تنامي صورة «المدينة»
في روايات بيروت
مدينة المتناقضات … مدينة للعشق والحياة، والحرب والموت
مما لا شك فيه أن تتويج نجيب محفوظ، ومن خلاله الرواية العربية، بجائزة نوبل للآداب، قد شكل منعطفا جديدا في تاريخ الرواية العربية، وتحديدا على مستوى الإقبال على كتابة الرواية وتلقيها، وتصاعد انتشارها وترجمتها إلى اللغات الأجنبية، كما شكل ذلك، أيضا، حافزا لتزايد كتاب الرواية العربية من الجنسين، بمثل تزايد قرائها ومتلقيها، وذلك بشكل أصبح معه الإقبال اليوم على كتابة الرواية في مجتمعاتنا العربية يشكل ظاهرة لافتة للنظر، وهي تواصل (أي الرواية) فرض إغرائها وفتنتها على الروائيين المرسخين والجدد؛ هؤلاء يوجد بينهم اليوم من جاء إلى كتابة الرواية من اهتمامات أخرى موازية ومغايرة، أدبية وغير أدبية، وقد جذبتهم الرواية إلى عوالمها الفاتنة، وإلى إغرائها الجميل والممتع، فنجدهم، اليوم، يساهمون، بشكل مثير، في إثراء التراكم الروائي العربي وتطويره، كما ونوعا…
وإذا كان البعض يرى أننا نعيش اليوم «زمن الرواية» بامتياز، فإن هذا الزمن، للأسف، ما فتئ يقدم إنتاجه الروائي العربي في مستوى إبداعي متفاوت، وخصوصا في العقدين الأخيرين، حيث تصاعدت ظاهرة استسهال كتابة الرواية في مجتمعاتنا العربية، بشكل لافت ومتسارع. غير أن ذلك لا يمنع من القول بأن الرواية العربية عموما، تعرف اليوم انتعاشا ملحوظا على مستوى بعض «مغايراتها الروائية» المهيمنة والمؤطرة لمحكياتها، بمثل ما تعرفه، أيضا، من تصاعد للكتابة فيها، من قبيل: رواية المرأة، ورواية السيرة الذاتية، والرواية التاريخية، ورواية المدينة، وغيرها من المغايرات الروائية المميزة للمشهد الروائي العربي، فضلا عن أن بعض المغايرات الروائية ما فتئت تعرف تحولا وتناميا ملحوظين، على مستوى إقبال الروائيين على تشييد متخيلهم الروائي فيها، بالنظر لما تحققه هذه المغايرات من حضور وتراكم روائي متزايدين.
غير أن هذا التعايش بين هذه المغايرات الروائية المهيمنة، وغيرها، لا يعني أنها تحتل المرتبة نفسها، وأن لها الحضور نفسه في المشهد الروائي العربي، وإن بدا من المؤكد أن ارتباط الرواية العربية بالمدينة ما فتئ يتصاعد ويتطور عقدا بعد آخر، ليس باعتبار المدينة تشكل فقط فضاء للأحداث الروائية، بل أيضا لما تطرحه رواية المدينة عموما من قضايا وأسئلة إشكالية ومتشابكة، في ماضيها وفي حاضرها، موازاة أيضا مع ما تعرفه مدننا من امتداد وتحول سلبيين، ومن تعقد ظروف العيش فيها، وذلك بشكل تستجيب معه «رواية المدينة» اليوم للتعبير عن مدى تحول مجتمعاتنا العربية، في نشدانها للتغيير والانبعاث من جديد، ولو من داخل ما تواجهه من دمار وتلاش وانهيار…
من هنا، إذن، لا يستطيع أحد أن ينكر الدور التاريخي الكبير الذي لعبته مجموعة من المدن العربية روائيا، بما حققته روايات المدينة من تراكم روائي، ومن أسئلة تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية وبنيوية. ويكفي أن نشير إلى بعض تلك المدن، ومدى تعالقها السردي والتخييلي بالرواية العربية، كي ندرك مدى الدور الكبير الذي لعبته المدينة العربية، وغيرها من المدن الأجنبية، في تطوير الرواية العربية وازدهارها، من ناحية، ومدى مساهمتها، أيضا، في بلورة متخيل روائي متنوع ومؤثر: القاهرة، الإسكندرية، طنجة، دمشق، عمان، الجزائر، وغيرها من المدن العربية التي كان لها تأثير واسع في إثراء الرواية العربية والأجنبية على حد سواء.
وتبقى مدينة «بيروت» إحدى أكثر المدن العربية استثمارا من قبل الروائيين، العرب والأجانب، بالنظر للدور التاريخي والثقافي والأدبي الكبير الذي لعبته هذه المدينة؛ هي التي وصفها سمير قيصر، في كتابه المهم «تاريخ بيروت»، بكونها «جمهورية الآداب العربية»، عبر ما قدمته مدينة «بيروت» من إنتاج أدبي عربي، على مستوى كتابة الشعر والنثر والسرد والمسرح، والفن عموما، وخصوصا على مستوى ما لعبه كتابها، من ناحية، ودورياتها ومطابعها ودور النشر فيها ومعارضها، من ناحية ثانية، من أدوار طلائعية في هذا المجال، وأيضا عبر ما وفرته المدينة من خدمات وإمكانات لافتة للإبداع والتجديد، منذ خمسينيات القرن الماضي، فضلا عن كونها شكلت، منذ فترة مبكرة، ملجأ مفتوحا لعديد الأدباء والكتاب العرب والأجانب، وأرضية انطلاقة ناجحة لمعظمهم.
وفي صلب هذا الدور التاريخي والإبداعي الذي لعبته بيروت، يبدو أن الرواية اليوم هي الأكثر حضورا وجاذبية للروائيين اللبنانيين وغيرهم، بما تقدمه لهم المدينة من إمكانات وافرة للإبداع، ولإدراك التحولات في المجتمع، وبما تفتحه أمامهم من آفاق واسعة لاستعادتها في عديد صورها وملامحها ورؤاها وأحداثها وحكاياتها وفضاءاتها، فبيروت تعتبر، في الوقت نفسه، مدينة للمتناقضات، ومدينة للحرب والدمار والموت، ومدينة للعشق والجمال والحياة…
ولا غرابة في ذلك، مادام أن بيروت قد ارتبطت بالرواية منذ بداية المشروع الروائي العربي، بل ثمة من المؤرخين من يعتبرها المدينة الأولى على مستوى الريادة الروائية العربية، وها هي اليوم تواصل الصمود أمام منافسة بعض المدن العربية التاريخية المتوسطية لها، رغم ما تعاقب عليها من كوارث وحروب وأحداث جسام، موازاة مع ما أحدثه ذلك فيها من خراب ودمار وموت.
فبقدر ما أولى الروائيون العرب والأجانب مدينة بيروت اهتماما كبيرا في كتاباتهم الروائية، بقدر ما وفرت لهم بيروت الكثير من الإمكانات للكتابة والنشر، فمنها انطلقت شرارة الرواية العربية باحثة عن اتجاهات روائية جديدة، وكاشفة عن كوكبة جديدة من الروائيين اللبنانيين، وغيرهم، ممن أثروا مدونة الرواية العربية، دون أن ننسى الدور الرائد والممتد لبيروت في احتضان الرواية العربية واللبنانية، ونشرها وتوزيعها على نطاق واسع، وخصوصا على مستوى «دار الآداب»، بما لعبته هذه المؤسسة العريقة، وماتزال، من أدوار طلائعية في نشر الرواية العربية وانتشارها…
وفي اعتقادي أن الإغراء الذي شق طريقه في نفوس عدد كبير ومتزايد من الروائيين والروائيات، لم تستطع أية مدينة عربية أخرى أن تحققه وتفرضه على روائييها، بمثل ذلك الحلم الكبير الذي لازم عددا كبيرا من الروائيين للكتابة عن بيروت، واستيحاء جوانب من تاريخها وتحولاتها وأحداثها وشخصياتها.
وفي هذا الإطار، برزت مجموعة مهمة من الروائيين في لبنان وخارجها، ممن يواصلون استيحاء هذه المدينة المتحولة في نصوصهم الروائية، ويوجد من بينهم من بقي وفيا للكتابة عنها إلى اليوم، موازاة مع ظهور كم جديد من الروايات اللبنانية التي سافرت في فضاءات ومدن أخرى من العالم، إلى جانب سفرها المتواصل والممتد في بيروت أيضا.
وتكمن أهمية مدينة بيروت روائيا، مقارنة ببعض المدن الروائية العربية الأخرى، في كونها تشكل مجتمعا تعدديا، ذا طبيعة معقدة ومتحولة، بشكل تستجيب معه بنياته الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية لصوغ أسئلة المتخيل والرواية بشكل لافت ومتواصل.
غير أن شهرة بيروت روائيا، لا ترتبط فقط بما عرفته من حروب أهلية ومعارك ومجازر وأحداث ساخنة، بل ثمة اعتبارات أخرى مرتبطة بهوية هذه المدينة، وبتاريخها السياسي والاجتماعي والثقافي والرمزي، ساهمت كلها، وبشكل متزايد، في تصاعد كتابة مدينة بيروت روائيا. ولا أدل على ذلك من استمرار حضور «بيروت» في الروايات اللبنانية والعربية الجديدة، انطلاقا من تمثلها لأحداث ووقائع مغايرة لا علاقة لها بالمشكلة الطائفية، ولا بالحرب الأهلية، ولا بالاجتياح الإسرائيلي للبنان، بل انطلاقا من استلهام أحداث ووقائع ومتغيرات راهنة، دون أن يعني ذلك أن هذه الروايات قد شكلت قطيعة مع الأحداث والوقائع الشهيرة التي عرفتها هذه المدينة، وتمثلها الرواية العربية والأجنبية، في العديد من نصوصها، وعبر أزمنة مختلفة.
هذا، وارتبطت بيروت، تاريخيا وتخييليا، كغيرها من المدن العربية الشهيرة روائيا، بعدد مهم من الروايات العربية والأجنبية على حد سواء، في انحدارهم من جغرافيات مختلفة، من سوريا ومصر وتونس والعراق والمغرب والكويت والبحرين والسعودية وفرنسا والشيلي والبرتغال وإيطاليا وكندا، وغيرها من الأقطار، بما هي روايات تتخذ من «بيروت» فضاء رئيسا لها، بأمكنتها الشهيرة، وحكاياتها المتجددة، وأزمنتها الموغلة في التاريخ القديم والحديث والمستشرفة للمستقبل، وفي ارتباطها، أيضا، بشخوص تنتمي إلى أجيال ومشارب متنوعة، عاكسة بذلك أحداثا روائية مختلفة، وصراعات وأوجه مشرقة وداكنة، بصورها ومشاهدها المتداخلة والمتناقضة والمتنافرة، إذ أن «بيروت» تعتبر في نظر البعض «مدينة لكل شيء»، حيث تبدو مدينة للموت في بعض الروايات، ومدينة للحياة في روايات أخرى.
هكذا، إذن، عرفت بيروت طريقها إلى بعض الروايات المكتوبة بالعربية وبغيرها من اللغات الأجنبية، وخصوصا الفرنسية، وهي لروائيين ينحدرون من أصول لبنانية وفرنسية، كأندريه شديد، ودومينيك إده، وغسان فواز، وسليم نسيب، وألكسندر نجار، وياسمين شار، ورانيا فتح الله، وبرنار والي، وأليفيي رولان، وريشار مييي، وغاتا الخوري، وفتحية سعودي، وإليي بيار صباغ، وياسمينة طرابلسي، ويوجد من بينهم من بدأ الكتابة عن بيروت منذ أواسط ثمانينيات القرن الماضي، ومنهم من استمر في الكتابة عن هذه المدينة إلى اليوم، في تعدد صورها، وفي تنوع أوضاعها وأحداثها المثقلة بالموت عموما.
وبحكم تباين مستويات ارتباط هؤلاء الروائيين ببيروت، فقد جاءت رواياتهم عاكسة في بعض جوانبها لتحول هذه المدينة، ولتغير معالمها، وتبدل أمكنتها وانشطارها، تبعا أيضا لما طالها من أحداث غيرت من شكلها وهندستها وقيمها، مع حرص تلك الروايات على إبراز ما للحرب الأهلية وللتنافر المذهبي من تأثير في خلق أجواء مشحونة وملغومة، سواء تم ذلك في بيروت الشرقية أو في بيروت الغربية.
يحدث هذا، موازاة مع استحضار بعض الروايات للريف أيضا، باعتباره فضاء يوجد في طور الانقراض والزوال، بسبب تزايد الهجرة إلى المدينة، فضلا عن تنويعها لصورة بيروت فيها، سواء في تصويرها للمدينة في شكل «امرأة عاهرة» و«بنت هوى»، أو في صورة «امرأة مغرية»، تغري لتدمر، على اعتبار أنها مدينة متعددة ومتشابكة العلاقات والانتماءات السياسية والدينية…
كذلك تفاعلت الروايات المكتوبة بالإسبانية والبرتغالية والإيطالية والإنجليزية مع «بيروت» بأشكال مختلفة. ويكفي أن نشير، هنا، إلى نصوص الروائية الشيلية إيزابيل الليندي، في روايتيها «باولا» و«بلدي المخترع»، وإن تم توظيف «بيروت» فيهما بأشكال متباينة على مستوى كثافة المحكي البيروتي، وانطلاقا مما خبرته الكاتبة في بيروت من أحداث وما عاشته من وقائع ذاتية، إذ يتم سرد بعض أجواء هذه المدينة، انطلاقا من طبيعة العلاقة القائمة مع المكان تحديدا، أي مع «بيروت» الخمسينيات من القرن الماضي، بذكريات المكان، وبتأثيراته النفسية القوية، وبتقاطعاته الاجتماعية والتاريخية…
الأمر نفسه بالنسبة للروائي البرتغالي خوصيه ساراماغو، في روايته «الإنجيل بحسب يسوع المسيح»، والروائي الإيطالي أنطونيو فيراري في روايته «بيروت المجنونة»، والروائي اللبناني- الكندي راوي الحاج، في روايته «لعبة دي نيرو» بالانجليزية، وفيها يبدأ السرد من بيروت، عبر استيحائه للحرب الأهلية، ولأحداث أخرى موازية، كحادث اغتيال بشير الجميل، ومجزرة صبرا وشاتيلا…
«بيروت»: من الحرب إلى الرواية
في اعتقادي أن الروائيين العرب لم ينشغلوا بتمثل حرب بمثل انشغالهم باستيحاء تداعيات نكسة 67، والحرب الأهلية اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان. وإذا كانت حرب 67 والحرب الأهلية اللبنانية قد حطتا أوزارهما، فيبدو أن الحرب الثانية لم تضع أوزارها إبداعيا بعد، حيث لازالت هذه الحرب تستهوي الروائيين، ويستلهمونها في نصوصهم، بالنظر لتداعياتها المختلفة، ولأبعادها الإنسانية الكبيرة، مستعيدين أجواءها وتفاعلاتها وحكاياتها المتناسلة، من رواية لأخرى… إذ سرعان ما تنهض بيروت من رمادها، وسط كل ذلك الخراب والدمار والفزع والخوف الذي ولدته الحرب الأهلية، لتحكي قصص حربها ودمارها ومآسيها وغربتها، ولتصور معاناة ساكنتها وغربائها مع الحياة والموت، وهي بذلك -أي بيروت- إنما تتجدد من خلال بحرها الذي يغسل خطاياها، ويجدد حكاياتها وصورها وجمالها ووجوهها، ولو من وسط الخراب والدمار والموت والتشظي والقهر والحلم والأزمات الحادة والتشبث بالحياة…
من هنا، أهمية هذه المدينة الأسطورية، وأهمية الإغراء المتزايد الذي تفرضه على الروائيين المرسخين والجدد، وعلى رؤاهم ومواقفهم تجاه هذه المدينة، بما يعني أن بيروت، ووفق الرصيد الروائي المهم الذي راكمته من حولها، إبان أزماتها وبعدها، ستظل مدينة مستقبلية، مفتوحة على المزيد من التشكل الروائي، بمثل انفتاحها على راهنها ومستقبلها، وأيضا على تمثل المزيد من الأبعاد الروحية والقيمية والإنسانية فيها، وعلى احتضان عديد الروائيين الجدد، محفزة إياهم، نفسيا وإبداعيا، على الكتابة وعلى تجديد المتخيل حول مدينة متحولة باستمرار.
تصاعد حضور «بيروت»
فـي عناوين رواياتها
تبرز، للوهلة الأولى، أهمية حضور بيروت في الروايات اللبنانية والعربية والأجنبية التي تمثلتها وشخصتها روائيا، من خلال حضورها البارز والمتنامي في عناوين مجموعة من الروايات التي تفاعلت معها، منذ أولى الروايات التي استوحتها، مرورا بسلسلة من الروايات اللبنانية والعربية والأجنبية التي ظهرت فيما بعد، لكنها بقيت مع ذلك وفية لاستحضار اسم المدينة فيها وفي عناوينها. ويكفي أن نشير، هنا، إلى بعض تلك العناوين، لكي نلمس عن كثب مدى تنامي الاحتفاء بهذه المدينة روائيا، وذلك من قبيل: «كوابيس بيروت» و«بيروت75» لغادة السمان، و«وداعا بيروت» لمي غصوب، و«استوديو بيروت» لهالة كوثراني، و«شتاء بيروت» لجين سعيد المقدسي، و«مجنون بيروت»(بالفرنسية) لسليم نسيب، و«رواية بيروت» (بالفرنسية) لألكسندر نجار، و«طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عواد، و«بيروت 1982» لغسان شبارو، و«حب بيروتي» لسحر مندور، و«بيروت 2002» لرينيه الحايك، و«مدينة كان اسمها بيروت» (بالفرنسية) لريشار مييي، و«بيروت لا تغفر» (بالفرنسية) لكارول زياد العجمي، و«بيروت بيروت» لصنع الله إبراهيم، و«بيروت مدينة العالم» لربيع جابر، و«بيت مثل بيروت» لإيمان حميدان يونس، و«بيروت المجنونة» (بالإيطالية) لأنطونيو فيراري، و«بيروت: رسائل من مدينة محاصرة» (بالهولندية) لعبدالقادر بنعلي، و«بيروت المدينة المستمرة» لزاهي وهبي، و«بيروت البكاء ليلا» لشوقي عبد الحكيم، و«بريد بيروت» لحنان الشيخ، و«بيروتيات» لأمين فرشوخ، و«رأس بيروت» لياسين رفاعية، و«بيروت ونهر الخيانات» لمحمد علي اليوسفي، وغيرها من النصوص الروائية التي تفاعلت بوفاء مع بيروت في عناوينها…
ورغم احتفاء هذه الروايات، وغيرها، بـ «بيروت» على مستوى العنوان، فلا يمكن اعتبارها، مع ذلك، أهم النصوص التي تمثلت هذه المدينة، وكتبت عنها، إذ أن ثمة روايات أخرى احتفت ببيروت بشكل باهر ولافت، حتى وإن لم تحمل اسم «بيروت» في عناوينها، حيث جاءت بدورها عميقة ومكثفة حكائيا وجماليا ودلاليا، من زاوية تمكنها من سبر أغوار مدينة متجددة، ومن إعادة بناء جوانب من صورتها الماضية والراهنة، في روائيتها وصيرورتها، وفي أفولها وانبعاثها وتجددها، من قبيل روايات إلياس خوري، الذي يعتبر، في هذا المجال، من بين أهم الروائيين اللبنانيين والعرب الذين يواصلون الكتابة بتميز عن بيروت، فضلا عن روايات أخرى جيدة، لكل من هدى بركات وربيع جابر وإلهام منصور وحسن داوود ورشيد الضعيف، وغيرهم.
وإذا كانت مدن عربية أخرى مافتئت تحقق حضورا مهيمنا في عناوين مجموعة من الروايات العربية والأجنبية التي استوحتها، ف»بيروت» تبقى، مع ذلك، الأكثر حضورا وتأثيرا ومكرورية على مستوى عناوين الروايات التي استوحتها. ولا يتوقف هذا الإغراء الذي تفرضه «بيروت» على مستوى العناوين، عند هذا الحد، بل إن أثره قد امتد إلى الكتابة القصصية نفسها، كما هو الشأن عند إحدى أكثر الروائيات والقاصات العربيات احتفاء ببيروت في إبداعها الأدبي؛ يتعلق الأمر بالكاتبة السورية غادة السمان في مجموعتها القصصية المعنونة بـ «لا بحر في بيروت»، وهو عنوان يختصر حكاية إحدى القصص التي تحمل عنوان المجموعة نفسها، على مستوى ما تجسده «بيروت» فيها من صور مغايرة لتلك الصورة التي حلمت بها تلك الفتاة الدمشقية في القصة، كمدينة للحرية والجمال والحب، إذ سرعان ما ستصطدم تلك الفتاة ببيروت أخرى مزيفة، تبحث عن بحرها وسط الإسفلت والأصباغ، وإن بدا أن الستار في هذه القصة قد أسدل على أحداث غارقة في بريق الأمل والحلم بألق عودة بيروت وعودة بحرها إليها.
ثمة روايات أخرى، وإن لم تشر بشكل جلي إلى «بيروت» في عناوينها، فهي تحملنا بشكل مباشر إلى بيروت المدينة، كرواية «صخرة الروشة» للروائية اللبنانية لطيفة الحاج قديح، وهي الصخرة الشهيرة القابعة في ساحل بحر بيروت، في تعرية هذه الرواية للمجتمع البيروتي، في تحوله الديموغرافي، وفي تمازج عاداته وتقاليده وتزايد هجراته الداخلية، وهو ما ساهم في قلب أوضاع هذه المدينة، وعجل ببروز المشكلة الطائفية واندلاع الحرب الأهلية فيها.
ورغم كثرة الروايات العربية التي تمثلت مدينة بيروت روائيا، فإن مجموعة منها قد ركزت على استيحاء حربها الأهلية والطائفية تحديدا، وقليل منها فقط تمكن من التفاعل مع بيروت من زوايا حكائية وثيماتية مغايرة. إلا أن أهمية هذا الاستحضار المتصاعد لبيروت في الرواية العربية، ولو من خلال أجواء الحرب، يأتي من كونه استحضارا متنوعا في طرائقه، ومتعددا في صوره ودلالاته ومعانيه، من رواية إلى أخرى، كما جاء متباينا في طبيعة رؤية هذا الروائي أو ذاك إلى هذه المدينة الأسطورية، ولو من داخل تفاعل الرواية العربية مع الموضوع نفسه، أي مع الحرب الأهلية في بيروت…
«بيروت»: صورة روائية كرنفالية
بقدر ما ارتبطت «بيروت» روائيا بالحرب الأهلية وبتداعياتها المختلفة، بقدر ما أن روايات أخرى قد توقفت عند استيحاء هذه المدينة الجذابة، في أحوالها وأوضاعها الزمنية الماضوية والراهنة، فهذا ربيع جابر، على سبيل المثال، يستوحي في روايته «بيروت مدينة العالم»، بيروت ثلاثينيات القرن الثامن عشر، وهي بعد قرية صغيرة، أي عبر فترة زمنية تمتد على مدى مائة سنة من تاريخ المدينة وشخصياتها.
ومن بين أهم الروايات النسائية، التي جعلت من «بيروت» الستينيات ومن أجوائها مسرحا لها، رواية «أنا أحيا» لليلي بعلبكي، الصادرة عام 1958، والتي اعتبرت من أنجح الروايات اللبنانية لحظة صدورها، مجسدة بذلك حداثة وجرأة وتمردا على الشكل الروائي الكلاسيكي وعلى القيم السائدة، بحيث تبدو «بيروت» في الرواية، وقد سبقت زمنها الروائي، مدينة منفتحة على الحداثة: «بيروت» المقاهي الجميلة والترامواي وساحة البرج وشارع الحمراء، «بيروت» الحلم الذي لم يلبث أن أحرقته نار الحرب الأهلية على حد تعبير عبده وازن.
إلا أنه أمام كل تلك اللحظات الحلمية والأزمنة الجميلة، سرعان ما ستطل علينا «بيروت» في روايات تالية وقد دمرتها الحرب. وحتى في الروايات التي استوحت بعض الأحداث السياسية الساخنة التي شهدتها «بيروت» حديثا، من قبيل مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، كما تمثلته رواية «تقرير ميليس» لربيع جابر، فإن «بيروت» تبقى خلفية أساسية مؤطرة للأحداث ولتبدلات المكان والزمان، حيث تتداخل صورتها القديمة التي دمرتها الحرب بصور وأمكنة وأبنية جديدة، وإن كانت هذه الرواية، رغم حداثة موضوعها، لم تنفلت من الارتماء داخل «فضاء فانتازي»، هو فضاء «بيروت» أيام الحرب الأهلية.
وأهمية تنامي مدينة «بيروت» روائيا، تأتي من كونها عملت، من موقعها كفضاء روائي مغر ومؤثر، على مواصلة تنويع صورها ومفهومها وتجلياتها وحالاتها، تبعا لطبيعة العلائق التي يشيدها معها كل روائي، وأيضا تبعا لتغير نظرة الشخوص إلى هذه المدينة، وتنوع طبيعة تفاعلهم معها، وتبعا أيضا لتنوع المراحل التاريخية التي تستوحيها هذه الرواية أو تلك…
من هنا، تعددت صور «بيروت» وتنامت في الروايات العربية والأجنبية، فتعددت تلويناتها وأوصافها وحالاتها الحكائية والجغرافية والعمرانية والإنسانية، وهو ما أضفى على المدينة وعلى الروايات التي استوحتها نكهة إبداعية خاصة، بما يطبع محكياتها العامة من أشكال كرنفالية، تسبغ على هذه المدينة صورة معينة في رواية لتتحول تلك الصورة في رواية أخرى، بشكل لا تستقر معه هذه المدينة على صورة أو على حالة معينة.
ويكفي أن نشير إلى بعض تلك الصور، كما تمثلتها أولى الروايات التي تفاعلت مع «بيروت» بشكل مكثف ومهيمن، كي نستنتج مدى الثراء التخييلي والدلالي والرمزي الذي طبع هذه المدينة روائيا، فهي: «المدينة السافرة» في رواية «الآلهة الممسوخة»، و«المدينة الهائجة» في رواية «أنا أحيا» لليلى بعلبكي، و«بيروت العاهرة» في رواية «الأنوات المتبخرة للحروب الضائعة» لغسان فواز (بالفرنسية)، و«المدينة المملة» في رواية «الرجل الأخير» لإلياس الديري، و«المدينة الفارغة والموبوءة والفاسدة» في رواية «المدينة الفارغة» لليلى عسيران، و«المدينة الطاحونة» في رواية «طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عواد، و«المدينة المغرية»، و«المدينة الحجرية»، و«بيروت المتاهة»، و«مجوهرات ساحرة» في رواية «بيروت 75» لغادة السمان، و«المدينة الميتة» في رواية «حبيبتي تنام على سرير من ذهب» لمحمد عيتاني، و«باريس الشرق الأوسط» و«المدينة الرائعة» في رواية «بلدي المخترع» لإيزابيل الليندي، و«المدينة الغريبة» و«العاصمة التي تحترق» في رواية «قامات الزبد» لإلياس فركوح، و«المدينة الملونة» و«مدينة الأوهام والإلهام» في رواية «المدينة الملونة» لحليم بركات، و«المدينة المستمرة» في رواية «بيروت المدينة المستمرة» لزاهي وهبي، و«باريس الشرق» في رواية «بيروت بيروت» لصنع الله إبراهيم، كما أنها «المدينة المتوسطية الجميلة» في رواية «حجر الضحك» لهدى بركات، و«كذبة حرية ومجموعة من البالونات الملونة» في رواية «فردوس الجنون» لأحمد يوسف داود، و«مملكة الغرباء» في رواية إلياس خوري بنفس الاسم، «ومدينة العالم» في ثلاثية ربيع جابر الروائية «بيروت مدينة العالم»، و«باريس الصغيرة» في رواية «رسالة بعد الموت» (بالفرنسية) لدومينيك إدي Eddé، و«مدينة المتناقضات» في رواية «في شقتنا خادمة حامل» لعبدالله المدني، و«المدينة المحاصرة» في رواية «بيروت: رسائل من مدينة محاصرة» لعبد القادر بنعلي، وغيرها من صور هذه المدينة وتجلياتها المتحولة في النصوص التي استوحتها من زوايا مختلفة…
ويعود جانب من هذا الاهتمام بتصوير «بيروت» روائيا وشعريا، وسبغ أوصاف مختلفة ومتزايدة عليها، إلى طبيعة التحولات الممتدة التي شهدتها «بيروت»، وجعلت منها أكثر من مدينة، بالنظر لما تعاقب عليها من أحداث أثرت في صيرورتها وفي مستقبلها، وغيرت الكثير من ملامحها، وخصوصا على مستوى ما عرفته المدينة من حروب أهلية وطائفية، بدلت من هويتها، كما غيرت الكثير من أحاسيس ومن قيم ساكنتها، من الناس الأصليين أو الوافدين أو الغرباء.
لقد كانت الحرب والمشاكل الطائفية، بما ولدته من صنوف المعاناة والقهر والقسوة والخوف والدمار والموت، هي التي أضفت على «بيروت» وجها روائيا استثنائيا، يميزها في مجموعة من النصوص الروائية والقصصية والشعرية الجيدة، بما فرضته على كتابها من إغراء وجاذبية، بشكل يصعب معه اليوم تحديد صور مميزة أو ثابتة لهذه المدينة، أمام تنامي أوجهها في نظر كل من كتبوا عنها، من منطلقات وزوايا أدبية وغير أدبية مختلفة، فهي:
الوحش، والقديسة، والأميرة، والأسطورة، ومدينة الحب، ومدينة الحرية، ومدينة الجمال، ومدينة كل مكان، ومدينة الحرب والدمار، ومدينة التناقض، ومدينة الذاكرة والتأمل، وبيروت الأنثى، والمدينة المظلومة، والمدينة الظالمة، والمدينة القاتلة، وبيروت الدنيا، وبيروت السيدة، ومدينة النضال، ومدينة الموت والنهاية، وسوق البغاء، وبيروت الألوان، وملهمة الشعراء، ومدينة الغرباء، ومدينة الدم، والمدينة الحمراء، والجنازة الكبرى، ومدينة الجنس، وأرقى مدينة في العالم، وست الدنيا، ومروحة الصيف، وأحلى الملكات، والخليلة، وجوهرة الليل، وزنبقة البلدان، وبيروت القلب الطيب، وبيروت الفوضى، وبيروت الجوع، وبيروت الشبع، وبيروت العدل، وبيروت الظلم، وبيروت السبي، وبيروت أميرة الحزن العربي، والمدينة النوارة، والمدينة المكلومة، والمدينة الغريبة…
هكذا، إذن، تبدو «بيروت» في بعض الروايات مدينة صامدة، تراهن على الحياة والألم والأمل، وتبدو في روايات أخرى مرتمية وسط دائرة من الضياع والأفول والتيه والاندثار والهزيمة، لكنها سرعان ما تنبعث من رمادها، بقدرتها المدهشة على التعايش، وعلى البزوغ بإشراق مكرور، وبقدرة فائقة على «معاودة الحياة» كما ورد على لسان إلياس خوري.
وهذا الوجه الروائي المرتبك لبيروت، هو ما يضفي على محكياتها نكهة روائية خاصة، ويطبعها بميزة قد لا تتوفر في مدن روائية عربية أخرى، ربما لأن لكل مدينة خصوصياتها ومفارقاتها وتناقضاتها وظروفها التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية التي تؤطر متخيلها الروائي العام.
وإذا كانت صورة «بيروت» بتلويناتها الحكائية، تبدو متشظية وغير بؤرية في بعض الروايات التي استوحتها، فهي في روايات أخرى صورة مهيمنة ومكثفة لمدينة مكتملة الملامح، بإيجابياتها وسلبياتها، وبذاكرتها السردية وحكاياتها المتناسلة المنبعثة من قلب حرب أهلية، ولدت من رحم المدينة نفسها، وبسيرتها ووقائعها ووجوهها وأمكنتها وشخوصها ومتغيراتها ومحنها ومعاناتها وأزمنتها المتجددة، وبأبعادها وأحوالها الإنسانية، وبحكاياتها المفزعة والعنيفة، بما هي حكايات أهلها وغربائها وزوارها، وحكايات اللاجئين والنازحين والطامحين والحالمين والمحبطين، وهو ما يجعل منها مدينة إشكالية، اعتبارا أيضا لتاريخها الإشكالي.
بل إن حضور «بيروت» روائيا، كثيرا ما تفاوت بين كونه غاية في بعض الروايات، ووسيلة في روايات أخرى، إلى درجة شكلت فيها هذه المدينة حافزا مؤثرا لإحدى شخصيات رواية «الاعتراف السلبي» (la Confession négative) لريشار مييي، لكي يصبح كاتبا، حيث إن ما دفع بالسارد الشخصية الرئيسة للقدوم إلى بيروت، هو رغبته في أن يحقق طموحه الأول والأخير في أن يصبح كاتبا، وهو ما ولدته له مشاركته في معارك «بيروت» وفي ساحات القتال فيها، أليس نفسه الذي يؤكد بأن «الحرب ستمكنه من أن يصبح كاتبا»…
من هنا، نحس بتنامي إيقاع التنويع في طرائق تمثل الروائيين لبيروت، نتيجة تطور نظرتهم ومفهومهم لهذه المدينة،مما يضفي زخما شعريا خاصا على محكياتها الروائية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والإنسانية عموما، بحيث ما فتئ إغواء «بيروت» يتصاعد في الرواية اللبنانية والعربية، وبشكل متواز، بما هو إغواء واقعي، تفرضه «بيروت» على روائييها، وإغواء تخييلي، تفرضه المدينة على شخوص رواياتها، وعلى أحداثها ومساراتها الحكائية، بما توقظه فيهم الأمكنة من رغائب ومتع وأشواق وأحلام وكوابيس، ومن شهوة وتحرر نفسي وانفلات جسدي وحماية وملاذ.
ويحدث أحيانا أن تتعدد صورة «بيروت» في الرواية الواحدة، لتصير أكثر من «بيروت» واحدة، لتصير «بيروتات» متعددة، أو بالأحرى خمس بيروتات، كما جاء في رواية «بيروت 75» لغادة السمان، ولتصير أيضا مدينة أخرى تحت الأرض، تسمى «بيروت» هي أيضا، إذ سرعان ما ستتخلق «بيروت» جديدة من رحم «بيروت» الأولى، كما تمثلت ذلك رواية «بيريتوس: مدينة تحت الأرض» لربيع جابر، في حكيها بطريقة تخييلية مغايرة عن الحرب اللبنانية التي «قتلت مائة ألف إنسان، وأخفت 17 ألف مخطوف»، وفي حكيها أيضا عن التهجير والقتل والدمار الذي لم ينته في هذه المدينة.
هذه الازدواجية نفسها، في طبيعة الرؤية إلى هذه المدينة، هي التي خيمت على بعض روايات حسن داوود، في نشدان شخوصها لمدينة جديدة، أو بالأحرى لبيروت أخرى، في انتظار أن تنهض بيروتهم القديمة من خرابها، لكن بيروتهم الجديدة لم تفلح، مع ذلك، في ضمهم إليها، سواء في روايته «غناء البطريق»، أو برؤية أخرى مماثلة في روايته «مائة وثمانون غروبا»…
وإذا كانت غادة السمان، باعتبارها من الروائيات الأوائل اللائي كتبن عن «بيروت» روائيا، قد ركزت في رواياتها عموما على البعد المكاني في المدينة، بما طال هذه الأخيرة من خراب ودمار، فإن إلياس خوري، باعتباره واحدا من جيل الروائيين اللبنانيين الذين بقوا أوفياء لهذه المدينة ولتحولاتها في رواياته، قد ركز على البعد الإنساني في مدينة «بيروت»، باستقصائه لأقوال شخوصها الغرباء، كما عنون بذلك إحدى رواياته البيروتية «مملكة الغرباء»، هؤلاء الوافدين عليها من جغرافيات وجنسيات مختلفة، للإقامة فيها، وهم يحلمون، في الوقت نفسه، بالعودة إلى مكان المنشأ، فقط لأن «بيروت» كما تبرزها هذه الرواية مدينة ليست لأحد.
نفس التركيز على البعد الإنساني للمدينة، نصادفه في رواية «الوجوه البيضاء» لهذا الروائي نفسه، في إبرازه لأثر الحرب الأهلية على ساكنة المدينة، بتأثيرها الكبير على مشاعرهم وأحاسيسهم ومصائرهم، حيث إن الحرب طبعت أحاسيس مغايرة ومتناقضة ومتنافرة في نفوس سكانها، ممن لا يؤمنون بهذه المدينة ولا بتاريخها ولا بتعددها.
«رواية بيروت» والانفتاح على الآخر:
ورغم كل هذا الارتباط المهيمن والمكثف للرواية العربية والأجنبية بـ «بيروت»، فضاء وشخوصا وأحداثا، يبدو أن «رواية بيروت» لم تأت منغلقة ومتقوقعة على نفسها، وعلى محكياتها وأحداثها وشخوصها المحلية فقط، بقدر ما جاءت، في كثير من نصوصها، منفتحة بشكل واسع على «الآخر»، بمفهومه وصوره المتعددة: أي كريفي وقروي ومغترب ومهاجر عربي وأجنبي ومحتل، وهو ما ساهم في تلوين متخيلها الروائي العام، بتلوينات حكائية ودلالية ورمزية مختلفة، بما لعبته تلك الشخوص المجسدة لصور هذا «الآخر» من أدوار مؤثرة في شحن المتخيل الروائي البيروتي، عبر تشييد الكثير من العلاقات الملتبسة والمتوترة والمنغلقة فيما بين «الذات» و«الآخر»؛ هذا الأخير الذي يتم تجسيده، في كثير من روايات بيروت، في الإنسان الريفي والقروي والفلسطيني واليهودي والمغترب، إذ تغدو «بيروت» في هذه الحالة «المعبر المحتوم، والمحطة التي لابد لأبطال الروايات الريفيين من اجتيازها، في تنقلاتهم وأحلامهم»، باعتبارها أيضا هي «المكان الذي يحلو فيه للأبطال تذكر الريف الذي أتوا منه» (2).
ويعتبر يوسف حبشي الأشقر أحد هؤلاء الروائيين الذين جسدوا هذا البعد الحواري والعنيف والقاسي القائم بين الريف والمدينة «بيروت» في الرواية، ما «يعبر عن كثير من التناقضات التي تدخل في صلب الهوية اللبنانية» على حد تعبير بيار أبي صعب.
كما تمكن إلياس خوري من الجمع بين أكثر من صورة لـ «الآخر» في روايته «مملكة الغرباء»، كيهودي وفلسطيني وغريب، في كونهم يجسدون صورا مختلفة لهذا «الآخر»، في تباين مستويات علاقتهم جميعا بالمكان، أي ببيروت، باعتبارها ملاذا لهم، ومدينة للحرية والحلم بالعودة إلى الوطن الأول ومكان المنشأ.
مستوى آخر يميز طبيعة حضور صورة «بيروت» وتصاعدها وتنويعها في الروايات التي استوحتها، ويدحض كل قول بانغلاق «روايات بيروت» على نفسها، يتجلى أساسا في انفتاحها على تمثل مدن روائية أخرى موازية. ويحدث أن تتداخل مدينة «بيروت» وتتجاور في كثير من الروايات العربية والأجنبية، مع مدن أخرى من الشرق والغرب، بمعنى أن تلك المدن الأخرى المحايثة تستمد سلطتها التخييلية والدلالية في تجاورها وتعالقها بمدينة «بيروت»، وأيضا في امتدادها التخييلي فيها، حتى وإن اختلفت التفاصيل والأحداث والحكايات والأزمنة والأمكنة، وتباينت مرجعيات الكتابة وخلفياتها، وتعددت جغرافيات الروائيين، فيما يشكل استراحات أخرى موازية لبعضهم، ممن اشتهروا بالكتابة عن «بيروت» تحديدا، في تمثلهم لمدن روائية أخرى في نصوصهم، بعد طول سفر في بيروت «الحرب»، وبيروت «الجرح»، وبيروت «الذاكرة»، وبيروت «الجمال»…
ذلك يعني أن مجموعة أخرى من الروايات العربية التي واصلت استلهامها لبيروت، لم تبق أسيرة متخيل هذه المدينة تحديدا، سواء على مستوى محكياتها أو عناوين نصوصها، من قبيل رواية «حيفا بيروت حيفا» لموفق رفيق خوري، وتدور أحداثها بين حيفا وبيروت وأثينا، وفيها تحضر «بيروت» باعتبارها فضاء وملجأ للمهاجرين، ورواية «القاهرة… بيروت… باريس» لممدوح الشيخ، وتدور أحداثها بشكل خاص بين القاهرة وبيروت، وفيها تحضر باريس كخلفية فقط للأحداث الروائية، في حين تبدو فيها «بيروت» مدينة لترويج تجارة منظمة في لحوم البشر، أعقبت مجزرة صبرا وشاتيلا…
وقد يصعب اليوم التعرض بتفصيل لكل النصوص التي تتوازى فيها «بيروت» روائيا وتخييليا ومرجعيا وبؤريا مع مدن وفضاءات روائية من هنا وهناك، كالقاهرة والبحرين ولندن وباريس ودمشق وحيفا وعمان وعكا وأثينا وبغداد وشيكاغو وفيينا وكليفلاند ومونتريال، وغيرها من الفضاءات المدينية الموازية لبيروت…
«رواية بيروت» واستشراف المستقبل
تكمن أهمية صورة «بيروت» في الروايات التي استوحتها، في كونها شكلت دائما مدينة لدق ناقوس الخطر أمام كل المدن العربية الأخرى، بمثل ناقوس الخطر الذي دقته «بيروت» في رواية «طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عواد، محذرة بما قد يطال المدن العربية الأخرى من هلاك ودمار، إن سقط أهلها في فخ التناحر والانقسام الطائفي والتصارع والفتنة والفساد…
كذلك، فعلت الروائية فضيلة الفاروق في روايتها «أقاليم الخوف»، في اتخاذها من حدث متأخر نسبيا، هو عدوان تموز 2006، خلفية تاريخية لها، وهي تحكي عن «بيروت»، باعتبارها مدينة «الحب والحرب» على حد سواء، حيث تنتهي الساردة «مارغريت نديم نصر» إلى الوقوع في عشق «بيروت»، مبشرة في الوقت نفسه، ولو تخييليا، بانفتاح المدينة على كل ما هو محتمل وممكن، كما في قول الساردة «يتفق الجميع، من دون أن يعلنوا ذلك بصوت عال على أن الحرب قدر تتربص ببيروت دائما، فهي تذهب وتجيء، وبيروت كلما احترقت أو دمرت تنهض من جديد».
وهنا تكمن أهمية «بيروت» روائيا، فيما تكشف عنه من دلالات ومعان عديدة وجديدة، على مستوى رؤى رواياتها الاستشرافية، حيث ما فتئت رواياتها تنبهنا إلى واقعنا وأحوالنا وذواتنا ومصائرنا، وإلى أوهامنا أيضا، بما أنها روايات تتيح لنا، في نهاية الأمر، قراءة الإنسان في كل مكان…
«بيروت» وتصاعد رواية المرأة:
جانب آخر، يميز كتابة «بيروت» روائيا، هو ذاك المرتبط بمواصلة المرأة الروائية العربية بلورة تراكم روائي لافت عن هذه المدينة، منذ أولى الروايات الصادرة في هذا المجال، عند كل من غادة السمان وليلى بعلبكي ومنى جبور، مرورا بعدد آخر من الروائيات، من لبنان وخارجها، ممن يساهمن في إثراء المتخيل الروائي البيروتي والعربي، بنصوص روائية تركت أصداءها على مستوى القراءة والتلقي والانتشار. ويكفي أن نذكر، في هذا الإطار، روايات كل من: هدى بركات، ونجوى بركات، وعلوية صبح، وحنان الشيخ، وكارول زيادة العجمي، ورينيه الحايك، ومي غصوب، وجين سعيد المقدسي، ورانيا فتح الله، وياسمينة طرابلسي، وإلهام منصور، وإيمان حميدان يونس، وهالة كوثراني، وسحر مندور، وفتحية سعودي، وغيرهن، بل يوجد من بين هؤلاء الروائيات من ارتبط إنتاجهن الروائي ببيروت تحديدا، كالروائية إلهام منصور في مجمل رواياتها، موازاة مع تنويعها أحيانا لفضاءات نصوصها عن «بيروت»، باستحضارها لبعض المدن الأخرى المحايثة، كباريس ولندن…
هو، إذن، تراكم روائي نسائي متنام عن «بيروت»، يشي بأن ثمة تصاعدا في روايات المرأة العربية عن هذه المدينة، بمثل تزايد عدد الروائيات العربيات ممن يكتبن عن «بيروت» تحديدا، من منطلقات حكائية ودلالية مغايرة لسابقاتها، ويكفي أن نشير، من بينهن، إلى الشاعرة والناشرة لينة كريديه في باكورتها الروائية الأولى «خان زاده»، وفيها تحكي الساردة عن سير ثلاثة نساء في العقد الخامس من عمرهن في بيروت القديمة والحديثة، كما تحكي عن تباين مصائرهن داخل الرواية، بما فيها مصير الساردة نفسها…
رواية المدينة: هوس روائي مفتوح ومتواصل:
كل ذلك، إذن، يؤكد مدى انشغال روائيينا برواية المدينة كهاجس إبداعي مؤطر لكتاباتهم، ومدى انشغال الرواية العربية بشكل عام واللبنانية بشكل خاص، بسؤال المدينة فيها، باعتباره أفقا ورهانا إبداعيا، يعكس، من ناحية، تحولات مدننا، ويعكس، من ناحية ثانية، مدى ما يعيشه إنسان هذا العصر من قلق واغتراب، وما يؤرقه من أسئلة وجودية ومصيرية محيرة.
وقد كان من المفروض أمام كل هذا الزخم الذي قدمته وتقدمه «بيروت» روائيا، على مستوى الصور والوجوه والدلالات المرتبطة بها، كفضاء روائي استوحته أكثر من رواية لبنانية وعربية وأجنبية، أن يشكل أرضية خصبة للمنظرين والنقاد العرب والأجانب، لبلورة تصور أو نظرية جديدة ومتكاملة حول مفهوم الفضاء وجمالياته، انطلاقا من «روايات بيروت» تحديدا، بالنظر للدور الكبير والمؤثر الذي يلعبه فضاء «بيروت»، على مستوى تشخيصه وتمثله للأمكنة، وتشييده للعلائق والمفارقات والأوعاء، في محاولة من الروائيين معرفة العالم وفهمه وإدراك تحولاته… وهو ما يجعل اليوم من «بيروت» ورشا كبيرة ومتعددة ومفتوحة على المزيد من الاستيحاء والأوهام والاحتمال والصور والألغاز والالتباس، بما أن هذه المدينة تبدو، أيضا، فضاء تخييليا لا محدودا، مشرعا باستمرار على البحث والتمثل والتأمل والتجدد…
ومما لا شك فيه أن تنامي صورة المدينة في الرواية العربية، سيتواصل بشكل مؤثر ومختلف، أمام ما تعرفه مدننا عموما من صراعات، وأمام ما يطالها من تلاش ودمار، وما يتهددها من مشاكل وظواهر جديدة، كالتطرف والإرهاب، وكلها ثيمات وحالات ستشكل لا محالة محطات روائية أساسية أمام الروائيين من أجل إعادة تمثلها تخييليا، ما قد يفرز لنا، بدون شك، مدونة روائية جديدة عن علاقة الرواية بالمدينة في مشهدنا الروائي العربي، وخصوصا بعد أن تتوفر أمام الروائيين تلك المسافة الزمنية والنفسية اللازمة التي تفرضها الكتابة عادة عن الحروب والأزمات وسقوط المدن…
ويكفي أن نشير، هنا، إلى التجربة الإبداعية للروائي الجزائري ياسمينة خضرة، في رواياته الأخيرة بالفرنسية عن الإرهاب، وعن بعض المدن، كبيروت وكابول وبغداد، وخصوصا في روايته «صفارات بغداد» (دار جوليار 2006)، التي تبدأ أحداثها من بيروت على خلفية اغتيال رفيق الحريري، لتنفتح على العمليات الإرهابية في بغداد…
من هنا، أهمية ما يمكن لبيروت، ولغيرها من المدن العربية، أن تقدمه، كفضاءات روائية، لرواياتنا العربية ولإدراكنا ووعينا بالأمكنة، من إمكانات مهمة لاستعادة الدفء والطمأنينة إلى علاقتنا الذاتية والنفسية والوجودية بمدننا وبأمكنتنا المتلاشية، بفعل الحروب والخراب والتخلف والشعور بالغربة عن الذات والعالم «لأننا نحن أبناء هذا (المشرق العربي) نعيش في زمن تطور الرواية العربية (كجنس أدبي) زمنا خاصا، زمن فقدان المكان أو زمن فقدان البيت الأليف»(3).
ومن شأن هذا الانفتاح المتزايد لروائيينا على استلهام المدينة، أن يوجه مستقبل الرواية في عالمنا العربي… ويكفي أن نتأمل عناوين مجموعة من الروايات العربية الجديدة الصادرة مؤخرا في عدد من الأقطار العربية، والحاملة لتسمية عدد من المدن العربية، كي نلمس عن كثب مدى ما يشكله الوعي بكتابة المدينة روائيا، اليوم وغدا، من هواجس متواصلة لدى روائيينا داخل العالم العربي وخارجه، بما تكشف عنه مدننا العربية عموما من أبعاد إبداعية وتخييلية، ومن مشاعر إنسانية متبدلة.
ناقد أدبي وباحث من المغرب.
———————————————————-
هوامش:
1- د. جورج دورليان، بيروت في ذاكرة الرواية اللبنانية، ضمن كتاب جماعي عن أشغال مؤتمر نظم ببيروت، في موضوع «بيروت في الرواية، الرواية في بيروت» 2010، ص225.
2- المرجع نفسه، ص 224.
3- يمنى العيد، فن الرواية العربية، بين خصوصية الحكاية وتميز الخطاب، دار الآداب، بيروت 1998، ص 112.
000