«هنالك عالم فتحته بالصدفة، وذلك لأني كنتُ متيما بشخص خالي كامل يوسف، الدارس للأدب الانجليزي، وبعد الحرب الثانية درس في انجلترا، كنتُ لا أعرف تحديدا ماذا يعمل هذا الرجل، ولكني كنتُ مفتونا به وهو يتكلم، وهو يحلق ذقنه، طريقة تناوله للطعام. كنتُ أشعر أنّ هذا الرجل خارج العالم.. وقد أخذ المركز الثاني في إلقاء الشعر الانجليزي، وكان المحكم آنذاك تي إس اليوت. كان عمري احدى عشرة سنة.. ذات مرّة، وعندما لم يكن أحد في البيت، فتحتُ حقيبته فوجدت عالما غريبا.. صوراً لأعمال انجليزية… عالماً له علاقة بالمسرح والسينما في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات.. هذا العالم السحري أذهلني بالرغم من أني لم أكن قادرا وقتها على القراءة باللغة الانجليزية.
كنتُ أفتح دولاب جدي، وأتناول جنيها منه، والجنيه وقتها كان يساوي ألف جنيه الآن، فتحولتُ فجأة إلى صبي ثري جدا في المدرسة. أحضر الساندويش واضع فيه كما من اللحوم وأذهب إلى مكتبة المعارف احضر الكتب واقرأ، ومن ثم اذهب السينما، ومرة ذهبت إلى الأوبرا لأشاهد ما يخرجه خالي. ونظرا لسرية التحرك بدأتُ اكتشف، وبدأت أشعر أني أعيش في حياتي سينما، وفي السينما حياة. أصبح لديّ خلط بين السينما والحياة لسنوات طويلة من عمري، لدرجة أنه عندما يستفزني أحدهم وأنا أخرج الأفلام أشعر أنه يجعلني أصحو من حالة الاستغراق تلك.. انزعج، وأبدو عنيفا وهائجا جدا لحظتها.. بالرغم ما أني عادة ما أكون لطيفا.. قضيتُ معظم عمري، وأنا فاقد للخيط الرفيع الذي يفصل بين السينما والحياة.. ولكن في لحظة من الزمن استيقظت.. فالصناعة والسوق يرغماننا أحيانا على الاستيقاظ.. وهنا تحصل الأزمة.
بهذه الشاعرية العالية بدأ حديثنا مع المخرج السينمائي المصري الذي زار عُمان في مهرجان مسقط السينمائي الفائت، عندما سألناه عن الفيلم السينمائي الذي تحدث عن نفسه.. فيلم لسوسن دروزة قال فيه: « أنا دارس للسينما بمنطق الحياة، وأن هنالك خطوطا لا نهائية بين السينما والحياة».. انطلقنا من تلك الشرارة.. عن الخطوط التي قادته إلى السينما منذ سن مبكرة، وساهمت في تشكيل وعيه..
ولد خيري بشارة عام 1947، ونشأ في حي شبرا، وتخرج بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة عام 1967. وكانت البداية من خلال السينما التسجيلية خاصة مع إنشاء المركز القومي للأفلام التسجيلية عام 1967 وبعدها أصبحت الفرصة متاحة للإعلان عن جماعة السينما الجديدة والتي كان خيري أحد أعمدتها. أفلام خيري بشارة تحمل بصمته الخاصة. من الأفلام التي قام بإخراجها الأقدار الدامية- 1982، العوامة رقم 70 – 1982، الطوق والاسورة- 1986، يوم مر ويوم حلو- 1988، كابوريا – 1990، رغبة متوحشة- 1991، ايس كريم في جليم – 1992، أمريكا شيكا بيكا – 1993، إشارة مرور – 1995، قشر البندق – 1995، ليلة على القمر، ومن المسلسلات التي قام باخراجها أيضا مسألة مبدأ، ملح الأرض، الفريسة والصياد، ريش نعام وغيرها من الأعمال.
لم تقتصر الجلسة على حوارنا مع خيري بشارة، بل تخللته مداخلات مهمة من الحضور الذين شاركونا في طرح رؤاهم، ووجهات نظرهم، فكان أن شاركنا من المغرب الناقد مصطفى الميسناوي، كما حضر الشاعر سيف الرحبي بأسئلته التي ترصد تجربة بشارة عن مسافة قريبة، وقد تطرق الى تجربة بشارة وجيله في مقالة نشرت في كتاب (ذاكرة الشتات) وشارك معنا الجلسة كل من الشاعر طالب المعمري، والشاعر زاهر الغافري والمخرج محبوب موسى.
بين القسوة والانسانية
أخبرنا خيري بشارة أنه يصبح قاسيا وهو يصور أفلامه، وعقله لا يفكر بشيء عدا العمل، وحكى لنا عن فيلم «الطوق والاسورة». كان يصور، وابنه يبلغ وقتها من العمر سنة.. «موعد التصوير في الساعة السابعة صباحا، أي ينبغي أن أكون في اللوكيشن في الساعة الخامسة والنصف، زوجتي كانت تطلب مني إبقاء الطفل معي، فقلتُ لها: ينبغي أن أذهب.. هكذا رميتُ الطفل في حضنها، ولو لم تمسكه جيدا لكان قد وقع .. هذه القسوة لم تكن مجانية كانت تنبع من محبتي للنظام، ومن التزامي. في ذلك العمر لم أكن أقبل التنازلات في العمل، ولكني بدأتُ أصبح مرنا قليلا الآن.. ولكني مع الوقت ومع التقدم في العمر اكتشفت أنّ السينما لا ينبغي أن تكون ضد انسانيتي. أخبرنا بشارة أنه لا يزال يتأمل زوجته، ويتساءل: أين الجانب المصري منها، وأين الجانب البولندي. فهي تعيش معه في مصر منذ فترة طويلة، وهي من أصل بولندي.
حدثنا عن البدايات الأولى.. التي ساهمت في تشكيل وعيك السينمائي؟
جدي كانت أصوله من الجنوب، من البرجوازية الريفية، من قرية اسمها «سيدي سالم» القرية مقسومة إلى عالمين. عالم جدي، وعالم أبي الذي تمرد على عالم جدي، كانت هنالك شركة انجليزية تسمى التفتيش تستصلح الأراضي البور وتعيد تأجيرها أو بيعها.. أنا عشتُ مع والدي في الطرف الانجليزي، كانت لهم بيوت من الطراز الأوروبي.. البيت الواسع، والسقف الذي يشبه المثلث. ولكن بدون كهرباء، وكان نظري ضعيفا دون أن أعلم ذلك لذلك كنت اقترب من الأشياء، لأتعرف عليها جيدا. كنتُ أحب الخضرة والفراشات، وكان ينبغي أن اقترب منها كثيرا لأشاهدها عن قرب.. هذا أثر كثيرا على تجربتي في السينما لأن علاقتي بالضوء نشأت من عدم توفر الكهرباء.. أعرف الشمس متى تدخل، متى تصنع الظلال الحادة، ومتى تنسحب.. أمور كنت أتابعها وانتبه لها.. وعيني تربت في تلك السنوات بصريا بشكل جيد، وهذا أفادني فنيا مستقبلا.
فقدان الخيط الرفيع بين الحياة والسينما ..هل كان ايجابيا لك كمخرج في زمن السوق؟
– نعم كان ايجابيا، والدليل أنني في اللحظة التي شعرتُ فيها بأني استيقظ، وبأني أمايز جيدا أين تقع الحياة وأين تقع السينما.. انسحبت.
في أيام جمال عبدالناصر.. كنت طالبا مجتهدا واطلع الأول على المدرسة، رغم أنه لا علاقة بين الأول في المدرسة وبين الإخراج في السينما.. ولكن العين دائما كانت عليّ، وكنتُ أسمع تهمة أني انسان رومانسي، وكان هذا الكلام يغيظني لأن الرومانسية في عصر جمال عبدالناصر هي حالة هروب.. فذاك الزمن كان زمن الاشتراكية. في فيلم «امريكا شيكا بيكا» الناس تغني مع بعضها وأنا عيني تدمع.
تجربة السفر إلى الخارج.. فترة العام والنصف التي قضيتها في «وارسو» وتعرفك على مخزون هائل من الأفلام الروائية لاحقا البولندية والفرنسية والانجليزية الحرة.. كل هذه المشاهدات كيف ساهمت في تشكيل ملامح فيلمك الخاص؟
– لقد تعلمت في عصر ذهبي ليس فقط في مصر بل أيضا في العالم.. عصر الستينيات.. درست في 63, وشاهدتُ موجة الأفلام الجديدة آنذاك، شاهدنا السينما التشيكية الجديدة.. شاهدنا فورمان مخرج الروائع. شاهدنا السينما الحرة الامريكية, وشاهدنا سينما غريبة.. في كمبوديا مثلا المخرج هو الذي يؤلف الموسيقى وهو البطل.. السينما الصينية آنذاك كانت تُضحكنا… ولكننا لا يمكن بأي حال أن نعرف الجمال إلا بمعرفة القبح. كانت فترة غنية بالدراسة، وكان أساتذتنا يوسف شاهين، وصلاح أبوسيف، وتوفيق صالح.. بالإضافة إلى اساتذة من خارج مصر. كانت فترة خصبة. دخلتُ لدراسة السينما وعمري 16 سنة، وفتحت عيني على سينما متمردة.. على سينما هوليوود، وعلى علاقة بنظرية المؤلف.. في سنة التخرج 67 حدثت النكسة، ولكننا كنا في مرحلة استوعبنا فيها التجديد والتمرد في آن. وأحدثت النكسة النضج على المستوى الايديولوجي. لأن الهزيمة بدأت تطرح أسئلة من قبيل لماذا؟ لماذا تقودنا إلى السؤال لماذا هُزمنا.. ومن هنا يبدأ البحث في التاريخ، واستشراف المستقبل، وأسئلة عن الوعي لذا خرجت كتب من قبيل.. عودة الوعي والوعي المفقود، وبدأ حراك جديد في المجتمع وتشكل لوعي جديد سياسي واجتماعي وثقافي.. تكامل مع ما ذكرت سابقا من التمرد والتجديد.. وهذا هو ما أوجدنا كمخرجين، وساهم في تشكيل ملامح أفلامنا.
قلت بأن مرحلة الستينيات وتحديدا سنة الهزيمة كانت مرحلة خصبة بالنسبة للسينما والسينمائيين، فماذا تقول عن عام 2011 م، والربيع العربي، هل يمكن أن تكون مرحلة مهمة لخصوبة الفن أيضا؟
– هذا السؤال خطير للغاية.. وقد سبق وان قلت أنه كما حدث في 67, سيحدث أيضا مع الثورات العربية في 2011, الشاباليوم لديهم سهولة كبيرة في الحصول على المعلومة، وهذا لم يتوفر في عصرنا. وأنا بصدق لم أكن أنظر يوما إلى الأجيال الشابة على اعتبار أنها أجيال تافهة وليس لديها وعي ما، ولكن ثورات الربيع أظن أنها ستقدم صدمات جديدة للوعي، وستخلق مناخات جديدة للمخرج السينمائي الذي كانت اهتماماته السياسية والثقافية محدودة، وسيبدأ ببلورة ما يدور، ولاحقا سيزاوج بين السينما وهذا الوعي.. أنا أراهن على العشر سنوات المقبلة بأننا سنذهل بأناس في السينما وفي الأدب في الموسيقى.
ومن الأكيد أن ثمة عصورا ذهبية قادمة. وحتى ما نراه الآن ونظنه انتكاسة هو مخاض لولادة جديدة. صحيح أن الثورات ربما هنالك من سرقها.. ولكن هذه ليست مشكلة..
من سرق الثورة؟
– صنع الثورة الشباب وسرقها العواجيز.
وفرة لا محدودة في الصورة
هنا تداخل معنا الناقد مصطفى الميسناوي من المغرب قائلا: «في السياق الذي ذكرت.. أصبحت هنالك امكانيات كبيرة للاطلاع على تحف السينما العالمية عبر المواقع.. جيلي أنا من الجيل الذي أتى بعد جيل خيري بشارة، وكنا نعاني من الامكانيات المتوفرة لمشاهدة السينما.. بينما الآن من السهل الحصول على أي فيلم من تراث السينما. معنى هذا أن الجيل الجديد محظوظ اكثر من الأجيال السابقة. ولكن في الوقت نفسه فان ذلك خلق مشكلة أخرى… فإمكانيات والخيارات الواسعة من شأنها أحيانا أن تؤدي إلى التشتت والحيرة».
وتابع الميسناوي قائلا: «سابقا لم نكن نتوه في المشاهدة والمتابعة.. الآن هنالك وفرة لا محدودة في الصورة.. مصر كانت رائدة، فهي أول بلد عربي تظهر فيه السينما، لذا فهي تمتلك سلطة البداية. السينما المصرية فرضت نفسها، والملاحظ الآن أن مصر ضعفت… ونستطيع القول بأنها فقددت هيمنتها.. وأيضا الانتاج قل في مصر، وبالمقابل ظهرت سينما فتية في تونس وبلاد المغرب وسورية».
وعن الربيع العربي قال الناقد مصطفى الميسناوي: «لا يمكن انتظار حصول إبداع حقيقي بسرعة عقب الربيع العربي، فقد ظهرت أفلام في تونس ومصر، ولكن يغلب عليها الطابع التسجيلي، وهي أيضا ضعيفة.. اللحظة أكبر من استيعابها والبحث عن جمالياتها، لذا لا بد من الرهان على الوقت».
وتابع الميسناوي قائلا: «بواكير الأعمال المستقلة بدأت قبل الثورة.. من فيلم «عين الشمس» لـ ابراهيم بطوط، فيلم «ميكروفون» فالسينما منذ القديم كانت تطرح أفلاما مستقلة.. هنالك سينما مستقلة في مصر لا يمكن ربطها بأحداث 2011 فقد تكونت قبل ذلك، ويمكن التنبؤ من خلالها بظهور سينما جديدة مختلفة.
صعود التيارات الاسلامية في الدول العربية .. هل يأتي على حساب الفن؟
– هنالك خوف زائد وغير مبرر له من التيارات الاسلامية.. برأيي الشخصي هذه التيارات هي واقع معاش، ولم تأت من الفضاء بغض النظر عما إذا كانت الناس تريدها أو لا. المشكلة الحقيقية لدى البعض تكمن في كونها مشكلة وعي، وأمية أيضا. من وجهة نظري الشخصية هذه الجدلية أفضل من الصراعات الأمنية التي كانت تمارس من قبل.
تخيلي ..لو أنّ هذه التيارات لم تصعد الآن .أظن أنها كانت ستمثل خطرا أكبر بكثير لو أنها صعدت بعد عشر سنوات من الآن.. لأنها ستبدل أساليبها، وستنضج، وسيكون الوضع أكثر صعوبة.. بينما هي الآن متورطة لوجودها في الواجهة.. لذا من الخطأ أن نقصيها الآن.. فالتاريخ لا يكتب قسرا.
شاهدت التجربة السينمائية العمانية في مهرجان مسقط 2012.. كيف ترى الفيلم العماني؟
– لم أتابع الكثير من التجربة العمانية.. كانت متابعة امتدت لنصف ساعة فقط، إلا أني لاحظت أنهم يذهبون جميعا إلى التجريد، وإلى الاشتغال السريالي .. لا أريد أن أبدو كرجل حكيم يُنظر، وكأني أعرف أكثر، فكل جيل يفرض اطروحاته.. ولكني أظن أنه لا ينبغي البدء من التجريد.. ينبغي الانطلاق من الواقعية ومن فهمها العميق.. فكيف أقدم التجريد، وأنا ليس لديّ ملاحظة، وبدون معرفة بالناس؟
جملة المعارف هذه هي التي تمكن المخرج من أن يهيم في اتجاهات أخرى لاحقا.. لكي لا يبدو الطرح ساذجا عندما يتحرك في فضاء مجهول.. على المخرج أولا أن يتحرك في فضاء يعرف مفرداته جيدا، وبعد ذلك يمكن الذهاب إلى كل اتجاهات التجديد الأخرى.
عندما طُلب مني القيام بندوة في عمان.. لم أجد عنوانا أفضل من «الكاميرا القلم» للكاتب الكسندر استون كتبها في عام 1948م، عن تلك الأفلام التي كانت تولد خارج السينما في الأربعينيات.. أعني خارج معايير سينما هوليوود، وخارج مباركة النقاد.. أفلام كأنها القلم في يد الكاتب.. مقالة استون رغم قصرها، كانت مهمة للغاية في تاريخ النقد السينمائي.. فقد كان لديه استنارة ومعرفة بما سيحصل في تاريخ السينما، إذ لن تكون سينما واحدة، وإنما ستوجد سينمات متنوعة ومتعددة، كما أنّ هنالك آدابا وليس أدبا واحدا.
برأيي أنّ البلاد التي لها تاريخ يثقل كاهلها يعطلها.. مثل مصر التي لا يمكن أن تصنف كـ عالم أول ولا ثان ولا ثالث.. هذه الحالة غريبة.. وعلى المخرج في السينما أن يحتمل هذا الإرث الثقيل ليعطي.. ويظل هذا الارث معنا ونحن نكتب ونفكر ونرسم.. بينما الدول الأخرى التي بلا هذا الإرث أعني الدول الفتية فإنها تتحرك دائما خارج الإرث، وخارج ذلك الثقل.
بدأت من الفيلم التسجيلي وانتهيت إلى الفيلم الروائي ..الروائية التي صنفت بالواقعية.. إلى أي حد ساهم الفيلم التسجيلي في التأثير عليك للاقتراب من الواقع في أفلامك الروائية لاحقا؟
– الفيلم التسجيلي ساعدني على أن أعرف الناس عن قرب، وعلى أن أدخل مناطق جديدة في فهم الواقع .. البحث عن الواقع بعد 67 م .. حيث نكتشف أننا لا نعرف الوطن الذي نعيش فيه.. فالوطن ليس البيت والشارع والمدينة.. الوطن ليس جغرافيا, لذا أقول بأن الفيلم التسجيلي له الفضل في معرفتي بالناس.
هل هنالك خوف من التكنولوجيا اليوم .. تلك التي يمكن أن تجعل الجميع يخرجون ويمثلون بل ويعرضون أفلامهم عبر الوسائط المتعددة؟
– العصر في هذه الألفية الجديدة هو أفضل من الزمن الذي عشته أنا.. عصر فريد بسبب الديجيتال.. أي انسان قادر على أن يكتب تاريخه الخاص، وأن يكون مخرجا.. قد يقول البعض بأن ذلك يأتي على حساب القيمة أنا لا أتحدث عن القيمة الآن… الناس العادية الآن في اليمن على سبيل المثال تكتب تاريخها الجديد.. الناس العادية تسمع صوتها عبر الفيس بوك، والتويتر.. نعرف أفكارها ولهجتها..
وهنا طرح الشاعر سيف الرحبي سؤالا جوهريا: «التكنولوجيا ووفرتها ربما تأتي على حساب العمق الفني والروحي للعمل السينمائي.. ألا تظن ذلك يا خيري بشارة!»
– أنا أقول أن المادة الآن ديمقراطية، الآن لا أقيم ما يكتب.. لم نكن نعرف تاريخ الناس من قبل في عصر الاسكندر مثلا .. ليس لدينا معلومات عن الناس كيف كانت تفكر وتحلم. بينما الآن لدينا بداية تسجيل تاريخ جديد للإنسان.. ربما يكون هنالك نظام فاشي أو محافظ أو ديكتاتوري، ولكن هذا سيذهب إلى الجحيم.. لأن هنالك ديمقراطية افتراضية.. لا أحد يستطيع الآن أن يمنع أحدا أن يعبر عن نفسه.. فقير على سطح بيته يمكن للعالم أن يسمعه وهو يكتب الشعر ويرقص ويتألم.. وفي الأخير كل ما له قيمة سيبقى، وكل ما ليس له قيمة سيتوارى بعيدا.
انعدام تاريخ المشاهدة
وتداخل سيف الرحبي قائلا: «المسألة تبدو في سياق حديثك حول الواقعي والتجريدي كالفنان التشكيلي الذي يُحلق في التجريد السطحي، وهو في الأساس لا يُجيد الرسم الواقعي، وليس لديه اساسيات.. وفي حديث السينما التسجيلية أتذكر كلمة لجودار: «السينما التسجيلية ليس لذاتها وإنما لما تفتحه لنا من امكانيات لا نهائية.. الواقعي إلى اللاواقعي.. المرئي إلى اللامرئي»، وعلّق مصطفىالميسناوي قائلا: «لاحظتُ في الامارات وجود ميل كبير إلى التجريب، لا يُنبىء عن الخبرة، هنالك افتقار إلى المشاهدة.. وبرأيي الشخصي لا بد من وجود تاريخ مشاهدة أولا.. والمفارقة .. أنه في هذا التوقيت الذي تتاح فيه وسائل كثيرة لمتابعة السينما.. لا نجد اجتهادا في المشاهدة.. كمن يريد أن يكتب وليس لديه تاريخ قراءة.. وكما قال سيف الرحبي .. كلنا نعرف بيكاسو, ولكنه بدأ من المدرسة الواقعية, ثم تجاوزها إلى التجريد».
أنت ناقد كتب النقد لفترة ليست بالقصيرة.. كيف ترى النقد في الوطن العربي؟ هل حقا لا يزال النقد لا يقدم أكثر من وصف للحكاية؟
– هنالك مشكلة كبيرة الآن في النقد كما ذكرتِ بأن دوره بدأ يتوارى.. في جيلي كان النقد مؤثرا، ويُقرأ جيدا في العالم العربي، ولم يعد كذلك الآن. وعلى الناقد اليوم أن يُعدل خطته ليصبح جزءا من الحراك الثقافي، السياسي، والاجتماعي، وإلا أصبح خارج اللعبة.
بدأ نجاحك من فيلم «العوامة»، وليس قبل ذلك؟
– ظننتُ أنّ فيلمي الطوق والأسورة فيلم شعبي «حيكسر الدنيا»، لأني كنتُ وقتها متمرد على السينما السائدة، وأريد أن أقدم شيئا جديدا، لكن الناس تابعت الفيلم ونظرت إليه على أنه فيلم غريب لا أكثر من ذلك.. أذكر أني وقتها صدمت وكدت أموت، ولم أتوازن إلا عندما ذهبتُ إلى فرنسا، واحتفى بي المخرجون العرب هنالك، عندها فقط بدأت استعيد معنوياتي.. لا استطيع أن أحكم على نفسي بأني أجدد، وأغير، وأتمرد.. وذلك ليس من واجبي.
أفلامك الأربعة الأولى كانت تسير على خط درامي متجانس، ولكن ابتداء من فيلمك «كابوريا» بدأ المشاهد يشعر بالاختلاف.. فهل كان ذلك من أجل التجريب أم لأنك شعرت بأن الخط الدرامي الذي ينبع من قصة تتطور ثم تتعقد ثم تحل آن الأوان لتغييرها؟
– بعد أفلامي الأربعة الأولى شعرتُ أني تحدثتُ بوفرة عن كل ما أريد أن أقوله.. لذا توقفتُ قليلا.. ففي جيلنا كنا نقدم أفلامنا بالقلم والمعاناة والفرح والحزن.. لذا لا أحب أن أتفرج على أفلامي لأني أتذكر المعاناة المرهقة تلك.
ذات مرة قال لي أحدهم في الشارع: «شاهدتُ فيلم يوم حلو ويوم مر، وفيلم أحلام هند وكاميليا.. إنها افلام مذهلة، ولكني أصبتُ بأزمة قلبية».. كان شخصا عابرا، وكان يمكنني أن لا اعيره انتباها، ولكني شعرتُ بالانزعاج الهائل.. فأنا لم اصنع فيلما من أجل أن أصيب أحدهم بأزمة قلبية!
لذا بدءا من كابوريا بدأتُ أفكر لماذا لا أجعل الناس تغني على سبيل المثال.. فيلم الطوق والأسورة صنعته من المعاناة، ورغم ذلك أجده أسهل من كابوريا.. على عكس ما قد يظن النقاد.. هكذا جاء التغيير من متفرج صدمني.. شخص عابر، لا أعرف اسمه، ولا أتذكر شكله جيدا.
ترفض أن تُصنف في المدرسة الواقعية، وتفضل أن تكون ابن المدرسة المصرية الحديثة.. بالرغم من أن البعض يتعرفون على أفلامك من مجرد مشاهدة الصورة قبل الاسم؟
– من الخطر أن يُصنف المخرج نفسه.. إلى أي مدرسة ينتمي، من الخطر أن نقول بوجود مخرج مثقف، ومخرج غير مثقف.. مخرج مجدد وآخر غير مجدد.. التصنيف ليس من شأن المخرج، ربما من شأن النقاد أو المشاهدين، إذ أنّ مهمة المخرج الأولى هي أن يصنع فيلمه.. قد أرى فيلمي الآن مهماً، ولكنه بعد عدة سنوات ربما يذهب إلى المزبلة.. حقيقة الأمر وفي هذا العمر من حياتي أريد أن انزع أوهامي عن نفسي.
قلة الموارد المالية هل كانت السبب وراء انسحابك من السينما؟
– لا .. أنا انسحبت من السينما في الوقت الذي كنتُ فيه المخرج الأعلى أجرا، وفي الوقت الذي كنتُ فيه اصنع فيلما بالعام.. انسحابي له علاقة بأني ارهقت، وبشكل خاص «ماعنديش حاجة أقولها». بعدها أردتُ أن اشحن نفسي، وأعيد علاقتي بالحياة، فقد خفتُ أن أتورط في تنازلات لستُ مضطرا لها.. لذا كان يجب أن انسحب آنذاك.
داخلنا سيف الرحبي قائلا: «عندما حدث زلزال في مصر. كنتُ وقتها هناك، وأذكر كانت لـخيري شقة في شبرا، تهدمت وتشرد هو وأولاده، بالرغم من أنه مخرج كبير. في تلك الفترة كنت ألتقي بخيري في مقهى بالمهندسين، يأتي أحياناً مع صديقه محمد خان والراحل أحمد زكي».
علّق خيري بشارة ضاحكا: «اختلف الوضع الآن.. أصبح لديّ «كرديت كارد».
لماذا لم تذهب إلى السينما التجارية؟
– في الوقت الذي بدأتُ فيه بعمل المسلسلات، كانت السينما آنذاك تترنح، وكان عالم المسلسلات بالنسبة لي جديد. فيه دهشة أحببتُ أن أجربها..وكان هنالك أيضا «رزق» أريد أن أسعى له من أجل أبنائي، فأنا كنت رجلا مسؤولا عن عائلة، حتى وإن لم تكن زوجتي امرأة متطلبة.. قبل ذلك كنتُ أخرج فيلما كل ثلاث سنين, وغير مهتم بالربح.. الحقيقة لم أجمع من السينما جنيهاً واحداً، بينما المسلسلات أمنت لي الاستقرار المادي.
لا تزال السينما المستقلة حكرا على المهرجانات، ولم تدخل حيز دور العرض بجرأة وقوة؟
– أنا لا أعرف مستقبل دور العرض، ولكني أعي أننا ندخل إلى عصر مدهش، وأنا متفائل به.. أفكر الآن بضرورة أن توجد قناة عربية واحدة على الأقل تعرض الأفلام المستقلة منذ بدايتها إلى اليوم، قناة لا يكون أكبر همها أن تربح. متفائل بالتقنية الحديثة من مثل اليوتيوب على سبيل المثال، مما يؤشر إلى أن السينما لن تموت كظاهرة شعبية، فهنالك الآن أناس لا يعرفون بعضهم البعض، ولكن يتفرجون على أفلام بعضهم البعض عبر الوسائط الحديثة.
السينما للأسف ترتبط بالظروف السياسية والثقافية، وبالمفهوم الأخلاقي الضيق الذي يدفع أحدنا للتساؤل «هي السينما حلال ولا حرام». كما هو الحال في وطننا العربي.. أتساءل أيضا لماذا لا توجد دور عرض في الأحياء الصغيرة، كما حدث عندما شاهدت فيلم «أرتست» الحائز على جائزة الأوسكار في أحد الأحياء البسيطة.
خطر شركات التوزيع
وقال الناقد مصطفى الميسناوي: رغم التفاؤل الذي عبر عنه خيري.. فالخطر قائم من شركات التوزيع. في مصر أثيرت هذه المسألة لوجود أربع شركات تحتكر العرض والتوزيع، معنى هذا أن الافلام لا تجد طريقها للمشاهدة.
وتحدث سيف الرحبي حول ذلك قائلا: هنالك ظاهرة سينمائية في المغرب وفي تونس والجزائر مرتبطة بالإنتاج المشترك مع فرنسا أحياناً، وقد حازت على جوائز مهمة، لكنها تفتقر إلى التسويق الجيد.. فهي تعرض في فرنسا والبلدان المغاربية، ولكن المشاهد العربي لا يعرف عن هذه الظاهرة السينمائية وهي تعالج مشاكله ومآسيه ووصلت كانجاز إبداعي الى مستويات السينما العالميّة الكبيرة.. للأسف حتى القنوات العربية المتخصصة بالسينما لا تستقطب مثل هذه الأفلام.
كثيرا ما يروج بأن الأفلام المستقلة هي للنخب، والأفلام التجارية هي للعامة.. إلى أي حد هذه الفكرة صحيحة؟
– أنا مع التنوع والتجاور، وليس مع نظام الهرم.. بمعنى آخر أتمنى أن تتوفر السينما التجارية إلى جوار المستقلة، وكل يذهب إلى ما يعجبه.. التجاور هو الغنى الحقيقي، وهو الذي يُحقق التوازن داخل الانسان أمام احتياجاته المتنوعة. أنا على سبيل المثال أحب تاركوفسكي، ولكني لن أقضي حياتي كلها في متابعته، فأنا بالمقابل أحب أيضا جاكي شان.. وكل منهما يقدم نوعا مختلفا من السينما.
نمط فرض الذوق
وعن ذلك قال الناقد مصطفى الميسناوي: هنالك أفلام توجه للنخب، وأخرى للعامة.. المهرجانات المشهورة تُعطي مجالا لهذه الأفلام غير الناجحة تجاريا، لأن سينما هوليوود رسمت ملامح فيلم الجمهور.. ولكن يمكن لأفلام النخب أيضا أن تنجح تجاريا، ويمكن لفيلم تجاري أن ينال اعجاب النخب.. فيلم النخب موازنته غالبا منخفضة، على عكس الأفلام التجارية التي تتطلب استثمارات ضخمة جدا.. في السينما نادرا ما أجد فيلما غير أمريكي في المستوى الأول للعالم، والفيلم الهندي، والسينما المصرية في المنطقة العربية.. بالرغم من وجود أفلام سويدية وكورية وتحقق مداخيل جيدة أثناء عرضها في بلدانها.
وتابع الميسناوي قائلا: الأمر لا يتعلق بسينما التجارية أو سينما النخب بقدر ما يتعلق, بهيمنة نمط فرض الذوق.. كل بلد يمكنه أن يخلق استثناء ثقافيا.. كما هو الحال في فرنسا التي تشاهد أفلامها.. لذا فهو يوزع في البلدان الناطقة بالفرنسية.. أحيانا أمريكا تشتري حقوق الفيلم، وتعيد تصويره، ليواكب الذائقة العالمية.
ما رأيك في وجود أكثر من مهرجان سينمائي في الخليج، بالرغم من عدم وجود صناعة سينمائية حقيقية للآن في المنطقة.. نرى مهرجانا في قطر ومهرجانا في عُمان، وثلاثة مهرجانات أخرى في دبي وأبوظبي ومهرجان الخليج؟
– أحيانا نسخر من كثرة المهرجانات ومن البذخ الذي يُصرف عليها.. ولكن في نفس الوقت لديّ وجهة نظر مختلفة أيضا.. على سبيل المثال هنالك دار أوبرا في عمان الآن ولكن لا توجد أوبرا.. فهل نقول بأن هذا الأمر سلبي!، أنا أراه إيجابيا، لأن هذه النقود صرفت من أجل فعل ثقافي، وسيأتي يوم نرى فيه عروضا أوبرالية عمانية..
أيضا كثرة المهرجانات يمكن مع الوقت أن تدفع السينما لأن تنضج.. وأيضا على سبيل المثال.. في الامارات ظهرت مجموعات من الشباب، وقدمت أفلاما قصيرة، والآن انتقلوا من الأفلام القصيرة إلى الطويلة.. هذا الأمر لم يكن يمكن التكهن به قبل عشر سنوات، وإنما ترافق مع الاهتمام بالسينما وبالمهرجانات.. الأمر في الامارات يبدو على عكس دولة الكويت التي كانت رائدة في الخليج ثم تراجعت.. وقال مصطفى الميسناوي: «من المؤكد هنالك محاولة لإدخال المنطقة إلى داخل العصر.. ولكن للأسف الذهنية لا تزال كما هي… لذا السينما يمكنها أن تساعد على ردم الهوة بين البنية الأساسية من تحديث الشوارع والتقنية العالية، وبين الأفكار من جهة أخرى».
حوار: هدى حمد
كاتبة وصحفية من عُمان