بلغ الستين من عمره وهو لا يزالُ يشعر بمسؤولية أخلاقية في أن يكون إلى جانب الناس فيما يتوقون إليه ليكون شكلا لحياتهم، رغم ما جرّه ذلك عليه من متاعب كثيرة. فالدهشة بالعمل السياسي في وقت مبكر من حياته، زجّت به إلى مطارات شتى من هذا العالم، وجرّعته الغربة، غير أنّها بطريقة أو أخرى، لا تزال السياسة لعبته الأثيرة. بلغ الستين من عمره وهو لا يزالُ يشعر بمسؤولية أخلاقية في أن يكون إلى جانب الناس فيما يتوقون إليه ليكون شكلا لحياتهم، رغم ما جرّه ذلك عليه من متاعب كثيرة. فالدهشة بالعمل السياسي في وقت مبكر من حياته، زجّت به إلى مطارات شتى من هذا العالم، وجرّعته الغربة، غير أنّها بطريقة أو أخرى، لا تزال السياسة لعبته الأثيرة. منذ أكثر من ثلاثين عاما، لم يتوقف قلمه عن مشاكسة التغيرات التي تعبر المنطقة الخليجية والعربية، سواء أكانت ذات طابع سياسي أو ثقافي أو اجتماعي. تتقد حرارة كتاباته من مشغلٍ يومي صاخب، فيرصده ويُعيد قراءته من جديد، ولذلك يعد واحدا من أهم الأسماء المؤثرة في الكتابة الصحفية والأدبية، رغم أنّه تخرج من كلية الحقوق، ولم يمارس المحاماة في حياته.من أهم كتبه، “الثقافة في الخليج، “أسئلة برسم المستقبل”، و”مزالق عالم يتغير”، “لا قمر في بغداد، قبل الحرب- بعد الحرب” و”تنور الكتابة”،”ترميم الذاكرة”، “الكتابة بحبر أسود”، “للأشياء أوانها”، وغيرها. الكاتب البحريني الدكتور حسن مدن، باحثٌ وكاتب بحريني، وواحدٌ من أهم وجوه الثقافة الخليجية الدؤوبة الذي رغم ما خاضه من تجارب لم تركن إلى العزلة التي اختارتها أسماءٌ أخرى، بل ظلّ محكوما بالأمل. • تبدو كمن يعيش في الكتب، وتتماس مع الحياة في آن، ويستشف القارئ من كتبك “الكتابة بحبر أسود”، “للأشياء أوانها” أو “ترميم الذاكرة”، بأنّك قارئ موسوعي، ويمكنك التجذر في أكثر من منطقة، فما هي الأشياء التي ساهمت في تأصيل تكوينك المعرفي وتأملاتك؟ – حين أتأمل في رفوف مكتبي بالبيت، وأرى العدد الكبير من عناوين الكتب التي اقتنيتها من معارض الكتب أو من المكتبات، أو وصلتني كهدايا من كُتّابها، ولم أقرأها بعد، لأني ببساطة لم أجد الوقت الكافي لأن أفعل ذلك، أشعر بشيء من الأسى، رغم أني أظل متعلقاً بالأمل في أني سأتمكن من قراءة بعضها، الذي آمل أن يكون كثيراً، لكن أعمارنا مهما طالت لن تكفي لقراءة كل ما نرغب ونحب من الكتب.أقول ذلك رداً على ملاحظتك بأني أبدو كمن يعيش في الكتب. نعم هذه الكتب لها فضل كبير في تكوين شخصيتي ومعارفي وتوسيع أفق نظرتي للحياة، وسأظل شغوفاً بمطالعة المزيد منها، وفي هذا المجال هناك تفصيل مهم لا بد أن أشير إليه، وهو أن أحد أهم بواعثي في المطالعة الدؤوبة شعوري بالحاجة المستمرة، التي لا تتوقف، لتغذية كتابتي بالجديد والمتغير، ولا أعني بالجديد هنا الجدة بمعنى التراتب الزمني، وإنما أعني الجديد من المعرفة التي نكتسبها بصرف النظر عن الزمن الذي أنتجت فيه، فكوني كاتباً لزاوية يومية منذ عقدين متواصلين، وبدون انقطاع تقريباً، كان عليّ كي أحافظ على لياقتي الكتابية إن صحّ القول، أن أستمر في القراءة والمطالعة. هذا عن كون القراءة والاطلاع مصدراً من مصادر تكوين المعرفة. أما إشارتك حول جمعي بين ذلك وبين التماس مع الحياة، فلا أحسب أنّ هذا أمر خاص بي. كثيرون من الكتاب هم كذلك. إذا انقطع الكاتب عن الحياة، أي عن التجربة، كيف له أن يقدم كتابة مقنعة ومؤثرة. بالنسبة لي شخصياً كان لانخراطي في العمل السياسي منذ وقت مبكر أثره الكبير في الزج بي في أتون هذه الحياة وتعقيداتها، وفي ظروف بلدنا والمنطقة فقد اقترن هذا الانخراط بمصاعب شتى وأوجه معاناة، لا تخصني وحدي وإنما تشمل كل أولئك الذين اختاروا الطريق ذاته، بل أن ما عانيتُ منه يبدو قليلاً ومتواضعاً إزاء تضحيات رفاق آخرين لي، بعضهم قدموا حياتهم ثمناً لذلك الخيار، وبينهم أصدقاء شخصيون لي، كالشاعر سعيد العويناتي مثلاً. وفي المحصلة فإنه كان لهذه التجربة، بمسارها الطويل وتعرجاتها الكثيرة، أثرها الكبير في إنضاج شخصيتي، وجعلي قريباً من الهم الوطني ومن الهم المباشر للناس وتطلعاتهم نحو حياة أفضل.
حسن مدن من القلّة القليلة (من أبناء جيله) الذي استمر مُواكبا لكل مستجدات التغيرات السياسية والاجتماعية والأدبية، يُعبر عن رأيه دون هوادة، فما الذي يُؤجج ويحرضُ بداخلك هذه المسؤولية؟ ولماذا لم تذهب إلى العزلة التي اختارها كُثرٌ من أبناء جيلك ؟فضل كبير في هذا يعود إلى الدينامية السياسية لمجتمعنا البحريني، فالبحرين على صغر مساحتها وقلة عدد شعبها، تتمتع بحيوية سياسية تكاد تكون فريدة من نوعها في محيطها، وهذه الحيوية مدّتني ومدّت الكثيرين سواي من المناضلين والمثقفين بأسباب المثابرة والدأب، خاصة وأن التحولات السياسية المهمة التي جرت في البحرين منذ مطالع هذه الألفية والتي تمثلت بالانفراج السياسي والإقرار بشرعية العمل الحزبي تحت مظلة قانون الجمعيات السياسية وعودة الحياة البرلمانية على كل أوجه القصور فيها، خلقت لدينا شعوراً بأن جهودنا وتضحياتنا، نحن والأجيال السابقة لنا لم تذهب سدى، وإننا استطعنا أن نلمس ولو القليل من ثمار عملنا، وأن بوسعنا تحقيق مكاسب اضافية لبلدنا ومجتمعنا ولحركتنا الوطنية والتقدمية.لا شك أن جانباً من الموضوع له علاقة بالاستعداد الذاتي، وهذا ما عنيتيه أنتِ في سؤالك ربما، أي الرغبة والقدرة على الاستمرارية في هذا الطريق حتى اليوم، وها أنا قد بلغت الستين من عمري. لا أستطيع أن أشرح ذلك بدقة، ولكني دائماً شعرتُ بمسؤولية أخلاقية في أن أكون إلى جانب الناس في توقهم نحو حياة أفضل، رغم ما يجره ذلك من متاعب. كثيرة هي المرات التي شعرت فيها أنه من الواجب أن أكون حيث كنت، مع معرفتي أن لذلك كلفة عليّ وأيضاً على عائلتي. والمتاعب في ظروفنا الراهنة لا تأتي فقط من السلطة الرسمية الماسكة بزمام القوة، وكان لي من هذا النوع من المتاعب حصة ليست قليلة، ولكنها تأتي أيضاً من مواقع في المجتمع تريد لك أن تكون على شاكلتها في كل شيء. ولكي أجيب على سؤالك: لماذا لم أذهب للعزلة، يجب أن نحدد ما المقصود بالعزلة، ككاتب أشعر بتزايد الحاجة إلى أن أنجز مشاريعي الكتابية المؤجلة، والتي كنت أؤجلها، على أمل أنّ الوقت سيأتي وأتفرغ لذلك، وكنتُ قبل سنوات أقول إنّي سأفعل ذلك عندما أخرج الى التقاعد، وهذا ما تمّ لي، والحمد لله، منذ أكثر من عام، ولديّ الرغبة الجادة في أن أمنح أمر التفرغ لإنجاز بعض هذه المشاريع ما يستحقه من اهتمام، الذي يتطلب درجة من العزلة، فالعمر يمر، ولا بد من فعل ذلك. أما إذا كان المقصود بالعزلة الانفصال عن الحياة، وعن القيام بما أستطيع القيام به من مهام يفرضها التزامي السياسي والفكري، فأتمنى ألا يحدث هذا.
• أنت مسكون بالذكريات والوقائع وهاجس الاغتراب الذي يُطاردك، ولذلك أنت تستدعي مشروع “ترميم الذاكرة” باستمرار، فإلى أي حد صنعتك الغربة في أبهى عقود شبابك، كما صنعت تنوعك الثقافي؟ – شرحتُ ذلك بشيء من التفصيل في كتابي: “ترميم الذاكرة”. غادرتُ وطني وأنا شاب دون العشرين من عمري وعدتُ إليه وقد بلغت الخامسة والأربعين، وسنوات الغربة الطويلة هذه التي تجاوزت ربع قرن توزعت على منافٍ عدة، بعضها لم أختره شخصياً، وإنما وجدت نفسي محمولاً على أن أكون فيه. هذه التجربة جعلت علاقتي بالوطن في جوانب منها على الأقل، ولفترة ليست قصيرة كما ترين، قائمة على التذكر. وكما قلتُ في “ترميم الذاكرة”، فنحن إذ نختبر علاقتنا مع المكان، خاصة إذا كان هذا المكان هو نفسه وطننا، ونحن بعيدون عنه، فإنّ أوّل ما نحنّ إليه أو ما يتبادر إلى ذهننا صورة الوجوه التي نحبّها فيه، أو التي تشدنا إليها روابط قربى، وحتّى حين نتذكّر مرابع الذّكرى فإنّما لنُشيد منها خلفيّة مكانيّة لما يشدّنا إلى هذه الوجوه، وفي هذه الحال تقفز إلى أذهاننا صور وتداعيات عن أشياء في منتهى البساطة والصّغر، بحيث إنّنا في الغالب لم نكن ننتبه إليها حين كنا بجوارها، كنّا نتعاطى معها أو نقيم علاقتنا بها بوصفها أموراً عاديّة تماماً، فنفاجأ حين نبعد عنها أنّها ليست كذلك، إنّها مكتنزة بالتّعبيرات والرّموز التي تشعل في نفوسنا حرائق من الشّوق لا للأمكنة التي بعدت فحسب، وإنّما أساساً للزّمن الذي أصبح ماضياً. وقد لا تكون المسافة بين ما جرى وبين تذكّرنا له طويلة، فذلك لا يكتسب كبير أهمية. فالذّكرى يمكن أن تقفز من وقتٍ بعيد كنّا قد تصوّرنا أنّنا نسيناه بما له وبما عليه، وقد تقفز من حدثٍ طازجٍ مازال يفوحُ بطعم الجدّة، ولكنّه بات أمراً منجزاً، فعلاً ماضياً، بات ذكرى. قلتُ هذا في “ترميم الذاكرة” من واقع التجربة التي عشتها، لا في العلاقة مع الوطن وحده، وإنما أيضاً في العلاقة مع المدن التي توزعت إقامتي فيها على مدار الغربة الطويلة: القاهرة، بغداد، بيروت، دمشق، موسكو، الشارقة. حين كنتُ أجد نفسي محمولاً على أن أُخلفها ورائي واحدة بعد الأخرى، وفي بعض الحالات بشكل قسري أو اضطراري، كما حدث مع اضطراري لمغادرة القاهرة وبيروت مثلاً.المنفى الطويل الذي شهد هذا التنقل بين بلدان ومدن أثرى تجربتي الحياتية ولا شك، وأكسبني خبرات ومعارف ما كنت سأبلغها لو بقيت في مكان واحد، حتى لو كان هذا المكان هو وطني البحرين نفسها.المنفى كما يقول ناظم حكمت، “مهنة قاسية”، تنطوي على أوجه معاناة وألم وحرمانات ومشاعر بثقل الغربة عن الوطن والأهل، بما في ذلك عائلتي الصغيرة، التي حيل اللقاء بيني وبينها لعدة سنوات، خاصة حين يهيمن عليك الشعور بأنك محروم من العودة إلى وطنك، وأنك لا تستطيع العودة إليه وقت تشاء، وأذكر أني حاولت أن أفعل ذلك مرة في نهاية عام 1992، فلم يسمح لي بالعودة، وأُعدت من المطار مع تحذيرات قاطعة بألا أحاول العودة مرة أخرى إلا في حال صدور عفو عام، ولم يتم ذلك إلا في عام 2001.
• جيلك هو الجيل الحالم بالتعدد السياسي والثقافي وكافة الأصعدة الأخرى، فإلى أي مدى ارتطم جيلك بوقائع التاريخ والوقائع الاجتماعية، وما زال يرتطم حتى اللحظة؟ وهل أدى ذلك الارتطام إلى نكوصٍ مستمر أو إلى تفتح بارقة أمل بالمستقبل؟ – جيلي، وكذلك الجيل لأسبق، حلم وناضل الكثيرون من أبنائه وبناته في سبيل نيل الحرية من المستعمر، ومن أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. بالنّسبة للكثيرين من أبناء جيلنا فإن السّبعينيّات هي الفترة التي بدأت فيها أذهاننا تتفتّح على الحياة وأسئلتها. كان جيل هذه الفترة حالماً بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنّ السبعينيّات هي نفسها كانت بداية العد العكسي للنّهوض الوطني والقومي، وكان الرحيل المبكر والمفاجئ لجمال عبدالناصر، ومن ثم توقيع اتفاقيّات (كمب ديفيد) بعض عناوين هذا التّراجع، وبهذا المعنى كان الجيل الفتيّ في السّبعينيّات – جيلنا نحن – يعيش ما يشبه صحوة الموت دون أنْ يدري، كان يوهم نفسه أنّ الهزيمة التي حدثت في 1967 مؤقّتة، وأنّها قد تشكّل قاعدة أو منطلقاً لإعادة الثّقة بالنّفس وإحراز النّصر. لكنّ عبد النّاصر قد رحل والنّظام الذي أقامه تعرّض لنكسة بعيدة النّتائج، لذا انخرط هذا الجيل، في حركة واسعة تطالب بالحرب ضدّ إسرائيل للثّأر للكرامة الوطنيّة واستعادة المحتلّ من الأراضي، وهذا الجيل الذي طمح للقطيعة مع الواقع حمل كلّ ما في هذا الواقع من مثالب ومصادر خيبة واحباط.لو جلنا بالنظر في الوضع العربي الراهن من حولنا يمكن القول أن أحلامنا هزمت، أو لم تكسب الجولة، فها هي الحروب الأهلية والتدخلات الأجنبية تُدمر بلداناً عربية مفصلية كالعراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرها، ويستشري نفوذ التيارات الإرهابية والتكفيرية والظلامية والطائفية، التي أصبح لها مواقع نفوذ فعلي مدجج بالسلاح على الأرض في بقاع عربية عدة، وينحسر نفوذ القوى التقدمية والعلمانية قياساً إلى ما كان عليه الحال قبل ذلك، ولكن التاريخ يمكن أن يتعثر في مرحلة من مراحله، فشهدنا ما نشهده أوجه نكوص عما كان قد أنجز، ولا يجب أن يحملنا هذا على فقدان الأمل في قدرة الشعوب على النهوض ثانية، وهذا ما يجب غرسه في أذهان الأجيال الجديدة.
• الاستعمار الإنجليزي، وشركة الهند الشرقية، إلى أي مدى حققا معا مخطط عزل الجزيرة العربية عن محيطها العربي، هل نجح المخطط في جعل الخليج هامشا للوطن العربي حتى اللحظة؟ وما المصالح التي حصد الآخر ثمارها من هكذا مشروع ؟ – أنا الآن في طور المراجعة النهائية لكتابٍ سيصدر، خلال الشهور القليلة القادمة كما آمل، يتناول هذا الموضوع. وفيه أرى أن انعزال المنطقة عن محيطها العربي حدث لعاملين، هو طول الهيمنة الأجنبية عليها، التي قاومت أوجه الانفتاح على هذا المحيط، وكذلك قسوة البيئة المحيطة، فالبادية والدينامية المحافظة التي أنشأتها هذه البادية استطاعت أن تقاوم الحداثة الاجتماعية والأدبية، سواء في قلب الجزيرة العربية أو اليمن وعُمان، كما لم تؤدِ الهيمنة البريطانية التي دامت نحو قرنين من خلال نظام الحماية على إمارات الخليج العربي، إلى فتح هذه الإمارات على العالم الخارجي على نحو ما فعل الفرنسيون، مثلاً، في بلدان المغرب العربي التي أخضعوها لسيطرتهم، أو على نحو ما حدث مع الآثار الحاسمة لحملة نابليون على مصر، وإنما حرصوا من خلال ما أطلقوا عليه سياسة الإبقاء على الوضع القائم بعد التحكم في طرق المواصلات الدولية، إلى تكريس عزلة هذه المنطقة، بما في ذلك عن محيطها العربي خاصة، لأنه الأكثر قابلية للتأثير في خلق الوعي الثقافي والاجتماعي بين أبنائها، ولتحقيق التفاعل مع الحواضر العربية في مصر وبلاد الشام والعراق، جعل أفراد النخبة التجارية المتعلمة التي كانت تشتغل على تجارة اللؤلؤ في مدينة بومباي الهندية، حيث كان أفراد هذه النخبة يقيمون شهورا طويلة من السنة، من تلك المدينة جسراً للتفاعل مع المركز الثقافي العربي. ويمكن القول لولا الثروة التي تحققت على إثر اكتشاف النفط لظلّت منطقة الخليج والجزيرة العربية كاملة في حال العزلة والتخلف التي كانت عليها، حيث غدا انبثاق النفط وتصديره هو الانقلاب التاريخي الحاسم في فك عزلة المنطقة وانفتاحها على العالم الخارجي.تجاور الثقافتين التقليدية والحديثة ليست حالاً خاصة ببلداننا الخليجية، فهي ظاهرة نجد نظيراً لها في كل البلدان العربية والإسلامية بدون استثناء، لا بل في جميع البلدان النامية، مما خلق حالاً من التضاد، وأحيانا الصراع الحاد، بين الجديد والقديم في الثقافة بفعل الصدمة الناجمة عن احتكاك المجتمعات التقليدية، بعد طول عزلة، بالمؤثرات الخارجية وتحت ضغط حاجات التطور الاجتماعي والثقافي الداخلي ودينامياته. لذا فإن دول الخليج العربي لا تشكل استثناء في هذا المجال، لكن الأمر يتجلى هنا في أكثر صُوره فداحة، بسبب التحول السريع والعاصف الذي أحدث خضةً نفسية واجتماعية كبيرة، فحتى عهد قريب كانت الثقافة السائدة في مجتمعات الخليج ثقافة شفاهية، وكانت رموز هذه الثقافة تستجيب لحاجات البيئة المحدودة في مجتمع كان اقرب إلى السكون منه إلى الحركة، فجاءت فجاءة التحولات الاقتصادية الاجتماعية وسرعة وتيرتها بما يشبه الإنقلاب القيمي، واندثرت الكثير من الحرف لصالح شيوع نمط إنتاج جديد جلب معه ثقافةً فيها الكثير من مظاهر التشوه، بوصفها في الغالب الأعم ثقافة استهلاكية تتوسل السهولة والاسترخاء والاتكالية، ومع الوقت صُدرت صورة سلبية عن المجتمعات الخليجية بوصفها مجتمعات نشأت مع اكتشاف النفط، فيما الدراسة التاريخية تشير إلى وجود نماذج تعبيرية ثرية ومتعددة في حقول الثقافة والأشعار والأمثال الشعبية والحرف التي تلخص الخبرة الشعبية المديدة في الفترة السابقة لاكتشاف وتسويق النفط.لذا تنشأ الحاجة الماسة إلى دراسة تاريخنا الثقافي في الخليج وتسليط الضوء على رموز هذا التاريخ ومعالمه، تتجاوز ما هو رائج من كتابات في هذا المجال ما زالت تفتقد المنهجية وتميل إلى الانطباعية وأحيانا الجمع العشوائي. وإذا كانت هذه الجهود تحقق فائدة في أنها تيسر للباحث المادة الخام المطلوبة للدراس إلا أنها تظل بحاجة لأن تنتظم في نسق منهجي يدرس التاريخ من حيث هو فعالية إنسانية وحراك اجتماعي متصل، وللثقافة في هذا الحراك دور اللحمة التي تعبر عن الوجدان الشعبي العام عبر رموزها وتعابيرها المختلفة.
• هل نُسفت هذه الأيديولوجيا مع الوقت، أعني اعتبار الخليج هامشا في الثقافة العربية؟- هذا السؤال يتطلب ضرورة الوقوف أمام أطروحة المركز والأطراف في الثقافة العربية ذاتها، وإعادة فحصها في ظل المتغيرات والتحولات التي حدثت خلال العقود الماضية، فمن ناحية يجب الإقرار بأن المراكز الثقافية العربية المعروفة بحيويتها الثقافية كالقاهرة وبيروت ودمشق وغيرها تظل ذات تأثير مهم في المحيط العربي برمته، ومن الصعب مجاراة بلد كبير كمصر، مثلاً، في مساحته وفي عدد سكانه بعدد الكتب والمطبوعات التي تصدر فيه والأفلام التي ينتجها والمسرحيات التي يقدمها، لكن المؤكد أن هناك تراجعات مهمة حدثت في هذا السياق، حتى في البلدان التي كان ينظر إليها كمراكز للثقافة العربية، بينها تضاؤل الحيز الذي كانت ثقافة التنوير والتقدم تحتله في المشهد الثقافي والفكري لصالح الثقافتين المحافظة والاستهلاكية. وبالمقابل فإن منطقة مثل منطقتنا الخليجية رغم قلة عدد سكانها، وضغط البنى التقليدية على مجتمعاتها وشيوع نمط الاستهلاك فيها إلا أنّها قدمت خلال العقود الماضية حركة إبداعية حداثية مهمة، ونحن نرى أن عدداً من الروائيين الشباب من بلدان الخليج يحصدون جوائز عربية مهمة، وهناك تجارب لافتة في السرد والشعر والمسرح، فضلاً عن المهرجانات والفعاليات الثقافية السنوية المهمة، وأيضاً الدوريات الثقافية التي تصدر فيها. إن مجلات مثل “نزوى” و”البحرين الثقافية” و”الرافد” وغيرها غدت دوريات عربية مرموقة تستقطب خيرة الأقلام والأسماء الثقافية والابداعية، وهناك السلاسل الثقافية الشهرية النوعية التي تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت.رغم ذلك لا يمكن أن نغفل ونحن نتحدث عن جدلية المركز والأطراف إن أدب أقطار عربية عديدة ما زال في منطقة الظل، ويشتكي مبدعو هذه البلدان من التهميش الذي يلحق بهم وبإبداعهم بسبب الأزمة أو الخلل القائم في منظومة التواصل الثقافي العربي.في كتابه “الثقافة والإمبريالية” توقف ادوارد سعيد عند مفهوم “ثقافة التقاطع” الذي صاغه الاتجاه السلافي في الأدب الأوروبي منذ ستينيات القرن العشرين، للتعبير عن ضرورة الاهتمام والعناية بما أطلق عليه حينها “الآداب الصغيرة” للتخفيف من حدة المركزية الغربية والهيمنة الأنجلو- سكسونية والفرانكفونية في الحقل الثقافي، وخلص إدوارد سعيد أن عالمنا اليوم هو عالم من المشاركة والثقافات المتقاطعة التي تمتلك علاقاتها من الثراء ما يمتلكه التاريخ الإنساني، داعياً إلى تعددية ثقافية. ورغم أنه يبدو من قبيل التعسف استعارة دعوة إدوارد سعيد لتطبيقها على المستوى الإبداعي العربي، فنحن إزاء ثقافة واحدة، جذرها واحد وتطلعاتها كذلك واحدة، لكن التعددية، رغم ذلك، قائمة في الإبداع العربي، بل إنها أحد مظاهر خصوبة وغنى هذا الإبداع إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تباين المناخات الثقافية والفكرية بين هذا الإقليم العربي وذاك. وللدقة فإننا لا نعاني من هيمنة ثقافية لهذا البلد العربي أو ذاك بقدر ما نعاني من سوء توزيع للمنتوج الإبداعي العربي، والضحية الأولى لذلك هم مبدعو تلك المناطق التي جرى التعارف على أنها “أطراف”، ويبقى ضروريا القول إن الإنهاض الثقافي العربي ما زال يتطلب صوغ علاقة جديدة بأخذ بعين الاعتبار إن المناطق التي جرى النظر إليها بوصفها أطرافاً تقدم هي الأخرى ديناميكية ثقافية جديرة بأن تعرف.
• الطفرة النفطية السريعة أحدثت تغيرا هائلا في حياة الإنسان الخليجي المادية، فانتقل من حياة البداوة إلى القصور، دون أن يُساير ذلك تغيرا تدريجيا في الوعي، فتراه مغمورا في الخرافة والأساطير والجهل، وربما أريد له أن يبقى في هذه الدائرة؟- عندما ننظر للتاريخ القريب، بين بدايات ومنتصف القرن العشرين، نجد أنّ سكان الكويت والمنامة وأبوظبي ودبي والشارقة ومسقط وسواها من مدن الخليج الساحلية إنما تمركزوا حول السواحل، وكان محيط هذه المدن خلاء غير مسكون، قريب في بعض أوجهه من الصحراء، وهذا لا ينفي بطبيعة الحال إنه كانت هناك تجمعات زراعية خارج المدن، في القرى والبلدات التي كانت تبدو بعيدة مع انعدام الطرق ووسائل المواصلات الحديثة، ما شكل نوعاً من القطيعة بين المدينة/ المركز وبين الأطراف.لكن ما كان حتى الأمس القريب خلاء، غدا اليوم مدناً عامرة تضج بالحياة وبالأنشطة الاقتصادية والتجارية المختلفة، ومركز استقطاب للمصارف والمؤسسات المالية والشركات الأجنبية، أي أن نواة المدينة الصغيرة الملاصقة للسواحل توسعت وكبرت وامتدت أفقياً وعموديا.نحن لا نتحدث عن مدن جديدة بالضرورة، فالمنامة هي المنامة، ومسقط هي مسقط، ودبي هي دبي، لكنها في عين الوقت تغيرت في الشكل وازدادت في المساحة أضعاف المرات، وما زالت ماضية في هذا التوسع حين يبلغ العمران مناطق جديدة لم تكن مأهولة، وإن ضاقت اليابسة يتم اللجوء إلى ردم مساحات من البحر لاستيعاب هذا التوسع، على نحو ما هو جارٍ في المنامة والمحرق في البحرين على سبيل المثال.في أساس هذه التحولات يكمن النفط والثروة الآتية من تصديره، ومع الإقرار بالتحولات الإيجابية المهمة التي تحققت في بلداننا بفضل ذلك على مختلف الأصعدة، بما فيها في حقلي التعليم والثقافة، لكن للأسف الشديد فإن فرصاً كبرى أهدرت، كان بالإمكان توظيفها في إرساء قواعد تنمية تصمد في المستقبل، عندما لا يعود للنفط الأهمية التي هي له الآن في السوق العالمية، وكثيرة هي الدراسات التي كتبت حول النفط وآثاره، وذهب بعض واضعيها إلى القول بأن النفط، رغم انه نعمة بما وفره ويوفره من مستوى معيشي مستقر وعالٍ في الكثير من الحالات، لكنه كثيراً ما يتحول إلى نقمة. ومن هؤلاء “تيري لين كارل” مؤلفة كتاب “مخاطر الدولة النفطية”، التي حذرت الدول المعتمدة على الريع النفطي من تكرار نموذج اسبانيا في القرن السادس عشر حيث شجعت الطفرات المعدنية نموذجا تنموياً ريعياً، وأوجدت مصالح ترتبط بتكريس هذا النموذج، وحدثت هذه التحولات بسرعة، لكن سرعان ما أنفق القابضون الأسبان على السلطة كنوز أمريكا التي كانوا قد اكتشفوها، ثم لجأوا إلى الاقتراض الخارجي، وهو مصير تظهر معالمه واضحة اليوم في الدول العربية المُصدرة للنفط، حين تشجع عائداته زعماء الدول النفطية على تجنب أو تأجيل الإصلاحات البنيوية المطلوبة، بينما تحجب العائدات الضخمة المشكلات الكثيرة والخطرة التي تعانيها اقتصادات هذه الدول، ويتوقف باحثون جادون في قضايا النفط وفي دراسات الاقتصاد السياسي، إلى أن الدول المستفيدة من الفورة النفطية في مطلع السبعينات فشلت، بدرجات متباينة، في ترجمة الزيادات المتعاظمة في عائدات النفط إلى رفاهية مماثلة لشعوبها.ومن خلال دراسة تجارب دول نفطية أخرى في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال تصل هذه الباحثة إلى خلاصة قابلة للتطبيق على الدولة القائمة على الريع النفطي فحواها أن الديمقراطية والمشاركة السياسية والشراكة مع الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني يمكن أن تؤمن أفضليات واضحة للصمود بوجه الأزمات الاقتصادية، وتتيح ترتيبات عدالة ومساواة وتكافؤ في الفرص بصورة أفضل، مما يبعد مخاطر الانفجارات الحادة والأزمات المزمنة التي يتعذر السيطرة عليها.
• ساهم مال النفط الخليجي في الدخول في ألاعيب كبيرة، ومتهورة أحيانا وغير محسوبة العواقب .. ما تعليقك؟- أوافق على ما أشرتِ إليه في آخر السؤال عن توجيه فائض المال الخليجي في خدمة مآرب وطموحات بتوسيع النفوذ السياسي خارج حدود المنطقة الخليجية، والمؤمل أن يكون النظام الرسمي الخليجي بعد كل هذه الكوارث التي وصل إليها عالمنا العربي، والخراب الذي عمّ ويعم حولنا، قد استخلص خطورة الاستمرار في مثل هذه الرهانات، بما فيها الاستثمار في الإسلام السياسي كورقة من أوراق اللعبة السياسية، بتحويله قوى هذا الإسلام إلى مطية لبلوغ غايات معينة، ظناً منه أن هذه القوى ستظل مجرد مطية، يتم الاستغناء عنها بعد استنفاذ دورها.لن نتحدث عما جره ذلك من أهوال على الشعوب العربية التي وجدت نفسها في أتون حروب مدمرة ومذابح، وفتن طائفية ومذهبية، وتدمير لمدن عريقة يعود تاريخها لقرون، ولن نتحدث عن مقادير الردة الحضارية التي اجتاحت مجتمعاتنا بسبب مساحات التأثير التي منحت لهذه الجماعات، فأحالت الحياة إلى سلسلة لا تنتهي من المحرمات، وصادرت الحيز المتاح من الحداثة العربية الذي بلغناه بفضل تضحيات أجيال من أهل التنوير والنهضة، وتدل تجربة النظام الرسمي العربي على أن مثل هذا الاستثمار يعود بالضرر عليه هو نفسه، حين يصبح مستهدفاً من الثعابين التي رباها، وسهّل لها سبل التكاثر.ما تحتاجه بلداننا هو الذهاب في طريق العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية مع الشعوب، ومحاربة الفساد والعبث بالمال العام والاستحواذ عليه، ونشر التعليم العصري المتقدم بافتتاح الجامعات والمعاهد التي تعد عقولاً متفتحة تليق بالقرن الحادي والعشرين وما بعده، وعدم التلكؤ في الإقدام على الإصلاحات الضرورية في وقتها، لأنها وحدها التي تحمي المجتمعات من مخاطر الانفجارات الفجائية، التي يصعب، أن لم يستحل السيطرة عليها.
• لنتحدث أيضا عن الجيل الأدبي المثقف في مرحلتك الطلابية، كما يبدو كانت مرحلة صاخبة ؟ وبالمقابل، كيف تنظر للوضع الراهن والشباب الجدد والآمال والوعود؟ – عشتُ المرحلة الأولى من ولادة الحركة الأدبية الجديدة في البحرين ونشوء أسرة الأدباء والكتاب التي اتخذت من عبارة “الكلمة من أجل الانسان” شعاراً لها، ومع أني كنتُ أصغر سناً من مؤسسي الأسرة وأعضائها الأوائل، لكني كنتُ أتابع أنشطتها، وقبل سفري للدراسة الجامعية في القاهرة قمتُ بتغطية الكثير منها في الصحافة الأسبوعية يومذاك، قبل أن تتأسس الصحافة اليومية عندنا، بحكم كوني محرراً في مجلة “صدى الأسبوع”، وأستطيع القول إنّ تلك المرحلة أسست للحداثة الأدبية والفكرية في البحرين، وطال إشعاعها وتأثيرها مناطق أخرى في بلدان الخليج الشقيقة، فقد بدأت تبرز منذ النصف الثاني من الستينات على المسرح حركة أدبية جديدة قوامها عدد من الشبان الوطنيين المفعمين بمشاعر السخط الحادة إزاء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسة القائمة، ومع هذا الجيل الجديد المتعلق بالأفكار الثورية والديمقراطية لوحظ نهوض نوعي جديد في دينامية التحول الثقافي في البلاد، وفي دور الأدباء والمثقفين، وهذا الوعي نجمت عنه نظرات جمالية جديدة أيضاً في مجال الأدب والإبداع ركزت على الوظيفة الاجتماعية للأدب والفن. شهدت الحركة الأدبية يومها سجالات حادة حول الواقعية ومفهوم الحداثة الأدبية ودور الأدب في الحياة، وهي في جانب منها انعكاس لسجالات مشابهة في البلدان العربية الأخرى، ورغم الطابع الحاد الذي وسم هذه السجالات عندنا أحياناً لكن يمكن القول أنها أثرت الحركة الأدبية والثقافية في البلد، وساعدت على تطوير مهارات وخبرات الأدباء أنفسهم وصقلها.جيل الأدباء التالي في البحرين نشأ في مرحلة مختلفة، من سماتها تراجع دور الحوامل السياسية والتنظيمية لفكرة الحداثة، أمام صعود الاتجاهات الإسلامية، خاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ما كان له أثر كبير في طبيعة تفكير ووعي هذا الجيل، ورغم ذلك فإنه التمس ويلتمس لنفسه طرقه ووسائله في بلوغ الحداثة الأدبية، ورغم ما يبدو في الظاهر من قطيعة بينه وبين الجيل السابق، إلا أني أحسب أن تأثيرات ذلك الجيل عليه ليست قليلة. ويظهر الجيل الجديد من الموهوبين والشغفين بالأدب حيوية واعدة، نلمسها في عطاءاتهم في مجالات مختلفة، وفي فعاليات ومبادرات ثقافية متنوعة، الكثير منها آتٍ من داخل المجتمع نفسه، وإذا كانت مرجعيات الأجيال الجديدة تختلف في بعض الأوجه عن مرجعيات جيلنا، فإني أثق في مقدرة الشباب على تلمس الطريق المفضية إلى انضاج وعيهم وصقل مهاراتهم.مع ذلك حين نعقد مقارنة سريعة بين طبيعة السجالات الثقافية والأدبية التي كانت تطبع الصحافة والمنتديات الثقافية بين السبعينات والثمانينات الماضية وبين الحال اليوم عندنا في البحرين مثلاً، ينتابني شعور بأننا نفتقد الحرارة والحيوية التي طبعت تلك المرحلة، ربما بسبب المتغيرات الكثيرة التي جرت، وحوامل التعبير التي اختلفت، حيث لم تعد الصحافة وحدها هي وعاء الجدل والمناقشة، ما يحملنا على الاعتقاد بأنه لكيبيد أن الكثير من التاريخ الثقافي في البحرين لم يكتب بعد، رغم الجهود والمثابرة التي قام بها عدد من أبرز المهتمين بالثقافة وبتاريخها في البحرين، وهي جهود غطت بعض صفحات هذا التاريخ، لكن يبقى أن المجهول أو غير المكتوب من تاريخنا الثقافي أكثر بكثير من المعلوم، وما زالت جهود كثير من المصلحين والتربويين والمناضلين الوطنيين ورجال الفكر والأدب وسواهم من بناة البحرين في صورتها الراهنة غير معروفة وغير ميسرة للأجيال الجديدة، وما زالت تسود رؤية حذرة ومترددة عند التعرض لتاريخنا ورموزه مما انعكس على الجهد البحثي المبذول، أو الذي كان أن يجب أن يبذل في هذا السياق، ومن المتعين مغادرة هذه الرؤية لصالح رؤية أخرى شجاعة تجاه مسألة الثقافة الوطنية وتجاه تاريخ الوطن مشفوعة بموقف أكثر اتساعاً وانفتاحاً إزاء هذا التاريخ تهيئ المناخ لمضاعفة الجهود في سبيل رؤية تاريخنا بنظرة جديدة، ففي هذه الرؤية مدخل حقيقي لمعرفة أنفسنا، وإدراك العناصر التي شكلت شخصية مجتمعنا، وإعادة الاعتبار لمختلف مظاهر الكفاح من أجل الاستقلال الوطني الذي اتخذ أساليب عمل مختلفة أملتها الظروف التاريخية والسياسية في كل موقف.هذا القول يدفعنا أيضاً لملاحظة التراجع الذي لا تخطئه العين لمكانة وحضور الثقافة في البلد بالقياس لما نشهده في بلدان شقيقة مجاورة، ربما لا تمتلك الحيوية والديناميكية الثقافية التي تتميز بها البحرين، ولكن حجم ما تنفقه على الثقافة ومرافقها وما توليه لها من اهتمام وما تقدمه من دعم للأنشطة وللمؤسسات الثقافية والفنية وللفعاليات ذات الصلة بهذا الجانب أعطى الثقافة في حياة مجتمعاتها بُعداً صرنا نحن نفتقده في البحرين التي كان إشعاعها يصل بلداناً تتخطى الإطار الجغرافي الخليجي لتصل إلى ما هو أبعد منه. إن المسألة الثقافية في البلد بحاجة إلى صحوة إزاءها، وإلى وقفة جادة تبدد حال الركود الراهنة وتطلق آلية جديدة لاستنهاض الوضع الثقافي.
• هل ترى بأن خريطة الطريق الصحيحة لإصلاح الأوضاع في المنطقة العربية تبدأ من انفراجٍ في الأفق الديني والاجتماعي والفكري والسياسي وتشكل ملامح الدولة المدنية؟ وما رأيك بمن يقول: الانسان العربي غير مستعد لهذه الانفراجات، وأنّ أقصى أمانيه لقمة العيش؟ – سأبدأ بالشطر الأخير من سؤالك، أذكر إنّ إحدى الوسائل الإعلامية، لعلها إذاعة أو صحيفة، قامت، قبل أعوام قليلة، باستطلاع حول لأيهما الأولوية عند المواطن العربي: الخبز أم للحرية. شمل الاستطلاع مجتمعات عربية متفاوتة من حيث المستوى المعيشي، فتفاوتت الردود بين أفراد المجتمعات التي تعاني أكثر من غيرها من الضوائق الحياتية، وبين أفراد المجتمعات التي تنعم بمستوى معيشي معقول. وبينما مال أفراد الفئة الأولى للتأكيد على أهمية لقمة العيش، باعتبارها الحاجة الأكثر إلحاحاً، أظهر أفراد الفئة الثانية ميلاً أكبر للمطالبة بالحرية والمشاركة السياسية، مع أن الجميع اتفقوا على أهمية الأمرين معاً: الرغيف والحرية، بل إن بعضهم ذهب إلى القول إنهما متلازمان، فلا معنى للحرية مع الفقر، ولا معنى للغنى دون حرية.ما جرى ويجري في بعض بلداننا العربية يدفع بنقاشٍ مثل هذا إلى الصدارة، فالمواطن العربي الذي رُوض طويلاً على الصبر، لا يخرج إلى الشارع محتجاً إلا تحت ضغط الحاجة القاهرة، حين تعييه السُبل عن تأمين لقمة عيشه، ويشعر بأن الأبواب كافة قد سُدت في وجه، فجذوة الرفض حتى وإن توارى لهبها، تبدو عصية على الانطفاء، لأن ما في هذا العالم الجائر من مظالم كفيل بإشعال أوارها من جديد، وربما بقوة غير مسبوقة، والاستخفاف بمصالح الناس وأرزاقها، والإمعان في الاستحواذ على الثروات، وحرمان مستحقيها منها، لا يمكن أن ينجم عنه الاستقرار والرخاء، اللذان لا يمكن تأمينهما إلا عبر تكريس ثقافة وسلوك المساءلة التي يلزمها الحرية التي تصونها، فيضمن من يقوم بالمساءلة أنه سينام في بيته قرير العين، لا في زنزانة باردة وموحشة.والمساءلة المقصودة لا تتأمن إلا من خلال سلطات رقابية مسموعة الكلمة، مثل البرلمانات ذات الصلاحية ومؤسسات المجتمع المدني الفاعلة والصحافة المستقلة، ولا يمكن لهامش من الحريات العامة، على أهمية ذلك، أن يغني عن الديمقراطية الاجتماعية، أي ديمقراطية العدالة في توزيع الثروات والسبيل الى ذلك واضح: الإصغاء الى أصوات الناس الموجوعة وهي لا تطالب بأكثر من لقمة عيش كريمة، تأمينها ليس مستحيلاً، لو أعيد النظر في الطريقة التي توزع بها الثروات وتدار بها أمور الأوطان.نعود الآن لمسألة الإصلاح، وأرى أن ثمة تلازماً بين الثقافة والإصلاح. لا إصلاح بدون ثقافة، ولا ثقافة تنمو وتتعمق وتؤثر تأثيراً فاعلاً إلا في جو صالح. والإصلاح، في كل الأزمنة والأمكنة، يبدأ بفكرة. والفكرة هي في الأساس ثقافة. ما من حركة إصلاحية في التاريخ وفي الراهن إلا وسبقتها فكرة، إلا وسبقتها ثقافة. فالإصلاح يتطلب ثقافة الاصلاح، والثقافة لن تستقيم شرطاً لهذا الإصلاح ما لم يصر إلى إصلاحها وتجديدها هي نفسها، وإلا فإنها بمعناها ومبناها، إن لم يكنا جاهزين لذلك، ستصبح عقبة وعائقاً بوجه الإصلاح ذاته. وهذا ما نستطيع أن نلحظه، دون كبير عناء، في العديد من بلداننا العربية والإسلامية، حين يؤدي عدم جاهزية الشرط الثقافي، إلى تلكؤ الإصلاح وتردده، ومن ثم إخفاقه.الشعور يتنامي ويتسع ويزداد بالحاجة إلى إصلاح أحوالنا بعد أن طال أمد الجمود والركود وتخثر الدماء في شرايين مجتمعاتنا الحائرة، الضائعة التي لا تكاد تدري نحو أي سبيل هي ذاهبة: هل إلى مستقبل غير واضح المعالم، غامض ومجهول باعث على الخوف والحذر والتردد أم إلى نكوص إلى ماضٍ كان مضيئاً ولكننا فقدنا حماسة وأدوات وعقلانية أولئك الذين صنعوه.وسؤال الاصلاح ليس جديداً في الثقافة العربية ولا هو مفتعل. حسبنا هنا أن نذكر تلك الأسماء المضيئة التي كانت فكرة الإصلاح هاجسها وباعث بحثها ومسعاها: الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكواكبي ورفاعة الطهطاوي وفرح أنطون وزملاؤه من أهل لبنان الذين استوطنوا الإسكندرية المصرية مطالع القرن العشرين داعين لفكرة تجديد الثقافة العربية واستنهاضها. لكن الإصلاح بعد أن كان سؤالاً ثقافياً بامتياز غدا اليوم سؤالاً مركباً، لعل البعد السياسي يطغى عليه، حين باتت مجتمعاتنا العربية تحت ضغط ديناميات تحولاتها الداخلية وتحت ضغط ما يطلبه العالم وقواه المتنفذة منها، مطالبة وبإلحاح أن تقدم على تحولات جدية، جذرية. لكن ذلك لن يغير من الأمر الشيء الكثير، وإذا كانت الدعوة للعودة إلى الماضي تمثل في رأي مفكر عربي كبير هو فؤاد زكريا غربة في الزمان، فإن الدعوة إلى التغريب، أو الغربنة، أي الاكتفاء بأخذ مظاهر الحياة الغربية، هي غربة في المكان، إذ أنها تسقط من الحساب الملابسات والظروف الخاصة لتطور الحضارة الغربية في مكانها ووفق تقاليدها الدينية والحضارية، وربما الجغرافية، والتي لا يمكن تكرارها على الواقع العربي أو الإسلامي.
• تحدثت أكثر من مرّة عن خطر استيقاظ الهويات المحلية الصغيرة، والتشظي لمجموعات عرقية. كيف تراه اليوم؟ – من أبرز ملامح التطورات السياسية والاجتماعية الجارية في البلدان العربية هو انفجار الهويات الفرعية، وتشظي الدولة الوطنية العربية إلى مجموعات عرقية ومذهبية وطائفية، بعد أن كان مشروع هذه الدولة بعد الاستقلال هو بناء هذه الدولة الوطنية التي تدمج في نسيجها الواحد مجموعة هويات تتنازل عن بعض صور تضامنها لتغليب الانتماء الوطني العام الذي يوحد الكل في بوتقة أو نسيج الوطن الواحد. بعض ما يجري حاليا تعود مسؤوليته بدرجة أساسية إلى الدولة القطرية العربية ذاتها التي لم تسعَ لإقامة التوازن بين الهويات الفرعية داخلها في اتجاه الاندماج على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وبلورة هوية وطنية واحدة تكون بمثابة المظلة التي ينضوي تحتها الجميع، على العكس من ذلك فإن هذه الدولة كثيراً ما سعت إلى تغليب منظومات من التضامن الفرعي، كبديل للتضامن الكلي أو الجمعي، مؤسسة على الولاءات، فما أن تنهار السلطة تحت ضغط الاحتلال الخارجي واستنفاد شرعيتها الداخلية بعد أن تآكلت بالتدريج، يعود المجتمع إلى صور التضامن الأولية السابقة لقيام الدولة، ولم يعد الحديث يدور عن إعادة بناء الوطن الذي يتساوى أبناؤه في كل شيء، وإنما عن توزيع حصص التمثيل الطائفي والسياسي، وتأمين طموحات كل فئة وطائفة على حدة، حتى لو تعارضت مع الطموحات الوطنية العامة أو المشتركة . إن وضعاً جديداً تشكل في العالم ويتشكل في منطقتنا العربية أيضاً، ويمكن أن نتفهم بعض بواعث انبعاث الهويات الفرعية، خاصة في نطاقها الثقافي وفي نطاق المطالبات السياسية المشروعة، لكن هذه البواعث ما لم تعالج بحكمة وتبصر وروية وبعد نظر يمكن أن تقود إلى مهالك للأوطان مجتمعة ولأهل هذه الهويات أنفسهم.يتعين إمعان النظر في الحدود الفاصلة بين الاعتراف بحق الهويات الفرعية، من حيث هي مكونات ثقافية أو دينية أو لغوية، في الاعتراف بها، وبين أن يؤدي هذا الاعتراف إلى تغول هذه الهويات على بعضها، أو تغول إحداها، كبراها خاصة، على الهويات الأصغر، والتجربة برهنت على أن الحكومة المنتخبة ودورية الانتخابات، وحدهما، لا يؤمنان ممارسة ديمقراطية، إذا كان الأمر قائماً على المغالبة الملتبسة بالمذهب والطائفة، فتأتي الغلبة العددية للقائمة الفائزة لا تعبيراً عن برنامج سياسي يرمي بناء الدولة الوطنية، وإنما تعبير عن “نشوة” الطائفة بفوز ممثليها، على ما في الطوائف من تناقضات وتنوع في الأفكار والمصالح، حيث يبدو في الظاهر إننا إزاء تعددية من نوع ما يمثلها تعدد الكتل الانتخابية الممثلة في السلطة التشريعية، لكن هذا التعدد قائم على نفي التنوع الأفقي الموجود في كل طائفة على حدة وفي المجتمع كاملاً، وفي النتيجة يتولد الشعور بأن فريقاً معيناً يتغول على فريق آخر أو عدة فرق أصغر منه، بإقصائها أو تهميشها.لا صراع بين الهويات الثقافية أو الدينية أو ما هو في حكمهما يُمكن أن يُفهم بمعزل عن جذره الاجتماعي الكامن أساساً في صراع المصالح، ودائماً فإن من مصلحة أصحاب هذه المصالح تأجيج المشاعر الطائفية لصرف الأنظار عما ندعوه التناقض الرئيسي في المجتمع، وهو أمر رغم وضوحه يبدو شديد التعقيد حين يُراد شرحه للجماهير، فالجماهير لا يمكن إقناعها بنفس سهولة تعبئتها وإطلاق ما في دواخلها من مكبوت قد يمتد عميقاً وبعيداً. الجماهير أميل إلى أن تتلقى الرسالة التعبوية السهلة، بينما لا تبدي الحماسة ذاتها لفهم الظواهر المعقدة عبر أدوات التحليل.
• قلت: “ليست مؤامرة أمريكية أو صهيونية أو إيرانية أو تركية هي من أخرجت الجماهير العربية الغاضبة الناقمة على أوضاعها في البلدان العربية، وإنّما لأن مرجل الغضب بلغ حد الغليان”، هل ما زلت متشبثا بهذا الرأي ؟ – نعم ما زلت مُتمسكاً بهذا الرأي، ومقدمات الانفجارات الهائلة التي جرت في عام 2011 كانت تختمر في القاع، دون أن يراها الجميع، خاصة الأنظمة أو أنّها تعمدت تجاهلها. ولكي أشرح لماذا لم تكن انطلاقة الربيع العربي مؤامرة خارجية، أعود بكِ إلى معطيات تقرير للبنك الدولي، جديد بعض الشيء، تشير إلى طفرة كبيرة متوقعة في أعداد الشباب في المنطقة العربية، مشرقاً ومغرباً، حيث سيزيد عدد سكان المنطقة من الشباب (حتى سن 24 سنة) باطراد نحو مليوني شخص سنوياً حتى عام 2015، ثم يقفز بمقدار 10 ملايين تقريباً بين عامي 2015 و2030. ولأن التقرير المذكور يعالج حصراً قضايا التعليم في العالم العربي فإنه يتوقف أمام ما سيخلقه هذا النمو المفاجئ من طلب مُتزايد على الخدمات التعليمية على كافة المستويات، وسيمثل ضغطاً هائلاً على المؤسسات التعليمية القائمة، التي إذا ما استمرت بطاقات الاستيعاب الراهنة فإنها لن تكون في وضع يمكنها من مواكبة هذه الزيادة. يتحدث التقرير عن تحدٍ مزدوج يتمثل وجهه الأول في جودة التعليم، فيما يتمثل الوجه الثاني في ارتباط هذا التعليم باحتياجات سوق العمل، لذا فانه يرى أنه يجب معالجة ذلك قبل حدوث الطفرة المتوقعة في أعداد الشباب، وإذا نجحت بلدان المنطقة في ذلك، فمن الممكن أن يصبح هذا المد المتصاعد من أعداد الشباب محركاً للنمو في المنطقة، لكن إذا أخفقت فاننا سنكون بصدد معضلات اجتماعية كثيرة، خاصة وأنه بالنسبة للكثيرين جدا من تلاميذ المنطقة لم يكن الالتحاق بالمدارس يؤدي إلى التعلم، والأغلب أن يكون السبب وراء ذلك هو سوء الجودة وضعف آليات المساءلة.لكن ما يخرج عن دائرة اهتمام واضعي هذا التقرير هو الآثار الخطرة التي ستترتب على تلك الطفرة المنتظرة في مجالات أخرى غير التعليم، ومن ضمنها سوق العمل، العاجزة راهناً عن استيعاب قطاعات كبيرة من الشباب العرب الذين يعانون من البطالة والتهميش، فما بالنا بما سيكون عليه الوضع في الآجال التي يتحدث عنها التقرير أو ما بعدها.وما يقال عن التعليم وسوق العمل يشمل بقية مجالات الخدمات الاجتماعية كالإسكان وخدمات الرعاية الطبية، وفرص التدريب والتكوين المهني، فضلاً عن النهوض بالبنى التحتية في المدن والأرياف العربية لمواكبة هذه الزيادات الهائلة في أعداد السكان من الشباب الذين عليهم تدبر أمور حياتهم.لذلك فإن الذين خرجوا إلى الشوارع في البلدان العربية عام 2011 يطالبون بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هم أنفسهم أبناؤنا وبناتنا، لأنهم لم يجدوا تعليماً في مدارسهم وجامعاتهم يرتقي إلى طموحاتهم وإلى ما بلغته المعرفة من مدارج، ولأنهم بعد أن ينهوا الجامعات والمعاهد يمكثون سنوات وسنوات في انتظار أن ينالوا فرص عمل تتيح لهم أن يعيشوا حياة لائقة ويؤسسوا عائلات ويمتلكوا سكناً، فإما يبقوا ضحايا عطالة ممتدة مدمرة، أو يعملوا في أعمال لا صلة لها بما تعلموه، وأنفقوا الأيام والليالي مجتهدين لينالوا في نهايته الشهادات العليا، أو يضطروا للاصطفاف طوابير أمام السفارات جرياً وراء تأشيرة سفر للهجرة إلى بلدان بعيدة وغير بعيدة بحثاً عن مخرج.إنهم أبناؤنا وبناتنا الذي يتعاملون بمهارات فائقة مع وسائل التواصل الاجتماعي، ويبحرون عميقاً في فضاءاتها فيصبحون مطلعين على ما في هذا العالم من تحولات وأفكار، ويجيدون التفاعل معها، ويتأثرون بها، ويحلمون بأن يجدوها وقد أصبحت واقعاً في بلدانهم.لهؤلاء آباء وأمهات وعائلات هم نحن أنفسنا، فلا يجوز رميهم بأقذع الصفات لأنهم خرجوا في مسيرات أو شاركوا في تجمعات تطالب بحقوق استحقوها، بالزعم أنهم أدوات في أيدي الدول الأجنبية، بل ينبغي أن تكون الهزات الاجتماعية والسياسية الكبرى التي شهدها العالم العربي محفزات لمعالجات سريعة، إن لم نقل فورية، من أجل استيعاب الطاقات الشابة الهائلة في مجالات التعليم والعمل وخدمات الرعاية، وتفادي الانفجارات الاجتماعية المدمرة التي تأتي بدون إستئذان، وإن لم نفعل ذلك فلا مفر من “ربيعات” أو “خريفات” قادمة أوسع مدى وأوقع نتائج.يمكن الاستطراد، وربما دون نهاية، في تعداد مثالب ما وصف بـ “الربيع العربي”، والنتائج المدمرة التي ترتبت عليه: حروب أهلية في غير بلد، انقسامات مذهبية حادة وعميقة، تدخلات إقليمية ودولية لأ أول لها ولا آخر في شؤون البلدان العربية، استباحة السيادة الوطنية لبعض البلدان التي طالتها موجاته، انهيار الدولة وارتداد أكثر من مجتمع إلى عصبياته القبلية والمذهبية، لتصبح هي الطاغية. وإلى هذا كله يمكن إضافة سلبيات أخرى، لا يصح الاستخفاف بها، وغض النظر عن عواقبها على مآلات العالم العربي.
لكن في غمرة هذا كله، لا بل وقبله وبعده، لا ينبغي تغييب حقيقة جوهرية يجري طمسها بسابق الاصرار والتعمد من قبل الكثيرين، هي أن ملايين الشبان العرب من الجنسين، الذين ملأوا الساحات والميادين في عديد العواصم والمدن العربية، لم يفعلوا ذلك امتثالا لأوامر من واشنطن أو أنقرة أو طهران أو غيرها من عواصم العالم والإقليم، ولكن في كل مكان تكون فيه ثورة علينا توقع ثورة مضادة قد تفلح في قهرها قبل أن يستوي عودها، وفي حال الضعف والعجز التي يعاني منها العالم العربي نتيجة أخطاء النظام الرسمي خلال العقود الماضية، استغلت القوى الإقليمية المتوثبة حال الفراغ التي نشأت في عدد من البلدان العربية، لتمدد نفوذها وتشيع الفوضى بغية تحقيق طموحاتها في توسيع نفوذها في المحيط العربي، حيث رأت أن الفرصة باتت سانحة لها.
•ألا يبدو أنّ الدرس المستفاد هو إحساس الشعوب العربية أنّها أخطأت في الوقوف في وجه الاستبداد، مما دفعها لترديد عبارة من قبيل: “ليت الذي كان لم يكن”؟
– هناك خشية تتزايد في أوساط سياسية وفكرية في البلدان العربية من أن يؤدي سقوط الاستبداد في بعض البلدان العربية التي شملتها موجة التغييرات التي شهدناها في العام المنقضي إلى نشوء استبداد جديد، أو عودة الاستبداد السابق بأردية جديدة.لذلك أسباب مختلفة، بينها هشاشة التقاليد الديمقراطية في البلدان العربية عامةً، بما فيها تلك البلدان التي كانت أكثر قابلية وجاهزية للتغيير، بعد عقود طويلة من سطوة الاستبداد التي اقتعلت أي غرسة تكاد تنمو للديمقراطية، بل أن هذا الاستبداد نفسه، كما هو الحال في مصر مثلاً أو العراق أو سوريا قام على وأد بواكير التحولات نحو الديمقراطية بين مطالع ومنتصف القرن العشرين، حيث صفت الأنظمة العسكرية الحياة الحزبية، وأممت” السياسة، وحرمت المجتمع من ممارستها.ومن هذه الأسباب غياب أو ضعف الحامل الاجتماعي والسياسي للديمقراطية، فالقوى التي حملتها وستحملها الانتخابات في البلدان العربية قادمة من منابت غير ديمقراطية، ولم يُعرف عنها، فيما سبق، انفتاحها على الأفكار الأخرى، بل أنها في بُنيتها الفكرية والسياسية تحمل ميولاً إقصائية واستحواذية، رأينا تجليات كثيرة لها.لكن من الجهة الأخرى، لا يجوز أن نوافق على استمرار الاستبداد القائم وتعطيل نمو الحياة السياسية بكسر حالة الجمود وتخثر الدماء في عروق النظام السياسي العربي بحجة الخوف من البديل المحتمل الذي قد لا يكون بالضرورة أفضل من القائم، فالثقافة الديمقراطية في أي مجتمع لا تنفصل عن الممارسة الديمقراطية، وإذا كانت الأفكار تُمهد للتحولات، فإن التحولات هي التي ترسخ الأفكار وتوطد دعائمها وتجعل منها نمطاً من الوعي والعيش، وبالتالي فإننا لا نتوقع أن تشيع الثقافة الديمقراطية في مجتمعٍ يهاب الممارسة الديمقراطية ويخشى ما ينجم عنها من مفاعيل. أنظمة الاستبداد في الشرق روجت إلى أنّ شعوبنا غير جديرة بالديمقراطية، لأنها ليست ناضجة، ولكن هذه حجة العاجز والخائف من ولوج الممارسة الديمقراطية، لأنه يجد فيها تهديداً لمصالحه في الانفراد بالسلطة والثروة.• أنت تصف مع رأي سارتر الذي يرى بأنّ : “المثقف هامشي على صعيد الإنتاج، فهو ليس عاملاً يدوياً ولا رأسمالياً، ودائرة نفوذه تكمن في الوعي الذي لا يعترف بأهميته أحد”، إلى أي حد يشتغل المثقف العربي اليوم على منطقة “الوعي”؟يلاحظ أن هناك من يبشر بـ»موت المثقف»، وهو ادعاء ينال ترويجاً له من دعاة موت كل شيء، من قبيل: موت الشعر، موت الفلسفة، موت المؤلف، موت المعنى، موت التاريخ أو نهايته، حسب فرانسيس فوكاياما، وسلسلة الميتات هذه جالبة على مقتها ومقت من يروج لها، حتى لتخال أنه لم يعد للحياة من جدوى، رغم أن كل البشر يتكالبون على الحياة، حتى لو اقتضى الأمر أن يقتل بعضهم البعض الآخر، من أجل أن يحيا المنتصرون.بدأ الحديث أولاً عن فقدان المعنى، الذي حمل البعض، بمن فيهم المأخوذون العرب بهاته الأطروحات الآتية من السياق الغربي، على نفي أي دور للثقافة والمثقفين، وإن الأمر ليس أكثر من تنطع لأدوار للمثقفين لم تعد قائمة، ولا أحد يطالبهم بها أو ينتظرها منهم، وبالتالي فإن عليهم أن يكفوا عن التفكير فيما كان يوصف سابقاً بـ”رسالة” المثقف، أو بـ”المثقف الرسولي».على المثقف، وفق هذا القول، أن يثوب إلى رشده، ويتواضع، وينكفئ على ذاته، فلم يعد لدوره من ضرورة في عالم يحتاج إلى “الخبراء”، لا إلى المثقفين. ويبدو هذا القول جذاباً بالفعل للكثيرين، ومنطقياً جداً لآخرين، فما عساه المثقف الفرد أن يفعل في عالم تجتاحه التقنية، وتؤدي فيه شبكات الاتصال المختلفة أدواراً حاسمة.والمنطلق في هذا آتٍ من تصور نمطي للمثقف ودوره، من حيث كونه مجرد صانع للكلام، حتى لو كان هذا الكلام مكتوباً، وهو في فهم من يرون ذلك كلام بعيد عن مستجدات الحياة، مكانه بطون الكتب المتجهمة، لا الواقع بكل دينامياته وحركته المستمرة التي لا تهدأ وتفرز الجديد بصورة دائمة.علينا القول أن دور الخبير مطلوب بالفعل، فلا غنى عن الخبراء، الذين هم في الغالب فئات من التكنوقراط البعيدين عن أية غائية فكرية، أو هكذا يظهرون أنفسهم، وبالتالي فإنهم مستعدون لـ “بيع” خبرتهم لمن يحتاجها من دول وشركات ومؤسسات، دون أن يكونوا معنيين في ماذا سيجري توظيف هذه الخبرة. لكن “تقدم” دور الخبير، لا يعني “تراجع” دور المثقف، ناهيك عن موته. الخبير هو ابن المؤسسة أو صنيعتها، أو هو أحد مستلزمات عملها، ووفق هذا الفهم فإنه لا يؤدي دوره منفرداً، إذ يتعين عليه أن يكون ضمن فريق من الخبراء أو المديرين أو رجال السياسة والاقتصاد الذين يرسمون سياسات دول أو شركات.لكن المثقف فرد، ويظل فرداً، فالإبداع، بما فيه الكتابة، هو حسب غابرييل ماركيز “أكثر المهن عزلة في العالم”، ولكن ما يبدعه ليس موجهاً لمؤسسة، وإنما إلى وجدان الأمة كاملة. هذه الحمى من النقد لدور المثقف انتقلت للوطن العربي أيضاً. منذ الثمانينات الماضية أصدر محمد عابد الجابري كتابه: “الخطاب العربي المعاصر” الذي قرَّع فيه دور المثقف العربي لأنه كلما اشتدت عليه وطأة الواقع، وجد ملاذه في مزيد من الهروب إلى الأمام، وقد دفع هذا إلى الاعتقاد بأن ثمة حاجة لإعمال أدوات التحليل النفسي في رصد سلوك المثقفين العرب لرؤية عُقدهم.
•القسوة في توصيف المثقف والأدوار الضخمة المنتظرة منه في جوّ مشحون بالاستبداد، هل يؤدي لنتائج جيدة برأيك؟
– المراجعة التي يقوم بها الغرب لدور المثقف لا يمكن إسقاطها تعسفاً على الواقع العربي، لا لشيء، وإنما لأن المثقف هناك عبر برازخ من لتحولات والتجارب والاستبدالات. الغرب يغذ السير في طريق التحول، وأنجزت الثقافة فيه الدور التحريري والتنويري الضروري في مراحل سابقة، أوصلت الغرب لما هو عليه اليوم من نهضة، بينما المثقف العربي يعيش سياق التخلف التاريخي والاستبداد السياسي والفساد، مما يؤكد ضخامة الرسالة الملقاة على عاتق المثقف العربي والمهام المنتظرة منه في النقد والتحليل والتنوير والتحديث. “استقالة” المثقفين من أدوارهم تعني، في تقديري، تخلياً طوعياً، أكاد أقول انتهازياً، عن أدوار تحتاجها منهم مجتمعاتهم. أنا لا أدعو إلى أن يتحول المثقفون إلى ساسة أو حتى إلى “مناضلين” بالضرورة، ولكن أدعو إلى أن لا يتخلى المثقف تحت أي ضغط عن حاسته النقدية، وهي نفسها الحاسة التي ستجعل منه قريباً من هواجس مجتمعه وتطلعاته. * يبدو أنّ مفردة مثقف يكتنفها الكثير من الغموض والالتباس؟ – بالتأكيد نحن نتحدث الآن عن المثقف التنويري المندمج في العصر، وأياً كانت المآخذ والسلبيات وأعراض “المرض” الذي يعاني منه هذا المثقف، فإن ذلك لا يقلل بحال من مسؤولياته إذا شئنا للعقل العربي أن يتحرر من أوهامه التي يزداد ارتكاسا فيها.انشغل مفكر فرنسي هو ريجيس دوبريه بتعريف من يكون المثقف، الذي هو برأيه ذلك الشخص الذي يريد أن يمارس تأثيرا على الغير من خلال إنتاج سلسلة من الرموز، من النصوص، ومن الكتب. وحين يقارن بين تجربته وهو شاب في أمريكا اللاتينية وتجربته اللاحقة في فرنسا، لاحظ أن العملية السياسية داخل فرنسا أقل حيوية مما هي عليه في أمريكا اللاتينية، وهذا قاده للتفكر في أمر هذا التفاوت داخل لحظة تاريخية واحدة في زمننا المعاصر.للإجابة على ذلك ذهب أبعد في قراءة تاريخ فرنسا، ملاحظاً أن ثورتها ولدت من بطون الكتب، أي انها قد ولدت من حركة فلسفية، مما يسلط الضوء على دور الفئة المثقفة، وما المقصود بها، ليخلص إلى أن الكلمات، الأفكار والعقائد هي عدة المثقف، الذي هو شخص منظم للأفكار، مما يجعل من مساءلة المثقف مساءلة سياسية، وهذه الأخيرة هي بدورها مساءلة ثقافية، لايستوى فصل وجهيها عن الآخر.تقنى المعرفة هو من يملك رأسمالاً رمزياً معرفياً لا يتجاوز في توظيفه له وضعه المهني، ويظل أسيراً لهذا الوضع دون أن يخرج عنه، ودون أن يوظف مهنته لصالح المجموعة. فيما المثقف هو بالضرورة ذو حاسة نقدية. ثقافة النقد هي نقيض ثقافة الامتثال، وشجاعة المثقف النقدي لا تتجلى في مواجهة ونقد أخطاء الحكومات، فهذا من صميم واجباته، وإنما أيضاً مواجهة أوهام الرأي العام . قال إميل زولا: “إذا سألتني: ماذا جئت تفعل في هذا العالم، أنا الفنان، سأجيبك: أنا هنا لأعيش بصوت عالٍ”، ومثقف كبير آخر هو إدوارد سعيد قال: “تتمثل رسالة المثقف في الحفاظ على التنبه الدائم لعدم ترك أنصاف الحقائق توجه المرء في حياته». وحسب سعيد، فإن المثقف في العمق لا هو مهدئ ولا هو باني إجماع، بل شخص يراهن وجوده على حس نقدي، حس عدم الاستعداد لقبول الصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المكيفة لما يجب أن يقوله الأقوياء أو التقليديون وما يفعلونه، ليس فقط على نحو معارض سلبياً، بل أن يكون مستعداً لقول ذلك علانية وعلى نحو نشط.هذا لا يعني دوماً أن ينتقد المثقف سياسة الحكومة، بل الأصح التفكير بأن المهنة الفكرية حافظة الحالة اليقظة الدائمة، والرغبة المستمرة في عدم السماح لأنصاف الحقائق أو الأفكار الموروثة بتسيير المرء معها. أطلق جان بول سارتر وصف “الضمير الشقي” على المثقف، كأنه بذلك يحدد مواصفات هذا المثقف الذي لا يرتاح لما هو منجز ويضع المسلمات موضع المساءلة والشك، ولا يقف عند حدود معرفته وتخصصه العلمي ويذهب إلى ما ورائها. إنه ضمير لأنه مفعم بالمسؤولية وبالحس الإنساني العالي، وهو شقي لأنه لا يركن لليقين، ويتميز بالعقل الناقد والقلق، حين تكون الحقيقة لديه مفتوحة متجددة وليست وثوقيات نهائية. في مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية، حيث تشتبك حزمة من المهام يتعين إنجازها فإن الحاجة للمثقف الواعي تبدو مضاعفة بالقياس للمجتمعات التي سبقتنا، وأي حديث عن انتفاء الحاجة لدور المثقف في صنع الوعي تنم في تقديري إما عن تخل للمثقف نفسه مما هو مطلوب منه، أو تضمر رغبة من جهات نافدة بتهميش هذا الدور والتضييق على صاحبه.
هنالك تراجع ونكوص من قبل المثقف نفسه (والذي يعول عليه خلق تجاوزات للمفاهيم الضيقة، التي يضعه فيها سياقه الاجتماعي والمذهبي، لصالح رؤية أكثر انفتاحا)، فترى شاعرا أو كاتبا أو روائيا أو مثقفا ضليعا لا يتوانى عقله الباطني عن استدعاء إرثٍ قديم رغم حيوية معارفه؟ فما هي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟ يحز في النفس أن نطالع انخراط مثقفين وناشطين سياسيين آتين من منابع فكرية حديثة في سجالات، سواء عبر الصحافة أو التلفزة أو وسائل التواصل الاجتماعي، لا تنطلق من المرجعيات الفكرية الجامعة ذات البعد الوطني والإنساني الشامل، وإنّما من انتماءات ضيقة، مذهبية تارة، وطائفية تارة أخرى، وقبلية أو إثنية تارة ثالثة. يحملنا هذا على التساؤل: أين ذهبت مرجعيات هؤلاء، وكيف ارتدوا في غمضة عين إلى بيئاتهم المحدودة الضيقة التي نشأوا فيها أول مرة، وأين ذهبت الكتب “التقدمية” التي قرأوها والأفكار والشعارات الوطنية التي أفنوا سنوات من أعمارهم وهم يلهجون بها، فعادوا إلى نقطة الصفر، وربما إلى ما دونها، لأن أخطر ما في المثقفين هي قدراتهم في التبرير، لتوفرهم على ملكات الكلام والكتابة، التي لا تتوفر عادة لعامة الناس، الذين هم أكثر اتساقاً وفطرية مع أنفسهم، وأكثر حصانة بوجه التقلبات الفكرية والسياسية، التي تنقل المثقف من أقصى خانة إلى أقصى خانة نقيضة لها. يفضح هذا هشاشة تكوين الكثير من المثقفين، فما كانوا يتشدقون به من شعارات وقف عند حدود القشرة الخارجية، السطحية لوعيهم، ولم يذهب في العمق، وبالتالي فإنه سرعان ما تلاشى، فارتدوا إلى تحدراتهم المذهبية والطائفية والقبلية وغيرها، وتراجعوا عن الأفكار الجامعة التي حملوها يوماَ. • قبل زمن ليس بالبعيد كنتَ مدير تحرير مجلة البحرين الثقافية، وقضيت فيها عمرا، وهي واحدة من المجلات التي استمرت في زمن نكوص مجلات مهمة؟، لنتحدث عن هذه التجربة، ماذا أعطتك مجلة البحرين الثقافية وماذا أخذت منك ؟لديّ تجربة أعتز بها في الإشراف على الدوريات الثقافية، وفي أن أكون ضمن قوام هيئة تحريرها، فقد سبق عملي كمدير لتحرير «البحرين الثقافية»، أن شغلت الموقع نفسه في مجلة «الرافد» الصادرة عن دائرة الثقافة في الشارقة، والتي رافقتها منذ صدور عددها الأول ولمدة عشر سنوات متتالية، كما أني في فترة في الفترات عملت سكرتيراً لتحرير، ثم مديراً لتحرير مجلة «دراسات» وهي مجلة مُحكمة، كانت تصدر عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، ثم كانت تجربتي مع «البحرين الثقافية»، التي غادرتها قبل عام تقريباً، ومؤخراً انضممتُ إلى هيئة تحرير مجلة «الثقافة الشعبية» الصادرة في البحرين عن المنظمة العالمية للثقافة الشعبية، ويرأس تحريرها الشاعر علي عبدالله خليفة.ساعدني العمل في تحرير هذه الدوريات أن أكون على تماسٍ أكبر مع المنجز الإبداعي والثقافي العربي لا في البحرين ومنطقة الخليج العربي وحدهما، وإنما على المستوى العربي العام أيضاً، من خلال مشاركات الأقلام العربية المهمة في هذه الدوريات، حيث تنبسط بانوراما واسعة من الساحة الثقافية العربية، تثري البصيرة وتوسع الأفق، ومن جهتي فقد وظفت ما اكتسبت من خبرة في العمل على تطوير الدوريات التي عملت فيها والارتقاء بمستواها، واغناءها بملفات تتناول قضايا ثقافية وفكرية ومجتمعي. أذكر هنا أننا بدأنا بإصدار “الرافد” مطالع عام 1993 كدورية فصلية، وبعد ذلك نجحنا في جعلها تصدر كل شهرين، وأخيراً إلى شهرية، ومن بعدها ومع مغادرتي الشارقة وعودتي إلى البحرين التحقت بـ”البحرين الثقافية». • هل تظن بأن زمن المجلات الثقافية ودورها الخلاق انتهى؟، هل تظنها باتت نخبوية ومُتعالية على قارئها اليوم المختلف عن قارئ الأمس؟- لا يمكن القول إن زمن الدوريات الثقافية قد انتهى. الحاجة إلى مثل هذه الدوريات قائمة وستظل قائمة. صحيح أن هناك بعض الدوريات تشيخ أو تتعثر، وبالتالي يضطر أصحابها إلى إيقافها، لكن مثلما تتوقف بعض الدوريات، نشهد ولادة دوريات أخرى، ما يشير إلى أن دورة حياة هذا النوع من الإصدارات مستمر، مع أن تعدد وسائل ووسائط المعرفة اليوم ويسر الوصول إليها، يجعل الإقبال على هذه الدوريات، خاصة النسخ الورقية منها أقل مما كان عليه، لكنها ما زالت توزع وتقرأ، وهناك اتساع وتنوع في عدد الكتاب الذين ينشرون فيها، لذلك أرى أن الحديث عن انتفاء الحاجة إلى هذه الدوريات حديث سابق لأوانه، وقد لا يحدث ذلك .
كتبتَ ذات مرّة بأن العرب والمسلمين فقدوا الحافز للهجرة نحو المستقبل، وارتضوا أن ينشغلوا بتوافه الأمور، ويستلوا من تاريخهم صفحات الحقب التي طغت عليها الفرقة والانقسام. لماذا هذه النصوص هي الرائجة على حساب الأخرى؟ – لنعد إلى الوراء بعض الشيء، ولنتذكر أن رفاعة الطهطاوي كان إماماً ورجل دين، وقد ابتعثه محمد علي إلى فرنسا ليؤم البعثة المصرية التي أرسلها إلى هناك لتلقي العلم والمعرفة، وبعدها وضع كتابه المعروف الذي لم يجد فيه من تناقض بين أن يتمسك المسلمون بعباداتهم، وأن يأخذوا بأسباب العلم والتقدم ونبذ الخرافة، وعلى خطاه سار رواد النهضة الآخرون، الذين لو تقصينا سيرهم لوجدناهم جميعاً رجال دين في الأساس، أو إنهم توفروا على معرفة مكينة راسخة بأمور الدين. يصح ذلك على جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده والشيخ علي عبدالرازق صاحب كتاب: “الإسلام وأصول الحكم”، وقاسم أمين صاحب كتاب: “تحرير المرأة” وآخرين سواهم، الذين لم يتنكروا لدينهم وهم يتبصرون في أمور دنياهم، وفتحوا أمام الأمة، في حينه، آفاقاً رحبة للتجديد الديني، لا بل وللتنوير.* ألا تشعر بأن الدين بات في قبضة سياسية محكمة ؟
– ثمة لحظة انتكاسة حدثت في هذا المسار، حين جرى تسييس الإسلام، وإخراجه من الدور المناط به كرافعة من روافع النهضة، ليتحول إلى إسلام حزبي، مُسيس، لا يتورع دعاته عن تبرير وتسويغ، لا بل وتحبيذ، الدعوة للعنف وسيلة من وسائل تمكين ما يزعمون إنها دعوة له. كان الإخوان المسلمون، في العصر الحديث، هم أول من بذر هذه البذرة التي انتشرت ثمارها المُرّة في أرجاء أراضي العرب والمسلمين لتتفرع عن تنظيمات وفصائل بمسميات مختلفة ما زالت تتناسل حتى اللحظة، ولم يخفِ هؤلاء إن دعوتهم هاته إنما أتت رداً على المشروع النهضوي العربي نفسه، حين كتب حسن البنا مقللاً من شأن دعوات المصلحين الإسلاميين التي كانت، برأيه، مجرد دعوات فلسفية، فيما لم يكن أصحابها سوى مصلحين أخلاقيين يفتقدون الرؤية الإسلامية الشاملة.في النتيجة بات الواحد منا خلال ساعات اليوم الأربع والعشرين عرضة لجرعات فوق طاقته على التحمل من الغلواء المذهبية، ودعوات التحريض والتكفير والفرقة وبث الكراهية والبغضاء التي تأتيه من مصادر شتى وعبر جميع وسائل الاتصال المتاحة.فإن نجوت بنفسك من مشاهدة محطة فضائية تُحرض على الفتنة، وتحث على الاقتتال بين المسلمين، وتنال من الناس في أشخاصهم وأعراضهم بما لا يقبله ذوق سليم ولا فطرة سوية ولا تشريع ينظم العلاقات بين الأفراد والمجموعات، وإن تحاشيت، مُتعمداً واعياً، قراءة مقالات تشي عناوينها وأسماء من يُسود سطورها، بأنها تصب في طاحونة الشحن البغيض، ستداهمك رسائل التحريض ذاتها عبر “برود كاست”، من هنا أو هناك، على هاتفك النقال، أو تغريدات مسمومة على “توتير” أو سواها من وسائط، للدرجة التي تجعلك، في لحظات غضبك من هذا كله، أن تلعن هذه الوسائط ، لا لعلة فيها، وإنما في الأشرار الذين حولوها أدوات لتحريض أبناء أمة الاسلام على أن يكرهوا بعضهم بعضاً، ويشدوا الأصابع على الزناد تمهيداً لأن يجهز الواحد منهم على الآخر، أخيه في الدين واللغة والثقافة والتاريخ والأرض الواحدة.وحول إشارتك إلى فقدان العرب الرغبة في ولوج المستقبل، فإن من يعود للدراسات الاستشرافية التي قامت بها جهات بحث عربية رصينة عن مستقبل العالم العربي سيُدرك أن عدد العقول العربية التي حذرت من مغبة التطورات التي نعيشها اليوم ليس قليلاً، بل ربما نندهش لو وجدنا أن ما جرى توقعه لا في خطوطه العريضة فقط، وإنما أيضاً في الكثير من التفاصيل يحدث اليوم على الأرض وربما بالحذافير، ومن أراد أن يتحقق من هذا القول فعليه بالعودة الى إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية، وبالأخص الى تلك التي اشتغلت عليها فرق بحث من مختلف البلدان العربية، في المغرب والمشرق، لاستشراف ما كان يُوصف بالمستقبل العربي .الذي كان مستقبلاً لحظة وضع تلك الدراسات لم يعد كذلك، فها هو بات حاضراً نعيشه جميعاً، وتعيشه معنا، على الأخص، ملايين من الشباب العرب الذين كانوا أطفالاً أو الذين لم يُولدوا حين بحث هؤلاء المستشرفون السيناريوهات المتوقعة لتطور الأوضاع في بلداننا .
من المسؤول عن استيعاب كل هذه الملابسات التاريخية التي أحاطت بالمراحل التي أفرزت الانقسامات والصراعات في حقب بعينها من تاريخنا؟
– هذه السيناريوهات جميعها انطلقت من الشعور بأن جذور الأزمة راسخة في بنية النظام الرسمي العربي، حين حذرته إن لم يتصدَ لمعالجتها، فإن الأمور سائرة نحو انفجارات اجتماعية كبرى، ونحو تفكك كيانات، ونحو أشكال من النزاعات المذهبية والطائفية وسواها، وستفتح مثل هذه الانفجارات أخطر الاحتمالات المتوقعة، وحتى غير المتوقعة، من تدخل إرادات خارجية، دولية وإقليمية، إمّا لأنّها ترغب في تكييف التغييرات واحتوائها بما يخدم مصالحها، أو تبحث عن أدوار وأوراق ضغط ومساومة، على نحو ما نشاهده حالياً. للتغيير قوانينه وميقاته، وفي حال غياب أو ضعف القوى القادرة على توجيه هذا التغيير في الوجهة الآمنة، فانه قد يندفع نحو مصائر تزيد الأمور تعقيداً، حين تؤول الأمور على أيادي قوى وجماعات لا تحمل برنامجاً للمستقبل، تصادر هبات الشباب وتضحياتهم، وتعيد إنتاج الوضع المأزوم في صيغ جديدة. هناك مفهوم صاغته النحبة السياسية الحاكمة في ماليزيا بزعامة مهاتير محمد، مفهوماً يمكن الإفادة منه هو : “الإسلام الحضاري”، ومن خلاله سعى لإدماج الإسلام في البنية السياسية والمجتمعية، بصورة لا تتعارض مع مقتضيات العصر وموجبات التنمية، واستطاع الماليزيون أن يقدموا نموذجاً ناجحاً في التطور الاقتصادي والتحول المجتمعي، اقتدت به بلدان أخرى في آسيا، وبرهنوا من خلاله انه بالوسع تحرير صورة الاسلام مما لحق بها من تشويه في المنطقة العربية، بحيث قرنت بالإرهاب ومعاداة الديمقراطية. حين يجري الحديث عن علاقة الاسلام بالديمقراطية يحصر كثير من الباحثين اهتمامهم في التجربة التركية، فلا يجري تسليط الضوء على حقيقة أن نموذج الإسلام التركي فرضته تجربة التحديث الأتاتوركي، التي لم يكن بوسع الإسلام السياسي التركي الحاكم حالياً أن يقفز على شروطها التي ترسخت في بنية المجتمع وفي المنظومة السياسية القائمة هناك، أي أن الحداثة التركية ليست من صنع الإسلاميين الحاكمين اليوم، الذين حاولوا التحايل عليها بتقديم نسخة خاصة بهم، دون أن يفلحوا في إخفاء أجندتهم الحزبية التي لا تختلف، جوهراً، عن أجندات الإسلام السياسي في نسخه الأخرى.حتى الآن لم نقرأ من التيارات الإسلامية الناشطة اليوم ما يفيد وفاءها أو انتسابها للأفكار التنويرية – الإصلاحية في التراث الإسلامي، قديمه وحديثه، فحتى الأدبيات التي يجري تثقيف الأجيال الجديدة من أعضاء هذه التيارات مازالت تنتسب في غالبها لما يمكن وصفه بالتفكير الانقلابي الثوري، لا الفكر الإصلاحي – التدرجي، ومثل هذا التفكير يأتي على النقيض من الأمر الحاصل اليوم الذي دفعت إليه الممارسة الناشئة عن الانخراط في اللعبة الديمقراطية، التي يجب أن تؤسس على مبدأ قبول تداول السلطة، ومثل هذا التداول لا يمكن أن يتم إلا من خلال الإقرار بأسس ومسلمات يجب ألا تمس في جوهر الدولة ونظامها السياسي، وكذلك في ما درجت عليه المجتمعات من تنوعٍ وتعدد في التفكير وفي أنماط المعيشة ومن تعايش بين الأفكار والمذاهب والأديان. إن أحسنت التيارات الإسلامية القيام بمثل هذه المراجعة النقدية الشجاعة تكون قد خطت خطوات كبرى في “تأهيل” نفسها لتصبح قوى سياسية عقلانية، متفتحة ومرنة ولا تبعث القلق ولا الريبة في الأوساط الاجتماعية والسياسية الأخرى.
• أنت نشط في كتابة المقال الصحافي خاصة، في العديد من الصحف، هل تجد أنّ هذا النوع من الكتابة مقروء ومتابع، في زمن القراءة السريعة عبر السوشل ميديا ؟ أعتبر تجربتي في كتابة المقال الصحافي، خاصة الثقافي منه، الجزء الأكثر خصوبة وكثافة في مجمل تجربتي الكتابية، فمنذ وقت مبكر، منذ أن التحقت بالعمل في مجلة “صدى الأسبوع”، وكنت لا أزال طالباً في المرحلة الثانوية، رحتُ أكتب زاوية أسبوعية عنوانها “حكايات صغيرة” كانت عبارة عن ملاحظات ومشاهدات عن هموم معيشية واجتماعية للناس. بعدها كتب زاوية أخرى بعنوان (أرى). إلا أنّي أعد تجربتي في كتابة الزاوية اليومية (شيء ما) في جريدة (الخليج) انعطافة مهمة في علاقاتي بكتابة المقالة الصحافية، التجربة بدأت بزاوية أسبوعية كانت تحمل الإسم نفسه، وبعد عام تحولت إلى الكتابة اليومية بطلب من إدارة الجريدة وبدت لي الفكرة في حينها مخيفة، لم أكن واثقاً أو متأكداً من قدرتي على الاستمرار في ذلك، وأكثر ما كان يقلقني الحفاظ على مستوى الكتابة، كنت أدرك أن الكتابة اليومية محرقة ونزف دائم، ولكني قررت إختبار نفسي بخوض التحدي للتعرف على ممارسة ذهنية جديدة، وعليَّ الاعتراف أنها ممارسة متعبة، لا بل منهكة، ولكنها على الجانب الآخر لذيذة حين تشعر أنّ لما تكتبه صدى لدى القراء. وبعد حين أيقنت أنّ الاستمرار في خوض هذا التحدي ممكن، لكنه يتطلب تأمين شروط استمراره عبر المتابعة الدائمة لكل ما هو جديد، والحرص على انتظام القراءة والاقتراب من الموضوعات التي تشد القارئ. أنا من الداعين إلى إعادة الاعتبار للمقال كفن إبداعي وجنس أدبي، وأن نتذكر جميعاً أن المقالة التنويرية لعبت دوراً مهماً في التأسيس للحداثة العربية وفي نشر الوعي. وأن نكف عن النظر باستصغار ودونية للمقال بوصفه مجرد “كلام جرائد”. علينا تذكر أن قامات ثقافية عربية مهمة أوصلت الكثير من افكارها عبر المقال كما هو حال طه حسين وأحمد حسن الزيات وسلامة موسى وإبراهيم المازني وزكي نجيب محفوظ وعلي جواد الطاهر وسواهم. من تجربتي الشخصية أجد أن المقال الصحفي ما زال مقروءاً بشكل واسع، وإن وسائل الاتصال الحديثة أصبحت روافع اضافية له، فبعد أن كنتُ أكتفي فيما مضى بنشر مقالي في النسخة الورقية للجريدة، قبل أن يضاف إلى ذلك نشره على موقعها الاليكتروني، صرت أعيد نشره على مجموعة شبكات أخرى كالفيسبوك وتويتر وحتى “واتس أب” وانستغرام وبذلك صار المقال يصل إلى شرائح أوسع من القراء ومن مختلف الأجيال.أكثر من ذلك حققت كتبي التي أعدت تقديم نماذج من مقالاتي فيها رواجاً واسعاً، كما هو حال “الكتابة بحبر أسود”، الذي نظر إليه القراء ككتاب قائم بذاته، يتوفر على بنية متماسكة ومنسجمة، لا بصفته مجرد مجموعة مقالات.بعد كل هذه التجارب التي عشتها على المستوى الشخصي والعام ، هل ما زلت تتمسك بمقولة أنطونيو غرامشي كعادتك : “تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة”؟نحن محكومون بالأمل كما كان الراحل الكبير سعد الله ونوس قد صاغ حكمته وهو في ذروة مرضه بمحاذاة الموت، أكثر من ذلك فإننا في أعماقنا ميالون للتفاؤل رغم صعوبة الظروف، حتى أكثر الناس تشاؤماً يحتفظون في مكانٍ ما عميق في دواخلهم بمساحة للأمل أو الرجاء.شخصياً تأسرني عبارة غرامشي الداعية إلى تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة، وإن بدا هذا التعبير المركب يحملاً قدراً من التناقض، فذلك ما يعد في ظاهر الأمور لا جوهرها، لأنه في حقيقة الأمر يدعونا لأن نحل التفاؤل الواعي محل التفاؤل الساذج.الشطر الأول من فكرة غرامشي يحرض على تشاؤم العقل الذي بدونه لا يستقيم تفاؤل الإرادة، ذلك أن هذا المقدار من التشاؤم يمكن أن يندرج تحت ما ندعوه الحاسة النقدية للكاتب أو للمثقف التي بدونها لن يستطيع أن يرى واقعه كما هو فعلاً، بما فيه من قضايا لم تحل، ومن مشاكل كبرى ومن مثبطات ومن كوابح حقيقية بوجه التقدم للأمام.فإن لم يفعل ذلك كيف سيكون بوسعه أن يصوغ أهدافاً يتعين على الناس أن تعمل في سبيل إنجازها، طالما أنّه لا يملك تشخيصاً نقدياً للواقع، الذي يجب أن نراه كما هو لا كما نرغب.وحين نتحدث عن عورات واقعنا العربي، التي تلقي بظلالها الثقيلة على الإنسان العربي، فتجعل منه إنساناً مستلباً، عاجزاً عن الفعل الايجابي أو بالأحرى منصرفاً عن الإتيان به، لأن اليأس من إمكانية التغيير بلغ به مبلغه، فإننا لا نتحدث عن مكونات سيكولوجية أصيلة في هذا الإنسان، معطاة له بالفطرة، أو مُورثة له بالجينات.الإنسان العربي لا يولد يائساً ومحبطاً ومقموعاً وفاقداً للمبادرة ، وما إلى ذلك من الصفات السلبية ، لكن الذي يحدث أن النظام العربي السائد والآليات التي تحكم هذا النظام، والتي يعاد إنتاجها في صورة مستمرة، هي التي تطبع هذا الإنسان بكل هذه الصفات، وعلى أساس ذلك تتشكل شخصيته بدءاً من أول خلية يتلقى فيها خبراته في المنزل أو في المدرسة أو في الجامعة، صعوداً إلى العلاقات الاجتماعية والسياسية الأخرى المعقدة.لكننا، رغم ذلك، محكومون بالأمل، فهو الذي يجعل لحياتنا معنى ولسعينا من أجل تغييرها نحو الأفضل.
حوار: هدى حمد