تأليف: نيكولاي كوستوماروف (*)
ترجمة: ضيف الله مراد – مترجم سوري مقيم في روسيا
نشرت قصة «ثورة البهائم» للمرة الأولى عام 1917 في مجلة «نيفا»، ولذلك فهي تسبق «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل التي ظهرت عام 1945 والتي كانت سياسية بامتياز، وتتحدث عن مآلات الثورة بعد انتصارها. كُتبت «ثورة البهائم»، كما يرجح، ما بـين 1879 و1888. وهكذا يمكننا أن نعتبر نيكولاي كوستوماروف، أول من كتب في أدب الـ»ديستوبيا».
ولد نيكولاي كوستوماروف في 16 أيار عام 1817 وتوفي 1885. وهو مؤرخ، وشاعر، ودراماتورغ.
***
رسالة من إقطاعي في أقاصي روسيا إلى صديقه في بطرسبورغ ..
لقد وقعت لدينا أحداث غير عادية، ولو لم أكن قد رأيتها بأم بعيني، لما صدّقت أبدًا لو أنني سمعت عنها من أيّ شخص كائنًا من كان، أو قرأتُ عنها في أي مكان. أحداث غير عادية على الإطلاق. تمرّد، انتفاضة، ثورة!
سيتبادر إلى ذهنك أنه تمرّد قام به مرؤوسون، أو عبيد ضد رؤسائهم. هو هكذا فعلًا. ولكن ليس من قبل المرؤوسين، وإنما من قبل العبيد، غير أنهم ليسوا من بني البشر، بل من البهائم المنزلية. لقد تعوّدنا أن ننظر إلى جميع البهائم على أنها كائنات بكماء، وبالتالي فهي ليست عاقلة. من وجهة نظر إنسانية، يبدو الأمر منطقيًا تمامًا، بما أنهم لا يقدرون على الكلام مثلنا، فإنهم حتمًا لا يعقلون!
لكن، هل الواقع هو هكذا فعلا؟ لا نستطيع التفاهم معهم، ولهذا السبب نعاملهم على أنهم بكم لا يعقلون، وفي الواقع، عندما ندقق في الأمر جيدًا، سنجد أننا نحن الذين لا نفهم كلامهم. لقد أكّد العلماء على أن “نيمتس” وتعني الأبكم، هو إسم أطلقه السلافيون على القبائل الجرمانية، لأنهم لم يكونوا يفهمون كلامهم. وهنا أيضًا حدث نفس الشيء.
لقد بدأ العلم يكتشف في الآونة الأخيرة، أن لدى البهائم، التي نعيب عليها -بسبب تفاهتنا- عدم قدرتها على الكلام والتفكير طريقتها الخاصة في تبادل الانطباعات، لغتها الخاصة التي لا تشبه لغتنا نحن بني البشر. وحول هذا الموضوع يوجد الكثير من الدراسات. نحن الذين نعيش في المناطق النائية لا نقرأ هذه الدراسات، لكننا نسمع فقط أنها موجودة هناك في مكان ما من أوروبا؛ ولكن لدينا حكماء عرفوا أفضل من العلماء الأوروبيين الطرق التي تعبّر بها البهائم عن فكرها.
في قريتنا الصغيرة كان لدينا مثل هذا الحكيم واسمه “أوميلكو”. هو إنسان مدهش بكل معنى الكلمة! لم يقرأ كتابًا في حياته، فهو بالأصل لا يعرف القراءة، لكنه كان يتقن جميع لغات ولهجات البهائم المنزلية: الثيران، والخيول، والخراف، والخنازير، وحتى لغة الدجاج والأوزّ! فكيف تمكّن -حسب رأيكم- من تعلّم ذلك كلّه، وليس يوجد عندكم، ولا يوجد عندنا، ولا في أي مكان آخر، كتب قواعد وقواميس مختصة بلغة البهائم.
لقد توصل أوميلكو إلى ذلك كلّه بقدراته غير العادية، بدون أي كتيبات تعليمية، بتسلّحه فقط بالمراقبة الدقيقة والمستمرة لحياة وعادات البهائم.
يعيش أوميلكو وسط المواشي منذ نعومة أظفاره، أي منذ أكثر من أربعين عامًا. عندنا في أطراف روسيا الكثير من أمثاله، غير أن أحدًا لم يتوصل إلى ربع ما توصل إليه أوميلكو من العلوم. لقد أجاد لغة الحيوانات، بحيث يكفي أن يخور الثور، أو يثغو الخروف، وينخر الخنزير، حتى يخبرك أوميلكو على الفور ماذا أرادت البهيمة أن تقول. هذا الإنسان الخبير بطبائع البهائم، الفريد من نوعه، لا يتفق على الإطلاق مع الذين يقولون بمحدودية القدرات العقلية للبهائم عند مقارنتها ببني البشر. ويؤكد أوميلكو على أن ما تبديه البهائم من علائم الذكاء لا يقلّ أبدًا عن بني البشر إن لم يكن أكثر في كثير من الأحيان. كم من مرّة حدث -كما لاحظ أوميلكو- “أن تكون مسافرًا في الليل وحدك وتضلّ الطريق، لأنك لا تعرفه جيدًا، وتظلّ تفتل وتدورعلى غير ما هدى؛ لكن ما أن تترك للفرس القياد حتى تجد لك الطريق بسرعة، وتوصلك إلى حيث كنت تريد”.
ومع الثيران يحدث نفس الشيء: يرعى الصبية الثيران، فيلعبون أو ينامون، ويضيّعون أثر الثيران؛ فيبكي هؤلاء الصبية المساكين، وأمّا الثيران فتكون قد عادت من تلقاء نفسها إلى البيت دون رفقة الرّعاة. حدثنا ذات مرة شماس جاء إلينا من أبرشية الناحية التي تبعد عنّا حوالي سبعة فراسخ عن شخص اسمه “فالام”، وعن أتانه التي غيّر اسمها إلى فرس من أجل الفهم الملائم. بعد أن استمع أوميلكو قال: “لا شيء غريب، يعني، كان يفهم لغة الخيول. الأمر وارد، ربما، أيضًا، كانت الفرس ستقول لي ذلك”. أطلعنا أوميلكو على قصص كثيرة بحكم سنوات خبرته الطويلة في التعامل مع مختلف أنواع البهائم، وأخبرنا عن أمر غريب سوف أحدثكم عنه في الحال.
مع بدايات عام 1897 بدأت تظهر في قريتنا بوادر حركة تمرّد وعصيان بين البهائم، وبرزت مشاعر أشبه بالحراك الثوري ضد عسف الإنسان الذي تكرّس بالتقاليد عبر القرون.
حسب ملاحظة أوميلكو فإنّ أول بوادر هذا الحراك ظهر عند الثيران التي كانت تتصف في كلّ مكان وزمان بميولها العدوانية ما جعل الإنسان يضطر، في كثير من الأحيان، إلى اتخاذ أكثر التدابير صرامة لكبح جماحها. كان في قريتنا ثور كهذا، وكانوا يخافون من أن يتركوه رفقة القطيع في الحقل، ولذلك كانوا يحتجزونه دائمًا في حظائر محصّنة، وإذا ما أخذوه لشرب الماء، فلا يكون ذلك إلا بتكبيل ساقية بالسلاسل، ووضع حاجب خشبي على عينيه حتى لا يتمكن من رؤية أي شيء في الطريق وإلا غدا شرسًا وهاجم كلّ من يراه أمامه فيرفعه بقرنيه دون سبب. لقد فكّرت بقتله أكثر من مرّة، وفي كلّ مرّة كان أوميلكو ينقذه ويؤكد لي أن الثور يتمتع بقدرات عظيمة من ناحية طبيعته الثيرانية، وأنه لن يكون من السهل تعويضه بأي ثور آخر.
تحت إصرار أوميلكو قررت أن أبقيه حيًا، على أن تُتخذ أكثر التدابير تشددًا حتى لا يُلحق الثور ضررًا بليغًا بأي شخص. عندما يقودونه، كان أولاد القرية، ما أن يسمعوا هديره آت من بعيد، يهربون في كلّ اتجاه حتى لا يجدوا أنفسهم أمام هذا الثور الشرس. لقد اعتقدنا جميعا أن نشاطه الحيواني الزائد وملله من عبوديته الأزلية هي التي جعلته شرسًا إلى هذه الدرجة، غير أن أوميلكو، وانطلاقًا من معرفته بلغة البهائم أكّد لنا، أن خوار ثورنا كان تعبّيرا عن شيء آخر أكثر أهمية.. كان دعوة للتّمرد والعصيان.
تمتلك الثيران -برأي أوميلكو- صفات تشبه ما نراه عند بعض بني البشر: الجنوح الدائم نحو الهيجان من دون أي سبب حقيقي، الهيجان من أجل الهيجان، العصيان من أجل العصيان، والعراك من أجل العراك؛ وبما أن الهدوء والنظام يُشعرهم بالملل والسأم فإنهم يحبون أن يصطخب كلّ شيء من حولهم، وأن يغلي ويفور؛ وسوف يسرهم أن يدركوا، بأنّ ما يحدث هو من صنعهم وليس من صنع غيرهم. أمثال هذه المخلوقات يمكن العثور عليها، كما أسلفنا منذ قليل، بين بني البشر وبين قطعان البهائم أيضًا. وهكذا كان هو حال ثورنا، فمن حركته الدعوية اندلعت شرارة العصيان الفظيع الذي سنتحدث عنه الآن. عندما كان يقف في حظيرته حزينًا بعزلته، كان لا يكفّ عن الخوار آناء الليل والنهار. لكنّ أوميلكو، الخبير بلغة الثيران، كان يستمع من خلال خواره الهدّار إلى اللعنات التي كان يوجهها لكلّ بني البشر، والتي ما كان لـ شكسبير أن يضعها على لسان تيمون الأثيني؛ وعندما كانت الثيران والأبقار تجتمع عند هبوط الظلام في الحظيرة بعد عودتها من المراعي، كان يفتح حوارًا مسائيًا مع إخوانه من أصحاب القرون، وتمكّن من وضع البذور الأولى للفكر الحرّ الإجرامي بين أبناء جلدته. كان أوميلكو قد رفّع إلى منصب المشرف العام على البهائم بسبب سنوات خدمته الطويلة، فلم يعد يقتصر إشرافه على الثيران والأبقار فقط، بل تعداها إلى الخرفان والماعز والخيول والخنازير. غني عن القول، أنه في منصبه الإداري الرفيع، وبسبب كثرة وتعدد مشاغله، كان صعبًا عليه أن يكون شاهد عيان على هذه الحوارات الغاضبة واتخاذ التدابير الاحترازية التي تكون عادة من اختصاص الموظفين الأدنى منه مقامًا.
كان يكفي أوميلكو، بمعرفته الممتازة بلغة الحيوانات وأخلاقها، أن يدخل مرة أو مرتين إلى الحظيرة حيث توجد البهائم، فيحدد، بما سيرصده من ملاحظات، متى بدأت أعمال الشغب، ومن أين انطلقت. أشير -مع شديد الأسف- إلى أن أوميلكو كان يتصف بالدماثة المفرطة وبالنعومة في إدارة الأعمال، فقد تعامل بتسامح مع الشيء الذي -كما أظهرت النتائج لاحقًا- كان ينبغي فيه اللجوء إلى أكثر الوسائل قسوة لاستئصال الشّر من جذوره. كثيرًا ما كانت تصل إلى أسماع أوميلكو، عندما يدخل إلى الحظيرة للحظات، كلمات شنيعة من الثور، ولكنّ أوميلكو كان ينظر إليها على أنها طيش شباب، وتعود إلى قلة التجربة، ولا شيء أكثر. ولو أن كلمات الثور، التي كان يطلقها في تلك الاجتماعات، قد ترجمت إلى لغة البشر، لكان معناها:
– أيها الإخوة الثيران، أيتها الأخوات والزوجات البقرات! أيتها البهائم المحترمة والجديرة بمصير أفضل من ذاك الذي تتحملونه بحكم القدر الذي جعلكم عبيدًا للإنسان المستبد! منذ فترة طويلة، طويلة جدًا، لا تستطيع ذاكرتنا البهيمية تقديرها، وأنتم تشربون من حوض المصائب ولا تستطيعون أن تشربوه حتى الثمالة!
لقد قام الطاغية المتوحش، مستفيدا من تفوق عقله على عقلنا، باستعبادنا، نحن ضعفاء العقول، وأوصلنا إلى الدرجة التي فقدنا فيها كرامة الكائنات الحيّة فصرنا مثل أدوات العمل غير العاقلة إرضاء لنزواته. الناس يحلبون أمهاتنا وزوجاتنا، ويحرمون صغارنا العجول من الحليب، وما هو الشيء الذي لم يصنعونه من حليب أبقارنا! الحليب هو ملكنا، وليس ملكًا للإنسان! ليحلب هؤلاء الناس زوجاتهم بدلًا من حلب أبقارنا، ولكن كلا: إن حليبهن، كما يبدو، لا يعجبهم كثيرًا، لأن حليب أبقارنا ألذ! ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك فقط. نحن معشر البهائم شعب طيب القلب، لقد سمحنا لهم بأن يحلبونا حتى لا يصنعوا معنا ما هو أسوأ. ولكن أبدًا؛ أنظروا إلى أين تذهب العجول المسكينة. إنهم يضعون هؤلاء الصغار المساكين في عربة ويربطون أقدامها، ويحملونها! إلى أين يحملونها! يحملون هذه العجول المسكينة التي انتزعوها من حلمات أمهاتها إلى الذبح. لقد أحبّ الطاغية النهم لحمها، وكيف لا! وهو يعتبره أفضل طعام عنده! وماذا يفعل الطاغية بإخوتنا الأكبر سنًا؟
إن إخوتنا من الثيران الأفاضل يحملون المحراث والنير الثقيل في أعناقهم ويحرثون لهم الأرض: والطاغية ينثر البذور في شقوق الأرض التي حرثتها الثيران بكدّها وتعبها، ومن هذه البذور ينمو الزرع، ومن الزرع يصنع طاغيتنا كتلة تشبه تراب الأرض، ولكنها أكثر بياضًا، ويسمّيها الطاغية خبزًا، وهذا الخبز لذيذ الطعم جدًا.
وإذا ما تجرأ أخونا الثور ودخل الحقل، الذي حرثه بكدّه وتعبه، ليذوق طعم الزرع، يقومون بطرده فورًا، مستخدمين في ذلك السّوط أو الهراوة الغليظة. والواقع، أنّ الزرع الذي نما في الحقل هو ملك لنا وليس للإنسان؛ فإخوتنا هم الذين جرّوا المحراث وفلحوا الأرض، وإلا ما كان للزرع أن ينمو في الحقل من تلقاء نفسه. الذي يعمل يجب أن يستفيد من نتاج عمله. ينبغي أن يكون الأمر كالتالي: إذا شددتم علينا المحراث، وحرثتم الحقل بجهودنا، فعليكم أن تعطونا الزرع الذي نما في الحقل، وإذا ما أراد الإنسان أن يحظى بشيء في مقابل البذور التي بذرها في الأرض التي حرثناها بجهدنا، فليكن الأمر،على أقل تقدير هكذا: هاتوا النصف، وخذوا النصف الآخر.
ولكن الإنسان الجشع يستحوذ على كلّ شيء، ولا ننال منه غير الضرب. إخوتنا البهائم شعب طيب القلب إلى درجة أنه كان سيرضى حتى بذلك. ولكن، هل توقفت قسوة طاغيتنا مع الثيران الكبيرة عند هذا الحدّ! هل حدث لكم يا إخوتي أن رأيتم، وأنتم ترعون في الحقول، كيف يسوقون القطيع من إخوتنا الأبقار أو الأغنام على الطريق ذي العمدان؟ والقطيع المسمّن جيدًا، يمرح، ويلعب! ربما اعتقدتم أن الطاغية ندم على أفعاله، وكفّر عن سوء أفعاله تجاه أبناء جلدتنا، فأطعم أخانا إلى حدّ التخمة، وأطلق سراحه! لا شيء من هذا! البهائم الغبية، تلعب وتلهو، وتعتقد فعلًا، أنهم أطلقوا سراحها، وأخذوها إلى السهول الفسيحة. لكنّ هذه البهائم سوف تدرك سريعًا ماذا ينتظرها! لقد اطعمها الطاغية حقًا، وأصبح أشقاؤنا البهائم يسرحون طوال الصيف في المروج بسعادة غامرة، ولم تعد تكلّف بأي عمل يفوق طاقتها، ولكن، لماذا كان ذلك؟ ما السبب الذي جعل الطاغية عطوفًا على البهائم إلى هذه الدرجة؟ ما هو السبب؟ حاولوا أن تسألوا إلى أين يسوقون البهائم، وستعرفون، أن المالك الشرير باع البهائم إلى شرير آخر من بني جنسه، وأنه يسوقها إلى حظائر بشرية كبيرة الحجم يسمونها مدنًا بحسب لغتهم. وبعد أن تُساق البهائم إلى هناك سيأخذون البهائم المسكينة إلى المسلخ، وهناك، سيكون بانتظار الثيران الكبيرة نفس مصير العجول الصغيرة، بل سيكون أكثر ترويعًا. هل تعلمون يا إخوتي ما هو المسلخ الذي يساقون إليه؟ سيتجمد الدم في عروقنا نحن البهائم لو تخيّلنا ماذا يحدث هناك في المسلخ، وما كان لهذه البهائم أن تجأر من شدّة الكرب، ومن غير ما سبب، عندما تقترب من المدينة حيث يقوم المسلخ. بعد أن يشدّوا وثاق الثور المسكين إلى العمود، يتقدم منه الشرير حاملًا البلطة وينزل بها على جبهته وبين قرنيه بحيث تجعل الثور يجأر من شدّة الهلع والألم ويقف على قائمتيه الخلفيتين، وبعدها يقوم الشرير بضربه للمرة الثانية، ثم يحزّ عنقه بالسكين. وبعد الإنتهاء من الثور الأول يأتي الدور على الثاني والثالث؛ وهكذا إلى حدّ العشرة، ومن بعدها عشرة أخرى، إلى أن يصل الذبح إلى مائة ثور بالتمام والكمال؛ فيسيل دم الثيران جداول؛ ثم يعملون على سلخ جلود القتلى، وتقطيع لحومها إلى أجزاء وبيعها في محلاتهم، وتسير الثيران الأخرى، التي ستُساق بدورها إلى المدينة لتلقى حتفها، من أمام هذه المحلات وترى لحوم رفاقها، فتستشعر قلوبها الثيرانية بأنّ هذا ما ينتظرها! من جلودنا يصنع الطاغية أحذيته لكي يحافظ على قدميه اللعينتين، ومن جلودنا يصنع مختلف الأنواع من الأكياس التي يحشر فيها أغراضه ويحملها في العربة، وفي هذه العربة يستخدمون إخوتنا الثيران، ومن جلودنا يقصّون شرائط رفيعة يصنعون منها السياط، وبهذه السياط المصنوعة من جلودنا نُضرب؛ وقد يقوم شخص ما بضرب شخص آخر بهذا السوط المصنوع من جلودنا. ما أقسى قلوب الطغاة! إنهم لا يتعاملون معنا وحدنا بهذه الطريقة، بل إن التعامل فيما بينهم ليس أقل قسوة! الواحد يستعبد الثاني، والواحد ينهش بالآخر ويعذّبه… جنس بشري شرير. ليس في الكون من هو أكثر شرًّا من الإنسان. الإنسان هو الأكثر شرًّا من جميع الوحوش قاطبة، ولقد كان نصيبنا، نحن البهائم طيبة القلب، أن نكون عبيدًا لهذا الوحش المتعطش للدماء! أليس مصيرنا، بعد كلّ ذلك، هو الأكثر مرارة!
ولكن، أليس لنا من مخرج؟ أنحن حقًا ضعفاء بحيث لا نستطيع أن نتحرر من هذه العبودية؟ أليست لدينا قرون؟ أقليلة هي الحوادث التي بقرت فيها الثيران، في لحظة غضبها العادل، بطون مضطهدينا؟ ألم يحدث أن قام ثور من إخوتنا برفس إنسان فكسر له يده أو رجله؟ أنحن ضعفاء؟ ألا يقرن الإنسان الشرير الثور إذا ما احتاج إلى نقل حمل ثقيل لا يستطيع حمله.
إذن، يعرف طاغيتنا جيدًا أننا أقوى منه بكثير. إن هذا الظالم يتجرأ علينا عندما لا ينتظر منّا مقاومة، وإن رأى أننا لا ننصاع لأمره نادى إخوانه من بني البشر فيلجأ هؤلاء إلى الإيقاع بنا. في بعض الأحيان يرفض قطيع الثيران الخضوع لمشيئة الراعي فهو يهشّه إلى اليمين والقطيع يريد الذهاب إلى اليسار، وعندها يصيح الراعي على بقية الرعاة فيحيط بعضهم بإخوتنا من جانب، وآخرون من جانب آخر، وتقوم مجموعة ثالثة بإخافتهم من الجهة الأمامية وهكذا يسوقونهم إلى حيث يريدون. وأما جماعتنا فلضعف في عقولها لا تعلم أن الرعاة، حتى لو أحاطوا بهم من كل جانب، سيظلون أقل عددًا من إخوتنا في القطيع، وأن عليهم ألا يستسلموا، وأن يهاجموا الرعاة بقرونهم ويتابعوا طريقهم، وما كان بمقدور الرعاة أن يفعلوا شيئًا، ولأنهم لم يعرفوا ماذا يجب أن يفعلوا، رضخوا، وساروا إلى حيث أراد لهم الرعاة أن يذهبوا، واكتفوا بالحسرات تصاحبهم حين لا تنفع الحسرات. يشتهي أخونا العشب اللذيذ في الدغلة، وأن يلعب قليلًا، حسب عاداتنا وتقاليدنا: التصارع بالقرون للتسلية، وحكّ الجلد بجذع شجرة، لكنهم لا يسمحون لنا بالدخول إلى هناك، ويطردوننا إلى المراعي حيث لا يوجد غير العشب القصير للقضم، أو يسوقوننا إلى الزريبة المثيرة للضجر لنمضغ التبن. والسبب، أننا نطيع الإنسان، ونخاف أن نظهر له شخصيتنا الحيوانية. دعونا نتوقف عن طاعة الطاغية ونعلنها أمامه، ليس بالهمهمة فقط، بل بالهيجاء الجماعية والمناطحة، وبأننا نريد، مهما كلّفنا الأمر، أن نكون حيوانات حرّة ولسنا مجرد عبيد جبناء.
أخواتي البقرات، إخوتي الثيران! لقد كنّا لزمن طويل أغرارًا غير ناضجين! ولكن أتى وقت آخر، وتغيّر الزمان! لقد أصبحنا أكثر نضجًا وتطوّرًا، وصرنا أكثر ذكاء! لقد أزفت الساعة التي سنسقط فيها نير العبودية عن كواهلنا، ونأخذ بثأر أجدادنا الذين أضناهم العمل، وأنهكهم الجوع والعلف الرديء، وتحملوا ضرب السياط، وجرّ العربات الثقيلة والذبح في المسالخ، وأن يتمزّقوا بأيدي الظالمين شرّ ممزق. تعالوا نوحّد جهودنا، ونوحّد قروننا!.
لن نكون وحدنا معشر الأبقار والثيران ضد الإنسان، وإنما ستقف معنا الخيول والماعز والخراف والخنازير… كلّ البهائم المنزلية التي استعبدها الإنسان سوف تثور من أجل حريتها في مواجهة الطاغية المشترك. دعونا نوقف جميع معاركنا وخلافاتنا الداخلية التي نشبت فيما بيننا، ونتذكر دائمًا بأنّ عدونا واحد وظالم.
دعونا نحقق المساواة والحرية والاستقلال، ونعيد للبهائم كرامتها المهدورة والمداسة، ونستعيد تلك الأوقات السعيدة يوم كانت البهائم حرّة ولم تكن قد وقعت بعد تحت سلطة الإنسان الغاشمة. تعالوا نعيد الأمور إلى سابق عهدها كما كانت في ذلك الزمن البعيد والسعيد، فتعود إلينا من جديد الحقول والمراعي والآكام، ويعود إلينا الحقّ في الرعي والرفس والنطح واللعب. دعونا نعيش بحرية مطلقة وبسعادة غامرة. عاشت البهائم! والموت للإنسان!.
أحدثت كلمة الثور الغاضبة تأثيرها. بعد ذلك، وفي أثناء فترة الصيف بدأت الثيران تعمل على نشر أفكارها الثورية في الحظائر والمراعي، وأصبحت الاجتماعات تعقد عند سياج الحظائر وتحت ظلال الأشجار، وبدأ الجميع يناقش كيف ومتى يجب على الثورة أن تبدأ ضد الإنسان. فكّر كثيرون أنه سيكون من الأسهل العمل بشكل فردي، والقيام بقتل الرعاة واحدًا بعد الآخر إلى أن ينتهوا منهم جميعًا؛ وكان الرأي الأكثر شجاعة هو القيام بقتل من يصدر الأوامر للرعاة، أي السيد الكبير. وأمّا الثيران التي تجرّ العربات في الطرقات وكانت لديها الفرصة لتوسيع آفاق رؤيتها للعالم، فطرحت الفكرة التالية: “ما الذي نستفيده لو قمنا بقتل الطاغية؟ سوف يموت، ويجدون شخصًا آخر يحلّ مكانه. ولكن إذا أردنا القيام بعمل عظيم فليكن العمل محكمًا نحقق فيه تحولات جذرية في مجتمع الحيوان، وننجز بعقول بهائمنا قواعد يمكنها أن تؤسس لرفاهيته إلى الأبد. ولكن، هل نستطيع نحن جماعة القرون النطّيحة أن نصنع لوحدنا ما سيكون صالحًا للجميع! أبداً! ابداً! هذا الأمر ليس من شأننا وحدنا، وإنما هو من شأن جميع البهائم التي ترزح تحت نير الإنسان. الخيول والماعز والخراف والخنازير، وحتى الدواجن المنزلية، يجب عليها أن تقف في وجه الطاغية المشترك، وبعد أن تسقط عن نفسها عبوديتها المذلّة، سنعمل في الاجتماع العام للبهائم على إقامة اتحاد حرّ وجديد”.
انتقلت هذه الدعوات الثيرانية للخيول التي ترعى مع الثيران في نفس الحقل. وهكذا انتشرت في مجتمع الخيول الصاهلة روح التّمرد. وعلى ضوء المعلومات التي ذكرها أوميلكو، فإنّ لغة الخيول تختلف عن لغة الثيران، لكن حياتهما المشتركة خلقت نقاط تقارب بين السلالتين. بدأت الخيول تفهم لغة الثيران، والثيران تفهم لغة الخيول. وما يمثله الثور من أهمية في سلالة البقر، كانت الفحول تساويه بالأهمية بين الخيول من جميع النواحي.
الفحول شعب عنيف، ميال لكلّ أشكال التّمرد، ويمكن القول إنه بطبيعته مهيأ ليلعب دور المحرض. كان من بين الخيول الموجودة في مزرعتي فحل أحمر اللون، محبّ للشغب. إذا قادوه، فلا يكون ذلك إلا بربط قائمتيه، وبسائسين يأخذانه من لجامه. ذات يوم، حاولوا أن يشدّوا عليه العريش ليجرّ العربة على الطريق، لكنه حرن وانحرف جانبًا، وقفز بقائمتيه الأماميتين على أول كوخ وقعت عليه عيناه، وأخذ يصهل بأعلى صوته. وفي إحدى المرات جاءني ضيوف فطلبت أن يأتوا به ليُعرض مع أكثر الخيول جمالاً؛ فقام، بلا أي سبب، بعضّ حصانين مخصيين، ولبط ثالثًا بحافريه، وحين ردّ عليه المخصيان بالمثل حدثت فوضى عارمة، فأمرت، على الفور، بالتفريق بينهم وإبعادهم خارجًا.
هذا المشاغب! مهما ضرب إخوته أثناء اللعب، كان، مع ذلك، يحظى بإحترام كبير بين الخيول، وكان الجميع على استعداد لتنفيذ طلباته. في أخلاق سلالة الخيل لا يعتبر حبّ الشغب عيبًا، بل على العكس، إنه يضمن لصاحبه الحقّ في الطاعة والاحترام، مثلما كان هو الحال في زمن الفايكينغ. بدأ هذا المحرض الأحمر اللون يثير حفيظة الخيول ضد الإنسان:
– كفاكم صبرًا على طغيان الإنسان! –قالها بشكل صارخ– هذا الشرير أبو الساقين استعبدنا منذ أن كانت البهائم حرّة، وهو لا يزال يستعبدنا جيلًا بعد جيل ضمن ظروف لا تطاق! ما هو الشيء الذي لم يفعله بنا! ما هو الشيء الذي لم يسئ به إلينا! إنه ُيسرج ظهورنا ويمتطينا، ويقودنا إلى الموت على أيدي أعدائه! هل تعرفون ذلك الذي يدعونه الناس بسلاح الفرسان؟ هذه الخيول التي تؤخذ إلى سلاح الفرسان تروي قصصًا مرعبة عمّا يحدث مع إخوتنا! إنّ غرّة الخيل لتقف من شدة الهلع عندما تستمع إلى قصصهم!.
يركب الناس على ظهور إخوتنا ويندفعون إلى المعركة ليقتل أحدهم الآخر، فنُقتل نحن معهم أيضًا. لا يأسف علينا قلبهم القاسي العديم الرحمة! كم من دماء خيل زكية سفحت! وكم من مناظر رعب تتكشف بعدها! هذا حصان عاثر الحظّ فقد إحدى رجليه يقفز خلف باقي الخيول على قوائمه الثلاثة والدماء تنزف منه إلى أن يسقط فاقد الوعي، وذاك آخر بترت قائمتاه الاثنتان فظلّ يزحف محاولًا بلا جدوى الوقوف على قائمتيه المتبقيتين؛ وثالث أُصيب بطعنة في صدره فتمنّى لو يأتيه الموت سريعًا، ورابع فقئت عيناه، وخامس فصلت رأسه عن جسده…. أكوام تتكدس من أجساد الخيول والبشر.
ولماذا كلّ ذلك؟ هل نعرف، نحن المساكين، على ماذا يتقاتلون فيما بينهم؟ إن هذا شأنهم وليس شأننا. إذا لم تتآلفوا فيما بينكم فتقاتلوا، وليذبح بعضكم بعضًا. فنحن عندما نتشاجر فيما بيننا نقوم بالعضّ، والرفس، ولا نستدعي منكم أحدًا، ولا ندخلكم في خلافاتنا! فلماذا إن اختلفتم فيما بينكم تدفعون بنا إلى الموت الزؤام؟
لا يسألون الخيّل، إن كانت تريد الذهاب معهم إلى المعركة، بل يسرجونها ويركبونها، وينطلقون بها إلى الحرب؛ ولا يفكرون مطلقًا بأنّ أخانا، ربما لا يريد أن يموت دون أن يعرف السبب الذي سيموت من أجله. ومن غير حرب واقتتال، هل قصّر الإنسان في اضطهادنا وتعذيبنا! إنه يضع في عربته أو زلاجته أنواعًا مختلفة من الأحمال، ويسرج شقيقنا، ويرغمه على جّرها، ويقوم بحثّه وضربه بالسوط على ظهره ورأسه، وعلى كلّ أنحاء جسمه دونما رحمة حتى يموت من شدة الضرب ويُسلم الروح. وهناك آخرون يسقطون تعبًا من ثقل ما يحملون، وتتكسّر أرجلهم، فيتركهم الطاغية الجبار للموت، ويسرج غيرهم من الخيول ليذوقوا ذات العذاب. آه يا إخوتي! الإنسان قاس، وشديد الدهاء، فلا تقعوا في حبائله. يدّعي بأنه إنسان، وأنه يحبّنا، ويُفاخر بنا أمام الناس. لا تصدّقوه. لا يغرنكم اهتمامه المزعوم بنمو سلالتنا عندما يجمع الأفراس ويُدخل عليها الفحول… هو يفعل ذلك من أجل نفسه، وليس من أجلنا: يريد لسلالتنا أن تثمر وتوفر له المزيد من العبيد. يترك بعضنا للتناسل والبعض الآخر -وهم الأكثر عددًا- يخصيهم بطريقة وحشية، فيحرمهم من القدرة على الإنجاب، ويحكم عليهم بالعبودية الأزلية، وبمختلف أنواع العذاب. هذا الطاغية المستبد يُفسد سلالتنا النبيلة، ويريد أن يبني لنا نفس النظام المجتمعي السائد بين الناس حيث يوجد أناس سعداء وأناس أشقياء.
وبعض إخوتنا يعلفونهم جيدًا بالتبن والشوفان، ولا يرهقونهم بالعمل، وإذا شكموهم أو أسرجوهم، فيكون ذلك لفترة وجيزة وبعدها يشفقون عليهم ويرسلونهم ليرتاحوا، ويقفوا في الاسطبلات ليأكلوا من الشوفان قدر ما يشاؤون، وإذا ما أفلتوهم إلى الحقل لعبوا، وتقافزوا، ومرحوا؛ وآخرون لا يرسلونهم إلى المعالف، وإنما يتركونهم يسرحون بحرية مع الأفراس في الحقول الواسعة، وهناك الجائعون على الدوام، المتعبون من السير الطويل ومن الأحمال الثقيلة، لا ينتظرون جائزة لقاء تعبهم غير الضرب بالسوط!
إخوتي! أليست لديكم أسنان وحوافر؟ ألا تجيدون العضّ والرفس؟ أم أنكم أصبحتم بلا حول ولا طول؟ لكن أنظروا: كم مرّة دفع فيها الطاغية ثمنًا مؤلمًا لوقاحته عندما كان يعتدى على حصان أنوف، كان في صحوة وعيه بنبل سلالته، يفلت منهم بحيث لا يستطيع أربعة أشرار أن يمسكوه. ولأن الطاغية مغرور ومتبجح فقد كان يتجرأ ويقفز على ظهره، وعندها كان الحصان يوقعه ويدعسه بحوافره فيقعده مريضًا في الفراش لعدة أيام!.
يظنّ الطاغية أننا أغبياء وأذلاء كالعبيد في طاعته، ولهذا السبب لم يخش أن يعطي شقيقنا سلاحًا ضد نفسه شخصيًا. لقد خطر على باله أن يدقّ المسامير في حوافرنا! وأن يجعلنا خيولًا محدّاة! فهيّا أشهروا هذا السلاح الذي أعطاكم إياه الطاغية: اقتلوه بهذه الحدوات! وأمّا الذين بقوا بلا حدوات، فأثبتوا له أنّ حوافركم قوية وثقيلة من دون حدوات وتستطيعون إظهار تفوقكم على الإنسان! يجب عليكم، الذين بحدوات والذين بدون حدوات، أن توحّدوا حوافركم وتقفوا معًا في وجه العدو الشرس.
وفضلًا عن الحوافر استخدموا في المعركة أسنانكم لتحدثوا بها ضررًا بليغًا بمن يستعبدنا! هبّوا جميعًا من أجل نيل حريتنا! ستمجدكم إلى الأبد سلالات الخيل الوليدة ولقرون عديدة. ليس سلالة الخيول وحدها، بل ستمجدكم كلّ البهائم: الكلّ سيقف معنا! الشوفان الذي يزرعه الإنسان سيكون لنا بجذوره وأوراقه. ولن يجرؤ أحد على طردنا من هناك مثل ماضي الزمان. ولن يستطيعوا بعد اليوم شكمنا أو سرجنا وسوقنا بالسوط. حرية! حرية! قوموا إلى الحرب يا إخوتي! من أجل حرية كلّ البهائم، ومن أجل شرف سلالة الخيول.
“اهجموا على الإنسان! اهجموا على الإنسان! اهجموا على المستبد الشرس! ارفسوه بالأقدام واضربوه!”
بسبب هذه الكلمات تعالى جئير، وهسيس عصيان وتمرد، وخبط حوافر، ولاحت أرجل ترتفع في الهواء، وأصوات معروفة ملازمة لشجاعة الخيول.
“اهجموا على الإنسان! اهجموا على الإنسان! اهجموا على الطاغية الشرس! عاجلوه بالرفس والضرب والعض!”
وصلت تلك الصرخات الصادرة من قطيع البهائم لكلّ من هو قادر على فهم لغة الخيول. أبدت الثيران رضاها لأنّ الثورة، التي نشبت في البداية ضمن محيطها، وصلت إلى سلالة الخيول. هزّت الثيران والأبقار قرونها بشجاعة، وتعالت الأصوات بخوار حربجيّ. وتحركت الثيران والخيول ضمن مجموعتين من الميليشيا نحو القصر.
يمين القطيع، وعلى التلّ الآخر، المفصول بواد عن ذاك الذي ترعى فيه الخيول، كانت ترعى قطعان الماعز والأغنام. ما أن رأت الفوضى بين الثيران والأبقار حتى أُصيبت هي أيضًا بحالة من الهيجان، فاندفعت باتجاه الثيران والخيول. ولكن كان عليها أن تقفز عبر الوادي الذي لم يكن عريضًا، أو الالتفاف من حوله. اعتبرت التيوس أن الطبيعة هيأتها لتكون في الطليعة من القطيع؛ فاندفعت إلى الوادي تماعي، وقفزت بحيويتها المعهودة من فوقه وهي ترفع رأسها بفخر وتهزّ لحاها، وكأنها تنتظر التهنئة على شجاعتها. ومن بعدها، وبنفس الخفّة، قفزت الماعز من فوق الوادي. أما الخراف فلم تكن جميعها على سوية واحدة من الخفّة. بعضها استطاع اللحاق بالماعز ووجد نفسه على الطرف الآخر من الوادي، لكن أكثرهم سقط في الوادي، فأخذوا يزحفون ويتسلقون بعضهم فوق بعض وهم يثغون بالشكوى والأنين. وهذا لم يمنع باقي المتخلفين من أن يحذوا حذوهم. لقد ركضوا في الاتجاه الذي حددته لهم الطليعة المتقدمة، لكنهم وجدوا أنفسهم في أسفل الوادي. ولم يعرف الذين اجتازوا الوادي، ما الذي يجب فعله، فتجمّعوا ورفعوا أصواتهم بثغاء غبي ينادي بالديمقراطية.
كانت الخراف تلوب من جهة إلى أخرى وجباهها تصطدم بعضها ببعض.
هذا الهيجان، الذي انتشر بين مختلف سلالات البهائم، رأته الخنازير التي كانت تسير على الجانب المعاكس للطريق المؤدي من الحقل إلى القرية. وعلى السريع تملّكتهم الروح الثورية التي تسرّبت، على ما يبدو، إلى مجتمع الخنازير مسبقًا. ركضت الخنازير التي تحفر الأرض بأنيابها، واستدارت إلى الطريق المؤدي مباشرة إلى قصر الإقطاعي، ولحق بها على نفس الطريق باقي القطيع من الخنازير مثيرًا الغبار بحيث حجب نور الشمس.
أميلكو، بعدما رأى الاضطراب بين البهائم، اندفع يركض على الطريق الذي أسرعت إليه الخنازير. وفكّر أن يبدأ بتهدئة المتمردين. سمع أوميلكو العارف بلغة الخنازير أن الذكور هم الذين حرضوا باقي القطيع على عدم التأخر عن غيرهم من البهائم التي تمردت على استبداد الإنسان.
وصلت إلى أسماع أميلكو القصص المؤلمة عن الخنازير المشوية التي تحضّر لأعياد الميلاد، وعن الشُعيرات التي تنتزع من على ظهور الخنازير الحيّة، وعن الخنانيص التي تذبح في كلّ الأوقات. نخرت خنزيرة بدينة وتحدثت عن الإهانات التي يوجهها الإنسان لسلالة الخنازير ناعتًا كلّ ما يعتبره مقرفًا بالخنزير. وتابعت خنزيرة أخرى كانت تركض إلى جوارها: “هذا ليس بشيء، الأسوأ من كلّ ذلك، أن الإنسان الذي يزدري الخنازير، ويحطّ من مزاياها، يذبحها من أجل دهنها ويصنع من لحمها السجق والقديد. إن لحمنا وشحمنا يروق لأذواق الطغاة. يعتبرون الخنزير الحيّ أسوأ البهائم، ولكنهم يمدحون الخنزير المذبوح أكثر من غيره، يمدحونه وكأنهم يحتقرون سلالتنا نحن الخنازير”. هكذا كانت الخنازير تنخر وهي تركض متوجه إلى قصر الإقطاعي مثيرة مشاعر الكراهية في ما بينها ضد الإنسان.
– من أي شيء نبدأ؟ – سألوا بعضهم بعضًا عندما لم يبق إلا القليل للوصول إلى مزرعة السادة.
– مهمتنا هي تخريب الأرض، أجاب الآخرون: سننطلق مباشرة إلى بستان الإقطاعي حيث أحواض الخضراوات. سنقوم بتخريب كلّ الأحواض. وبعدها ننطلق إلى حديقة الأزهار التي زرعها السادة بالقرب من القصر ليمتّعوا أنظارهم، فنجعلها خرابًا بطريقة خنزيرية! وهكذا ستظل ماثلة عند الناس ذكرى الأحواض وحديقة الأزهار وأنّ الخنازير مرّت من هناك!.
ركض، أوميلكو، بضع دقائق مع الخنازير على أمل أن يوقف هجومهم ويعيد البهائم من حيث أتت، لكنه تخلّى عن فكرته عندما هددته الخنازير بأنيابها. إرتدّ أميلكو على أعقابه وتوجّه ركضًا إلى القصر عبر الحقول.
ما إن ظهر أوميلكو في قصر الإقطاعي حاملًا النبأ عن الانتفاضة الشعبية للبهائم حتى توجهت مع ولديّ الاثنين إلى برج الحراسة الموجود في بيت الإقطاعي، ورحت أنظر من خلال المنظار. في البداية ظهرت القطعان المتوجهة إلى القصر مثل السحابة، ثمّ بدأت جحافلها تتعين بوضوح أكبر. رأيت في المنظار الخيول وهي تركض وترفس من حين إلى آخر، والثيران تهاجم برؤوسها ذات القرون. وكان كلّ هؤلاء، كما يبدو، يتخيّلون الطريقة التي سيعملون بها رفسًا وضربًا.
أصبح هؤلاء وغيرهم غير بعيدين عن القصر. أمّا الخراف والماعز فبقيت واقفة عند حافة الوادي وكأنها تفكر ماذا يجب عليها أن تفعل واكتفت بالثغاء. عندما نزلت من برج الحراسة مسرعًا لمحت عبر النافذة أن الخنازير قامت بالغزو من خلال المكان الذي يوجد فيه السياج الخشبي الذي يحيط بالبستان وأنه أصبح محطّما لا نفع فيه. هناك من عمل بحماس غريب على تخريب حقول البطاطا، واللفت، والجزر وغيرها من الخضراوات، والتهام الجذور، وهناك من تقدم على الخنازير وقام بغزو حديقة الأزهار الموجودة بالقرب من جدران قصر الإقطاعي حيث النوافذ التي رأيت من خلالها كيف كانت الخنازير الوقحة تقتلع بخطومها الورود والزنابق وأزاهير الفاوانيا.
أسرعت إلى الغرفة التي أحتفظ فيها بالبنادق، فأخذت لنفسي واحدة، وأعطيت بندقية لكلّ واحد من ولديّ الاثنين، وقمت، علاوة على ذلك، بتوزيع البنادق على الخدم، وخرجت بعدها إلى التراس المقابل للباب الخارجي. أصدرت أمرًا بإقفال الباب بالإضافة إلى بوابات السياج الخارجي المؤدية إلى الحديقة من الخارج. كانت الحديقة هي أضعف مكان عندنا فقد دخلت منها الخنازير، وسيكون من الخطورة بمكان لو دخلت بقية البهائم إلى هناك، وهكذا بقي لدينا أمل أخير، إذا تمكّنوا من السيطرة على الحديقة فستبقى الساحة تحت سيطرتنا، وسوف يكون من الصعب على الأعداء التسلل إليها من خلال الحديقة، وإلا سيكون عليهم تحويل قصر السيد الذي يفصل بين الحديقة والساحة إلى أنقاض.
عندما دخلت إلى المبنى لأخذ السلاح أمرت أحد الخدّام بأن يمتطي حصانًا وينطلق إلى المركز الذي يبعد عنا حوالي خمسة عشر فرسخًا، وأن يطلب من ضابط الشرطة هناك إصدار أمر بإرسال قوة عسكرية للقضاء على التّمرد. لكن لم يكتب لهذا الإجراء النجاح. ما أن امتطى رسولي الحصان وانطلق عبر البوابة حتى أسقط الحصان فارسه وهرب إلى الخيول المتمردة.
كان عندي الكثير من الكلاب. كنت في بعض الأحيان أخرج بها إلى الصيد. الكلاب، حسب ما هو متوقع، وعلى ضوء السمعة التي تكونت عن طبيعتها، لم تُبد رغبة بالانضمام إلى حركة التمرد، ولهذا اعتمدت عليها، ووزعتها إلى مجموعتين: واحدة أرسلتها إلى الحديقة لطرد الخنازير فيما لو تطلب الموقف ذلك، والثانية كلّفتها بحماية مدخل بوابة الساحة والتصدي لهجوم البهائم إذا ما بدأت تسيطر على البوابة. كان سياج الساحة مصنوعًا من آجر أحمر، ولكنه لم يكن مرتفعًا.
وقفت الخيول على قوائمها الخلفية وأشبكت قوائمها الأمامية بحافة السياج، وأظهرت لنا خطومها الغاضبة، ولكنها لم تستطع القفز من فوق السياج.
كنت أقف على التراس عندما هرعت نحوي امرأة تحمل خبرًا جديدًا ومرعبًا. في حظيرة الدواجن اندلعت حركة تمرد. كانت الإوزات أول المنتفضات. لا أحد يدري كيف وصلت إلى حظائرها روح التّمرد التي سيطرت على البهائم من ذوات الأربع قوائم، وحدها الإوزات، بهسيسها الذي يشبه فحيح الأفاعي، أفصحت عن نيتها الشريرة عندما نقرت المربية. ما إن اقتربت المربية من باب حظيرة البطّ حتى سمعت أصوات البطّ تنادي بالحرية والمساواة، وتتمايل بوقاحة ذات اليمين وذات الشمال وكأنّها تريد أن تقول: “أصبح الإنسان عندنا سيّان! وعلى إثرهم فرشت الديوك الرومية ذيولها بفخر واعتزاز، وتجمعت الإناث من حولهم، وصارت تصرخ معهم بطريقة وحشية، وكأنهم ينوون إخافة أحد ما.
أعطى الديك الكبير ذو اللون الناري بصوته الصّياح إشارة الغضب، وتبعته باقي الديكة بالصياح، وأخذت الدجاجات توقوق، وبدأ مجتمع الطيور الداجنة بأكمله يتقافز طائرًا، فتارة يجلس على عمدان الحظيرة، وتارة يهبط طائرًا إلى الأرض.
نظر أوميلكو إلى قن الدجاج فتناهى إلى سمعه بأنّ الدجاجات رفعت أجنحة العصيان، وأنها تهدد الناس بالنقر انتقامًا للدجاجات التي ذبحها الطهاة، وللبيض الذي أُخذ من تحت الأمهات الحاضنات.
بعد أن تلقينا الخبر، لم نقف طويلًا على التراس. انتبهت إلى أننا أصبحنا منخفضين جدًا، وأنّ علينا أن نتخذ موقعًا أكثر ارتفاعًا. عاينت الساحة من حولي، ووجدت أنه لا يوجد مكان أعلى من البرج الخشبي الذي يستخدم كبرج حمام، فنزلنا من فوق التراس وتوجهنا إليه بخطواتنا، وقررنا أن نصعد إلى قمته والمقاومة من هناك حتى لا تقوم البهائم المتمردة بتمزيقنا، أو تسعفنا صدفة ما وتخلصنا من براثن الموت. لكننا ونحن في الطريق إلى برج الحمام واجهتنا ظاهرة غريبة: كانت أربعة قطط تجلس معًا على الأرض؛ قطّان من قصر السيد، وآخر سمين، أبيض الوبر، ببقع سوداء كبيرة على ظهره وبطنه، والقطّ المحبوب من النساء الخادمات، صياد الفئران العظيم، الحائز على شهرة واسعة في القصر بانتصاراته على أكبر الجرذان.
هذا القط اللطيف والودود على الدوام، الذي كان يهرّ ويتمسح بنعومة بالإنسان، ها هو، ومن غير ما سبب، يجلس بين القطط الأخرى وينظر إلينا بعينين حاقدتين، وهو على أتمّ استعداد للهجوم علينا بمخالبه المتحفّزه.
لم نشكّ يومًا في إخلاص الكلاب، وأمّا سلالة القطط فقد كانت الآراء مختلفة حولهم منذ زمن بعيد.
وتبيّن، أنّ هذا القطّ المنزلي الأليف، لعب -عندما حانت لحظة الخطر- الدور الذي لعبه “مازيب مع بطرس الأكبر” في أحد الأيام. (كان مازيب صديقًا للقيصر الروسي ولقد نهض بالواقع الزراعي في أوكرانيا وحصل على أرفع الأوسمة، ولكنه حاول خيانة القيصر، وفصل أوكرانيا عن روسيا –م-) توقفنا لا إراديًا عندما رأينا أمامنا مجموعة القطط، وأما ابني الصغير فلم يفكر طويلًا، فقد صفّر للكلاب وأشار إليها نحو القطط ونادى بأعلى صوته: “هجوم!”، هجمت الكلاب على القطط فولّت الأدبار خائفة في كلّ اتجاه. رأيت القطّ السمين المبرقش كيف صعد على أحد العمدان المثبّتة لتراس المنزل، وبعدما تشبث بالعمود بمخالبه، أمال برأسه إلى الخلف ونظر متوعدًا الكلب الذي أراد أن يُمسك به، وكان يصدر في نفس الوقت الأصوات التي تتميّز بها القطط عندما تكون في لحظة الغضب والاستياء.
عندما وصلنا برج الحمام، وبدأنا نصعد إلى الأعلى عبر الدرج الضيق؛ أخذت الطيور تهاجمنا وكأنها كانت تريد ضربنا بأجنحتها ونقرنا بمناقيرها. أخذنا نلوّح بأيدينا لطردها بعيدًا عنّا، وساورنا شكّ بأنّ هذه الطيور اللطيفة و الوادعة، التي كنا نعتبرها هكذا على الدوام قد استهوتها روح الثورة التي تملّكت جميع البهائم من ذوات الأربع ومن ذوات الساقين الخاضعة لسلطة الإنسان؛ وبدا لنا أنهم صاروا يتذكرون تلك اللحظات الأليمة عندما كان الطاهي يأتي إلى برج الحمام حاملًا سكينه القاتل باحثًا عن أحد الطيور للشواء.
عندكم في المقاطعات الروسية الداخلية لا يأكلون لحم الحمام، فإذا ما حدث وتمرّدت البهائم المنزلية على الإنسان، فسوف تكونون في مأمن من الطيور. وعندنا أيضًا لم تُظهر الطيور في هذه الدقائق الموصوفة عداءً متواصلًا للإنسان. فعندما أطلق ابني الصغير رصاصة من بندقيته طار الحمام متفرقًا في الحال.
بعدما سيطرنا دونما صعوبة على أعلى البرج، نظرنا من هناك إلى الحشد الضخم من البهائم والخيول التي أحاطت بالقصر. من شدّة الجعير والخوار والصهيل، كان الكلام والسمع مستحيلًا.
ركض أوميلكو من حظيرة الدواجن عبر الساحة كالمجنون، وكان يبدو مثلنا جميعًا أنه فقد صوابه. دعوته إلى برج الحمام وقلت:
أنت وحدك تعرف لغة البهائم ويمكنك أن تتفاهم معها، طبعًا، لن أرسلك إلى الساحة، لأنك ما أن تطل برأسك حتى تتلقى نطحة ثور أو عضّة حصان، وبعدها يقتحمون البوابة وتكون نهايتنا، ولكن يمكنك أن تتسلّق السياج وتحاول من هناك التفاهم مع المتمردين.
انطلق أوميلكو لتنفيذ المهمة. تابعنا تحركاته باهتمام شديد، ورأينا كيف أسند السلم على السياج وصعد عليه، لكننا لم نتمكن من سماع اللغة التي كان يخاطب بها المتمردين. هل كان يخور أو يصهل مثلهم، لم نكن نعرف. لكننا سمعنا من خلف السياج ضجّة مرعبة، ورأينا أوميلكو يقفز من فوق السياج ويتوجّه نحونا ملوّحًا بيديه مثلما يفعلون عادة عند الإشارة إلى أن المهمة لم تنجح.
لا يمكن يا سيدي أن نفعل شيئًا مع هؤلاء المارقين! –قالها وهو يقترب من برج الحمام– لقد بدأت بنصحهم، وقلت لهم إن الرّب خلقهم لخدمة الإنسان وبأن يكون سيدًا عليهم! لكنهم صرخوا جميعًا: “أي ربّ هذا! هذا ربكم أيها البشر! أما نحن البهائم فلا نعرف ربًّا! سترون أيها الطغاة والأشرار كيف سنبقر بطونكم!” تعالى ضجيج الأبقار والثيران، “وكيف سنرفسكم بحوافرنا!”، صهلت الخيول، “ونأكلكم بأسناننا ! “، صرخ الجميع في وقت واحد.
ماذا نفعل الآن يا أميلكو؟، سألت بقلق كبير.
توجد وسيلة واحدة، قال أوميلكو، سنقول لهم إننا سنطلق سراح الجميع: الثيران والأبقار والخيول. سنقول لهم، اذهبوا إلى الحقول، وارتعوا كما تشاؤون في الحقول. نحن لن نكرهكم على العمل، فهيّا إذهبوا!.
وهكذا سينتشرون في الحقول فرحين، وأمّا الخنازير والدواجن فسوف نجد طريقة ما لتسوية الوضع معهم.
علينا أن نتخلص من هذه الخيول والأبقار والثيران، فهم الذين يشكلون خطرًا علينا بسبب قوتهم! عندما سينطلقون إلى الحقول ويستمتعون قليلًا سوف تنشب الخلافات بينهم ويتقاتلون؛ وحتى لو خرّبوا الأراضي المزروعة، فهي ليست كبيرة المساحة، فالقسم الأكبر من محصول القمح تمّ جمعه، وأما ما تبقى، وإن خسرناه، فسوف يبقينا بالمقابل على قيد الحياة. أمّا ما يثير الحزن حقاً فهي أكوام التبن التي سيعمل هؤلاء المارقون على إتلافها!.
لن تعرف البهائم ماذا ستفعل بحالها، وعندها يمكن العثور على وسائل تضعهم من جديد تحت سيطرتنا. إن أطول فترة لحريتهم -إذا ما سرحوا في الحقول- ستكون مع بداية الصقيع عندما لا ينمو شيء في الحقول، وعندها سوف يعودون من تلقاء أنفسهم. وكما تعرفون فإن فصل الخريف ليس ببعيد!.
سمحت لأميلكو بأن يتصرف على النحو الذي رآه مناسبًا. وهكذا عاد إلى تسلّق السياج من جديد، وأخذنا نراقب حركاته بانتباه أشدّ من السابق. بعد دقائق اندفعت قطعان البهائم التي تحاصر الساحة إلى البراري وهي تصهل وتزأر. تقافزت الخيول والثيران، ويبدو أنها كانت تفعل ذلك من فرط السعادة.
نزل أوميلكو من على السياج، وجاء إلينا وهو يقول:
لقد تخلّصنا منهم، الحمد لك والشكر يا ربّ! لقد نجحتُ بالتخلص من الخيول والثيران. والآن دعوا الكلاب تهجم على الخنازير في الحديقة، وأرسلوا الخدم لتهدئة الدواجن، وبعدها سأذهب لتهدئة البطّ والإوز.
– كيف استطعت التخلص من البهائم من ذوات الحوافر والقرون؟ سألت أميلكو.
– لقد فعلت ما يلي.. أوضح أوميلكو: لقد سألتهم: ماذا تريدون، هيّا، قولوا بصراحة. ربما نستطيع أن نحقق لكم ما تريدون.
– “حرية! حرية! “، صرخت الخيول والثيران معًا.
فقلت لهم: “ولم لا؟ كونوا أحرارًا! هيّا اذهبوا إلى الحقول وأتلفوا سنابل القمح التي لا تزال في جذورها. أمّا نحن فلن نعمل بعد الآن على استخدامكم. كونوا أسيادًا لأنفسكم!”، ما أن سمعوا ذلك حتى دقّوا الأرض بحوافرهم، ورفسوا، وصرخوا بسعادة: “نحن أحرار! لقد حصلنا على حريتنا! سنذهب إلى البراري! لقد انتصرنا! حرية، حرية!” وركضوا.
أحسنت يا أميلكو، قلت له، أنت تستحق الشكر والثناء! لقد أنقذتنا من مصيبة. نزلنا من برج الحمام، وأمرت بأن تجمع الكلاب وتنقل عبر المنزل إلى الحديقة وتلتحق بالكلاب التي أرسلت سابقًا إلى هناك للسيطرة على الخنازير. لم تكن الأمور عندهم تسير على ما يرام، فعدد الكلاب التي أرسلت إلى الحديقة لم يكن كبيرًا، قبل أن يصل الدعم من الكلاب الموجودة في الباحة الأمامية للمنزل. بعد أن جرى نقل الكلاب إلى الحديقة دخلت إلى المنزل ووقفت بحذاء النافذة، وصوّبت بندقيتي الملقّمة عبر النافذة المفتوحة. صوّبت على خنزير كان يعمل تخريبًا في حوض الزهور ويحاول أن يقتلع زهور الأرجوان من جذورها. اخترقت الرصاصة الحيوان المتوحش. تركت الخنازير أحواض الزهور مذعورة بسبب صوت الطلقة التي قتلت زعيمهم الشرس، والكلاب تطوقهم من كلّ الجوانب، والتحقت برفاقها الذين كانوا في أقصى الحديقة يعملون على تخريب أحواض الخضار. لم تترك لهم الكلاب الفرصة لاسترداد أنفاسهم أو للهرب. بعض الكلاب تشبث بقوائم الخنازير، وبعضها ركض وأمسك بالخنازير من آذانها وجرّها، فأخذت تجأر وتئنّ من شدّة الألم. بعد الكلاب، انطلق خادمان مسلحان بالبنادق، وأطلقا رصاصتين أوقعتا خنزيرين، فزاد من حماسة الكلاب وسعادتها.
سرعان ما تمّ تطهير الحديقة من الخنازير. لكنّ الكلاب استمرت في مطاردتها على طول الطريق الذي هربت إليه الخنازير، مثيرة ذات الغمامة الكثيفة من الغبار الذي أثارته عندما انطلقت بحماسة خنزيرية على ذات الطريق لتهاجم الحديقة.
توجهنا إلى حظيرة الدواجن، وكانت الفوضى هناك على أشدّها. الكلّ كان يطير ويتطاير، يقفز ويتقافز ويندفع، والصياح يعلو من كلّ صنف ولون: بطبطة، نقنقة، زقزقة وبقبقة. أطلق ابني الصغير رصاصة من بندقيته فأصيب مجتمع الدواجن بهيجان شديد بسبب هذه الطلقة، لكنه أُصيب بالذهول فورًا وسكت للحظة. استغل أوميلكو تلك اللحظة وصرخ:
لماذا تصيحون بلا فائدة؟ قولوا ماذا تريدون. وما حاجتكم؟ ونحن نفعل كلّ شيء من أجلكم.
حرية! حرية! – صرخت الدواجن بمختلف لغاتها.
حرية! حرية! – صرخ أوميلكو، مستفزًا -كما يبدو- الطيور. حسنًا، سنعطيكم الحرية أيتها الإوزات والبطّات! هاهم إخوتكم الأحرار يطيرون في أعالي السماء! فهيّا طيروا إليهم. نحن نسمح لكم. نحن لا نتمسك بكم! لديكم أجنحة، فهيّا طيروا!.
كيف نطير ونحن لسنا أقوياء بما فيه الكفاية لنقوم بذلك!، صاحت الإوزات، – أجدادنا كانوا أحرارًا مثل هؤلاء الذين يطيرون الآن في أعالي السماء. لكنكم أيها الطغاة أخذتموهم عبيدًا، فجاء منهم أجدادنا وآباؤنا، وهكذا وجدنا أنفسنا جميعًا في العبودية، وبسبب هذه العبودية لم نعد نعرف الطيران كهؤلاء الذين يطيرون الآن بعدما ظلّوا أحرارًا كسابق عهدهم.
ليس هذا ذنبنا، قال أوميلكو، احكموا بعقولكم البطّية والوزّية، هل نحن الذين أخذناكم من الحرية إلى العبودية؟ هل نحن الذين منعناكم من الطيران عاليًا؟ لقد خرجتم عندنا من البيضة، ومنذ يومكم الأول وإلى حدّ الساعة وأنتم لا تستطيعون الطيران، وكذلك آباؤكم وأجدادكم الذين عاشوا معنا لم يطيروا مثل الطيور البرّية. لقد خضعت سلالتكم لبني البشر منذ زمن بعيد، وأنتم لا تستطيعون بذاكرتكم الإوزية، ولا نحن بذاكرتنا البشرية، أن نعرف متى حدث ذلك! أولئك الذين أخذوا أجدادكم عبيدًا في يوم ما، لم يعودوا أحياء منذ زمن بعيد. أمّا نحن، الذين نعيش الآن، فما ذنبنا إذا كنتم لا تستطيعون الطيران عالياً؟ سوف نطلق سراحكم! فهيّا طيروا! وإذا كنتم لا تستطيعون، فلا تلومونا في ذلك.
أجابت الإوزات:
نحن لا نستطيع الطيران وسوف نبقى عندكم. ولكن لا تذبحونا فنحن نحب أن نعيش. بعد الإوزات جاء دور البطّات وعبّرت عن ذات المعنى.
وكان جواب أوميلكو: تقولون أنكم تحبّون أن تعيشوا. وأعتقد أنكم تحبّون أن تأكلوا أيضًا. كيف تريدوننا أن نطعمكم ولا نحصل في المقابل على أية فائدة منكم. كلا، كلا. بهذا الطريقة مستحيل. طيروا طالما أنكم لا تريدون أن تذبحوا. طيروا نحو الحرية. لن نجبركم على البقاء عنوة. لكن إذا ما أردتم البقاء والحصول على العلف، فعليكم أن تقدموا لنا شيئًا في بالمقابل. نحن سنطعمكم، ولكننا في المقابل سنذبحكم. نريد أن نُطعم منكم لأننا نقوم بعلفكم. ما المشكلة إذا ذبح الطباخ إوزّة وشواها! إنه لا يذبحكم دفعة واحدة! سيكون وضعكم أسوأ إن أنتم تحررتم وجاءكم حيوان مفترس أو طائر جارح وهاجمكم. سيتم القضاء عليكم جميعًا في وقت واحد. هل حدث مرّة وقام الطاهي بذبح اثنتين أو ثلاث بطّات أو إوزات في وقت واحد. لكنكم في المقابل تعيشون عندنا في صحة جيدة وفي أحسن حال. لن تستطيعوا أن تعيشوا حياة حرة كتلك الموجودة عندنا. جرّبوا وطيروا، وعيشوا حياة الحرية!.
إلى أين نطير وليست لدينا القدرة على فعل ذلك!، كررت الإوزات، ومثلها قالت البطّات.
إذًا عيشوا بهدوء وسلام ولا تتمردوا!، قال أميلكو بثقة، وتوجّه للدجاجات بهذه الكلمات:
أيتها الدجاجات الغبيات! لقد أردتم الحرية أيضًا! طيروا، طيروا، وحلّقوا عاليًا، وتنزهوا في السماء، وتعرّفوا على الحياة كيف تكون من دوننا. فعلا، أنتن غبيات، لن تستطعن الطيران أعلى من مترين عن سطح الأرض. العرسات، والقطط، وطيور السنونو، والنسور الجوارح سوف تأكلكم، والحدأة ستأكل صغاركم، ولن تترك لكم طيور العقعق والغربان بيوضًا لترقدوا عليها! أنتن غبيات! غبيّات جدًا! أنتن من أكثر طيور الأرض حاجة للإنسان لكي تعيش. هيّا تقبّلوا الأمر الواقع، واستسلموا، فهذا، على ما يبدو، هو مصيرنا المشترك، نحرسكم ونطعمكم، وبالمقابل نذبحكم ونأخذ بيضكم.
نقنقت الدجاجات بصوت الإذعان عالية. صاحت الديوك مرحًا، ولكنّ أوميلكو فسّر لنا ذلك، بأنّه إقرار منهم بسلطتنا عليهم، وأنهم يتعهدون بالطاعة التّامة في المستقبل.
بدت الطيور هادئة وراضية ما عدا طير الحبش الذي كان، كعادته، يشكو ويتذّمر بصوت مرتفع بسبب حظّه العاثر.
توجّه أوميلكو إلى الماعز والخراف. الخراف التي نجحت في اجتياز الوادي، وقفت مجتمعة تنظر بغباء إلى إخوتها الذين سقطوا في الوادي، فلم تتقدم أكثر. كانت المسكينات تتخبط في الوادي ولا تعرف كيف تتسلق جنبات الوادي الشديدة الانحدار؛ وكان يمكنها الخروج من هناك بالسير على طول الشقّ المستقيم في الوادي، لكنّ الخراف تفتقر إلى الذكاء. أما الماعز، التي وقفت في المقدمة، فما أن رأت أوميلكو يتقدم منها، حتى أخذت تخبط بحوافرها، وأشهرت في وجهه أسلحتها الماعزية، واشرأبت برؤوسها الملتحية وهي تتمايل بقرونها وكأنها تريد أن تقول: “لو اقتربت طعناك!”.
لكن أوميلكو، الذي عثرعلى غصن طويل، أخذ يضربهم على جنوبهم، ويطردهم بعيدًا الواحد بعد الآخر، وينادى على الرعاة ويأمرهم بالذهاب لسحب الخراف التي سقطت في الوادي وسوقها إلى الحظيرة.
اسمعوني جيدًا!، صرخ في أعقاب الخراف: إذا تجرأتم على العصيان سوف تكونون في مأزق! سوف نأمر بذبح المحرضين! أيها الأغبياء! تريدون الحرية! أغبياء! لو أطلقنا سراحكم نحن البشر لأكلتكم الذئاب! اشكرونا على طيبة قلوبنا، وعلى تسامحنا مع غبائكم!.
ثغت الخراف بصوت الإمتنان الذي طالبهم به أوميلكو.
بعدما حصلت قطعان الأبقار والثيران والخيول من أوميلكو على حريتها، ركضت في البداية إلى البرية، وهناك شعرت بفرح عارم، فنطّت، وركضت، وجأرت، وصهلت، وحمحمت، ووقفت، في إشارة على الاحترام المتبادل فيما بينها، على قوائمها الخلفية، وتعانقت بقوائمها الأمامية.
قارب شهر آب على النهاية. كانت الحقول حُصدت، والمحاصيل رُحّلت تقريبًا وجمعت في أكداس، وتبقى القليل من القمح الذي لم يحصد بعد، ويعود لأنواع لا يتمّ حصادها إلا في وقت متأخر. هجمت القطعان على خطّ الحنطة السوداء الذي لم يحصد بعد، وداسوه بالحوافر فلم تسلم منها سنبلة واحدة. وتوجهوا بعدها للبحث عن حقل زراعي غير محصود، فأحدثوا فيه ذات الأثر. لكنّ التوافق بين البهائم من ذوات الحوافر وذوات القرون أخذ ينهار، وأعني بذلك التوافق الذي حصل منذ فترة بخصوص تعاونهم المشترك للحصول على حريتهم. لا أعرف في الحقيقة سبب الخلاف الذي شجر فيما بينهم، لكنّ الثيران بدأت تنطح الخيول، والخيول ترفس الثيران، وبعدها ذهب كلّ فريق في اتجاه. ثم حدثت انقسامات داخل القطيع الواحد.
وكان سبب ذلك، على الأرجح، تنازع الذكور على الإناث، كالتنازع الذي يحدث عادة في مجتمعاتنا البشرية للوصول إلى الجنس اللطيف، والذي يعتبر، في الغالب، سببًا في إنهاء الصداقة والتفاهم ويؤدي إلى حوادث مؤسفة.
وقطعان الأبقار والثيران، وقطعان الخيول انقسمت إلى جماعات متفرقة، والتي انفصلت عن التجمع الكبير ذهبت بعيدًا تاركة أصدقاءها السابقين. لقد درس أوميلكو جيدًا أخلاق البهائم، واعتمد على هذه الناحية عندما منح البهائم الحرية ثم أخذ يتابع الذين أطلق سراحهم. التقى بمجموعات من الثيران والخيول التي كانت هائمة على وجهها، وبقوة بلاغته اللغوية استطاع أن يقنعهم بالعودة إلى القرية.
أغواهم أوميلكو بالوعود وإعطائهم الكثير من التبن، والشوفان للخيول؛ وأما الآخرون، الذين انفصلوا عن التجمع الكبير، فقد أوغلوا في أراضي الغير، وأفسدوا حقول القمح، وبعثروا أكوام التبن في الأرض، ووقعوا في الأسر. بعد أن علم أوميلكو بوضعهم اشتراهم من السادة الأغراب ودفع ثمن ما أحدثوه من أضرار، وساق البهائم التي دفع ثمنها إلى القرية.
أخيرًا، وكما توقع أوميلكو، هامت الحيوانات الأكثر حماسة وعنادًا في الحقول إلى نهاية الخريف، وعندما لم يبق عشب في أي مكان نزلت الثلوج. في الخريف الماضي، كما تعرفون، حدث ذلك أبكر من المعتاد. عندما رأت البهائم أن الأرض لم تعد تعطي ما يكفي من الغذاء استفاقت من الإغواء الكاذب بالحرية، وبدأت بالعودة طوعًا إلى حظائرها. وعندها عاد زعماء التحريض برؤوس خانعة: الثور المحرض للثيران، والحصان الأشقر المحرض للخيول على التمرد والعصيان. كان عقابهما مروعًا: الثور، بحسب الحكم الذي أصدره أوميلكو، والذي جرت المصادقة عليه من قبلي، نفّذت فية عقوبة الإعدام بالضرب بالهراوات، وأمّا الحصان فحرم من فحولته، وشدّت عليه “الكردانة” لينقل الأحمال الثقيلة. والآخرون، وبالتحقيق العادل والنزيه من قبل أميلكو، نالوا عقابًا يتناسب مع ما اقترفوه من ذنوب.
وهكذا انتهت ثورة البهائم التي كانت ظاهرة غير عادية وفريدة من نوعها، وبحسب علمي، لم يُسمع شيئٌ عن مثلها سابقًا. مع قدوم أيام الشتاء هدأ كلّ شيء، ولكن ما الذي قد يحدث بعد ذلك ؟ فصل الربيع سيظهر ذلك. لا يمكن التأكيد على أنه في الصيف القادم، أو في أي وقت آخر، لن تتكرر الأحداث العجيبة التي رأيناها بأعيننا، حتى لو اتخذ أوميلكو، الذكي والفطن، كافة الإجراءات الكفيلة ليمنع تكرار ذلك.