبلي لأن مواقفه السياسية معارضة لأهواء بني أمية(13) أو ما ذنب شاعر مسن كأرطأة بن سهية المري وقد أتت عليه عشرون ومائة سنة حين سأله عبدالملك بن مروان قائلا:
؛ما بقي من شعرك يا ابن سهية? فقال والله ما أشرب ولا أطرب ولا أغضب ولا يجيء الشعر إلا على مثل هذه الحال وان على ذلك للذي أقول:
رأيت المرء تأكله الليالي
كأكل الأرض ساقطة الحديد
وما تبغي المنية حين تأتي
على نفس ابن آدم من مزيد
وأعلم أنها ستكر حتى
توفي نذرها »بأبي الوليد«
وكان الشاعر أرطأة يكنى أبا الوليد فارتاع عبدالملك وكان أيضا يكنى بأبي الوليد واشتد عليه وتغير وجهه وظن أنه يعنيه(14) ولم يصله بشيء لأنه يريد أن يسلب منه حتى كنيته وهذا منتهى الأنانية والجبن عند هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على عمود الشعر والتحكم في القيم ولقمة عيش الشعراء.
وكما هو طبيعي فان لكل حرم خدمه; ولكل جبار زبانيته وزبانية السلفوية تمثلت في رجالات نصبوا أنفسهم حراسا على ميراث الشعر استوحوا جيده مما يلقى هوى في نفوس أولياء نعمتهم فيصبح في رأي الأصمعي مثلا كل من الكميت الشاعر الشيعي وابن قيس الرقيات لا يحتج بشعرهما لأنهما غير فصيحين ويصبح ما يقوم به الطرماح شاعر وفارس الخوارج الذي كما يشير إليه أبوعمرو بن العلاء أن رآه بسواد الكوفة وهو يكتب ألفاظ النبيط ويتعلمها ليدخلها في شعره (….) وفي رواية أخرى سأله ما تصنع بهذه الألفاظ? فأجابه: أعربها وأدخلها في شعري« (15)
فاعتبر ذلك منافيا لعمود الشعر, ونسي أن التطعيم من سنة حياة اللغة. وما رد الطرماح والكميت على من سألهما متعجبا من صحبتيهما وأحدهما خارجي النزعة والآخر شيعي الهوى فردا عليه: جمع بيننا بغض بني أمية فاستراح الذي انبهر!
ولو أراد الدارس الانسياق وراء ابراز شهادات الولاء المشروط واللامشروط لما وسعه المجال; لكن كيف تخفي على الدارس سوء نية المترصد لكل ما هو جديد لا يدين بالولاء للدولة ولا للعرف القبلي? وقد كان ابن الأعرابي حليف الأصمعي خير من يمثل سلالة النقاد الملتزمين بعمود الشعر فلما أنشده رجل شعرا لأبي نواس أحسن فيه, سكت. فقال له الرجل: أما هذا من أحسن الشعر? قال: ؛بلى ولكن القديم أحب إلي(16) وهكذا بنزوة قبلية يرفض اضافات معتبرة لميراث الشعر غير مكترث بجهود أعصر من التجريب والمعاناة.
وقد استطاع هؤلاء النقاد من أعداء الجديد أن يمكنوا لانفسهم في أرضية النقد والشعر ويضمنوا لمستقبلهم حتمية الاستمرار والمحافظة متمثلة في انجاب خير خلف لخير سلف تجسم في كل من الصولي والآمدي وابن طباطبا والعسكري والحاتمي ومن على شاكلتهم, وقد ساعد عملاء النقد الملتزمين هؤلاء على تنكيس رايات التجديد والتمرد عدة عوامل كانت بمثابة الحافز الأساسي لتكريس الاتباع دون الاتباع وتأتي على رأس هذه العوامل أداة التعبير وان شئت رصاصات الشعراء المتمثلة في اللغة العربية التي تمايزت بدورها على بقية لغات العالم لما لحقها هي الأخرى من العنف القبلي والرباط العصبوي اللامشروط تجاه قيم القبيلة, وقد تمكن بعض النقاد القدماء, أو من عرفوا بدقة استيعابهم للخصوصيات الدقيقة, لما لهذه اللغة من التداخل والمعاضلة والتلاحم القبلي الذي لا يسمح بالانعتاق ولا يقبل التمرد, وقد أدرك أحمد بن أبي طاهر مثل هذا التلبس الملفوف بمسوح الثراء المقتضب: فقال: ؛كلام العرب ملتبس بعضه ببعض وآخذ أواخره من أوائله, والمبتدع منه والمخترع قليل; إذا تصفحته وامتحنته والمحترس المتحفظ المطبوع بلاغة وشعرا من المتقدمين والمتأخرين لا يسلم أن يكون كلامه آخذا من كلام غيره وإن اجتهد في الاحتراس; وتخلل طريق الكلام وباعد في المعنى وأقرب في اللفظ, وأفلت من شباك التداخل, فكيف يكون ذلك مع المتكلف المتصنع والمعتمد القاصد.. وقد راينا الأعرابي أعرم لا يقرأ ولا يكتب ولا يروي ولا يحفظ, ولا يتمثل ولا يحذو, ولا يكاد يخرج كلامه عن كلام من قبله, ولا يسلك الى طريقة قد ذللت له.ومن ظن أن كلامه لا يلتبس بكلام غيره » فقد كذب ظنه وفضحه امتحانه«.(17)
ربما لو تصفحت كل كتب اللغة; وكل آراء النقاد على أن تظفر برأي كهذا لعز الأمر; ولو كان من نصب نفسه وصيا على عمود الشعر يدرك مثل هذه الخصوصيات للغة العربية لما أثار قضية القديم والجديد ولا قضية التوليد أو السرقات الأدبية?
ولوجدت النقد العربي قد سلك في تعبيره وتقويمه للابداع الشعري سبلا أخرى غير تلك السبل التي ضاعت هباء في متابعات مجانية لا طائل من ورائها, فمن منطلق مجال اللغة الضيق فتحت على المحدثين من الشعراء جبهة أخرى لتساهم في تباعد الجهود الابداعية وتفسح مجالات أخرى للتلاقي الحتمي والتصادم المنتظر. لأن في تشابك الكلام والمعاني مبعثا لاثارة الحزازات ويصبح حق السبق وأفضلية القديم على الجديد حقا مشروعا حتى ولو تفوق اللاحق على السابق لذا نجد حراس القديم يحملون ذوق العرب استنتاجات غربية كاستخفاف الذوق العربي القبلي بمن ينتحل الشعر او الاستعارة منه أو سرقته وهذا نتيجة لما تحمله النظرة السلفوية لكل جديد من عداء تمثل في الحرص المتزايد على رد الفروع الى الاصول حتى ولو كان التابع افضل من السابق ؛ومما يدل على ابطال قول من قال إن الانتزاع للمعاني, والاستعارة للألفاظ شيء مباح أن أعشى بني قيس بن ثعلبة اتهمه النعمان بن المنذر بانتحال الشعر حتى حبسه في بيته وامتحنه…. وذلك لما اكتشف انه اعتمد في احدى قصائده التي مطلعها:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا
وشطت على ذي هوى أن تزارا
على خاله أبي الفضة المسيب بن علي الضبعي(81)
وقد اشار الأعشى بدوره في معرض قصيدته الى هذه الحادثة مذكرا ومستنكرا:
وقيدني الشعر في بيته
كما قيد الآسرات الحمارا
فكيف أنا وانتحال القوافي
بعيب المشيب كفى ذاك عارا
ومن وراء هذه الحادثة يرمي حراس القديم الى التحذير والانذار لكل من تراوده نفسه في سلب ما ليس له.
فقد شملت هذه النظرة النقدية القبلية المتشددة حتى منتحلي صناعة نقد الشعر. فقد عرفت ساحتهم بدورها تقسيما واضحا وهذا بالرغم من الولاء اللامشروط الذي أظهره أغلبية نقاد الشعر العربي لاسلافهم القدامى إلا أنهم لما استشعروا أن كل فضيلة تتمثل في السبق حتى في ابداء الآراء فانهم أحجموا على السير في ظلام الليل ووجدوا أن أسلافهم قد احيطوا بهالة من التبجيل والتقديس تدل عليها مثل هذه الحادثة العارضة لاحد المتسائلين عن الفرق بين الجناس والطباق فرد عليه أحد السلفويين ؛أن هذا يا بني هو التجنيس وقد زعم آخر انه طباق فقد ادعى خلافا على الخليل والأصمعي فقيل له: أفكانا يعرفان هذا? فقال: سبحان الله وعلى غيرهما في علم الشعر وتمييز خبيثه من طيبه?(19) من مؤخرة الكلام هذه تتجلى أسباب بوادر التمرد من قبل النقاد الذين كانوا من الممكن أن يحولوا زمام النقد الى تطلعات أخرى لكن تمردهم الملفوف بالحياء والاحتشام جعلهم يكتفون بالوحي دون الاشارة مرة, ومرات لا يجدون من الحرج في اماطة اللثام عما يفصح شخصية كالأصمعي ادعى دائما انه خبير بحرفة الشعر وعارف بتشعباته ومقوم لأولاده ومنصب نفسه وصيا وناصحا عما يمكن استحسانه او استهجانه حتى أثار بغروره هذا حفيظة الشعراء والنقاد وما قول الشاعر اليزيدي الموجه للاصمعي الا دليل على التلميح الساخط لما أشرنا اليه إذ ينعته بقوله:
وما أنت هل أنت إلا امرؤ
إذا صح أصلك من باهله
وللباهلي على خبزه
كتاب: »لآكله الآكلة« (20)
فهذا الهجاء الملفوف بسخرية البخل هو دليل على ما يجنه الشعراء للنقاد المتزمتين أمثال الأصمعي.
أما الناقد أبوهلال العسكري صاحب ؛الصناعتين« و؛الفروق في اللغة« فانه لا يتورع عن فضح أحكام الأصمعي وادانتها والتشكيك في قدراته اللغوية والنقدية فيأخذ عليه مثلا اختياره السقيم لقصيدة للمرقش الأكبر مطلعها:
هل بالديار ان تجيب صمم
لو أن حيا ناطقا كلم
فيعلق قائلا: »ولا أعرف على أي وجه صرف اختياره اليها; ما هي بمستقيمة الوزن ولا مؤنقة الروي ولا سلسة اللفظ ولا جيدة السبك ولا متلائمة النسيج« (21) فاختيار الأصمعي لهذه القصيدة لا يحتاج الى جهد لمعرفة السبب لأنه معروف وهو القدم. ولا يقف العسكري عند هذا الحد بالرغم من سيره في نهج المحافظة والولاء اللامشروط للقديم المبجل إلا أنه لا يسمح لأحد كالأصمعي او ابن الاعرابي او غيرهما في تنصيب نفسه قاضيا على مملكة الشعراء مستغلا تقربه من ذوي الجاه والحطب في حبلهم كذريعة للتصدي لمحاولات التجديد. فكما رد عليه اختياره السيئ لقصيدة المرقش يرد عليه شعر ذي الرمة المسكون برائحة الروث وبعر الآرام فينعت شعر ذي الرمة بأنه فج لا يستحق الذكر غليظ ووخيم« (22) ولا يفلت من حملة العسكري الممنهجة حتى المفضل الضبي الذي حسبما يبدو من بعض اعترافاته أنه كان يعرف قدر نفسه ولم يجشمها ما جشمها الأصمعي وأبوعبيدة مثلا من ركوب حتى بحر القريض فقد سئل المفضل مرة: »لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به? قال: علمي به يمنعني من قوله« لكن العسكري لا يجعله يمر بسلام دون التشهير بنزواته المشغوفة باختيار الغريب من الشعر واستحسانه. وتبلغ درجة الحس النقدي ومعرفة أسرار اللغة مدارها عند العسكري حين يرد على كل النقاد القدامى الذين أجمعوا على وضع بيت الحطيئة المشهور موضعا يعد من هنات الشاعر وسقطاته غير المغفورة له لأنه حسب استنتاجاتهم رصف مترادفين متتاليين فعد أحدهما فضل في قوله:
ألا حبذا هند وأرض بها هند
وهند أتى من دونها النأي والبعد(23)
وقد كان حكم القدامى على هذا البيت نابعا من مفهوم لغوي لأن الشيء يعطف على الشيء كما هي الحال في ؛النأي« و؛البعد« إذا كان في أحدهما خلاف للآخر, فأما اذا أريد بالثاني ما اريد بالاول فهذا خطأ في العربية وقد تصور الأصمعي وأبوعبيدة, وعمرو بن العلاء وغيرهم ان النأي والبعد شيء واحد لكن العسكري يرد على الجميع موضحا ؛أن النأي يكون لما ذهب عنك الى حيث بلغ, وأدنى ذلك يقال له نأي.. والبعد تحقيق النزوح والذهاب الى الموضع السحيق والتقدير أتى من دونها النأي الذي يكون أول البعد والبعد الذي يكاد يبلغ الغاية, والذي قال ها هنا في العطف يدل على أن جميع ما جاء في القرآن وعن العرب من لفظين جاريين مجرى من ذكرنا من العقل واللب والمعرفة والعلم, والكسب والجرح والعمل والفعل, معطوفا أحدهما على الآخر فإنما جاز هذا فيهما لما بينهما من الفرق في المعنى ولولا ذلك لم يجز.. ؛وأبو هلال يصر على« أنه لا يجوز أن يكون اللفظان يدلان على معنى واحد لأن في ذلك تكثير اللغة مما لا فائدة فيه… كما ظن كثير من النحويين واللغويين, وإنما سمعوا العرب تتكلم بذلك على طباعها وما في نفوسها من معانيها المختلفة وعلى ما جرت به عاداتها وتعارفها ولم يعرف السامعون تلك العلل والفروق فظنوا ما ظنوه من ذلك وتأولوا على العرب ما لا يجوز في الحكم….. « (24) وربما مثل هذا الحافز هو الذي دفع به إلى تأليف كتابه المشهور ؛الفروق في اللغة« ليضع حدا لمثل هذه الأخطاء التي جنت على مسيرة الابداع شكلا ومضمونا.
ولم يعد النقد مع العسكري ورفاقه مجرد انطباع تأثري دون إبراز للقيم الجمالية التي هي أساس مبعث الإثارة والتفضيل أو التهجين بل تحول الوعي بمسؤولية النقد عند الحاتمي مثلا إلى تجاوز المتعارف عليه بإضافته النقدية الموفقة التي تكمل حس العسكري النقدي وها هو يقف وقفة قصيرة مع مرثية أوس بن حجر ليبرز مواطن الاثارة فيها عند المتلقي. وقد تميزت هذه المرثية بأن كشفت معنى القصيدة منذ افتتاحها الذي يقول:
أيتها النفس اجملي جزعا
ان الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمع الشجاعة والنجدة
والحــزم والنــدى جمعا
الألمعي الذي يظن بك الظن
كأن قـــد رأى وقد سمعا
فالعرب تقول »الحذر أشد من الوقيعة« وإنما حذر الشيء المخوف أن يكون صاحبه مرتاعا حذر وقوعه, فإذا وقع اليأس ارتفع ذلك الحذر ولا يعرف أحد كما يقول الحاتمي ابتدأ مرثية وتبعها بأحسن من هذا الابتداء, لانه افتتح المرثية بلفظ نطق به على المذهب الذي ذهب اليه منها في القصيدة. فأشعرك بمراده في أول بيت وهذا نهاية وصف الشعر«.(25)
فالمقياس النقدي هنا لم يعد مقياس سبق شرف منزلة, او كما يقول عمرو بن العلاء مثلا: ؛أبوحية النميري أشعر في عظم الشعر من الراعي لكنه يتراجع وينقض رأيه وبفضل الراعي لأنه على حد قوله: أكبرهما قدرا وأقدمهما« فمثل هذا الحكم نابع من صميم عرف القبيلة التي تنسجم أطرافها على أسس خلقية وعرفية للاعمار فيها دخل كبير, خاصة الاحتلال لمرتبة المشيخة: لكننا نجد مثل هذا التمايز الذي بنى على أساسه عمرو بن العلاء حكمه لصالح الراعي النميري لا يعود صالحا اذا تعلق الأمر بمن هو اسمه منه… لأنه الراعي نفسه صاحب المنزلة الرفيعة والوجاهة تهان شخصيته من طرف عبدالملك بن مروان حين يرفع اليه شكواه المشهورة من جور السعاة والتي مطلعها:
ما بال دفك بالفراش مذيلا
أقذى بعينك أم أردت رحيلا?
فلم يطرب عبدالملك لادانة الراعي للسعاة ورأى في لفتة الشاعر خطرا يهدد عرشه فعوض ان ينصفه امر بتعذيبه واهانته ولا ادري كيف يا ترى يكون حكم عمرو بن العلاء فيه لوصدقنا القول وهو على علم بما حدث للراعي الذي كشف جزئيا من لعبة الاحتطاب في حبل العشيرة اللامشروط.
فمن وسط هذا التشاجر النقدي والتصادم العرفي برز على أرضية النقد عامل آخر تمثل في تدخل الشعراء مباشرة في اصدار الأحكام النقدية فيما بينهم وذلك قصد تنفيس الخناق والتقليص من وثبات النقاد المحافظين وبعث الأمل في حركة التجديد حتى لا يقضى عليها في مهدها, وقد لا نعجب من حكم الأخطل لصالح جرير كما سلف ذكره أو لحكم البحتري نفسه لصالح أبي تمام رغم نيران الخصومة التي أشعلها بينهما أنصار القديم والجديد والتي تنكشف لعبتها واضحة وأنت تدقق النظر في آراء الآمدي في كتابه (الموازنة بين الطائيين), فالبحتري حين حذا حذو أبي تمام في إحدى مدائحه عيب عليه فقال: ؛أأعاب على اخذي من أبي تمام? والله ما قلت شعرا قط إلا بعد أن أخطرت شعره بفكري« فاعتراف بهذا الحجم من شاعر يمثل تيار الاتباع لصالح عدو يمثل أحد رؤوس المتمردين على عمود الشعر له ما له من الدلالات القوية, ولم تعرف هذه الظاهرة عند المحدثين فحسب بل سبق وأن شب عليها الشعر العربي منذ اولياته لكنها في مراحلها الأولى كانت استجابة طبيعية لخلو ميدان النقد الممنهج وعموما فقد كانت مثل هذه الأحكام غالبا ما تمتاز بالدقة والموضوعية ولم يفعل فيها هاجس القديم والجديد مفعوله الصارم فتمكنت من فسخ عقدة جبل الجليد المقدس, وكما لا يخفى علينا فانه نادرا ما يظفر شاعر بتزكية شاعر آخر وخاصة إذا جمع بينهما العصر والتعايش.
تكريس الاتباع
لقد وطدت أرضية نقد الشعر من كثرة ولوج مختلف الآراء فيها كما رأينا, وزادها كون هذا الجنس من التعبير من الأشكال التي تفتح صدرها لكل راغب ومغامر, وكما يقول الآمدي: ؛ثم إن العلم بالشعر قد خص بأن يدعيه كل أحد, وأن يتعاطاه من ليس من أهله« (26) ويضيف فيما معناه بأن على المغامرين في نقد الشعر أن يرأفوا به, لأن نقد الشعر ليس مجرد انطباعات يخرج بها المتذوق, بل هو حذق لحرفة ومهارة دقيقة في معرفة استخدام وسائلها, شأنها في ذلك شأن كل الحرف النبيلة التي لا يقدم عليها إلا ذوو الدربة والدراية, ومن العجب العجاب أن يستأنس كل امرئ إلى غيره حين تعوزه معرفة أي حرفة كانت. لكنه في مجال الشعر تجده عنيدا مستبدا برأيه غير مسلم لذوي الخبرة فيه بالرأي, وقد صدق العسكري بدوره الذي, وان كان مرددا لقول الآمدي, إلا انه يزيد بعض الاضافات قائلا: »والذي قصر بالشعر كثرته وتعاطي كل أحد له حتى العامة والسفلة فلحقه من النقص ما لحق العود والشطرنج حين تعاطاهما كل واحد«.(27)
وقد يفهم من معرض حديث العسكري أن لمثل بهرجة الشعر ومعايرته كوامن تنبثق عن جبلة وثقافة ليس من المفروض أن تتوافر في أي انسان مهما أوتي من العلم والذوق.
فالشعر كما نعلم يستقيم بكلام بديع ولفظ رفيع, تعجز الخواطر عن مباراته وتقصر الأفهام أحيانا عن إدراكه, إلا بعد معاناة ومراعاة لسره, لأنه وهج فياض يجيش من غير تعسف ولا تكلف ولا تعجرف في انسجام محكم الطبع والصفة يأتي أحيانا سهلا ويشحن مرات بالرمز المبهم الذي ليس من الضروري ان يسفر بحد القول بل يكتفي فيه بالايحاء والنحاس.
وكانت العرب تقول اعرف الشعر قبل قوله واستعن على عمله بأهله حتى يصبح المتمكن فيه يضع لسانه حيث يريد; لأن الشعر حسب مفهوم العسكري هو: ؛كلام منسوج, ولفظ منظوم وأحسنه ما تلاءم نسجه ولم يسخف وحسن لفظه ولم يهجن ولم يستعمل فيه الغليظ من الكلام فيكون جلفا بغيضا, ولا السوقي من الألفاظ فيكون مهلهلا دونا«.(28)
فاحضرت مثل هذه النزوة بعد الدواس الطويل على تقنين الشعر وان شئت تحنيطه أو تسييجه بما سمي بعمود الشعر او بالعرف المتعارف عليه ؛فكانت الطريقة المسلوكة في التشبيه والنهج القاصد في التمثيل عند القدماء والمحدثين فكتشبيه الجواد بالبحر والمطر, والشجاع بالأسد, والحسن بالشمس والقمر والعالي الرتبة بالنجم, والحليم الرزين بالجبل والحي بالبكر والفائت بالحلم ثم تشبيه اللئيم بالكلب والجبان بالصفرد والطائش بالفراش والذليل بالنقد والنعل والفقع والوتد, والقاسي بالحديد والصخر, والبليد بالجماد, وشهر قوم بخصال محمودة فصاروا فيها أعلاما فجروا مجرى ما قدمناه: كالسموأل في الوفاء وحاتم في السخاء, والأحنف في الحلم وسحبان في البلاغة وقس في الخطابة ولقمان في الحكمة, وشهر آخرون بأضداد هذه الخصال فشبه بهم في حال الذم كباقل في العي وهبنقه في الحمق… الخ« (29) وبهذا الايجاز يضع العسكري الخطوط العريضة لعمود الشعر الذي يزيده الحاتمي في حليته توضيحا أكثر« (30), ومن هذا المنطلق تحول عمود الشعر الى فرض قائم بذاته واصبح شرط اتباعه حتمية لا مرد لها, ومنه انبثقت حملة حراس القديم في وجه كل محاولة لتجاوزه كهذه اللفتة التي يشير اليها قدامة بن جعفر وهو يرد على قول أحد الشعراء: ؛إن من عيوب معاني الشعر مخالفة العرف والاتيان بما ليس في العادة والطبع مثل قول المرار:
وخال على خديك يبدو كأنه
سنا البدر في دعجاء باد دجونها
فالمتعارف والمعلوم أن الخيلان – ج خال- سود أو ما قاربها في ذلك اللون, والخدود الحسان إنما هي البيض وبذلك تنعت فأتى هذا الشاعر بقلب المعنى(31) فمن منظور قدامه المحافظ يعتبر هذا الشاعر من منتهكي عمود الشعر ومن مفسدي الذوق لانه خالف العرف بأن جعل لون الخال كلون سنا البدر وتجد الآمدي يؤازر قدامة ضمنيا حين يرى »أن الكلام أجناس إذا أتى منه شيء مع غير جنسه باينه ونافره وأظهر قبحه«.(32) بل أدهى وأخطر يحمل العرب ما لا علم لهم به حين يجعل مثل هذه النظرة المنقبضة تستهجن حتى الابداع قائلا: »وهذا مذهب من مذاهب العرب عام في أن يصفوا الشيء على ما هو, وعلى ما شوهد من غير اعتماد الإغراب ولا الإبداع« (33) وهكذا يتجاهل هو الآخر شحنة الأحاسيس والعواطف والتفاعل لدى المبدعين وهم يقدمون على استحضار لحظات الابداع الفني بعد تضافر عوامل الخلق في توليده ليظفروا بالشعر الذي فيه عروق الذهب على حد تعبير البحتري.
ومما زاد في تكريس ظاهرة القديم وتفضيله حملة الأدعياء على النقد الذين كان أغلبهم من اللغويين والنحاة, فكانت نظرتهم للشعر لا تنصب على روح الألفاظ بقدر ما تنصب على أجسادها وقد صدق العتابي حين قال: ؛الألفاظ أجساد والمعاني أرواح, وإنما تراها بعيون القلب« (34). وهؤلاء النحاة غالبا ما تنعدم فيهم عيون القلب. ولما صاغ بشار في احد أبياته مصدرا من فعل وجل على وزن فعلى: فقال الوجلى في قوله:
.. والآن أقصر عن سمية باطلي
وأشار بالوجلى علي مشير
وكذلك حين فعل مع غزل:
على الغزلى مني السلام فربما
لهوت بها في ظل مخضرة زهر
قال الأخفش: لم أسمع من الوجل والغزل »فعلى« وإنما قاسهما بشار وليس هذا مما يقاس إنما يعمل فيه بالسماع… وطعن عليه كذلك في قوله:
تلاعب نينان البحور وربما
رأيت نفوس القوم من جريها تجري
فقال الأخفش: لم أسمع بنون ونينان, فبلغ ذلك بشارا فقال: ويلي على القصار ابن القصارين متى كانت اللغة والفصاحة في بيوت القصارين? دعوني وإياه. فبلغ ذلك الأخفش فبكى, فقيل له: ما يبكيك? قال: وقعت في لسان الأعمى فذهب أصحابه الى بشار فكذبوا عنه, وسألوه ألا يهجوه, فقال: وهبته للؤم عرضه. قال: فكان الأخفش بعد ذلك يحتج في كتبه بشعره ليبلغه ذلك فكيف عنه« (53) وإذا كان الأخفش قد حظي بهذا الرعب من بشار فان سيبويه نفسه لم يسلم من متابعة بشار ودفاعه عن مملكة الشعراء كيلا تدنس برائحة النحاة, فهو يخاطبه بلهجة الشاعر الواثق من نفسه قائلا:
أسيبويه يا ابن الفارسية ما الذي
تحدثت عن شتمي وما كنت تنبذ
أظلت تغني سادرا بمساءتي
وأمك بالمصرين تعطي وتأخذ
لكن هناك جيشا من الشعراء من هم دون بشار في التصدي لهؤلاء النقاد المتصدين لهفوات الشعراء اللغوية فلم يتورعوا من نعتهم بأبشع الصفات وشتمهم كهذا شعر لا حلاوة فيه, أورده على شيطانه حتى لا يمتن به عليك, أو أن شيطان الشعرظل يعرض مثل هذا الشعر على الشعراء فلم يقبله أحد منهم غيرك, أو خبئ هذا الشعر كما تخبأ سوأتك, أو هذا شعر لا عليك ألا تستكثر منه, أو اذهب وتطهر من هذه الجنابة.. فمثل هذا الوابل من التعريض القصد التمهيدي باد عليه وليس معنى ذلك انه جاء حصيلة نتائج سلبية مضرة بمسيرة الشعر وبدافع الغيرة فجاءت كعامل لتطهيره وتحصينه, لأننا نجد أمثال هؤلاء النقاد في مواقف مغايرة يقرون بالجودة لمن هم ليسوا أهلا للشعر, وقد حدث هذا في العديد من المواقف المسجلة لهم, وكمثال على ذلك اقرارهم بالشاعرية لأبي قيس بن الأسلت على نصف بيت ؛وكانت العرب لا تعد أبا قيس شاعرا فلما قال: …. كل امرئ في شأنه ساع« فلما قال هذا المصراع عدته من الشعراء«.(36)
ولم تقف النظرة السلفوية عند هذا الحد من التصدي للشعراء المجددين, بل جعلت من نفسها وارثة لأمجاد الشعر القديم ومنزلة نفسها منزلة الخصم والحكم, ومحذرة من خطورة التجاوز الذي لا فائدة من ورائه; لأن كل ما سيقال قد قيل, وقد سقط في اللعبة الخطرة نقاد شعراء كان بإمكانهم المضي بمركبة الشعر قدما نحو شواطئ أخرى يباح فيها الإبحار والرسو دون تعسف بغير دليل, ولا خوف من الضلال. واقصد بذلك كلا من الآمدي وابن طباطبا, والعسكري وابن المعتز والحاتمي وكل من تجلت في ملاحظاتهم النقدية بذور الذوق السليم الذي كان نتاج دراية ودربة وثقافة واطلاع ومنهج, فكانوا مرشحين لاحتلال صدارة النقد ووضع حد فاصل ما بين التواصل والتجديد, إلا أنهم بحكم ولائهم اللامشروط للقديم ولصانعيه فانهم وقفوا موقفا لا يشرف مسؤوليتهم الحضارية, وقد باعد الغرور ببعضهم الى مناقضة آرائه أو أن يتحول أحدهم كابن المعتز الشاعر المبدع حليف مملكة الشعر, خصما عنيدا للتجديد مبرزا موقفه ذلك وهو بصدد تقديم أولى ثمراته النقدية في كتابه البديع, فيخاطب معصاريه المحاصرين من قبل السلفويين بلهجة المتعالي متناسيا او متجاهلا أنه أحد ضحايا أو قربان مذبح الصراع الدامي بين القديم والجديد, فاتحا بذلك طريق الاستمرار في الذبح عن الكل على حساب الفرد الذات, فيشير موضحا القصد من تأليفه لكتاب البديع الذي حسب نيته ليس القصد منه استجلاء الجديد والتنويه به وإنما كما يقول: ؛قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والاعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشارا أو مسلما أو أبا نواس ومن سلك سبيلهم لم يسبقوا الى هذا الفن ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم فأعرب عنه ودل عليه« (37) إنه بهذه الاشارات والتلميحات يضع نفسه في صف القديم, شأنه في ذلك شأن العسكري الذي كان له الفضل في تصحيح عدة مفاهيم نقدية كانت سائدة رغم عدم صلاحيتها وأخطائها الفادحة, كرده تفسير مصطلح المعاضلة على ابن قتيبة متهما إياه بعدم الفهم, ورده لمعنى الجناس في مفهوم الأصمعي وغير ذلك من التصحيحات الهامة: لكن بالرغم من كل هذا الوعي, والحس النقدي الفذ نجده ينقاد في لهجة لا مسؤولة ليناقض بعض آرائه, أو يساند بعض المفاهيم المكرسة للاتباع مقللا بذلك من قيمة آرائه النقدية ومواقفه الواعدة تجاه التجديد. إلا أنه في الباب التاسع من كتابه (الصناعتين) الذي خصه لشرح البديع حيث أوصله الى خمسة وثلاثين فصلا نجده يقول: ؛هذه أنواع البديع التي ادعى من لا روية له, ولا دراية عنده أن المحدثين ابتكروها, وان القدماء لم يعرفوها وذلك لما أراد أن يفحم أمر المحدثين«.(38) فمثل هذا التخريج الخطير له وزنه واعتباره في كفة النقد السلفوي الاتباعي الذي هو في حاجة الى من يحطب في حبله, وخاصة إذا كان بقامة ابن المعتز أو العسكري. لكن الأدهى من كل هذا أن العسكري صاحب الذوق السليم والمنهج العلمي الدقيق الموثق والمتمثل خصوصا في كتابيه الصناعتين والفروق في اللغة وحتى في كتاب المعاني, نجده في كتابه الأول مثلا ينساق مع رأي المحافظين في مشاطرتهم الرأي حول نقد بيت الحطيئة السالف الذكر (الصناعتين ص144) ليعود ليناقض نفسه, أو ليستدرك خطأه في كتابه الفروق كما سبقت الاشارة الى ذلك.
أما مواقفه من المتنبي على سبيل المثال فهي كلها مشحونة بالعداء الصارخ, وتجده إذا اقتضت الحال لذكره تراه يبخل عليه حتى بذكر اسمه فينعته دائما بقوله وقال بعض المتأخرين (الصناعتين ص399) والمرة الوحيدة التي من فيها عليه بذكر اسمه علانية كانت ليصب عليه جام غضبه حين يقول: ؛ولا اعرف أحدا كان يتتبع العيوب فيأتيها غير مكترث إلا المتنبي فانه ضمن شعره جميع عيوب الكلام ما أعدمه شيئا منها حتى تخطى الى هذا النوع فقال:
ويسعدني في غمرة بعد غمرة
سبوح له منها عليها شواهد
فأتى من الاستكراه بما لا يطار غرابه(39) وقد سبق وان قال فيه رأيا آخر مقرنا اياه أبي تمام.
فالمتنبي الذي يقول في حقه ابن رشيق ؛جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس, نجده عند العسكري لا يضاهى حتى الطبقة الثالثة من الشعراء من كل هذه الخلفية المشحونة بالجدلية التي تارة تكون مسكونة بهاجس, الاتباع, او عدم استقرار الرأي; أو حاجز المعاصرة والمعايشة نجد السلفويين يبعثون بورقة جديدة في خضم هذا المعترك تمثلت في شرط يعتبرونه واقيا لمن يحاول ركوب صناعة الشعر, ويتمثل هذا الشرط في الحث أو الالزام بشحن الذاكرة قبل تفجرها بوهج التعبير الشعري وذلك بحشوها برصيد ضخم من المحفوظ والمرويات حتى تسعف الشاعر في مسيرته الشعرية بزاد لغوي وجرس ايقاعي متجاهلين أن ما يعلق بالذاكرة من الصعب على الليالي ازالة نقشه او وشمه الماثل على ذاكرة الاحساس, وقد ساعد مثل هذا العامل على تكريس الاتباع ولو بشكل غير مباشر, ولا أعرف مثل هذه الفرضية كانت كشرط أساسي في آداب الأمم الاخرى, فهي وان كانت تحمل بعض الايجابيات إلا أن سلبياتها أثقل من حيث تكريس الاتباع كضرورة حتمية لا مشروطة.
وهذا ما دفع بأحد حراس القديم أن يقدم على تصنيف كتاب, أو بالأحرى جمع مختارات تحت عنوان »تهذيب الطبع« ليجعل منها لذوي المواهب والراغبين في تعاطي قول الشعر رياضا لترويض الطبع او يديم النظر في الاشعار التي قد اخترناها لتلصق معانيها بفهمه وترشح أصولها في قلبه وتصير مواد لطبعه ويذوب لسانه بألفاظها فإذا جاش فكره بالشعر أدى اليه نتائج ما استفاده مما نظر فيه من تلك الأشعار (….) فكانت تلك النتيجة كسبيكة مفرغة في جميع الأصناف التي تخرجها المعادن, وكما قد اغترف من واد مدته سيول جارية من شعاب مختلفة, وكطيب تركب من أخلاط من الطيب كثيرة فيستغرب عيانه ويغمض مستنبطه« وبهذه النصيحة يكون هذا الناقد الموجه قد ساعد على خلق قوالب جاهزة قابلة لاستيعاب المعاني الجاهزة والمحنطة في قاموس عمود الشعر, وتعود دائرة الابداع لتنغلق من جديد على نفسها وتتنفس من الداخل ولا تستنشق من خارج محيطها شيئا, وإذا كان هذا هو رأي ابن طباطبا فإن العسكري يشاطره في حبكة المسرحية فيقول: ؛ومن أفضل فضائل الشعر ان ألفاظ اللغة إنما يؤخذ جزلها وفحلها وغريبها من الشعر ومن لم يكن راوية لأشعار العرب تبين النقص في صناعته« (40) أما الآمدي فانه يعلن ذلك ضمنيا في تدخلاته المستمرة أثناء فصول كتابة الموازنة, كإصراره على أن جيد الشعر هو ذاك الذي يكون فيه الشاعر يحذو حذو الشعراء المحسنين, أو وقوفه الفاضح لجانب البحتري على حساب ابي تمام.
إلا أن هؤلاء النقاد يبدو أنهم قد أدركوا في قرارة أنفسهم مدى خطورة الاقدام على مثل هذه التجارب المتمثلة في نصائحهم للمبدعين لأن معطياتهم الموضوعية سوف تكون على حساب اطفاء شعلة الذات والتي تصبح بحكم تشبثها بأذيال المحفوظ عاجزة على تجاوز الحدود والقوالب الجاهزة, انها ستنوء بحمل الحصار وتصبح غير قادرة على العطاء من محصول المعاناة لذا تدارك واحد كابن طباطبا رأيه مضيفا فيما معناه بأنه يجب اطراح الرديء حتى عند القماء محذرا من روايته لأنه على حد تعبيره ؛يصدئ الفهم ويورث الغم« (….) وهو غث الألفاظ بارد المعاني, متكلف النسج قلق القوافي… وأكثرها يستحسن تقليدا على حسب شهرة الشاعر وتقدم زمانه«(41)… وبهذه الخطوة المحتشمة نحو ما اعتقد ابن طباطبا انه خطأ باضافات تجديدية, إلا أنه لو تدبر الدارس مليا في فحوى آراء هذا الناقد لوجده يسعى لتكريس الاتباع, وسواء كان يقصد الى ذلك او من قبيل تقاذف الرأي, فانها دعوة منه لالغاء الذاتية الفردانية لأننا نجده ينصح الشعراء مثلا إذا ما عمدوا إلى معاني سبقوا إليها توجب عليهم ابرازها في كسوة مغايرة تكون أليق وأحسن من ذي قبل. أما كيف يتم هذا فلا ندري? كما يطلب منهم أن يكونوا مهرة في عملية سرقة المعاني, ويوردها بهذه اللفظة بدون أي تحفز منه, وذلك حتى تخفى على ذوي المهارات النقدية, معرفة مصدرها وإذا أراد التجديد أكثر- وهنا يجب أن يكون بين قوسين فهم الجدة- يستحسن استعمال المعاني المسروقة في غير اغراضها التي سرقت منها, وهي احدى الدواهي الأخرى التي تلغي روح الشعرية الحقة, حيث يقول: ؛وإن وجدت المعاني او الصور الشعرية في وصف ناقة, أو فرس استعمله في وصف إنسان وإن وجدت في وصف إنسان استعمله في وصف بهيمة(42) وكأني بتخريجه هذا كمن لا يرى حرجا من أن يكشف طبيب بيطري على انسان بحكم أن الجهاز الهضمي واحد; وأن ما فيه من أحشاء لا فارق بينهما!! وزيادة على هذا فإن الاتباعيين أصروا على صيانة العرف الفني بحيث يجب ؛أن يستعمل من المجاز ما يقارب الحقيقة ولا يبعد عنها, وفي الاستعارات ما يليق بالمعاني التي يأتي بها«(43) وراحوا يحملون الإعراب أكثر من هذه المفاهيم وذلك قصد تضييق دائرة الظل على الشعراء, وجعلهم اشباحا لصور باهتة« وأنت لا تجد شاعرا مجيدا منهم, إلا وقد لزم شاعرا آخر المدة الطويلة وتعلم منه قوانين النظم واستفاد منه الدربة في انجاز التصاريف البلاغية, فقد كان كثير أخذ الشعر من جميل, وأخذه جميل عن هدبة بن خرشم, وأخذه هدبة عن بشر بن أبي حازم, وكان الحطيئة قد أخذ علم الشعر عن زهير, وأخذ زهير عن أوس بن حجر, وبهذه العنعنة التي تفرد بها الذوق العربي, تحول كل شيء في هذه الحياة, حتى الذوق إلى حتمية النشأة إلا أنها نشأة دون ارتقاء, لأن محك النقد يستهجن كل ما هو غير متعارف عليه وقد ظلت مثل هذه الأحكام النقدية الجائرة عبارة عن نتائج انفعالية لوقائع عابرة غير مخلفة وراءها من الغبار ما يغشي الأبصار, بل كانت عبارة عن تصادم ظرفي من جراء العنف الاتباعي المتحجر, لكن بمجرد تمكن الجديد من الساحة الذوقية, فان الصدام كشف عن نوايا الحقيقة, وسلك منعرجا خطيرا عرف بمعركة القديم والجديد التي كان هدفها الأساسي تدمير أحد الطرفين المتنازعين, فلم يعد مسلم بن الوليد ولا بشار بن برد ولا ابونواس مثلا يتحفظون من كونهم روادا للجديد.
بل اصبح كل منهم على وعي بمسؤوليته, فلما سئل مثلا بشار بن برد عن رأيه في أشعر بيت قالته العرب أجاب ؛إن تفضيل بيت واحد لشديد«(44) ولما كان أبوالعتاهية صادرا في أمر غير هيا ب على ما يقدم عليه, وغير آبه بما يقال عنه ؛كأنه شاعر من سوقة الناس وعامتهم, وكان طبعه وقريحته أكثر من أضعاف ما اكتسبه من دربه, واقتناه من عمله, إذ كان في شبيبته يألف أهل التوضع حتى عوتب في ذلك, وقيل إنه كان يحتمل زاملة المخنثين? فقيل له: مثلك يضع نفسه هذا الموضع? فقال أريد أن أتعلم كيادهم واتحفظ كلامهم, وذلك بين في شعره سيما في النسيب(45) فهدف أبوالعتاهية كما يلاحظ قد اتضح باقرار المستغرب له بحدوث أمره في نهاية هذا الكلام; إلا أن المعركة الحقيقية نجدها تكشف عن أبعادها مع أبي تمام وخصومه من المحافظين; فهذا الشاعر الذي من أجله اقتحم الآمدي مجال المبادرة لكي يدلي بكلمة حراس الاتباع الأخيرة, وينصب نفسه وصيا على مملكة الذوق والشعر مستدلا على كل ذلك بآراء خصوم التجديد جاعلا منهم شاهدا على طرد شاعرية أبي تمام من قاموس الشعراء, ملخصا ذلك في مقولة ابن الأعرابي المتعصب للقديم علانية:
هي ؛إن كان ما يقوله أبو تمام شعرا فكلام العرب باطل« إنه يراهن بديوان العرب كاملا قصد التصدي لمن يخالف العرف والمتتبع لكتاب الموازنة لا يخامره ريب في أن هذا الكتاب النقدي لا يتسم بالروح الموضوعية التي وعد بها المؤلف وهو يفتتح دراسته, لكنه يستجلي من عمق فكرته المحورية أنها محاكمة للتجديد, والوقوف منه موقف المعادي المتبرئ من ذمته, أما الأسلحة النقدية المستخدمة في هذا الكتاب فهي بضاعة مغرضة تجمعت فيها كل نفايات خصوم الاتباع ليقولوا كلمة موحدة قد تكون احد فروعها هذه الهنة التي تروى على الأصمعي ؛وذلك أن اسحاق بن ابراهيم الموصلي أنشد الأصمعي:
هل إلى نظرة إليك سبيل
فيروي الصدى ويشفي الغليل
ان ما قل منك يكثر عندي
وكثير ممن تحب القليل
فقال الأصمعي لمن تنشدني? فقال: لبعض الأعراب, فقال: هذا والله هو الديباج الخسرواني, قال: إنهما لليلتهما, فقال لا إن أثر الصنعة والتكلف بين عليهما(46) فلا ندري كيف نستشف من تخريج الأصمعي الأخير أدواته النقدية التي ألهمته أثر الصنعة والتكلف في هذين البيتين اللذين حكم لهما في البداية بالروعة والجودة?!.. فالآمدي, الذكي الذي عرف في العديد من المواقف كيف يغلب آراءه المغرضة ليحسم بها بعض المواقف لصالح القديم, نجده في تتبعه الدقيق لمساوئ أبي تمام, حسب مفهومه, يلفت انتباهنا الى مواطن التجديد الحقة في شعر أبي تمام, والتي كثيرا ما تجاهل صلبها آخرون, وظنوا أن الأمر هو اسراف من طرف أبي تمام في طلب الجناس والطباق والاستعارات واسرافه في التماس هذه الأبواب, وتوشية شعره بها حتى صار كثير مما أتى به من المعاني لا يعرف, ولا يعلم غرضه فيها إلا مع الكد وطول التأمل, ومنه ما لا يعرف معناه الا بالطن والحدس ولو كان أخذ عفو هذه الأشياء, ولم يوغل, ولم يجاذب الألفاظ والمعاني مجاذبة ويقتسرها مكارهة, وتناول ما يسمح به خاطره وهو بجمامه غير متعب ولا مكدود, وأورد من الاستعارات ماقرب وحسن ولم يفحش واقتصر على القول على ما كان محذوا حذو الشعراء المحسنين, لسلم من هذه الأشياء التي تهجن الشعر وتذهب ماءه ورونقه(47), وانه بذكره لهذه العيوب, التي يعتبرها مساسا بجودة الشعر الذي يفهمه, يقر ضمنيا بما يمكن اعتباره حجر الأساس في لوازم الحداثة والمعاصرة للقصيدة العمودية..(48) وخاصة لما نجده يكشف لنا ذلك من خلال تطبيقاته على شعر أبي تمام حين يأخذ عليه على سبيل المثال هذه الصور الفنية التي يقول فيها الشاعر واصفا أحد ممدوحيه بالحلم:
رقيق حواشي الحلم لو أن حلمه
يكفيه ماريت في انه برد
فبمثل هذه الصورة الفنية الرائعة المستحدثة خاطب الشاعر ممدوحه فكسر بها عمود الشعر بأن صدم الذوق المتعارف عليه وذلك بتشبيهه الحلم بالرقة كاسرا بذلك القرينة المنطقية المتعارف عليها مما جعل الآمدي يعلق قائلا: ؛هذا هو الذي أضحك الناس منذ سمعوه والى هذا الوقت, ولم يزد على هذا شيئا, والخطأ في هذا البيت ظاهر, لأني ما علمت أحدا من شعراء الجاهلية والاسلام وصف الحلم بالرقة! وإنما يوصف الحلم بالعظم والرجحان, والثقل والرزانة ونحو ذلك«(49) فذنب ابي تمام هنا كونه لم يسلك طريق السلفويين الذين أجمع ذوقهم الفني على مقارنة الحلم بالرزانة, فجاءت أحلام ممدوحيهم تزن الجبال رزانة, وقد شذ أبوتمام وعد من منتهكي حرم العرف الشعري المتعارف عليه المتوارث بالتواتر الروائي كابرا عن كابر. إن مثل هذا المقياس النقدي جدير به أن يطرح لانه بني على أسس غير سليمة, لا من حيث المبدأ الزمني والمكاني لدائرة الشعر, ولا من حيث الذوق المجرد الذي هو نسبي بالنسبة للمتلقي, فاذا كان الجمهور الجاهلي والاسلامي أو حتى الأموي ممن كان يستجيب بحكم التعاطف القبلي القوي والشديد المفعول لمثل هذه الاستعارات, فان مستجدات الحياة أبت إلا أن تكسر حتى الأعراف البلاغية فما بالك بالاعراف القبلية, وإلا كيف يمكن تصور استعارة باردة تظل تكرس القرينة الثابتة بين الحلم والرزانة ولا تسمح بتجاوزها? فمن اين سيتنفس الشعر? وكيف ستسحب اللاحق فضيلة الاضافة المولدة من صورة مكتملة منذ ولادتها الأولى. إنما يسعى اليه حراس الاتباع هو ابراز أفضلية القديم وجعل مزية السبق دائما من نصيب أصحابه; وإذا تطاول لاحق ببعض التصورات الجديدة اتهم في شخصه وشكك في مقوماته الفنية, أو اتهم بالسرقة والمحاكاة.
وقد حز في نفس ناقد كالآمدي انه يقوم بهذا الدور التمردي واحد كأبي تمام مشهود له بالاحاطة الشاملة بالمقومات العرفية للشعر القديم; فدائرة محفوظة في هذا المجال تنضح بها مختاراته في الحماسة; وزيادة على ذلك فهو القائل:
إذا عنيت بشيء خلت أني قد
أدركته أدركني حرفة الأدب
فواحد كالآمدي كان يدرك أبا تمام لا يجهل ما يلزم من تشبيه واستشعاره لظاهرة كالحلم, »ويعلم ان الشعراء اليه تقصد- أي وصفه بالرزانة- واياه تعتقد, ولعله قد أورد منه ولكنه يريد أن يبتدع فيقع في الخطأ« ومفهوم الابتداع في قاموس الآمدي كما لاحظنا سابقا هو ضلالة, وكل ضلالة حرام, وكل حرام موفوض بالشرع وبالعرف.
ودون أن يشعر نجد الآمدي يقر لأبي تمام بعدة مزايا في طريق التجديد, فهو هنا يعترف له بالابداع الواعي المقصود, كما يعترف له بقدراته الواعية بما يمكن اعتباره قديما.. ولكنه في تجاوزه الواضح عن قصد دلالة على رغبة في كسر القيم العرفية لمفهوم الشعر. أما كونه في محاولاته التجديدية وقع في الخطأ فهذا رأي يمكن ان يحتفظ به للآمدي وحده كذوق فردي, لا كذوق عام تحول في مجتمع حضاري كما هو شأن البيئة التي عاش فيها الشاعر, الى تقويم الذوق بمقاييس حضارية جديدة.
أما أن يفرض عليها ذوق مقياس مستمد من واقع مغاير كأن يجعل من شعر ذي الرمة, ورؤبة وامرئ القيس مقياسا مثاليا فهذا مردود على اصحابه بالاجماع أو بالقياس.
بمثل هذا التلقي المشحون بالروح القبلية اعتبرت مجموعة كبيرة من الصور الفنية لأبي تمام بدعة, وكذلك قصائد برمتها, وكمثال على ما نقول:
قصيدة لأبي تمام مدح فيها عبدالله بن طاهر مطلعها:
هن عوادي يوسف وصواحبه
فعزما فقدما أدرك الثأر طالبه
فلما نظر فيها أبوالعميثل- والذي يبدو أنه كان وكيل أعمال الوزير الذوقية- استرذل ابتداؤها وأسقط القصيدة كلها حتى صار إليه أبوتمام وأوقفه على موضع الاحسان منها فراجع عبدالله بن طاهر فأجازه(50) أما استعارته الفنية فكانت غالبا مصدر تهكم, لا لكونها رديئة ومستهجنة, بل لكونها تميزت بالعنف البلاغي, وتشددت في كسر القيم العرفية للذوق القبلي. فردت عليه صور فنية كهذه »وقد تفرعن في أفعاله الأجل« أو »ألقى عن مناكبه الدثار« أو »كاهل الوعد« أو »لك النجح محمولا على كاهلي الوعدي« أو »حطمت بالانجاز ظهر الموعد« أو »تناول الفوت أيدي الموت« والموت هنا بمعنى النجاة التي لا تنجو بدورها من الموت, ولقد علق الآمدي في معرض انتقاده بصفة اجمالية على مثل هذه الصور بأنها من عويصات أبي تمام.
ولايسع المتلقي هنا إلا أن يقول للآمدي وأمثاله من الأوصياء على الشعر:
جهلت, ولم تعلم بأنك جاهل
فمن لي بأن تدري بأنك لا تدري
لذا لم يكن في وسع الآمدي وغيره هضم »جثمت طيور الموت في أوكارها« أو »عزمه أبدا منه على سفر«وغيرها من الصور الفنية التي لم تحترم قانون التشبيه والاستعارة المتعارف عليه بل نجدها توغل في خضم استخدام القرائن اللاعقلانية او حتى الذهنية تاركة مساحة واسعة للمتلقي يستشف منها ما بدا له. لأن الصور الفنية في الشعر كما يقول حازم القرطاجني مثلا: وهو أوحد النقاد العرب القدامى في فهمه المغاير للبلاغة العربية بحكم تمكنه من علم المنطق وباعتباره الامتداد الأمين لآراء ابن رشد المستوحاة من أرسطو فانه يرى انها ؛أمور ذهنية محصولها صور تقع في الكلام بتنوع طرق التأليف في المعاني والألفاظ الدالة, عليها والتقاذف بها الى وجهات من الترتيب والاسناد, ذلك مثل أن تنسب الشيء الى الشيء على جهة وصفه به أو الاخبار عنه او تقديمه عليه في الصورة المصطلح على تسميتها فعلا أو نحو ذلك, فالاتباع والجر وما جرى مجراهما معان ليس لها خارج الذهن وجود لان الذي خارج الذهن هو ثبوت نسبة شيء الى شيء أو كون الشيء لا نسبة له إلى الشيء«(51) لأن ليس كل معاني الموجودات حاصلة في الأذهان, لكن بمجرد تلقيها بالادراك الحسي تتشكل بموجبها صورة في الذهن تطابق ما استشف بالتفاعل ؛فاذا عبر- الشاعر- عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة من الادراك أقام اللفظ المعبر به هيئة لتلك الصورة الذهنية في السامعين وأذهانهم فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ(52) وهكذا, يتحتم على الصورة الفنية أن تعبر مثل هذه المسافات حتى تصل الى المتلقي, ووصولها إليه لا يكون في هيئتها الأولى, بل تتعرض أثناء تحولها الى كثير من الاضافات والتقلصات مما يجعلها تبدو في لحظات ولادتها مجهولة أحيانا حتى من قبل مبدعها فما بالك وهي تمزج بأحاسيس المتلقي, وتضفي عليها من الاسقاطات الدلالية اللفظية والحرفية, أو الصوتية مع الترتيب بحسب حروف الصلات والرباطات وما ينتج عن كل ذلك من افراغات او تقاذفات, أو تفريعات مشحونة بمفاهيم مكتنزة تستيقظ لحظة تماسها بالرواسب الذهنية التي تؤهلها لتقمص أشكال مغايرة من التفاعل مع الذات الفرد الواثقة من كيانها والموجودة داخل الاطارين الزماني والمكاني ان مثل هذه الخصوصيات الذهنية المتشبعة من حيث وعورة مسالك استحضارها تعين موقف الشاعر الفني, وقد سجل شاعر الخوارج الكبير وفارسها الطرماح بن حكيم مثل هذا الموقف الفرداني الذاتي, بمحضر مخلد بن يزيد المهلبي حين طلب منه ومن الكميت شاعر الشيعة ان ينشداه شعرا قائمين: فامتثل الكميت, لكن الطرماح رفض وأجاب بحس فيه من كبرياء الذاتية المسؤولة عن فردانيتها قائلا: كلا والله ما قدر الشعر أن أقوم له فيحط مني بقيامي, واحط منه بضراعتي وهو عمود الفخر وبيت الذكر لمآثر العرب.. فبمثل هذا الموقف يمكن اقتحام ميدان القول, الشعر ويمثله تفرض على المتلقي صوره الفنية المسكونة بوهج الديمومة; لأن الذات الفرد هي منبعها الأول ومحط ارسائها الأخير; لذا نجد أبا حاتم الذي يقول: أتيت أبا عبيدة ومعي شعر عروة ابن الورد فقال لي: ما معك? قلت شعر عروة. فقال: فارغ حمل شعر فقير ليقرأه على فقير, ثم انشد شعر قطري بن الفجاءة وهو من وجهاء الخوارج وشعرائهم وقادتهم.
يا رب ظل عقاب قد وفيت به
مهري من الشمس والأبطال تجتلد
فقال: هذا والله هو الشعر لا ما تتعللون به من أشعار المخانيت, انه ذلك الشعر البارد الخالي من حيوية الذات, وانتصارحرية استحضار صوره الفنية.
فالشعر, الشعر, هو ما جمع في تلافيفه بين ثقة الذات بفردانيتها مع تجاوز المحظور الى استعذاب المغامرة بحثا عن مجالات مظلمة في مساحات الذهن والاحاسيس. فيستحيل تواجده الفني الى واقع تفاعلي نستشعره بمحمول التقاذف اللفظي, والجرس الصوتي الكامن وراء الدلالات اللفظية, او التفريعات المعنوية. من هنا كانت نقطة التصادم بين الذائدين عن حوض القديم كقديم تعود هضم الجاهز, وتمثله بحيثياته او الجديد الرافض عن قناعة موضوعية مفادها ان الفن هو قبل كل شيء تاج يخضع لعوامل الزمان والمكان والظروف. واذا كان أنصار القديم بحكم تعاطفهم اللامشروط مع رأينا يرفضون الجديد كما رأينا لكونه جديدا فهذا منتهى التقوقع.. وقد رأينا كيف كانت الغلبة تقريبا دائما لصالحهم وذلك لتشبثه بأذيال السلطة التي في حد ذاتها وجدت استقطابهم ما يرضي نزواتها. فناصرت القديم لا لجودته بل لكونه يمثل احدى دعائم استمراريتها على رأس الحكم, وكانت واعية بما يمكن ان يحصل لو انتسب الأمر للتحديث والتجديد. وقد خرج المحدثون في هذه المعركة ببعض المردود الايجابي في حق الشعر والقصيدة, تمثل في الوعي الجديد لمفهومه والذي يسجله الحاتمي يقول: »ان القصيدة مثلها مثل خلق الانسان في اتصال بعض اعضائه ببعض. فمتى انفصل واحد عن الآخر أو باينه في صحة التركيب, غادر بالجسم عاهة, تتخون محاسنه«.
وتعفي معالج جماله, ووجدت حذاق الشعراء وارباب الصناعة من المحدثين محترسين من مثل هذه الحال, احتراسا يجنبهم شوائب النقصان, ويقف بهم على محجة الاحسان, حتى يقع اتصال, ويؤمن الانفصال وتأتي القصيدة في تناسب صدورها واعجازها, وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء.
وبهذه الاضافات الايجابية يكون المحدثون قد حققوا مكاسب معتبرة في حق تحديث القصيدة العربية على حساب الذوق السلفوي القبلي وخاصة ان واحدا كالحاتمي يصر في استنتاجاته النقدية على أن مثل هذه الخصوصيات الجديدة هي من مجهود دعاة الحداثة اذ يقول: »هذا مذهب- يقصد وحدة القصيدة العضوية- اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم ولطف افكارهم واعتمادهم البديع وافانينه في اشعارهم« وإذا كان الحاتمي قد سجل هذه الخطوات المتطورة من منظور نقدي فان أبا تمام قد خلد مثل هذه التطلعات قائلا:
جاءتك من نظم اللسان قصيدة
سمطان فيها اللؤلؤ المكنون
انسية , وحشية , كثرت بها
حركات أهل الأرض وهي سكون
ينبوعها خضل وحلي قريضا
حلي الهدى ونسيجها موضون
أما المعاني فهي أبكار اذا
نضت ولكن القوافي عون
انها دعوة واضحة للقصيدة المثمرة, المليئة بوهج الحياة وتناقضاتها والمفكوكة القيد من كل اعتبارات تكون هدفا لتقليص طيرانها الذي لا يعرف ينبوعه الخضل النماء والعطاء إلا في رحاب حرية الابتداع. عموما فان أنصار التحديث قد خرجوا من هذه المعركة برجلين في مستوى مسؤولية الابداع وهما الشاعر المتنبي الذي خطا بالقصيدة خطوة ما تزال لم تدرك الى يومنا هذا, والثاني هو عبدالقادر الجرجاني الذي عرف كيف ينمي مدرسة النقد العربي الذي أساسه الذوق والتفاعل مع النص الابداعي ففتح بذلك مجالات هي في حاجة الى وقفة على حدة.
الهوامش
1 – الحاتمي: حلية المحاضرة, الجزء الأول, ص123.
2 – الحاتمي, حلية المحاضرة, ج1, ص124.
3 – أبوهلال العسكري, الصناعتين, ص144.
4 – يأتي هنا مصطلح الشعرية مقابلا لمصطلح (POETICA) في اللغات اللاتينية, وأول من اكثر استعمال هذا المصطلح في نقدنا القديم ابوهلال العسكري وخاصة في كتابه الهام الصناعتين.
5 – الحاتمي, حلية المحاضرة, ج1, ص257.
6 – العسكري, الصناعتين, ص336, 408.
7 – الحاتمي, حلية المحاضرة, ص281.
8 – الحاتمي, حلية المحاضرة, ج1,
9 – العسكري, الصناعتين, ص179.
10 – الصناعتين/ ص334.
11 – العسكري: الصناعتين, ص30.
12 – الحاتمي, حلية المحاضرة, ج1, ص346.
13 – المرزبان: الموشح, ص329/ 330.
14 – المرزبان: الموشح, ص377/ 378.
15 – المرزبان: الموشح, ص325/ 326.
16 – المرزبان: الموشح, ص384.
17 – الحاتمي: حلية المحاضرة, ج2, ص28.
18 – الحاتمي: حلية المحاضرة, ج2, ص29.
19 – الحاتمي: حلية المحاضرة, ج1, ص142.
20 – العسكري: الصناعتين, ص338.
21 – العسكري: الصناعتين, ص9.
22 – العسكري: الصناعتين, ص10.
23 – ابن طباطبا, معيار الشعر ص301. المرزبان: الموشح ص91.
24 – العسكري: الفروق في اللغة ص14- 15.
25 – العسكري: الفروق في اللغة, ص14, 15.
26 – الآمدي: الموازنة, ص373.
27 – العسكري الصناعتين, ص145.
28 – العسكري: الصناعتين, ص66.
29 – العسكري: الصناعتين, ص249.
30 – الحاتمي: حلية المحاضرة ج1, ص128, 129.
31 – المرزبان: الموشح, ص326.
32 – الآمدي: الموازنة, ص421.
33 – الآمدي: الموازنة, ص392.
34 – العسكري: الصناعتين, ص167.
35 – المرزبان: الموشح, ص385.
36 – الحاتمي: حلية المحاضرة ج1, ص324.
37- ابن المعتز: البديع, ص1.
38 – العسكري: الصناعتين, ص273.
39 – العسكري: الصناعتين, ص166, وانظر كذلك ص155.
40 – أبوهلال العسكري: الصناعتين, ص144.
41 – ابن طباطبا: معيار الشعر, ص76.
42 – ابن طباطبا: معيار الشعر, ص78.
43 – العسكري: الصناعتين, ص.
44 – الحاتمي: حلية الأولياء, ج1, ص324.
45 – المرزبان, الموشح, ص403.
46 – الآمدي: الموازنة, ص24.
47 – الآمدي: الموازنة, ص125.
48 – د. عبدالله حمادي: تحزب العشق يا ليلى, المقدمة, لزوم الحداثة والمعاصرة للقصيدة العمودية, كذلك مدخل الى الشعر الاسباني, فصل: لا عقلانية اللغة في الشعر الاسباني.
49 – الآمدي: الموازنة, ص128.
50 – أبوهلال العسكري: الصناعتين, ص454, 455.
51 – حازم القرطاجني: منهاج البلغاء, ص15, 16.
52 – حازم القرطاجني: منهاج البلغاء, ص18, 19.
53 – الحاتمي: حلية المحاضرة ج1,
عبدالله حمادي
ناقد واكاديمي من الجزائر