«مشيت وفي منتصف طريق الحياة،
وجدت نفسي في غابة مظلمة
حينها أدركتُ أنه قد ضاعت منى معالم الطريق»
«دانتي، الكوميديا الإلهية»
في حديثه عن «هاملت» في «محاضرات حول الفنون الجميلة» قال الفيلسوف الألماني الشهير هيجل: «إن هاملت ذو قلب جميل ونبيل، وهو ليس ضعيفًا، في أعماقه، على الإطلاق، لكنه ذو شعور قوي تجاه الحياة، ومن ثم فإنه، وخلال ذلك الضعف الذي يلازمه، خلال كآبته، كان يندفع نحو اليأس، إن لديه إحساسًا حقيقيًا بأن الهواء المحيط به معبأ بالكذب، لكن دون علامة خارجية واضحة على ذلك، وليس هناك من أساس محدد لشكوكه، لكنه كان يشعر بالغرابة أيضًا؛ فكل شيء ليس كما ينبغي أن يكون، وقد كانت تنتابه الظنون حول تلك الأحداث المرعبة التي حدثت، ثم يلقي شبح أبيه – إليه – بتفاصيل أكثر، وفي داخله يشعر بالرغبة في الانتقام، ويفكر على نحو مطرد في الواجب الذي يوحي به إليه قلبه، لكنه لا يستطيع أن يقوم بتنفيذه، إنه ليس مثل ماكبث، فهو لم يندفع في غضب عاصف، ولم يوجه غضبته نحو «لايرتس» بل ظل، على العكس من ذلك، قابعًا في تلك الحالة من العجز المقيم الخاصة بروح داخلية جميلة لا تستطيع، هي نفسها، أن تندمج في علاقات خاصة مع عالمها الحاضر المحيط بها»(1).
هكذا كان هاملت واقعًا في براثن إدراكه للغرابة في هذا العالم وحيث «كل شيء ليس كما ينبغي»
الغرابة، في جوهرها، خبرة خاصة تتعلق بالفقدان للاتجاه والتوجه والتبصر، خاصة عندما يبدو العالم الذي نعيش فيه، فجأة، عالمًا غريبًا مغتربًا ومهددًا.
كانت الغرابة موضوعًا متكررًا مهمًّا في الأدب القوطي، ثم صارت مقالة فرويد التي ظهرت عام 1919 الينبوع والمصدر الثقافي الأساسي لهذا الموضوع. وقد ظلت هذه المقالة مطوية، تقريبًا، في زوايا النسيان خلال النصف الأول من القرن العشرين، على الرغم من نشرها في أعمال فرويد الكاملة أكثر من مرة، ثم عاودت الظهور، مرة أخرى، على نحو مثير بدءًا من سبعينيات القرن العشرين، ثم أصبحت واسعة الانتشار من حيث قراءتها أو العودة إليها أو التأثر بها في الدراسات الإنسانية والثقافية منذ ذلك الحين وحتى الآن، على الرغم من أننا نادرًا ما نرى إشارات إليها في الدراسات العربية، خاصة تلك التي وظفت التحليل النفسى في تفسير ظواهر ثقافية أو اجتماعية أو سيكولوجية أو فنية.
وقد التقت الأفكار الخاصة بدراسة فرويد هذه، بعد ذلك، مع أفكار مستمدة من وولتر بنيامين وماركس كي تضع الغرابة في موضعها المناسب في علاقتها مع «الفانتازماجوريا» أو تجمعات الأشباح والصور الطيفية أو أجهزة العرض في السينما أو معماريات الظلال الخاصة بحياة المدن، وخاصة مع تحولات العالم المدينى إلى مشهد بصري، ومكاني، مسكون بالكائنات الشبحية الظلية، تلك المتعلقة بكل ما هو عابر وغير جوهري، في عالم الصورة وثقافة الاستهلاك، وقد تم ربط المشهد كله بما قد يسمى، الآن، الغرابة التكنولوجية، تلك الغرابة التي توحي لنا بأن الصور الفوتوغرافية والأفلام والأصوات الإلكترونية قد أصبحت، كلها، المصادر الأكثر أهمية في حياتنا وثقافتنا، كما أنها المظاهر، التي يتجلى من خلالها ذلك الحضور المثير للاضطراب الخاص بالآخر.
تشير الغرابة إلى بعد مهم من أبعاد الحياة المعاصرة التي نعيش فيها، وأيضًا إلى شعور خاص يتولد بداخلنا ونحن نعايش هذه الحياة، ونشعر بالغرابة فيها؛ مما يؤثر في قدرتنا على تصنيف الخبرة والحياة وإصدار أحكام محددة عليهما؛ فالاضطراب الذي يلحق بمشاعرنا، هنا، اضطراب، يلحق، في الوقت نفسه، أيضًا، بقدرتنا على الحكم على المواقف الغريبة، وأيضًا على تصنيف خبراتنا الخاصة إزاءها. لكن هذا الاضطراب هو أيضًا شعور جمالي من نوع خاص، إنه، المنزل الآمن، والمكان المثير للاضطراب أيضًا، إنه شعور يميل إلى أن يجد «مكانًًا» له، و«معنى» دائمًا، في كل ما هو غريب وغير مألوف في الفن، وفي الحياة(2).
عبر القرن العشرين، تراجع النوع الفانتازي (العجائبي) من الفن والأدب أو ما يمكن أن نطلق عليه اسم الغريب المتفائل أو المضيء، وتزايد حضور ذلك النوع الغريب المتشائم القاتم، وقد تجسد ذلك في أعمال تطرح قضايا عامة حول طبيعة الاستقرار الخاص بالعالم المعاصر، أو، بالأحرى، عدم استقراره، وكما لو كانت الخبرة الحديثة تتوقع على نحو محايث أو ملازم لها، ذلك الانقضاض الضاري لغير المألوف في كل لحظة(3).
مع كتاب جاك دريدا الشهير «أشباح ماركس» الذي ظهر عام 1994، أصبح تأثير فكرة الغرابة في الأوساط الأكاديمية والثقافية، عامة، مؤكدًا، وإلى الدرجة التي جعلت المفكر «مارتن جى» يشير إلى «الغرابة» في أحد كتبه عام 1998 على أنها «المجاز السائد» Master Trope للعقد الأخير من القرن العشرين(4).
يشتمل الانتشار المستمر «لدراسات الغرابة» uncanny studies الآن على مدى واسع من المجالات المتنوعة التي تمتد من الدراسات الإنسانية واللسانيات، وحتى العمارة والدراسات ما بعد الكولونيالية، وعلم الاجتماع، ودراسات المدن، والميديا، إلى الثقافة بشكل عام، كما أن هذا المصطلح أصبح يستخدم على نحو واسع كذلك لتفسير كل هذه الحالات الخاصة بالحضور والغياب، والتجول على غير هدى، الإقامة والرحيل، الألفة والغربة، حضور الماضي وسكنه في الحاضر، وغياب الحاضر، التردد «والانتياب» والحلول فيما يتعلق بالأشباح والصور، والذاكرة، وبكل ما يتعلق بذلك كله من معانٍ ودلالات.
ما الغرابة؟
تتعلق الغرابة، بنوع من الشك وعدم اليقين، والغموض أو الالتباس والريبة الملازمة للمكان، والزمان، والتاريخ، والوجود، إنه التباس يتعلق بالفرد أو بالثقافة أو بهما معًا. وإنه مع تزايد الشك، والافتقار إلى اليقين، يقل الشعور بالأمن، ويزداد الإحساس بالتهديد، يشعر الإنسان أنه غير قادر على تمثيل العالم وأن العالم كذلك غير قادر على تمثله وهنا يتجلى الخوف، على أنحاء شتى، وقد يتصاعد ليبلغ مرتبة الرعب أيضًا.
يهيمن الغريب عندما تضطرب حالتا الوعي واللاوعي لدينا، فتصبح الذات مهددة والواقع غير آمن، حينئذ يجيء التهديد داخله، من حيث لا ندري ولا نتوقع فيهز استقرار هذه الذات وتوازنها.
لكن القريب قد يكون الغريب أيضًا هو القيمة الثقافية والجانب البنائي الإيجابي من خبراتنا الحديثة، إنه قد يشتمل على حساسية مميزة وانصهار ما بين الانفعال والتأمل والفعل الإبداعي، ومن ثم قد تتجلى فيه جماليات الحداثة، وما بعدها.
قد فسر «أوتو رانك» في دراسته «فكرة حول المقدسً» كلمة «الغرابة» في اللغة الألمانية التي تشير في جوهرها، إلى حاجة الإنسان لأن «يجسد خوفه في أشكال غير طبيعية». والغرابة هي التجسيد المعاصر للجليل بل إنها الجليل الخاص بعصرنا كما أشار هارولد بلوم، وأنه مثلما قد يكون من المستحيل فهم الرومانتيكية دون فهم الجليل بوصفه إحدى نقاطها الجوهرية، كذلك لا يمكن فهم الحداثة وما بعدها على نحو مستقل عن الغرابة وتشكيلاتها الغريبة؛ فالغرابة، هي الحداثة وما بعد الحداثة أيضًا(5).
الغريب هو أيضًا الدخيل أو، الآخر، غير المألوف، والغرابة هي فئة المخيف من المشاعر والأفكار التي ترجع بنا نحو شيء ما قديم نعرفه، كان مألوفًا لنا منذ وقت طويل كما قال فرويد(6).
لم تكن الغرابة أو «الألفة غير المألوفة» Familiar unfamiliarity لدى فرويد، أو غيره، يتعلق بالجديد أو الغريب فقط، بل بغير المألوف الذي ينطوي على جوانب مألوفة، أو غير المألوف الذي يحضر معه – عند مستوى الإدراك أو الذاكرة أو الحلم- قريني المألوف، شبحه المألوف، شبح والد هاملت، مثلاً، غير المألوف، ذلك الشبح الغريب الذي يحضر في هيئة شبيهة بالوالد، الملك المألوف، لكنه المألوف الذي أصبح نتيجة لغيابه بالموت، وحضوره، كشبح، غير مألوف، من ثم كان ينبغي أن يكون، على نحو ما، ظلا شبحياً، شبيهًا، بالمألوف، أو قرينًا يجمع بين الحي وغير الحي، ويعيد تجسيد صفات الحي، وغير الحي، الحاضر والغائب معًا، في تكوين فريد يثير الشكوك، وهذه الشكوك المتعلقة بالغرابة، المتوجهة نحو الموتى الأحياء، والأحياء الموتى نحو المستحيل الذي يعود عبر الحدود، هي جوهر الغرابة(7).
والغرابة في مظهرها الشبحي، يمكن تعريفها على أنها قوة هائمة لا يمكن السيطرة عليها، قوة تمر ما بين الحياة والموت، وتعبر حدود العقلانية البشرية كي تؤسس، فيما بين هذه الحدود، مناطق خاصة بها(8)
والغرابة نوع من الحضور يدل على الغياب، حضور للموت يدل على غياب الحياة، حضور للخوف يدل على غياب الأمن، حضور للقلق يدل على غياب الاستقرار والتوازن. والغرابة كذلك هي «الجليل» الخاص بعصرنا كما قال هارولد بوم، كما أشرنا سابقًا(9).
بالنسبة لدريدا تحوم الغرابة وراء تلك الروابط غير المستقرة الموجودة بين الدال والمدلول، والمؤلف والنص، وترتبط بالأشباح والغياب، وحضورها دائم في الفن والفكر والحياة، أما بالنسبة لبودريار فإن ذلك الميل الخاص للغرابة للازدواجية، والتحول والتجول ما بين الواقع والخيال، وكذلك الخداع البصري الملح الخاص بها هو ما يمنحها دورًا مركزيا في التجسيد للصور المحاكية الثانوية غير ذات الأصل المحدد Simulacra والتي هي أصل الغرابة(10).
وقد تجددت القوة التأويلية للغرابة، دائمًا، مرة بعد أخرى، في الأدب والفن التشكيلي والسينما، وكذلك كل ما يرتبط بالحساسية الفنية الكلية المعاصرة في الأفلام الخيالية، أفلام الخيال العلمي والأشباح والرعب والواقع الافتراضي، وغيرها.
وعلى نحو يتسق مع تراث ماركس وجورج سيميل ولاكان، فإن كرستيفا قد لاحظت ذلك الاتفاق بين الغرابة، وبين اختلال الشعور بالشخصية، وهو أمر كان موجودًا، على نحو ما، لدى فرويد، لكنها تبتعث ذلك التاريخ الطويل للغرباء، تلك الكائنات الشبحية الأقرب، إلى أنفسنا، أكثر مما قد نريد أن ندرك، وكذلك هؤلاء ذوو الحاجات غير المختلفة عن حاجاتنا كثيرًا كما أشار تودوروف.
وفي قراءته لمفهوم «الأمة» في المكان والزمان في الحقبة ما بعد الاستعمارية، استخدم «هومى بابا» مفهوم الغرابة لدى فرويد إلى الحديث عن حياة المهاجرين، والأقليات والعائشين في المنافي، وجوهر المدينة، والتي تمثل «المكان الذي تحدث فيه عمليات التوحد أو دمج أو التمثل الناشيءة الجديد». «وما سماه «بابا» «تعقد المعيشة» قد يفسر، كذلك، من خلال نظرية ما، حول الغريب. ذلك الذي يهز استقرار الأعراف والتقاليد الراسخة حول المركز والهامش، وحول الأشكال المكانية للقومية. وقد تم استخدام المصطلح الخاص بالغرابة كذلك في شرح عمليات النمو العشوائي للمدن الكبيرة في أماكن كثيرة من العالم مثل استراليا وبنجلاديش وغيرها من بلاد العالم(11).
باختصار تتعلق الغرابة بذلك الإحساس الذي يتولد لدينا عندما نوجد عند حدود غير آمنة من الخبرة، أي عندما تستثار بداخلنا تلك المشاعر من الشك والالتباس وربما الخوف أو حتى الرعب، وهي خبرة ملتبسة تشتمل على جوانب خاصة بالألفة والنظام ومعها في وقت واحد عدم الألفة والفوضى والانتهاك للمألوف والمعروف معًا، وهي خبرة شبيهة كذلك بتلك الخبرة التي تظهر، بكثرة، في السرد والغرابة، وفي الفن عامة، على أنها خبرة جمالية، غير سارة، وقد تكون مرعبة ومع ذلك، فإننا قد نبحث عنها، ونسعى وراءها، لأسباب سنذكرها لاحقًا.
تاريخ الغرابة
سوف نستخدم كلمتي «الغرابة» و«الغريب» بمعنى واحد، مع الوعي بأن الغرابة هي الحالة العامة والصفة الكلية للموضوع الذي ندرسه، أما الغريب فهي صفة لعمل فني غريب أو شخص غريب، أو سلوك غريب أو قول غريب بعينه.
الغرابة : مصطلح مهم في التفكير والنقاش المعاصر الدائر عبر عدد من الحقول المعرفية التي تشتمل على الفلسفة والأدب والاجتماع والدراسات السينمائية والعمارة والتحليل النفسي وغيرها. ويعود الكثير من الأهمية المنسوبة لهذا المصطلح ودلالته إلى دراسة فرويد المبكرة له عام 1919 تلك التي حدد فيها طبيعته فقال: «إنه يتعلق بتلك المشاعر الخاصة تجاه شيء لا يكون، ببساطة، فقط غامضًا وعجيبًا، على نحو غير عادي، ولكنه، يكون وعلى نحو أكثر تحديدًا، مألوفًا على نحو غريب»(12). هكذا قد تنبع غرابة شيء ما من الألفة الشديدة به بعد أن تم كبته ثم عاود الظهور في اللاوعي الفردي أو الجمعي، على الأقل هذا هو المعنى الخاص بالغرابة لدى فرويد وثمة معايير أخرى سيرد ذكرها.
الغريب، هكذا هو مزج يتم بين المألوف وغير المألوف، وقد يأخذ الشكل الخاص بشيء مألوف يظهر على نحو غير متوقع في سياق غريب وغير مألوف، أو يأخذ الشكل الخاص بشيء «غريب» يظهر على نحو غير مألوف، غير متوقع، ولكن في سياق مألوف، وقد ينبع الإحساس بالغرابة، من شعور المرء بأن الأشياء مقدرة عليه أو يقصد منها أن تحدث، هكذا، وأنه لا فكاك له منها، وهو لا يفهم سبب حدوثها له دون سواه وكأنها قدرية، أو غير مفهومة، أو حتى، غير مبررة.
وقد تحدث الغرابة، نتيجة مجرد التكرار لأحداث، أو كلمات، ومن خوف المرء أن يفقد عينيْه أو أعضاءه الأخرى، أو من رؤيته لشخص قد فقد أحد أعضاء جسمه، أو قام بجراحة ترقيعية في موضع ما من وجهه، ويتحدث، كما في حالة بعض المطربين والمطربات وممثلي السينما وممثلاتها؛ حيث الوجه بعد الجراحة التجميلية جميل ولكن دون تعبير، إذ إن ملامحه محايدة وغريبة.
قد ترتبط الغرابة كذلك بالمضحك والفكاهة، والضحك قد يرتبط بالخوف، وقد يرتبط الخوف بالغرابة، وترتبط الغرابة بالفن.
ويحدث الشعور بالغرابة عندما تلاحظ نوبات الجنون وأعراضها وغيرها من الأعراض التي قد تبدو معها حياة الناس مجرد حياة آلية أو ميكانيكية (كما في الفصام الكاتاكوني أو التخشبي مثلاً).
والغرابة موجودة في أدب العبث (في انتظار جودو مثلاً) وحيث الانتظار فعل إنساني مألوف، ولكن انتظار من لا يجيء وما لا يجيء، وقد يستثار هذا الشعور بالغرابة أيضًا كاستجابة للدمى وغيرها من الأشياء الميكانيكية التي تسلك وتتحدث كالبشر أو الحيوانات. وقد قال لي الصديق الناقد المسرحي/ أحمد عبد الرازق أبو العلاء: ذات مرة «لم تعد أعمال مسرح العبث الآن، لدى بيكيت وأونيسكو هي الغريبة الآن، الحياة هي التي أصبحت غريبة، أفعال البشر أصبحت غريبة، العالم أصبح غريبًا».
قد يكون الغريب أيضًا مسألة متعلقة بالمخيف أو المرعب كالموت والجثث وأكل لحوم الموتى، والدفن حيًّا (كما في قصص دراكيولا وأفلامه مثلاً) وعودة الموتى، وغير ذلك من الظواهر هكذا تعد قصة يحيى حقي «الفراش الشاغر» التي تحتوي على عملية مضاجعة للجثث نموذجًا فريدًا في الأدب العربي في هذا الشأن، وكذلك الحال في قصص «رسائل الحائط الرطيب» لخيري شلبي، و»القرين ولا أحد» لسليمان فياض، و»تلك الرائحة» و»شرف» لصنع الله إبراهيم وغيرها من الأعمال الغريبة.
لكن استجابة الغرابة قد تحدث أيضًا – وهذا ما لم يذكره فرويد – لشيء غريب في جماله أو جميل بشكل غريب، شيء يرتبط بالنشوة أو الانتشاء خاصة حينما نقول عنه: «إنه أجمل من أن يكون حقيقيًّا»، إنه يذكرنا بشيء ما أو شخص ما، كان جميلاً لكنه مات، الآن، ونرى «ذلك النور الغريب على وجهه»؛ وهنا قد يكون شعور الرهبة هو جوهر الغرابة.
وقد يشتمل الغريب على شيء جميل، لكنه، في الوقت نفسه، مخيف، كما يحدث عندما نشاهد أحد أفلام الرعب الجميلة فنيًّا من حيث التصوير والإضاءة والموسيقى والتمثيل… إلخ، ولكنها مرعبة، لنا، انفعاليًّا أيضًا وبحيث قد نخشى أن نشاهدها، ليلاً، وحدنا.
يحدث الغريب أيضًا في حالات الالتباس المرتبطة بالصمت والعزلة والظلمة وما يتعلق بالسرى، والخفي، لكنه الذي يظهر، الآن، في دائرة الضوء. وحتى لو كان هذا الضوء شحيحًا، أو متسربلاً بالظل والعتمة، النسبية، فإنه موجود هناك، دائمًا، يوشك على الظهور، وتعد حالة «الوشوك» هذه مهمة هنا، كما أن ذلك الإحساس بأن شيئًا ما على المشارف، مشارف الوعي والإدراك ما بين الحدوث واللاحدوث، فهو إلى الآخر قد يجعله غريبًا؛ فمع الخوف يتشتت الانتباه ويفرز الإدرنالين، فيتجه الإنسان إلى الهرب أو المواجهة أو أن يتجمد مكانه في خوف مخيف بدرجة غريبة.
يرتبط الغريب أيضًا بنظرة الأنا إلى الآخر على المستوييْن الثقافي والإثني، كما في نظرة الأوروبيين إلى المهاجرين الجدد وسلوكياتهم الغريبة، كذلك ما يسمى والنظرة الإستشراقية. . إلخ، ويرتبط بالغريب وبالغامض، كل ما قد يكون لغرابته – ووجوده في سياق غريب– مخيفًا.
وقد كانت تقنيات الإنترنت والاستنساخ وآلات إرسال الصوت والصورة الحديثة كلها كذلك غريبة عندما ظهرت، كما أنها قد تظل بالنسبة إلى كثيرين هنا، وأنا منهم، غريبة، عنا حتى الآن.
وقد كانت ردود أفعال الناس حين شاهدوا العرض السينمائي الأول في مقهي جراند كافيه، في باريس وخرجوا مسرعين خائفين من صورة قطار غريب يتقدم نحوهم من الشاشة. وهكذا يسيطر الإحساس بالغرابة والخوف أيضًا بسبب كل ما يوهم بأنه غريب.
كما أن «صندوق باندورا» المليء بالشرور قد يفتح على اتساعه؛ إذا كانت هوية الإنسان عرضة للمعالجات الغريبة، للتحويل وحتى للمضاعفة من خلال الهندسة الوراثية وعلاج الجينات والجراحات الترقيعية والآلات التعويضية للجسد والاستنساخ وغيرها، في عالم أصبح الناس فيه أكثر فقرًا ومعاناة وموتًا ربما أكثر من ذي قبل، وحيث تزداد الأمور سوءًا كل يوم ولا يبقى سوى الأمل في هذا العالم الغريب(13)
يتعلق الغريب في المجال الفني والأدبي أيضًا، بما يسمى التناص؛ حيث تعاود نصوص أخرى الظهور في نص معين فتحدث لبراعته، أو لرداءته، استجابة غريبة لدينا؛ ففي الإعجاب الشديد غرابة، وفي النفور الشديد غرابة أيضًا، في الولع والافتنان غرابة وفي النفور والمقت غرابة أيضًا.
لدى دريدا «في أطياف ماركس» كان كل شيء لدى ماركس يتحدث عن الأطياف أو الأشباح التي تزور أوروبا، وكل شيء يتعلق بأفكار الاغتراب والثورة والتكرار، له صلة ما، بفكرة الغريب. وإنه ليس من قبيل المصادفة أيضًا أن دريدا قد فكر في أن يكون العنوان الفرعي لكتابه الكبير عن ماركس هو «ماركس – حول الغرابة» Marx – das Unhimlich(14).
والغرابة فكرة محورية لدى دريدا، والمدرسة التفكيكية، وكذلك بالنسبة إلى ماركس ونيتشه، قبله، ففي مفتتح كتابه «إرادة القوة» (1883 – 1988) تحدث نيتشه عن العدم الأوروبي فقال: «إن العدم يقف على الأبواب، ومن ثم كانت تلك الغرابة من كل نوع». وكذلك قال هيدجر بعد ذلك: «إن العادي، في أعماقه، ليس عاديًّا، إنه مضاعف بالغ العادية، إنه غريب». كما أن الطابع الجوهري لوجودنا في العالم، بالنسبة إلى هيدجر، هو طابع غريب، لا مألوف، لسنا في بيتنا، أو في بيت العالم، بل نحن في حالة ماثلة من القلق الذي نشعر، خلاله، بالغرابة(15)
محاولات أولية لفهم الغرابة
في «الجمهورية» يحكي سقراط قصة عن ليونتيوس leontios بن أجلايون، وإنه كان ذات مرة عائدًا من معبد «بيريه» ورأي خارج الجدار الشمالي جثثًا ممددة وشعر بالرغبة في إلقاء نظرة عليها، وأحس – في الوقت ذاته – بالنفور وحاول الابتعاد عنها، فظل لحظات يقاوم نفسه وقد حجب وجهه بيديْه، ولكن الرغبة غلبته أخيرًا، ففتح عينيه الواسعتين وهرع نحو الموتى هاتفًا: «فلتمتعْ عينيْك أيها التعس بهذا المنظر الرائع» ويفسر سقراط هذا الموقف بأنه يجسد صراعًا بين الحكمة – والعقل – التي كانت تقتضي الابتعاد عن مشاهدة مثل هذه المناظر، وبين الرغبة والغضب والانفعال الذي يسير في اتجاهات معارضة للعقل فتدفع صاحبها إلى مثل هذا الموقف(16)
كذلك تحدث أوغسطين (354-430م) في اعترافاته، عن ولع البعض، بالابتعاد عن الجمال والذهاب نحو نقيضه، أي القبح، والتطلع، كذلك، نحو كل ما يرتبط بالموت من جثث وظلام وخوف ورعب ومجهول وغياب وقد أطلق أوغسطين على هذا الدافع اسم «شهوة الأعين». (17)
شهوة الأعين
هكذا، فإنه وفي الكتاب العاشر من كتابه «الاعترافات» تحدث القديس أوغسطين عما سماه «شهوة الأعين» The Lust of the Eyes وربطها بعملية الفضول أو حب الاستطلاع، وقال إنها عملية حسية، وإنها هي التي تقوم، أيضًا، باستثارة الرغبة في المعرفة لدينا؛ حيث هنا نوع من الإغراء يكون محفوفًا أكثر بالخطر. وذلك أنه، إضافة إلى شهوة البدن التي تكمن في الإشباع للحواس والرغبات، وحيث عبيدها بعيدون نوعًا ما عن الهلاك، هنا نوع آخر من التوق الغلاب ألا وهو والولع المحدد، الذي يرتبط أيضًا بحواس الجسد، لكنه يتعلق أكثر بالروح، ويتجلى على نحو بالغ في المعرفة والتعلم، ولا يجد متعته في البدن، بل في القيام بتجارب من خلاله، وإنه يتجسد في ذلك الولع بالمعرفة، ويكون الإبصار هو الحاسة الرئيسة بين الحواس، لديه، في اكتساب تلك المعرفة الخاصة به، وأنه في «الكتاب المقدس» وخاصة لدى القديس جون الذي أطلق عليه اسم «شهوة الأعين».
ويقارن أوغسطين بين المتعة الحسية التي تبحث عن الموضوعات الجميلة والمتجانسة والمتناسقة الناعمة الفواحة جميلة الرائحة، وبين حب الاستطلاع أو الفضول المعرفي الذي يحدث من أجل التجربة في ذاتها، ويسعى وراء كل ما هو نقيض للجمال، غير مهتم بما يعانيه خلال ذلك من عنت وضيق، فالشغف الموجَّه له، شغف المعرفة والتجربة والتجريب، يكون، هنا، غلابًا، ويتساءل أوغسطين: «فما تلك المتعة التي تكمن في رؤيتنا لجثة متعفنة ممزقة قد تجعلنا نرتعد؟ وحتى لو كانت تلك الجثة ترقد على مقربة منا، فإننا نتجه مندفعين إلى هناك من أجل أن نجعل أنفسنا نشعر بالحزن، وأن يتحول لون وجهنا إلى الشحوب. هذا على الرغم من أننا قد نخشى أن نرى تلك الجثة خلال نومنا، وكما لو كان الأمر هو أن أحدًا، سيقوم بدفعنا، عندما نستيقظ ويجبرنا على الذهاب والرؤية لتلك الجثة، نحن لا نكون خلال اليقظة في حاجة إلى أن يدفعنا أحد للمشاهدة؛ فنحن نذهب إلى هناك بإرادتنا الحرة».
ولقد جاءت كل تلك المشاهد الغريبة التي تعرض على المسرح من مثل ذلك الفضول المريض – كما يقول أوغسطين، «ومن ثم كان سعينا المتواصل، ذاك؛ لاكتشاف أسرار قوى الطبيعة، تلك التي تتجاوز قدراتنا، هنا لا تكون هناك فوائد نجنيها من وراء المعرفة، إلا المعرفة ذاتها، ومن خلال مثل تلك المعرفة المحرفة (غير السوية) نستلهم الفنون السحرية من خلال هذه الشهوة وذلك الولع».
وقد أقام أوغسطين أسس حالة الفضول المعرفي أو حب الاستطلاع الخاصة بنا على أسس أخرى، غير تلك الأسس الخاصة بالرضا الناتج عن الإشباع للمتع الحسية الجمالية المرتبطة بالجميل والجذاب، أو المرتبطة بتأمله؛ ففي الفضول «وشهوة الأعين» ثمة متع معرفية أكثر منها حسية، متع ناتجة عن الولع بالغريب، الولع بالمخيف، الولع بالمنفر، متعة الفضول التي ترتبط بالجثث والموتى وعالم الظلال الخفية وأسرار الليل والكوابيس والرعب، وهكذا فإن الموضوعات، غير الجميلة، التي يفترض فيها أنها تنفرنا، هي ما اهتم به أوغسطين، بوصفها، كما قال، نوعًا من الانحراف، حالة من الفضول المعرفي، المنحرف، الذي يقترب من المرض الذي ينبغي إبعاده عن القلب ونفيه من الوجدان، هذا على الرغم من بحث هذا الفيلسوف عن تجليات عديدة لهذا الشغف في الطبيعة والحياة، وكما يتجلى ذلك لديه في قوله: «ما ذلك الذي يحدث عندما نجلس في البيت، ونرى السحلية تصطاد الذباب، ونرى كذلك عنكبوتًا يوقع، ذلك الذباب، في شباكه عندما يندفع مقتربًا منه؟ لماذا لا يمكن أن نعتبر شعور الفضول، لدينا، شبيهًا بذلك، هل لمجرد أن تلك كائنات صغيرة دقيقة؟ إنني من خلال تأملي لها توصلت إلى تمجيدك أيها الخالق العظيم الوهاب لكل الكائنات»(18).
في اعترافاته الدينية، تلك، أقر أوغسطين أن ما لفت انتباهه في البداية، لم تكن هي تلك المعجزات الموجودة في الطبيعة، أو تأمله لعظمة الخالق، بل تلك الدراما الحية، هذه الصراعات الصغيرة الموجودة في الطبيعة التي لفتت انتباهه وجذبت شهوة عينيْه» أو فضولها المعرفي المخيف، وأبعدته، مؤقتًا، عن الله.
لم يكن أوغسطين مولعًا بالجانب الإيجابي المرتبط بحب الاستطلاع أو الفضول المعرفي، أي ذلك الجانب المرتبط بالبحث العلمي، والاستقصاء المنظم لأسرار الطبيعة والحياة؛ فقد كانت الطبيعة، بالنسبة إليه، مكانًا لا يتسم بالعقل، مصيدة نصبت لاقتناص أي غافل قادته خطاه واجتذبه فضوله، ذلك المنحرف، بعيدًا عن طريق الله(19).
هكذا، فإن أوغسطين، على الرغم مما ألقاه من إضاءات كاشفة عن علاقة الفضول المعرفي بالبحث عن الغريب وغير الجميل أو المنفر في الحياة، وعلى الرغم من استكشاف الطبيعة من خلال هذا الولع أو ذلك الشغف، فإنه قام بنقده من منظور ديني، لكنه خلال ذلك، كان قد فتح الطريق أيضًا أمام عديدين ممن جاءوا بعده، وتأملوا هذا الشغف من وجهة نظر مغايرة(20).
ما بعد أوغسطين
بعد أوغسطين تزايد الاهتمام بما يسمى «الجليل» sublime وقد كان الميل إلى الجليل يصنف لدى فلاسفة كثيرين على أنه يقع ضمن نطاق، الغريب، والمخيف والقبيح، وكان الغريب هو الأكثر حضورًا وتدميرًا بين هذه الانواع، وقد أشار إدموند بيرك نفسه إلى ذلك الشعور صعب التفسير والذي يزداد حضوره بكثافة ضمن شبكة الإحساسات الخاصة بالغموض والتي ترتبط عادة بالرعب وظلمة الليل المطبقة حين قال: «يضيف الليل جوانب كثيرة إلى مخاوفنا المرتبطة بالخطر، كما أن أفكارنا الموجودة بداخلنا حول الأشباح والعفاريت والتي لا نستطيع أن نكِّون صورة واضحة عنها، تؤثر في عقولنا بدرجة واضحة»(21).
وقد كان تهديد الغريب والغرائبي من الأفكار والأحداث، خلال الفترة الرومانتيكية، هو ما جعل هيجل يحاول أن يستعيد ذكرى الجليل الحقيقي في نصوص العهد القديم وأن يحافظ عليها. لقد حاول يائسًا – كما يشير فيدلر – أن يغلق الباب الخاص بمملكة السحر والجاذبية المغناطيسية والشياطين، وكل تلك الأشكال العليا الخاصة بالظهور والتجلي والمشي أثناء النوم وما شابه ذلك؛ فحاول أن يطرد كل تلك القوى الظلامية الشبحية من مملكة الفن الواضح والشفاف، من وجهة نظره، هذا على الرغم من انشغاله ومعاصريه بهذه الجوانب أيضًا(22).
بعد محاولة هيجل تلك بنحو ثمانين عامًا، كتب فرويد مقالاً مهمًّا حول الغريب بعنوان The uncanny، ظهر عام 1919، وهي كلمة وجدنا صعوبة في ترجمتها ترجمة دقيقة إلى العربية، بل إن فرويد نفسه وجد صعوبة كبيرة في أن يجد المرادف الدقيق لها في الألمانية، فبحث ضمن لغات غربية وشرقية عدة (من بينها العربية) عن المعنى المناسب ووجد أن أقرب المعاني إليها هو: «ظهور غير المألوف ضمن إطار مألوف»، وقال إن من معانيها أيضًا «الغريب عن البيت»،وكذلك: «تحول المألوف إلى غريب»، وقال أيضًا إنها فئة جمالية موجودة تقع على أطراف الجليل، وترتبط دون شك بالمخيف.
لكن أحاسيس الغرابة ليست هي تلك الأحاسيس الخاصة بالرعب الهائل، ولا القلق المعتدل، كما أنها لا ترتبط بالضرورة بالسحر والهلاوس والتصوف والخبرات الباطنية الخاصة؛ فكل ما يتصل بما وراء الطبيعة ليس، بطبيعته، غرائبيًّا، بل قد يكون طبيعيًّا وعاديًّا ومألوفًا لدى كثيرين. إن الغرائبي غريب من حيث طبيعته، ومن حيث الأماكن التي يظهر فيها، وكذلك الحالات التي يتجلى من خلالها، ويكتشف، أنه يشترك مع كل الأنواع الخاصة بالخوف، لكنه يتسم «بلا خصوصية» أو «لا تحديد» معين يتعلق به.
إنه، الغريب، يرتبط بكل ما هو قيد للشك والاضطراب والخوف والارتياب، وتنبع قوته من عدم قابليته للتفسير الواحد، إنه إحساس محلق بعدم الراحة أو الطمأنينة، هكذا تشير كلمة uncanny في الإنجليزية، إلى حالة تتجاوز المعرفة المتعينة المحددة، حالة شبحية من الإدراك والفهم والشعور، حالة ترتبط بكل ما هو منذر بالخوف أو الخطر، بكل ما يوشك أن يحدث دون أن نعرف مصدره المحدد، وهو نوع جمالي أيضًا. هل نتذكر ما يحدث لنا حين نتابع أحد أفلام الرعب، وتستثار بداخلنا حالة من الترقب والتوقع والانتظار الذي نتجمد خلالها في مكاننا، وقد نتوقف عن التنفس مؤقتًا ونحن نتوقع في التو واللحظة، حدوث جريمة مرعبة، أو ظهور شبح أو وحش مخيف، أو مصاص دماء، أو مستذئب قاتل. . إلخ؟ إن الغرائبي كما يتجلى هنا هو هذا الإحساس، الجمالي، وحيث هنا، خبرة جمالية دفينة وواضحة، غير مريحة، وخبرة نقيض ما يحدث عندما نشاهد فيلمًا كوميديًّا أو رومانسيًّا، أو ننظر إلى لوحة مثل «الموناليزا» مثلاً.
«الغريب»، هنا، خبرة جمالية مخيفة لا تتعلق بمصادر واقعية محددة، وهي ليست حالة عقلية خالصة انفعالية، بل في المنزلة بين المنزلتيْن؛ منزلة العقل ومنزلة الشعور، منزلة التصديق، بفعل الإيهام الفني، ومنزلة عدم التصديق، بفعل غرابة الأحداث، ومجافاتها، للمنطق والعقل، من خلال غموضها الغريب والملتبس هذا.
و«الغرابة» مصطلح مستخدم بكثرة في الفلسفة وفي الكتابات التحليلية النفسية والأدبية، وأخيرًا المعمارية الآن. وقد وصف هيدجر الغرابة بأنها ذلك «الحيز المكاني الفارغ أو الخاوي الناتج من فقدان الإيمان بالصور المقدسة. فالإنسان العاجز عن الإيمان يترك غريبًا في الفراغ والعدم»(23).
ووفقًا لما جاء في قاموس أوكسفورد للغة الانجليزية، فإن أول تسجيل للكلمة بمعنى «ليس آمنًا كي تتم الثقة فيه» قد ظهر عام 1773، وفي عام 1785 كانت الكلمة تعني «المكان الخطير وغير الآمن». كما حدد لويس بورخس أول ظهور لهذه الكلمة في القصة والرواية في عمل كتبه وليم بيكفورد يسمى «فاتك» Vattek؛ حيث جاء فيه الحديث عن ذلك «القوطى الشرقي الغريب» عام 1784. وقد تكرر ظهور المصطلح مرات عديدة خلال القرن التاسع عشر لدى كتاب كثيرين مرتبطًا بمقابلات مع الظل أو الشيطان، ووصفت قلعة دراكيولا في رواية «برام ستوكر» المعروفة على لسان الراوي بأنها «قلعة غريبة، بحيث سيطر الخوف علىَّ وأخذ بتلايبي». بل لقد ظهرت روايات بعد ذلك تحت عناوين مثل: المنزل الغريب The uncanny House لمارى بندرد Mary Pendared عام 1929وغيرها(24).
وتقابل كلمة غريب uncanny في الإنجليزية، كلمة etrangete في الفرنسية، ومن هنا كان عنوان رواية ألبير كامي الشهيرة «الغريب»؛ قاصدًا أن يشير – من خلال هذا العنوان – إلى غرابة الأشخاص في المكان، وغرابة سلوكهم فيه، وغرابته بالنسبة إليهم؛ حيث قتل ميرسو – بطل القصة – شخصًا آخر غريبًا عنه وغريبًا عن فرنسا، في اليوم الذي ماتت أمه – أم ميرسو- دون سابق معرفة وثيقة بينهما ومن ثم كان سلوكه متسمًا بالغرابة.
يشترك الغريب في كل تلك الأنواع المتعلقة بالخوف، في كل خصائصها المميزة، لكنه، من خلال ذلك أيضًا يشكل تلك اللاخصوصية المتعلقة به، والتي هي بدورها خصوصية مميزة له، خصوصية تدعم من خلال تعدد الكلمات الدالة على هذا الغريب. ومن خلال حضوره الخاص في لغات كثيرة، كما أشار إليها فرويد في مقاله؛ حيث تشير الكلمة في اليونانية مثلاً إلى «الغريب الأجنبي» عن البلد، وفي اللاتينية إلى «المكان الغريب»، وفي لغات أخرى كثيرة رجع إليها فرويد يرتبط المصطلح بكل ما هو مخيف ومثير للرهبة، وبما يتجاوز مجرد الإثارة للرعب المؤقت أيضًا(25).
هكذا تنبع قوة هذه الكلمة وهذا المفهوم من عدم إمكانية التأطير المحدودة له، من كونه يتعلق بذلك الإحساس المحلق المهوم الطليق بعدم الراحة، دونما حاجة إلى الإشارة هنا إلى مصدر محدد للخوف أو الرعب؛ ولذلك فإن كلمة uncanny في الإنجليزية تعني حرفيًّا: ما وراء المعرفة beyond ken، وهذه بدورها مشتقة من كلمة canny التي تعني القدرة وامتلاك المعرفة والمهارة. ولأن هذه الكلمة تتعلق بالخوف الطليق أو المهموم أو الحر، دون المرتبط بمصدر محدد، فهي ترتبط كذلك – كما أشار فرويد بكل ما هو منذر بالخوف، كل ما يوشك على الوقوع، دون معرفة مصدره الحقيقي، كل ما يمكن أن يظهر فجأة (كالأشباح مثلاً)، وهي كذلك نوع من خوف يستثار من خلال أعمال فنية وأدبية. . إلخ، وليس من خلال مصادر واقعية. إنها خبرة جمالية مخيفة، ولكنها قد تكون ممتعة أيضًا(26).
بالطبع لا يمكن النظر إلى ما قاله فرويد على أنه دقيق تمامًا، وينبغي التسليم به هكذا؛ وذلك لأن الخبرة الجمالية المخيفة الممتعة لا يمكن أن تكون هكذا مطلقة ونحن نتعرض لعمل جمالي محدد، فيلم مرعب مثلاً، أو قصة من قصص الأشباح. فنحن نعرف أننا قد نخاف من الأحداث التي تقع في هذا الفيلم، وقد نغلق التليفزيون، وخاصة عندما يعرض هذا الفيلم ليلاً، وقد يغادر البعض منا قاعة السينما، أو يطوي صفحات الرواية المرعبة بسرعة. . إلخ. إذن فالمصدر هنا معروف ويتعلق بالعمل الفني المحدد، لكن ما هو طليق أو حر هنا أيضًا، هو تلك الحالة العامة التي يستثيرها هذا العمل، فنحن عندما نشاهد فيلمًا مرعبًا يستثار لدينا الإحساس بالخوف من مصادر متعددة، كالأحداث والأزياء والموسيقى والضوء وطبيعة الشخصيات وملامحها وأصواتها ومكان الأحداث والمواقف… إلخ، أي من حالة عامة، وليس من مصدر واحد بعينه داخل هذا الفيلم المخيف يستثير بداخلنا أفكارًا ومشاعر سبق كبتها كما أشار فرويد.
ذات مرة، قال جورج لوكاتش إن الرواية تشبه شبحًا ما، إنها، في جوهرها، بلا مأوى خاص، إنها تظل هائمة على وجهها دومًا؛ وذلك لأنها نشاط خاص من أنشطة الخلق الفني الذي يولد في زمن معين، كما أن شكلها هو نوع من المعالجة والأداء الذاتي لذلك الإطار الخاص بالزمن الذي ظهرت فيه. وقدر الرواية – كما قال لوكاتش أيضًا – أن يعاد تفسيرها، مرة بعد الأخرى، وأن يعاد تحديدها، مرة بعد الأخرى، وأن يعاد إبداعها، مرة بعد الأخرى، وذلك عندما لا تصبح ملائمة، أو يكون معناها لم يعد يعكس التغيرات الاجتماعية والثقافية الجارية، أو أنه أصبح غريبًا، ولعل هذا هو السبب أيضًا – كما قال لوكاتش – الذي جعل الملحمة تختفي وتخلي مكانها لشكل جديد هو الرواية(27).
هكذا يحتوي الغريب، ويتضمن، ويستثير، أيضًا، ذلك الشعور بالتنبه والاهتمام والتشويق والتوقع، وكل تلك الخبرات الخاصة بحضور الممكن والمحتمل والمستحيل، حضور الماضي في الحاضر، وتوقع خاص للمستقبل والمستقبل في الحاضر أيضًا، الميت في الحي أو الحي في الميت، الظاهر في الباطن، والباطن في الظاهر، المتجلي في المختفي والمختفي، في المتجلي؛ مما قد يعمل على توسيع الحدود الخاصة بكل مفردة في هذه الثنائيات، وكذلك توسيع الحدود والمسافات بينهما، وغموض خاص بهذه الحدود أيضًا، ويظل ذلك الحيز المكاني والسيكولوجي، معلقًا، ما بين الماضي والحاضر، الواقع والمتخيل، الحضور بوصفه لا محدودًا مستحيلاً يمسك بأصابعه أنامل الغياب، وحيث تعمل حالات التهيب والرهبة والخوف والتوقع، هنا، على استحضار هذا البعد الغريب من أبعاد الخبرة وتحويلها؛ فيكون حرًّا في حركته، وحركته ليست إرادية دائمًا، ولا واعية دائمًا. إنه شعور عقلانى يتحرك نحو الاستكشاف والفهم والاستيعاب والخروج من تلك الحالة الملتبسة، إنه هنا أشبه بأسلوب معرفي لا يتعرف الحدود، ومن ثم لا يعترف بذلك الجانب من التفكير الذي يحدد معالم تلك الحدود. إنها خبرة لا تكون موجودة داخل الذات فقط ولا خارجها فقط، بل تجمع بين الاثنيْن، الذات وخارجها، معًا في أسلوب معرفي واحد.
الأسلوب المعرفي كما يعرف في علم النفس هو طريقة المرء الخاصة في الحصول على المعلومات من العالم، وفي تشغيلها داخل المخ، ثم التعبير عنها أيضًا، بأساليب إبداعية، أو غير إبداعية. والأسلوب المعرفي مكون يجمع بين الانفعال والتفكير والتعبير؛ ومن ثم فإن الغرابة هنا مكون خاص في إدراك العالم، وفي التفكير فيه، وفي التعبير عن هذا الإدراك والتفكير، أيضًا، بأشكال غريبة.
لكن العنصر الغالب على هذه الخبرة، هنا، هو ذلك الانفعال المرتبط بالتهيب والوجل والخوف وأحيانًا الرعب، والانفعال الواقع في براثن الالتباس، والشك، ومن ثم يأتى التفكير والتعبير، بعد ذلك، فيجسد العمل الفنى – أو التعبير – تلك الأحوال الانفعالية والمعرفية التي خبر الفنان وأدركها وعايشها قبل أن يجسدها في عمله.
وهكذا فإن الأعمال الفنية، تجريدية كانت أو تجسيدية، إنما تقدم لنا الحاضر الخاص بالفن أو الفنان أو الواقع أو الذاكرة، موهمة لنا بحضوره أمامنا، في حين أنها تكون قد غابت عنا مثلما تكون قد غابت عن الفنان أيضًا، ذلك الذي حاول أن يمسك بها قبل أن تغيب، كما قال بودلير، وحاول أن يقدمها لنا بوصفها لحظات أو تجسيدات أخرى، معروضة هنا، أمامنا، كحالة ما من حالات الحضور، لكنه الحضور الذي يشبه الغياب، أو على الأقل يشى به. هكذا تكون اللوحات مسكونة بالغياب، بشيء يجيء من الماضي، أو من المستقبل، ماضي الفنان أو الحياة، أو عالم الفن أو مستقبل ذلك كله، أيضًا، وهنا يكون حضور تلك الحالات حضورًا شبحيًّا، حضورًا يمزج ما بين الواقع والمتخيل، والحاضر، والغائب، والتجلى والخفاء، وحتى لو كان هذا الخفاء متعلقًا أيضًا بالمستقبل، فإنه يكون المستقبل في ضوء الماضي والحاضر، أي في ضوء ماضيه الخاص، ذلك الغائب الحاضر أيضًا.(28)
هكذا قد تكشف الغرابة في الفن عن الحضور، الحضور الخاص للآثار والبقايا الخاصة بالماضي في الحاضر، والآخر في الذات، وهي توحى، كذلك بمناخ عام ما، مناخٍ يتركز حول حضور ما، وحالة حاضرة تكون موجودة على نحو قلق غير مستقر بين الزمان والمكان، بين المادي واللامادي، الواقعى وغير الواقعى، يعايشها إحساس ما بالعالم وكأن الألفة قد غادرته، وأنه قد أصبح غريبًا، وربما كئيبًا، وأننا قد أصبحنا غرباء عنه، أو لا ننتمى إليه؛ مما يذكرنا بعجزنا عن أن نكون حاضرين مع الآخرين أو من خلالهم، إنه حضور الغياب وغياب الحضور، غياب الحضور الذي يستبدل بحضور المرء وحياته غيابه وموته، ذاته الموجودة في الماضي القريب، أو البعيد، والمستقبل الذي قد تكون موجودة فيه أيضًا.
المفاهيم الشقيقة للغرابة
مثلما الغرابة حالة متداخلة بين حالات، حالة حدودية، أو بينية، تقع ما بين انفعالات الخوف والرهبة والتشويق وحب الاستطلاع والمتعة وغيرها، ومثلما هي حالة معرفية وجدانية توجد في منطقة التداخل بين مجموعة من العمليات المعرفية والوجدانية المتداخلة كالتذكر والتخيل والتوهم والإدراك والفقدان لليقين والالتباس والانفعال، فكذلك حال الغرابة، كمصطلح، إنه يقع ضمن شبكة من المفاهيم المعرفية المشتبكة المشتركة لعل من أهمها: الغربة والاغتراب والتغريب والاستغراب. وفيما يلي محاولة لفض بعض ذلك الاشتباك بين هذه المفاهيم.
1- الغربــة Starngement
في «الإشارات الإلهية» لأبي حيان التوحيدي يتحدث ذلك المفكر العظيم عن الغريب الذي نأي عن وطن بني بالماء والطين وبعد عن أحباب له، هذا غريب عادي، يمكنه أن يعود إلى وطنه إن شاء، على الرغم من أنه أحيانًا ما يكون غريبًا لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان». أما «أغرب الغرباء» فهو – كما يرى التوحيدي – ذلك «الذي طالت غربته في وطنه» وقل حظه من الحبيب والسكن، لا يجد طريقًا إلى وطنه، «إن حضر غاب وإن غاب كان حاضرًا» ولدى التوحيدي «أغرب الغرباء من صار غريبًا في وطنه، وأبعد البعداء من كان قريبًا في محل قربه «أغرب الغرباء أيضًا حين يكون في وطنه يتم تجاهله من أهله، إذا أقبل لم يرحبوا به وإذا ابتعد لم يسألوا عنه، وإذا تحدث لم يسمعوا له، فهو «إذا ذكر الحق هجر وإذا دعا إلى الحق زجر»… الغريب في الجملة «كله حرقة، وبعضه فرقة، وليله أسف، ونهاره لهف، وغذاؤه حزن، وعشاؤه شجن، وخوفه وطن»(29).
والغريب «من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب». والغريب أيضًا «من غربت شمس جماله، واغترب في أقواله وأفعاله، وغرب في إدباره وإقباله، واستغرب في طمره وسرباله، وأغرب الغرباء من صار غريبا في وطنه، وأبعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه»(30).
الغريب أيضًا «إن ظهر ظهر ذليلا، وإن توارى توارى عليلاً». ويتسائل أبو حيان التوحيدي: أما سمعت القائل (المتنبي) حين قال:
بم التعلل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكن
يؤكد كذلك أيضًا «يد الغريب قصيرة»، «ولسانه أبدًا كليل» وينتهي التوحيدي من رسالته وشكواه قائلا لنفسه وللإنسان عامة : «أنت الغريب في معناك» أي أنت الغريب في وطنك، الغريب في حياتك، الغريب في وجودك، الغريب في مبتداك وخبرك، أنت الغريب في معناك.
وفي دراسته المهمة حول «الاغتراب»، ينتهي محمود رجب إلى أن الغريب عند التوحيدي هو ذلك الإنسان الشقى الذي ينطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، والذي يعيش هذا العالم بشعور الاقتلاع، لا يقوى على الاستيطان في وطن، وإن أغرب الغرباء هو الغريب في وطنه، يكون وسط الناس ولا يندمج معهم، يظل غريبا عنهم ويظلون غرباء عنهم؛ حيث تتحول الغربة لديه إلى وطن ثانٍ، لكنه وطن لا يكفيه ولا يملأ كيانه، ومن ثم فهو «في غربته غريب وعن غربته غريب، يظل في غربة دائمةً. وهنا يقترب التوحيدي إلى حد ما من المعنى الخاص بالغرابة لدى هيدجر؛ وحيث وجود الإنسان، في بيته ووطنه، وفي هذا العالم، وجود في جوهره، غريب(31).
تكاد تكون محاولة التوحيدي هذه للحديث عن الغربة، محاولة وحيدة، هنا حديث عن غربة الإنسان في الزمان والمكان وقد كان التوحيدي يتحدث عن حالة، وغريبة على نحو خاص.
في تاريخ الفكر الاجتماعي الغربي، ثمة عالم اهتم كثيرا بموضوع الغربة وكتب دراسة مهمة حول «الغريب» وكان هو جورج سيميل عالم الاجتماع الألماني (1858-1918) فيما يلي مقاربة لتلك المحاولة.
جورج سيميل وعمل الغريب
ظهر المقال المهم حول عمل الغريب لجورج سيميل G. Simmel، أولاً، كحاشية على مقال كبير له عام 1908، وكان عنوانه» المكان والتنظيم المكاني للمجتمع»، ثم ظهر كمقال مستقل بعد ذلك، خلال العام نفسه، وقد كتب سيميل أعمالاً مهمة أخرى مثل «فلسفة المال» وشبكة علاقات القرابة» والمدينة والحياة العقلية وغيرها، كما كان له تأثيره البالغ في مدرسة شيكاغو الأمريكية في علم الاجتماع التي ازدهرت ما بين عامي 1935و1951. وقد اهتمت بعلم اجتماع المدنية، قامت كذلك بتطوير المنحى الرمزي التفاعلي في دراسة الفنيات والظواهر الاجتماعية وقد خلط بعض أبرز علمائها، وخاصة روبرت بارك، بين مفهوم الغريب عند سيميل ومفهوم «الإنسان الهامشي» كما طوره بارك نفسه وآخرون بعد ذلك، ذلك الإنسان الذي يكون غريبًا» أيضًا، يوجد في عالميْن ولا ينتمي إلى أحدهما على نحو محدد، عالم الداخل وعالم الخارج، عالم الجماعة الأولى، وعالم الجماعة الثانية؛ حيث يعاني الاضطراب الروحي، ويتسم بالوعي الشديد ويكون غير مستقر انفعاليًّا، لكن العامل الحاسم هنا، هو أن الإنسان الهامشي قد يكون عضوًا أصيلاً في الجماعة، انتمى إليها من قبل، لكنه، مستبعد منها، يعيش على أطرافها، يحيا حياة أقل قيمة ورفاهية، بينما الغريب لدى سيميل، هو «شخص يأتي اليوم وقد لا يذهب غداً»، تتم استضافته لكنه يبقى موضعا للمقارنة والاختلاف.
ويكشف الشكل الاجتماعي للغريب عن ولع سيميل الكبير بالمفارقة المؤكدة للتناقضات واختلاط الأضداد في الحياة الاجتماعية؛ فدائمًا ما يكون البشر مهتمين بدخول شخص جديد إلى جماعتهم، وكثيرًا ما يجلب الغريب معه احتمالية ما للتغير، وقد يكون هذا التغير مهددًا للجماعة. وما لم تكن هذه الجماعة، أو تلك، متأكدة من قدرتها على التعامل المناسب خلال مواجهتها مع الغريب، وما لم تكن معدة أو مجهزة، فعلاً، للتعامل مع المظاهر المتعلقة باحتمالات التغير، فقد تعود تلك الجماعة وتنكص على عقبيْها في اتجاه تلك المعايير غير المرنة والتقليدية الخاصة بها.
والغريب هنا هو: شخص لا يعرفه أحد، قادم جديد في مكان ما، واحد، من خارج الجماعة، شخص ليس عضوًا في عائلة، أو جماعة، أو مجتمع. . لكن هذا هو التعريف القاموسى للغريب، أما جورج سيميل فقد اتسع تعريفه للغريب فلم يعد هو ذلك الشخص الذي يأتي اليوم ويذهب غدًا، بل الذي يأتى وقد لا يذهب غدًا، هو إمكانية للبقاء وإمكانية للذهاب، حالة ما بين الإقامة والرحيل، لكنه لا يتمتع لا بحرية الإقامة، ولا بحرية الرحيل؛ وذلك لأنه يكون له موضعه المحدد الخاص في نطاق الجماعة، لكنه لا يكون منتميًا إليها على نحو محدد، إنه شخص على حدود الجماعة، على هامش الجماعة، لا ينتمي إليها على الرغم من وجوده معها، وقد يستورد سلوكيات وخصائص وسلعًا لا تنتمي إلى الجماعة أو لا تقوم بإنتاجها ويدخلها إليها.
عندما يصل الغريب، يكون خارج نظام العلاقات الاجتماعية، ويفرض حضوره، كذلك، عددًا من المشكلات على النظام الموجود، وقد تتغير الجماعة كي تستدمج داخلها الغريب، وتكون هناك بعض النتائج المترتبة على هذا التغير؛ حيث تكون هناك توقعات خاصة من الجماعة، وشكوكًا، فيما يتعلق بالسلوكيات الخاصة بالغرباء والمهاجرين، الذين قد يمثلهم بعد ذلك بطرائق معينة.
إن ما اهتم به سيميل، بوجه خاص، كان هو الغريب الذي يفشل في أن يصبح عضوًا مشاركًا بشكل كامل في الجماعة، وقد قال إن هذا الفشل قد يحدث لأسباب ثلاثة هى: موضوعية الغريب، والنقص المتعلق بعدم امتلاكه شيئًا ما من ممتلكات الجماعة، وثالثًا شعوره الخاص بالغربة.
وقد كان سيميل يقصد بالموضوعية أن الغريب، كوافد على الجماعة، يقترب من نزعاتها وميولها أو سلوكياتها الخاصة والفريدة باتجاه أو وعي يتسم بالموضوعية؛ ذلك لأنه ليست لديه جذور مشتركة تربطه بها. وبذلك لا تكون هناك مشاركة فعالة، بل موضوعية ما، بمعنى أنه قد يحاول أن يفهم طبيعة هذه الجماعة من مسافة، عن بعد، هو يقترب منها فعلاً، لكن اقترابه يكون حذرًا، ويكون سلوكه مزيجًا من البعد والقرب، اللامبالاة، والاهتمام. وعلى هذا النحو، قد يكون هذا معبرًا عن نوع من الحرية، الحرية في الإدراك والفهم والتقييم والبعد عن التحيز الذي تفرضه عضوية الفرد العميقة في الجماعة. هنا قد يعالج الغريب خبراته وعلاقاته، مع الجماعة، بنوع من الوضوح والموضوعية. وقد ضرب سيميل مثالاً هنا، بهؤلاء القضاة الذين كانت المدن الإيطالية في الماضي تستدعيهم لحسم بعض القضايا داخل الأسر والجماعات.
هكذا فإن الغريب على الرغم من أنه قد يقيم علاقات طيبة وقريبة مع الجماعة فإنه سيظل ينظر إليه، كغريب، في أعين الآخرين. إنه لن يكون مالكًا لأي أرض صلبة فيها، كما قال سيميل بالمعنى المادي وكذلك التصورى. هكذا يكون الغريب حرًّا، ومتحركًا، لا روابط، لا قرابات، لا ممتلكات، مع أي جماعة خاصة؛ لكنه وبسبب عدم وجود روابط دائمة معها، يظل غريبًا، وتزداد هذه الغربة بسبب وجود ذلك الإحساس الدائم بها حول نفسه في علاقته بالجماعة.
مع تزايد ألفة الغريب بمعايير الجماعة المضيفة له، يفترض أنه سيشعر بزيادة التقارب بينهما، لكن ما يحدث هو العكس؛ وذلك لأنه مع تزايد تشابهه مع الجماعة المستضيفة له، فإنه سيظل يشعر أكثر بأنه وافد عليها، خارجى بالنسبة إليها، لا ينتمى إليها؛ إذ أن ألفته بمن وفد عليهم وبطرائقهم في الحياة تميل إلى أن تجعله بعيدًا عن تقريب تلك الفجوة التي كانت تفصل بينهما.
بمعنى آخر، فإنه مع تزايد ألفة الغريب بأساليب حياة الجماعة، فإن جانبًا من ذاته، سيبدأ في المقارنة بين جماعته القديمة، أو إطاره المرجعى السابق، وبين الإطار الخاص بالجماعة الجديدة، وسيبدأ في المقارنة، كذلك، بين كيفية حل جماعته القديمة بعض المشكلات، وبين كيفية تعامل الجماعة الجديدة معها؛ عندها سيبدأ في النظر إلى نفسه كغريب؛ فهو «بوصفه عضوًا في الجماعة»، قريب وبعيد في الوقت نفسه؛ حيث هناك جوانب مشتركة، بينه وبينها، تقوم على أساس الفهم الإنسانى المشترك العام، ولكن فيما يتعلق بقربه من هذه الجماعة وبعده عنها، تنشأ توترات معينـه لا تكون مشتركة.
وقد قيل هنا أيضًا إنه عندما تواجه جماعة ما غريبًا، فإنها تواجهه أيضًا بالغرابة الخاصة بها، بالنسبة إليه، أي معتقداتهم وأفكارهم وتوقعاتهم التي تختلف عن «الآخرين» الذين ينتمي إليهم هذا الغريب؛ وكأن الغرابة هنا، جزء طبيعي من فكرة الذات والهوية، فمثلما نكون متشابهين ومختلفين أيضًا فيما بيننا، نكون كذلك على نحو ما أكثر تشابهًا بالنسبة إلى الآخرين المختلفين عنا، أو في مواجهتهم، ومن ثم نظل غرباء عنهم وهم غرباء عنا. وعندما يتزايد الشعور بالاختلاف، فإن أعضاء جماعة ما، ومن أجل الحفاظ على شعورهم بالتشابه والهوية الجماعية المشتركة، قد يميلون – على نحو مباشر – إلى رؤية – من هو خارج الجماعة – على أنه غريب، مختلف، صورة سلبية من الذات الجماعية، وتؤدي مثل تلك المواجهات مع الغريب إلى تكوين أفكار وصور نمطية، جامدة عنه، إضافة إلى تولد مشاعر الشك تجاهه، وقد يتحول الشك إلى خوف وتجنب، وقد تتحول غربته هذه إلى غرابة، وذلك من خلال النظر إليه على أنه مألوف وغير مألوف، معروف وغامض، قريب وبعيد.
هكذا يكشف مفهوم الغرابة الاجتماعية لدى جورج سيميل عن الطريقة التي تحدد من خلالها جماعة معينة الجماعات الأخرى، فالغربة ليست متعلقة، هنا، بفرد غريب فقط، بل أيضًا بالجماعات الغريبة الأخرى، الجماعات الوافدة والأفكار الوافدة، وأساليب الحياة الوافدة، وقد تتغلب هذه الأفكار والأساليب على مثيلاتها لدى جماعة معينة، لأسباب عديدة، فتتقبلها وتصبح هي السائدة لدى الجماعة الأصلية كما في تقبل أساليب وأشكال سلوكية جديدة، في البيع والشراء والملابس والأزياء وغيرها. هنا قد يصح لنا أن نقول إن هذه الجماعة قد أصبحت بفعل ذلك الغريب، غريبة، أيضًا، حتى عن نفسها.
وللغريب كذلك، قدرته على إثارة الاضطراب في كل شيء في حياة الجماعة، فحتى لو أمكن تقبل الغريب داخل الجماعة، فإنه سيظل غريبًا أيضًا بالنسبة إليها، وبالنسبة إلى نفسه، إنه يظل كذلك، غريب الداخل an inside –outsider وعضوًا في جماعة خارجية غريبة عنه أيضًا.
هكذا يكشف مفهوم «الغريب» لدى جورج سيميل عن ثنائية تجمع بين حرية الغريب في التجول، والحركة في المكان، من ناحية، وبين تحديد هذه الحركة وتثبيتها عند نقطة معينة لا يسمح له بتجاوزها؛ من ناحية أخرى، هي حرية ولا حرية، حرية مقيدة، حرية منقوصة. ومن ثم، فإن كان ذلك المفهوم لديه مفهومًا مزدوجًا أيضًا، مثلما صار مفهوم الغرابة لدى فرويد، مفهومًا مزدوجًا أيضًا، يجمع بين الألفة. وعدم الألفة هنا الغريب أيضًا يجمع بين عدم الألفة في بداية قدومه إلى المكان، والألفة، مع استمرار وجوده فيه، ولكنه، على الرغم من هذه الألفة، يظل غريبًا أيضًا بين أصحاب المكان الأصليين. إنه متجول بالقوة، وليس مقيمًا بالفعل، وفقًا لمصطلحات أرسطو، حالة تجول قائمة هنا في كل لحظة إذ لم يتغلب بعد على حريته في المجيء والذهاب، فيجمع دائمًا بين القرب والبعد، الإقامة والرحيل، الحضور والغياب.
والغرباء، وفقًا لسيميل أيضًا، مثل الفقراء والمهمشين هم أعداء الداخل، عنصر موجود داخل الجماعة وخارجها، في الوقت نفسه. وقد ضرب هذا العالم بحكم توجهه السوسيولوجى، أمثلة من مجال التجارة، الذين في رحلاتهم خاصة ما كان يفعله التجار اليهود في أوروبا، في الماضي، حيث كانوا، كما قال، يحضرون إلى بعض البلدان ويقيمون فيها فترة (يقتربون) ويبيعون ويشترون، ثم يغادرونها (يبتعدون) لفترة، ثم يعودون.
ربما تأثر فرويد بفكرة سيميل هنا عن الغرابة، على الرغم من اختلاف المنطلق الخاص بكل منهما؛ فالغريب لدى سيميل وغير مألوف يصبح مألوفًا ثم يغيب فترة ليعود، يحدث هذا على المستوى المكاني، وعلى مستوى التفاعل بين فرد وجماعة، أو جماعة وجماعة أخرى، وخلال ذلك كله، ينقل إليها قيمه وأفكاره وسلعه، ويؤثر فيها وتتأثر به. كذلك فكرة الغرابة لدى فرويد، هي فكرة أو صورة أو انفعال مألوف عن شيء مألوف، مَّربه الفرد في طفولته أو الجماعة البشرية في ماضيها (كان مألوفًا) ثم غاب أو اختفي (تم كبته) فأصبح غير مألوف، ثم عاد مرة أخرى (كمألوف وغير مألوف) في سياق غريب، وإنه في وجوده، وغيابه، هناك، شك ما، يتعلق به، وتخوف ما يحيط به. كما أن حركة ظهور الغريب لدى سيميل وغيابه، حضوره واختفاءه، مثل الغرابة لدى فرويد، أمر يتكرر دائمًا، ربما لدى الشخص نفسه. وعبر الأشخاص، ولا يتوقف أبدًا.
وهكذا فإن الشكل العام، أو البنية العامة، للفكرة، هنا، واحدة تقريبًا، لدى سميل وفرويد، لكن مع اختلاف بينهما في المحتويات والتفاصيل، بحكم المنطلقات المختلفة لكل منهما، هذا سيميل بسبب توجهه الاجتماعي، وذاك، فرويد، بحكم توجهه التحليلي النفسي، فالغربة، لدى سيميل، إمكانية موجودة دائمًا، هنا وهناك في الحياة، وحتى لو نسيناها، كما قال، فإنها «تلقى بظلالها، فجأة، بيننا، وتكون، تلك الظلال، أشبه بالضباب، الذي لا نستطيع وصفه بالكلمات»(32).
يمكننا أن نستفيد بمفهوم الغربة لدى سيميل هنا في تفسير كل ما يتعلق بما نسميه الآن بالجماعات والمناطق العشوائية في مصر، هؤلاء الغرباء نسبيًا الذين يعيشون على أطراف المدن أو حتى في داخلها، كما يمكننا الاستفادة به في تفسير أحوال المصريين أو غيرهم في بلاد الغربة، وكذلك ما حل بالناس، الآن، فأصبحوا غرباء حتى في أوطانهم وقل الأمر نفسه عن كل من هو هامشي في هذا العالم.
الغربة هنا، نقيض ذلك الشعور بالتماثل والتناغم والتقارب، الغربة، هنا ليست، خاصة، بفرد، بل قد تكون نمطا، عاما، في الحياة والسلوك والتفكير وهي قد تكون المدخل الأساسي لحدوث الاغتراب.
2- الاغتراب Alienation
في مناقشة هيجل لفكرة «روح الشعب»، كان الشعب عنده تجسيدًا عينيًّا للروح؛ وذلك لأنه حينما تتجسد الروح، وتصير ظاهرة متجلية في التاريخ على هيئة ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية. . إلخ، فإنها تؤلف «عندئذ» مصير الشعب. وعند مناقشته روح المسيحية ومصيرها، ناقش تاريخ الشعب اليهودي من خلال حياة النبي إبراهيم: وانفصاله عن أسرته ووطنه، وغربته عن كل الشعوب التي مر بها، وكيف كان ذلك كله من أجل أن يعود إلى الذات والاستقلال. وروح إبراهيم هذه كما يقول هيجل هي مصير الشعب اليهودي وقوامه الذي يتمثل في فقدان الصلة الحية، التي يصنعها الحب، بين الإنسان والعالم، بين الإنسان والآخرين، بين الإنسان والله. فالعالم يصبح مجرد أشياء جامدة بلا حياة ولا روح، تُمْتلك للمتعة أو للمنفعة أو لضمان الأمن، وحيث الآخرون هم أعداء، ينبغي الحذر منهم أو استخدامهم لتحقيق النفع، ويكون الله، هكذا، في ضوء التصور اليهودي، غريبًا عن العالم، منفصلاً، متعاليًا تمامًا عن العالم والإنسان، لا تربطه بالعالم والطبيعة إلا صلة التحكم والسيطرة، ولا علاقة تربطه بالإنسان إلا علاقة السيد بالعبد.
ويقول هيجل، كذلك، إن المسيحية هي التي كافحت ضد روح العبودية والتملك والانفصال الموجودة في اليهودية، وإن السيد المسيح قد جاء ليقيم الانسجام بين الناس والحياة من خلال الحب. وقد استخدم هيجل كثيرًا في «روح المسيحية» ومصيرها» وما بعدها من كتابات كلمة «غريب» على نحو متزايد مقارنة بكتاباته السابقة، وإن هذه الكلمة قد مهدت الطريق لظهور مصطلح الاغتراب لديه؛ حيث ترد كلمة غريب لوصف أو تسمية هذا الوجود – أو الموجود – الذي «ينتقل» إليه الإنسان «أو يضع» فيه أو «يسقط» عليه شيئًا من قدراته وصفاته، وعملية النقل أو الوضع أو الإسقاط خارج الذات، هي نفسها «الفكرة» التي سوف يطلق عليها بعد ذلك اسم الاغتراب، والذي يتجلى في هذا الموجود «الغريب» الذي هو من خلق الإنسان وإبداعه، والذي يتحول فيصير وكأنه الخالق. والاغتراب بهذا المعنى الجدلي الميتافيزيقي، ليس أمرًا أبديًّا أزليًّا؛ لأنه ينشأ في أوضاع تاريخية تتميز أساسًا بالتمزق والشقاء والعبودية»(33).
ويرتبط المعنى الخاص بالاغتراب هنا، كذلك، بالاستلاب، وفقدان الإنسان لذاته أو ضياعها في ظل تحكم خاص للسلطة المهيمنة، أو اغترابه عن ذاته بفعل عمليات الميكنة أو الآلية، وذلك حين يجد أن الآلات والكائنات والأفكار التي ابتكرها كي يسيطر عليها ويسيِّرها، هي التي أصبحت تسيطر عليه وتسيّره، وهذا هو المعنى الخاص بالاغتراب التكنولوجي والاقتصادي عند هيجل وماركس، لكنه معنى يمتد أيضًا إلى مجال الفن؛ حيث الكائنات الآلية الموجودة في السينما الآن كالسيبورج مثلاً، ذلك الكائن المخلق من إنسان وآلة (كما في فيلم Terminator مثلاً أو غيره) والذي صنعه الإنسان لخدمة أغراضه يصبح هو المسيطر والحاكم والأمر صحيح في حالة فرنكشتين وغيره من الكائنات المخلقة بل والأعمال الفنية كما في أسطورة «بيجماليون» مثلاً أيضًا.
نحن نعتقد أن لهذا المصطلح صلته العميقة أيضًا بمصطلح الإسقاط؛ وذلك لأن الإسقاط إنما ينطوي على نوع من التجسيد لأفكارنا وتصوراتنا وانفعالاتنا على شيء خارجى، شيء، من خلاله، نرى أنفسنا، كما هو حال حائط دافنشي، والذي عليه يرى الفنان أشكالاً وصورًا وكائناتٍ، يجسدها، بعد ذلك، في أعماله، هنا يكون الحائط في البداية وسيلة نبتكرها نحن ونغذيها ونطورها بالأفكار والصور، وسيلة لا قيمة لها في ذاتها، إلا أن تكون مثيرة للصور والأخيلة لدينا، لكن هذه الوسيلة قد تصبح، بعد ذلك، هي الهدف والمحفز الذي لا نستطيع العمل إلا من خلاله كشأن كل المعينات التي يلجأ إليها بعض الفنانين كالموسيقى الهادئة والتدخين أو حتى المخدرات.
كما أن العمل الفني عندما ينجز قد يتحول، كذلك، إلى شيء غريب عن الفنان، شيء لا ينتمي إليه بقدر انتمائه إلى الآخرين. ومثلما كان مفهوم العمل عند هيجل ينطوي على جانب إيجابي يتمثل في تحول العامل من كائن فرد إلى فرد اجتماعي، وجانب سلبى أيضًا يتمثل في انفصال العمل عن صاحبه؛ إلى حد أنه قد يصبح قوة مضادة له تسلبه ذاته عندما يصبح عبدًا لهذا العمل ولأصحابه فكذلك قد ينطوي العمل الفني على جانب إيجابي يتحول من خلاله الفنان من فرد منعزل إلى كائن اجتماعي وجانب سلبي، يصبح العمل، لمجرد العمل، بصرف النظر عن قيمته(34) حالة سلبية تفصل الفنان عن «عمله، وتصبح أعماله صورًا مجرد صور قد تسرق الروح منه، كما كان بلزاك يشير.
3- التغريب Estrangement
في مجال المسرح خلال القرن العشرين قال برتولت بريخت إن أثر التغريب؛ يتشكل من خلال تحويل الموضوع. . من شيء عادي، مألوف، قابل للفهم على نحو مباشر، إلى شيء غريب على نحو خاص، مثير للاهتمام وغير متوقع. وكما قال بريخت فإن أنواع الاغتراب الجديدة مصممة أو مقصود منها فقط أن تحرر الظواهر الاجتماعية المقيدة من طابع الألفة الذي يقيدها ويبعدها عن فهمنا لها في أيامنا هذه، وأطلق بريخت عليها اسم الاغترابات الجديدة New Alienations، وطالب بالانشغال بها كل يوم. ويقول بريخت كذلك: «لقد توصل المسرح القديم والمسارح في القرون الوسطى إلى تغريب شخصياتها عن طريق استخدامها لأقنعة الناس والحيوانات، أما المسرح الآسيوي فما يزال حتى اليوم يستخدم المؤثرات الموسيقية والتمثيلية الصامتة لإحداث التغريب. ومع ذلك، فإن تكنيك هذه المؤثرات يستند – إلى حد بعيد – على الإيحاء المغناطيسي اكثر من التكنيك الذي بفضله يتوصلون إلى الاندماج الانفعالي في الشخصية(35).
ووفقًا لما قال برتولت بريخت وكذلك الشكلانيون الروس فإن قوة الشكل الفني إنما تنبع من قدرته على التغريب، أو الإبعاد مؤقتًا، لمتلقيه، بعيدًا عن المعايير والقيم الخاصة بعوالمهم الاجتماعية المحددة ومن خلال ما أطلق عليه اسم «أثر التغريب alienation effect من خلال التحويل للموضوع من حالته العادية ووضعه المألوف إلى حالة غير عادية: تحول الأم إلى «زوجة» لرجل آخر غير الأب مثلا(36).
وهكذا فإن من أجل فهم القرن العشرين، وما بعده في الفلسفة والأدب والثقافة والسياسة وغيرها، ينبغي أن نعرف ذلك الدور والتأثير الذي قام به الشكلانيون الروس، وخاصة في تأكيدهم الكبير على فكرة نزع الألفة عن المألوف Defamiliarization، أي التغريب، أو جعل الأمر غريبًا. فقد حاول هؤلاء النقاد – وبخاصة فيكتور شكلوفسكي – تنظيم ذلك التكوين الغريب المسمى الأدب وفهمه وتطويره، وأن يسجلوا كذلك قوة الأدب، وبخاصة الشعر، في نزع الألفة عن المألوف، في إحداث شعور بالغرابة، في جعل كل الإدراكات والمعتقدات المألوفة غريبة وغير مألوفة. وفي مقاله المهم المعنون بـ»الأدب كأسلوب» استشهد شكلوفسكي بمناقشة تولستوي لعملية جلد العبيد بالسوط في القرن التاسع عشر؛ حيث استنكر تولستوي هذا السلوك الغريب والمتوحش والغبي: إحداث الألم لدى الآخرين، وتساءل: لماذا بالسوط، فقط وليس من خلال الوخز أو كسر الأكتاف أو غير ذلك؟ وكأن فعل الجلد «المألوف»، في ذلك الوقت، قد أصبح غير مألوف وغريبًا، من خلال الوصف له وتكراره، من وجهة نظر تولستوي؛ ومن ثم طرح بعض الاقتراحات لتغييره، من الناحية الظاهرية، وليس من الناحية الجوهرية حيث لم يستنكر تولستوي ذلك النوع من العقاب، في جوهره، أي إحداث الألم في جوهره، ولكنه استنكر الطريقة التي يتم بها، كما أنه اقترح طرائق بديلة له.
وقد استخدم تولستوي – كما يقول شكلوفسكي – تكنيك نزع الألفة عن المألوف هذا، على نحو دائم؛ وذلك لأنه بقدر ما يصبح الإدراك اعتياديا، بقدر ما يصبح آليًّا، وإن إحدى وظائف الفن الأكثر أهمية أن يواجهنا بصدمة ما حتى لا نعود مجرد ضحايا للعادة؛ فالأعمال الفنية تساعدنا على أن نستعيد متعة الإثارة بما في الحياة، وأن نرى، بذلك، الأشياء المألوفة من جديد. . إن تكنيك الفن يكمن كما قال شكلوفسكي في «أن يجعل الأشياء غير مألوفة، ويجعل الأشكال مبهمة كي تزيد من صعوبة الإدراك ومن دوام مدة بقائه، وإن فعل الإدراك في الفن هو غاية في ذاته، ويجب أن يمتد ويستمر. إن خبرتنا بعملية التركيب في الفن هي موضع الاعتبار لا الناتج النهائي»(37).
وكما يذكر الناقد عبد الفتاح كليطو فإن كل حديث عن «الغرابة»، هو بالضرورة حديث عن «الألفة». وإننا «إذا قمنا بتصنيف القائلين، فإننا لاشك سنقف على قائل معين موسوم بالغرابة؛ لأنه يبتعد عن التصورات المألوفة، لدى مجتمع ما، وهذا القائل الغريب يظهر في أشكال عدة. فهناك المجنون والمهرج والمجذوب والساحر والشاعر. وكمثال على هذا الصنف يمكن أن نذكر صراحة: خرافة، وهو شخص اختطفته الجن، ثم عاد بعد مدة إلى أهله وصار ينطق بكلام غريب (ومن هنا عبارة: حديث خرافة). إن القول الذي يستدعي انتباهنا هو القول الغريب، الذي يبدو بهذه الصفة عندما نقارنه مع نمط مألوف من القول. إن الغرابة تنم، كما يقول ابن رشد معلقًا على فن الشعر «بإخراج القول غير مخرج العادة»(38).
4- الاستغراب
ليس المقصود هنا محاولة بعض المفكرين أمثال حسن حنفي الرد على مفهوم الاستشراق orientalism بمفهوم مضاد وهو الاستغراب Occidentalism، أي الرد على نظرة الغرب إلى الشرق من خلال صورة معينة، سلبية في معظمها، ومن ثم ينبغي أن نفهم الغرب بنظرة مماثلة هي «الاستغراب». ليس هذا مقصدنا في هذا السياق، فما نقصده هنا هو تلك الحالة الخاصة من الدهشة التي تحدث عندما نرى شيئًا أو نسمعه، فنستغرب ظهوره أو حدوثه، نعتقده غريبًا عن سياقه، أو غير مألوف، نعجب منه، وقد نعبر عن ذلك بصوت ينم عن الإعجاب أو الاستهجان، وبرفع حاجبي العينيْن أو غير ذلك من تعبيرات الوجه واليديْن الاستغراب هنا متعلق بطبيعة الشيء الذي ندركه في لحظة معينة وكذلك طبيعة إدراكنا له واستجاباتنا نحوه والتي غالبًا ما تكون استجابة سريعة، ليس فيها ذلك العمق الوجداني أو الانفعالي أو ذلك البعد المعرفي المرتبط بظاهرة الغرابة.
قد تبدأ الغرابة بالاستغراب، وقد تنتهي ونحن في حالة ما من الاستغراب، لكن الاستغراب هنا مجرد حالة مؤقتة أو سريعة، قد توجد وتصاحب أو تعقب انفعال الغرابة في تجلياته الحياتية أو الفنية، لكن الاستغراب هو كما قلنا، حالة سطحية، مندهشة، قد لا يصاحبها الخوف، أو الرعب، وكذلك تلك الاستجابة الجمالية الخاصة المصاحبة للغريب.
الغرابة في العربية
في الدراسات العربية القديمة والحديثة، هناك اهتمام بغريب الألفاظ، «وغريب القرآن»، وغريب الحديث، أي غريب الألفاظ الحوشي منها والشارد والوارد، ولدى ابن منظور في «لسان العرب»، الغريب هو البعيد عن أرضه وعن ناسه وقد قالت العرب: «قذفته نوى غربه، أي بعيدة»، وأصابه سهم غرّب، أي لا يدري راميه، واغترب فلان إذا تزوج من غير أقاربه، وقالوا: وجه كمرآة الغريبة، لأنها في غير قومها فمرآتها أبدًا مجلوة؛ لأنها ناصح لها في وجهها. وقالوا: «وخد كمرآة الغريبة» أي والغريبة هنا المرأة التي لم تتزوج في قومها، فلا تجد في نساء ذلك الحي من يعني بها، ويبين لها ما تحتاج إلى إصلاحه من عيب ونحوه؛ فهي محتاجة إلى مرآتها التي ترى فيها من ينكره من رآها، فمرآتها دائمًا مجلوة.
والغربة: النزوح عن الوطن والاغتراب والتغرب، وفي الحديث أن النبي، صلى الله عليه وسلم، سُئل عن الغرباء: فقال الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي. وفي حديث آخر: إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء، والمقصود: إن الإسلام كان في أول أمره كالغريب الوحيد الذي لا أصل عنده، لقلة المسلمين يومئذٍ، وسيعود غريبًا كما كان، أي يقل المسلمون في آخر الزمان فيصيرون كالغرباء، وطوبى للغرباء. . أي الجنة لهم ويقال كذلك رجل غريب: ليس من القوم، والغرباء : الأباعد. وفرس غِّرب: كثير العدو، وأغرب الرجل في منطقه إذا لم يبق شيء إلا تكلم به، وأغرب به: أي صنع به صنعًا قبيحًا. وأغرب الرجل إذا أسود وجهه من مرض أو غيره، وقال الأصمعي: أغرب الرجل إغرابًا، إذا جاء بأمر غريب، والغربة: الحدة، واستغرب الدمع : سال، والإغراب: كثرة المال، وحسن الحال. والغَرّبُ: الذهب، وأسود غرابي وغربيب شديد السواد، وقال الحجاج: والله لأضربنكم ضرب غراب الإبل، وقال ابن الأثير : هذا مثل ضربه لنفسه مع رعيته يهددهم؛ ذلك أن الإبل إذا وردت الماء، فدخل عليها غريبة من غيرها، ضربت وطردت حتى تخرج عنها، ومن معانيها أيضًا : الدلو العظيمة.
هكذا جمع معنى الغربة والاغتراب والغرابة – في العربية – بين الحدة في النشاط والتمادي والماء والدمع الغزير وإسوداد اللون وكثرة أو اشتداد الضحك أو المرض أو الكلام، أو اللون، أسود أو أبيض أو أحمر. . إلخ(39).
ومن معاني الغريب أيضًا : الذهب والفضة والماء الذي يقطر بكثرة، والغرب والغياب وغروب الشمس، أو العدم، والنزوح عن الأهل، وغير ذلك من المعاني التي تشير إلى المبالغة في حدة قول أو انفعال أو حدث، وهي – في معظمها – معانٍ ترتبط بمفردات الحياة اليومية العربية القديمة كالإبل والماء والطيور والارتحال والعَودة؛ وكلها معانٍ مهمة أيضًا في تفسير الغربة بالمعنى المكاني، واللغوي وكذلك المعنى الاجتماعي المرتبط بالاستبعاد والنفي والتجاهل كما كان الحال لدى التوحيدي مثلاً وكذلك قد تفيد كثيرًا في تفسير الغرابة المرتبطة بكل ما هو غير مألوف، لكنها غير مفيدة في تفسير الاغتراب بالمعنى الفلسفي والوجودي، ولا الغرابة بالمعنى الانفعالي والجمالي الذي نقصده في كتابنا الحالي. لكن أقرب المعاني إلى «الغرابة» في العربية هو مفهوم الوحشة.
عن الوحشة والغرابة
وفقاً لما جاء في المعاجم العربية، وتحديداً «لسان العرب» لابن منظور، فإن كل شيء لا يستأنس بالناس هو وحشي، كما أنه: إذا أقبل الليل استأنس كل وحشي واستوحش كل انسي. والوحشة: الفَرَق أي الخوف من الخلوة والعزلة، ويقال: أخذته وحشةٌ، أي احتاج إلى من يستأنس به، واستوحش منه: لم يأنس به فكان بالنسبة إليه كالوحش.
كما ارتبطت الوحشة لدى العرب كذلك بعالم السحر والجن، وبطبيعة المكان فقالوا: مكان موحش: خالٍ، وأرض وحْشة (بالتسكين): قَفْرٌ، وأوحش المكان من أهله وتوحش: خلا.
وذهب عنه الناس، ويقال كذلك للمكان الذي ذهب عنه الناس: قد أوحش. وتوحشت الأرض: صارت وحِشة أي خالية.
وهكذا، فإن الوحشة ضد الأنس ولا يكون أنس إلا بوجود البشر، وعندما يغيب البشر يصبح المكان قفراً خالياً؛ ومن ثم فإن الوحشة هي صفة للمكان الموحش وصفة كذلك لشعور الإنسان في ذلك المكان الموحش عندما يكون وحده في عزلة.
وهناك معانٍ أخرى للوحشة نذكر بعضها، فالوحش والموحش: الجائع من الناس وكذلك الحيوان، لخلوه من الطعام، ويقال: توحش جوفه، أي خلا من الطعام، وبات وحْشاً ووحِشاً: أي جائعاً، وأوحش الرجل وتوحش: جاع، وبتنا أوحاشاً: أي جياعاً.
والوحشة كذلك: الهم، والخلوة والخوف والأرض المستوحشة الخالية، ويقال كذلك، وحش الرجل: إذا ألقى بثوبه وسلاحه وجرى، مخافة أن يُلحق به.
ويكون للمكان الموحش تأثيره البالغ على انفعالات الإنسان في حالات العزلة والجوع والخوف والافتقار للأمن، فيبالغ في تصويره للأشياء وفي إدراكه لها، فيما سُمِّي بالتوهم، وهي حالة تحدث للإنسان والحيوان وقد ذكرها الجاحظ في كتاب الحيوان في نص مهم نذكره باختصار فيما يلي:
فقد ذكر الجاحظ في «كتاب الحيوان» ما قاله أبو إسحاق من أن أصل هذا الأمر وابتداءه، أن القوم لما نزلوا بلاد الوحش، عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد من الإنس استوحش، ولاسيما مع قلة الأشغال والمذاكرين. والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو التفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة. . وإذا استوحش الإنسان تمثَّل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب، وتفرق ذهنه، وانتقصت أخلاطه، فرأي ما لا يُرى، وسمع ما لا يُسمع وتوهم على الشيء اليسير الحقير، أنه عظيم جليل. ثم جعلوا ما تصوَّر لهم من ذلك شعراً تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيماناً، ونشأ عليه الناشيء وربي به الطفل، فصار أحدهم يتوسط الفيافي وتشمَّل عليه الغيظان في الليالي الحنادس فعند أول وحشة وفزعة وعند صياح بوم ومجاوبة صدى، وقد رأي كل باطل وتوهم كل زور، وربما كان في أصل الخلق والطبيعة كذاباً نفَّاجاً، وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على وفق هذه الصفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان وكلمت السعلاة ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: قتلها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول : رافقها، ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجها.»(40)
هذا نص بديع من نصوص الجاحظ، وفيه يربط بين المكان الخالي الموحش وبين عمل العقل ونشاط التوهم وهيمنة الخوف وحضوره، حين تتغير أبعاد المدركات، وتتمثل الأشياء الصغيرة «للمتوحش» في صور كبيرة، فيرى «ما لا يُرى»، وقد يستسلم لخوفه ويصيبه الرعب، يزداد شعوره بالوحشة، يستوحش، وقد يصبح شاعراً، أو قد يكون بطبيعته كذاباً، فيصبح «أصدق الكلام – لديه أكذبه»، فيصور في قصائده الغيلان والسعلاة وكل تلك الكائنات الخرافية، ويقول كيف صاحبها، أو قتلها، أو تزوجها. . الخ في محاولة منه لتحويل خوفه إلى طمأنينة، ووحشته إلى أنس وائتناس، وتوهمه إلى إبداع.
ليست الفروق بين الوحشة والغرابة حاسمة، لكن الوحشة ليست هي الغرابة، الوحشة قد تمهد الطريق لحدوث الغرابة، الوحشة حالة من الشعور بالعزلة والخوف، قد تحدث معها الغرابة أو لا تحدث، الوحشة حالة ترتبط بالمكان الخاوي الخالي من البشر الذي يكون تربة خصبة لنمو مشاعر الغرابة، الغرابة خطوة تالية للوحشة، لكن الغرابة قد تحدث دون إحساس سابق لها بالوحشة، الغرابة ترتبط بالخوف والرؤية أو السماع لغير المألوف المثير للفزع، غير الآمن، الغربة حياتية وفنية والوحشة غالباً حياتية، ليست هناك متعة جمالية خاصة في الوحشة، بينما توجد مثل تلك المتعة في الغرابة. بعبارة أخرى، قد تمهد الوحشة لظهور الإبداع الجمالي كما في الشعر مثلاً وكما أشار الجاحظ إلى ذلك. لكن الغرابة قد ترتبط بالتلقي لأنواع خاصة من الإبداع والإستجابة لها على نحو خاص.
كل ما هو غريب وغير مألوف قد يثير الخوف والدهشة وحتى النفور وجذور هذه العملية موجودة في الطفولة، طفولة العقل الذي ينمو كثيرا عبر العمر، وطفولة الوجدان الذي يبدو أنه لا ينمو كثيرا عبر العمر، وكأنه مشدود بأوتار تربطه بجذور ضاربة في أعماق الإنسان القديمة.
خاتمة
الجدير بالذكر أن مفهوم الغرابة مطروح أيضاً في بعض الكتابات التراثية العربية المهمة ومنها ما جاء مثلاً لدى ابن عربي أو لدى ابن سينا وكذلك لدى السهروردي فيما سمي بالغربة الغريبة والتي كانت تدور حول الحكايات الخيالية لحي ابن يقظان أو ما شابه ذلك من الحكايات.
وليست هناك، عدا ذلك، دراسات حول الغرابة، في العربية، جديرة بالذكر، ولا أقصد طبعًا تلك الدراسات الخاصة حول الغرائبية أو الخيال، بل الغرابة المرتبطة بالخوف وتجلياته، وبالمخيف، وغير المألوف في الفن، على وجه التحديد. حيث يستثير العنصر الخاص بالغريب، ويستحضر معه، توترا غير مريح، كان موجودًا في الأدب القوطي والفن الرومانتيكي، وقصص الأشباح ثم أنه ذلك العنصر أصبح خاصية مميزة للفن السيريالي الحديث. هكذا تعتقد رابينوفيتش أن تحليل فرويد للغريب كبعد سيكولوجى يتعلق بالخبرة الجمالية، تحليل يفتح الطريق أمام الفن(41).
قد يكون الغريب أيضًا وسيلة أيضًا للتفكير أو طريقة للتفكير وإعادة التفكير فيما يسمى الحياة العادية المألوف واليومي، الأفكار المتداخلة والمتفاعلة والمتشابكة الخاصة بالاستقرار وعدم الاستقرار، الألفة وعدم الألفة، العادية والغرابة، البيتي الحميم والغريب الرجيم، الامتلاك والغرابة، وكما ذكر أنطوني فيدلر في كتابه عن «الغريب المعماري»(1992)، فإن الغرابة هي استعارة للشرط الإنساني الحديث غير الحي، على نحو جوهري، حيث يزداد إحساس الإنسان الحديث بالغرابة والغربة والاغتراب من خلال ذلك التزايد في الاستخدام للقوة والعنف والقمع، وتزداد مشاعر الغرابة لديه، أحيانًا، بفعل الحروب وما تحدثه من تخريب ودمار، وأحيانا، بفعل التوزيع غير العادل للثروات وأحيانا ثالثة بفعل هذين العاملين معا(42).
تلخيصًا لما سبق نقول إنه إذا كانت «الغربة» في جوهرها، غربة عن المكان، أو حتى، غربة في المكان، كما كان الحال لدى أبي حيان التوحيدي، فإن الاغتراب، هو حالة من الشعور بأن المرء نفسه غريب حتى عن ذاته، وأن ما أنتجه، كإنسان، كي يكون آمنا من خلاله، قد كان الوسيلة والأداة لأن يفقد ذلك الإنسان من خلاله، ذاته أيضًا، أن يصبح مغتربا عنها وموجودًا، هناك مأسورًا، أو منفصلا عنها، في آلة تمتلكه بدلا من أن يمتلكها، أو شخص، عمل، مال، عائلة، مخدر، علاقة، هواية، ممتلكات. . الخ تسيطر عليه بدلا من أن يكون مسيطرًا عليها، هنا يصبح مسلوب الروح، فاقدًا ذاته، مغترباً عنها، وقد تضاف الغربة (عن المكان) إلى الاغتراب (عن الذات) لدى شخص ما، فيصبح الأقرب إلى غريب التوحيدي الذي ينطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، فيكون ليس مجرد شخص غريب عن المكان، بل وغريب في المكان، المكان الذي كان ينبغي أن يكون مكانه الخاص.
أما التغريب فهو حيلة فنية، حيلة تميل من خلالها إلى نزع الألفة عن المألوف. والفن، هكذا، غريب، لأنه يكشف الحجاب/ القناع عن الواقع، ولأنه كذلك يمتلك القدرة الخاصة على الإيهام، بسبب وجود تلك الرغبة الإسقاطية لدى المشاهد أو الملاحظ، ذلك الذي يرغب أن يتوهم، للخلاص من شرط ما يكون غريبا في وقته. لقد كانت عيون الطيور هي التي خدعتها فانقضت على حبات العنب الجميلة تريد أن تلتقطها في لوحة بارزايوس الإغريقي الشهيرة فتغلبت رغباتها عليها(43)، بشكل يفوق قدرة هذا الرسام على الرسم الدقيق للعنب كما لاحظ دريدا ذات مرة.
المراجع
(1) Hegel, G. W (1999). Aesthetics, Lectures on Fine Arts. Cambridge
Oxford univ. Press, 553 – 4. (originally published 1835)
(2) J. Collins & J. Jerivs (2008) Introduction. In: Collins & Jervis, (eds). Uncanny Modernity; Cultural Theories, Modern Anxities. N. Y. : Palgrave, 4-5.
(3) ibid, 5 – 8. (4) ibid, 6-8.
(5) Rank, O. (1979) The Double, a psychoanalytical study , Trans. By:
Harry Tucher Jr. N. Y. : Meridian Press. 74.
(6)Freud, S. (2003) The Uncanny. London: Penguin Books. Originally
published, 1919.
(7) Vidler, A. (1992) Architectural Uncanny. Essay on the Modern Unhomley
Cambridge: the MiT. Press
(8) ibid (9) ibid
(10) Jervis, J (2008) Uncanny presences. In. collins & Jervis, eds, op. cit, 15.
(11)(12)
(13) Royle, N. (2003) The Uncanny. Manchester University press.
(14) Ibid,4 (15) ibid
(16) أفلاطون (1985) الجمهورية. (ترجمة فؤاد زكريا). القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
(17) Augustine (2007) The lust of the Eyes. http:/ Gypsyscolorship.
Blogspot. Com/2007/12 Augustine-list-of-Eyes. html
(18) Ibid (19) Ibid (20) Ibid
(21) Burke, E (1990) A philosophical Enquiry into the origin of our ideas of the sublime and beautiful. N. Y. : Oxford univ. Press. (Originally published 1859, 54).
(22) Vidler, op. cit(23) Royle, op cit,(24) Ibid,9-11
(25) Frued, op. cit (26) Ibid
(27)Kavacs, L(2003) The Haunled screen in literature and film.
London McFarland, ch. 1.
(28) Jervis, J(2008). Uncanny Presences, in: J. Collines& J. Jervis ,
uncanny Modernity, op. city,
(29) التوحيدي، أبو حيان (1981) الاشارات الإلهية، تحقيق عبدالرحمن بدوي. الكويت: وكالة الكويت للمطبوعات.
(30) نفسه
(31) رجب، محمود (1986) الإغتراب. سيرة مصطلح. القاهرة: دار المعارف.
(32) Simmel, G. (1908) The Stranger (Translated by Kurt Wolf. In: The
Sociology of Georg Simmel. N. Y: the free press, 402 – 408. In: www.
infoamirica. org/documents_pdf/simel/01. pdf
(33) محمود رجب، مرجع سابق، مواضيع متفرقة.
(34) المرجع السابق، مواضع متفرقة.
(35) ثابت مدكور (1994) الكسر النسبي في الإيهام السينمائي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، مواضع متفرقة.
(36) Vidler, op. cit.
(37) برجر، أرثر (2003) النقد الثقافي: تمهيد مبدئي للمفاهيم الرئيسية (ترجمة: وفاء ابراهيم ورمضان بسطاويسي) القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، العدد 603، 73.
(38) كليطو، عبدالفتاح (2006) الأدب والغرابة. دراسات بنيوية في الأدب العربي. الدار البيضاء. دار توبقال للنشر، 66.
(39) ابن منظور، محمد بن مكرم المصري (1988) لسان العرب المحيط، بيروت: دار الفكر.
(40) المرجع السابق نفسه.
(41) Rabbinovich, C. (2002) Surrealism and the scared Power, Eros and
the occult in Modern Art. Calarade: westivew press.
(42) Vidler, op. cit.(43) Ibid,
شاكـــــر عبدالحميد
ناقد وأستاذ علم نفس من مصر