لا أريد في هذه الورقة أن أدخل في محاجة نظرية حول الأدب النسائي، والقصة النسائية العمانية منه على وجه التخصيص. وإن يكن الحديث عن هذه القصة أو مجموعة معينة من كاتباتها في سلطنة عمان يعني بحد ذاته وجود قدر من الملامح المشتركة التي توضح هذا الاختيار وتبرّره. وكنت قد ذكرت في مقدمة كتابي (القلعة الثانية) المكرس لدراسة عدد كبير من الأصوات الرجالية في القصة العمانية القصيرة أنني أجّلت الحديث عن القصة النسائية في عمان إلى مناسبة أخرى يكون بإمكاني أن أتبين فيها الملامح والخصائص الأنثوية المشتركة إن وجدت في هذه القصة.
( انظر، مقدمة كتاب القلعة الثانية – دراسة نقدية في القصة العمانية القصيرة، دار الانتشار العربي، بيروت – لبنان، 2009م)
وعلى الرغم من أن القاصات العمانيات عديدات ولا يقتصرن على هذه الأسماء الأربعة التي سأتناولها في هذه الورقة، فقد وجدت أن في هذه الأصوات من الخصوصية والتميّز ما يمكن أن يعكس جانبا من اهتمامات القاصة العمانية وانشغالاتها الرئيسية، والطرائق المتبعة لديها في مقاربة الكتابة المخصصة لهذا النوع من الصوغ اللساني، على تباين هذه الطرائق واختلافها. والتباين بين القاصات الأربع يبدو طبيعيا، تماما مثل التباين بين القصاصين من الرجال. وتناولهن مجتمعات في هذه الدراسة لا يعني وضعهن في خانة نقدية واحدة مهما تكن طبيعة التشابهات والصلات الموضوعاتية والأسلوبية القائمة بينهن.
وعلى الرغم من أن الكتابة عن الخبرة الأنثوية والتجارب النسائية الحسية والانفعالية تبدو قاسما مشتركا بين القاصات الأربع، فإن مدى الوعي بالأنثى ومعالجة مشكلاتها في إطار السرود الحديثة التي يكتبنها، تظل متفاوتة في مدى قدرتها على البوح والتعبير عن حاجات الأنثى، من ناحية، وعمقها وشمولها، من ناحية أخرى. وهي ترتبط، كما قلنا، بمدى الوعي بالذات، والشجاعة في التصدي للتعبير عن النفس والفضاء الاجتماعي والثقافي الراهن.
وبما أن الكتابة تمثل بالنسبة إلى الأنثى فعلا من أفعال الحريّة وممارسة للعلاقة مع الآخر على صعيد المتخيل السردي وما يمكن أن يحدث في الواقع، وليس ما يحدث بالفعل، فإن مثل هذا الفعل يغدو أكثر خطورة في مجتمع يرى بأن المرأة تقترف خطيئة في تصديها للكتابة عن الخبرة والتجارب الأنثوية بشكل خاص.
لقد أكّد بعض الكتاب مثل جول رونار أن كل ما هو خبيء أنثوي، غير أن هذا الخبيء قد لا يتعدى أحيانا محاولة كشف المستور أو المسكوت عنه في تسلط الرجل على المرأة داخل مجتمعاتنا المحافظة، على الرغم من معرفة الجميع أو الكثيرين به. والاشتراك الذي تكون فيه الأنثى الراوية قريبة من البطلة المروي عنها، من شأنه أن يوقع المتلقي المروي له في ضروب من الالتباس الذي تكون الكاتبة ضحيته الأولى. ولذلك كانت هذه الكاتبة بحاجة دائمة إلى نوع من الأفق المنفتح على صعيد المتلقي والقارئ الذي يتمتع بالحد الأدنى اللازم من الثقافة السردية الحديثة التي لا يختلط عنده فيها الراوي والمروي عنه بالمؤلفة كانسانة منفصلة عنهما، ولا يحوّل الكتابة عن الرجل أو الأنثى إلى نوع من السيرة الذاتية أو المدوّنة السردية الخاصة لمجرد أن الأنثى هي المؤلفة.
وذلك لا ينفي بطبيعة الحال أن الساردة في القصة الحديثة قد تتخذ موقعا قريبا من بطلها أو بطلتها إن لم تكن هي إياها في بعض الحالات. والسخاء العاطفي، والكشف عن بعض الشؤون الأنثوية الخاصة لدى بعض راويات هذه القصص أو بطلاتها، لا يمكن أن يظل بعيدا عن أحاسيس هاته القاصات وتجاربهن الشخصية الخاصة، على ما قد يولّده ذلك من التباس وسوء فهم لا نهاية لأشكاله.
وعلى كل حال، نستطيع ان نقسم القاصات الأربع موضوع هذه الدراسة إلى مجموعتين تشترك كل اثنتين منهما في عدد من المزايا الأسلوبية التي تفرضها طبيعة الفضاء الذي يؤلف عند كل قاصة موضوعا للبنية السردية.
فرحمة المغيزوية وهدى الجهوري تعتمدان كلتاهما بشكل أساسي على خامة الواقع الريفي والحكاية الشعبية المتشابهة، إطارا ومنطلقا للكثير من نصوصهما، فيما تتجه جوخة الحارثية وبشرى خلفان نحو المدينة التي تخلق فضاء سرديا أكثر تعقيدا واتساعا وصلة بمتطلبات السرد الحديث، وما يتصل به من فضاءات سوسيولوجية ونفسية. ومثلما تبدو المدينة حاضرة في كثير من نصوص القاصتين الأوليين، فإن القرية وفضاءها الحكائي الشعبي لا يغيبان تماما عن نصوص القاصتين الأخيرتين.
والاختلاف بين المجموعتين لا يقتصر على طبيعة موضوع السرد وشخصياته ومتوالية الأحداث التي يتطور الحكي على أساسها، وإنما يتعدّى ذلك إلى وجود نسق شفاهي يغذي كثيرا من النصوص التي تكتبها رحمة المغيزوية وهدى الجهوري بشكل خاص. في حين يجري الاعتماد على المدونة الكتابية التقليدية بوصفها أساسا لاستراتيجية الكتابة عند جوخة الحارثي وبشرى خلفان.
ومعروف أن المرويات الشفاهية التي يعرف المجتمع العماني ومجتمع الباطنة الذي تنتمي إليه القاصتان رحمة وهدى كلتاهما، خزينا هائلا منها، تجعل استخدام العناصر السردية مختلفا بعض الاختلاف عن المدونات الكتابية، حيث يميل الراوي في هذه المدونات إلى التخفي وراء ضمير يحيل غالبا إلى مجهول لا يعلن عن حضوره، ويتجنب الإشارة إلى نفسه ويؤدي وظيفته في تشكيل المروي بوصفه جزءا منه. والكتابة على نقيض المشافهة، لا تستدعي انفصالا بين الخطاب وصاحبه، في حين تلزم المشافهة نوعا من الانفصام بين المروي وراويه، لأنها تستعين بالصوت أو الأصوات المسموعة وسيلة لها، عكس الكتابة التي تعتمد على الحرف المخطوط أو المطبوع أداة لصياغة الخطاب السردي.
( انظر بهذا الصدد، عبد الله إبراهيم، السردية العربية، المؤسسة العربية، ص23-24)
وعلى الرغم من هذه السمات المشتركة الموجودة بين اثنتين أو أكثر من القاصات، فسنرى أن كل واحدة منهن لها خصوصيتها التي لا تكاد تشاركها فيها غيرها من الأخريات. وبين رحمة وهدى من الاختلافات بقدر ما بينهما من التشابهات. وكذلك الأمر بالنسبة لبشرى خلفان وجوخة الحارثية. وهي اختلافات تفرضها طبيعة التفرّد في الشخصية الإنسانية، ولا تكفي فيها التشابهات الظاهرة في المعطيات الجنسية والتاريخية والاجتماعية والسياكولوجية.
وحدود اطلاعنا على نصوص هؤلاء القاصات العمانيات الأربع وغيرهن من اللواتي يمارسن هذا النوع من الكتابة، لا تسمح لنا بالقول بوجود خطاب نسوي في القصة العمانية يزيد على هذه المحاولات في تثبيت الهوية الأنثوية، ونقد المخاوف والمحرّمات الأخلاقية المحيطة بالجسد، ومقاومة تهميش المرأة، وتصحيح الميل، وإبعاد مركّبات النقص التي ألحقها بها المجتمع، ووصف انكساراتها وإخفاقاتها في علاقتها مع الرجل، وإظهار الحب الآثم بمظهر الحاجة الطبيعية التي لا يمكن مواصلة الحياة بدونها، عن طريق تسليط الضوء على أسبابه ونتائجه ذات الطبيعة التراجيدية غالبا، ورؤية انعكاساته على البطلة وتكوين شخصيتها.
وقد لا تحتل الكتابة عن المرأة وقضايا الأنثى حبيبة، أو أما، وزوجة، واختا، وعشيقة، كل النصوص السردية التي تكتبها هاته القاصات، فبعض نصوصهن لا تختلف كثيرا عن نصوص قصصية أخرى كتبها الرجال، حتى إذا رأينا بنية الإخفاق والانكسار الذي يعاني منها بعض أبطالهن من الرجال والنساء عميقة ومترسخة فيها. فالمجتمع الذكوري القامع والمصادِر لحرية المرأة وعواطفها الطبيعية لا يضغط على الأنثى وحدها فيه، بل هو يجعل من الرجل الذي يمثل أداة الضغط ووسيلته ضحية تاريخية أخرى من ضحاياه.
كما أن الهوية الأنثوية التي تتبدى في عدد من القصص المدروسة في هذه الورقة ليست واضحة دوما على نحو يزيد على هذه الملامح المتداخلة من الرؤى والمواقف والحالات والتصورات التي يمكن أن نعثر على ما يماثلها لدى القاص العماني الذكر، مثلما نعثر عليها لدى القاصة العمانية الأنثى.
وإن كان الفرق الذي يرتبه الاختلاف بين القرية والمدينة العمانية في خطاب القاصة العمانية قد جعل هذه القاصة المرتبطة بالقرية أكثر من المدينة أقدر على تفجير البنية الاجتماعية الداخلية المحافظة بنميمتها ومعتقداتها وحكاياتها الشعبية وأخيلتها وشخصياتها الخارجة على الأعراف والتقاليد القارة.
1- رحمة المغيزوي
نشعر عند قراءتنا قصص رحمة المغيزوي أن فضاء اجتماعيا وتاريخيا وجغرافيا معينا يكتب نفسه ويتعرف إلى ذاته ويعيد النظر في صورته من خلال استعادة هذه المجموعة المدهشة من الحكايات والأمثال والمأثورات الشعبية والأغاني والأشعار والمعتقدات. إن القصة (تحيي، بذلك، عروق الفرح المنطفئة) في المكان، كما تذكر الساردة مرة على لسان أحد أبطالها.
وتبدو بعض هذه الحكايات مفككة عند إلقاء النظرة الأولى عليها، ولكنها تبقى رغم ذلك محافظة على واقعيتها أو طبيعتها المحلية ذات الرائحة والروح القروية الأولى التي لا يتدخل الخيال السردي إلا قليلا في إكمال ما هو ناقص فيها.
والساردة تبقى بذلك وفيّة لطريقتها الأثيرة في لملمة هذه الحكايات الشفاهية وجمع بعضها من أفواه الناس وذاكرتهم على اختلافها وتباين القصد عند أصحابها.
وهي تبدو في الغالب ساردة موضوعية لا يهمها نمو الحكاية وضبطها وتكاملها من النواحي الفنية، قدر معاينة مادتها الأصلية أو متنها الحكائي المؤلف أحيانا من شظايا وأجزاء من أحاديث شفاهية وأقوال شائعة، من شأن جمع الساردة لها ووضعها أمام القارئ بهذا الشكل أو ذاك أن يبقي على طزاجتها وحيويتها، على ما فيها من جوانب أسطورية وخرافية أضافتها المخيلة الشعبية حول بعض الظواهر والأحداث والنماذج البشرية الملتقطة من ذاكرة القرية وحياتها اليومية.
صحيح أن في بعض هذه الحكايات تجريدا واختزالا وتعميما وقفزا على بعض التفاصيل من أجل إدخال شيء من التغيير الضروري في نظام الحكاية وتتابع وحداتها السردية البانية على نحو قد يقطع مع منطق السرد التقليدي وواقعية الحكاية، ولكن القاصة تحاول دائما أن تصنع الموازنة الخاصة التي يكون فيها الجذر الحكائي ذو الطبيعة الشعبية موضوعا في إطار وشكل جديد. ولذلك فإن هذه القصص التي تنطوي على سمة البداهة والعفوية، تنجح غالبا في صنع تقنية فنية ذكية تتجاوز الحكاية الشعبية الأصلية، وتبقي عليها في الوقت نفسه. إنها، بكلمة أخرى، (حكايات الجدة في قالب يقترب من نموذج القصة القصيرة الحديثة) كما يقول محمد عيد العريمي في دراسة له عن قصة (كاذية بنت الشيخ) التي سُميت مجموعة المغيزوي الأولى باسمها.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تعريف الحكاية التي تعني على المستوى المعجمي (التقليد، والمشابهة، ونقل الكلام، وشد العقدة، ثم رواية الخبر)
(انظر، الفيروزأبادي، القاموس المحيط، مصر، ط3، 1933، ص319)
فإننا نجد أن الكثير من عناصرها متوفرة في صورتها المحوّرة التي تقدمها لنا فيها رحمة المغيزوي بطريقتها الخاصة التي لا تجعل هذه الحكايات خارج إطار الحكي بمعناه المعجمي المتقدم.
ويمكن الإشارة بهذ الصدد إلى سمتين رئيستين موجودتين ومتداخلتين في بناء كثير من هذه الحكايات، وهما غرابة الشخوص الذين يمثلون أبطال هذه الحكايات وقدرتهم الاستثنائية على الخروج عن أعراف القرية وتقاليدها القارة، ثم إحساس المفارقة والسخرية الذي ينتظم بنية بعض هذه الحكايات من أولها إلى آخرها.
ويمكن أن يمثل نص (كاذية بنت الشيخ) المتقدم ذكره نموذجا لنشأة الحكاية الشعبية. وقد نقل محمد العريمي في دراسته المذكورة أعلاه عن القاصة أن حكاية كاذية بنت الشيخ (قصة حقيقية، التقطت المؤلفة بعض تفاصيلها من أكثر من لسان ومن أكثر من مكان.. أي يمكن تصور أصل القصة بأنها رواية خبر عن حادثة وقعت، ولكنها تعرّضت خلال انتقالها الشفاهي للحذف والإضافة حتى بدا الخبر في أصله غير حقيقي، فاتخذ طابعه الشعبي؛ وهذه أولى مراحل انتقال الخبر من الواقع إلى الخيال، ومن ثم إلى قصة كعمل فني.
وقد لعب الخيال الشعبي دورا كبيرا بعد وقوع الحدث في تشكيل الحكاية وتحويلها إلى خرافة لها خصائص الحكي الشفاهي: عن شيء وما هو شيء، عن شيء يطير وما هو طير، وعن شيء يبيض وما هو طير. عشه في حفر الطين، أو الكاذية بنت الشيخ خطواتها خطوة للجن وخطوة للإنس.. ريحتها من الجنة، حرمة تجيء مرة في الدهر).
وهو ينقل عن المغيزوي كذلك جانبا يتصل بظروف كتابة هذه القصة، وربما مجمل القصص التي تستند إلى جذر حكائي ذي طبيعة شعبية، يهمنا أن نثبته هنا أيضا لما له من أهمية في توضيح بعض مصادر القاصة :
( كاذية كانت حديث السهرات في مجالس أهل الباطنة. كنت أسمع اسمها يتردد على أفواه الرجال والنساء والصغار والكبار، ولم يتسن لي أن أحكي قصّتها إلا لحدثين وقعا لي أجبرني كل منهما أن أسعى لمعرفة كل ما تعلّق بهذه المرأة، وإن كنت أرى بأن شخص كاذية يشبه كل إنسان سار في طريق مخالف للآخرين. أما السبب الأول فهو حادثة ارتبطت باكتشاف جزء من جثّة عثر عليها أهل القرية أثناء حفرهم لوضع أساس بيت جديد، وأكّد الجميع أن هذه الجثة هي لحبيب كاذية الذي دفن في مكان مجهول. وقد رأيتهم وهم يعيدون صلاة الجنازة عليه ويدفنونه في مكان معروف في القرية، كأنهم ينصبون الجثة شاهدا على حكاية الكاذية في وجه كل من يدخل القرية أو يخرج منها، ويشعلون بها الكلام على كل لسان.
أما السبب الآخر فقد ارتبط بي بطريقة وثيقة وأغراني دائما شعرا ونثرا، وهو حضور مجلس جدي الممتد في سهرة طويلة يبدأ في كل ليلة بحكاية أو قصيدة أو أغنية أو حتى فك نزاع بين أهل القرية، وكان اسم كاذية حاضرا في كل مساء بمثل عنها أو بوصف لها أو برائحة تشبه رائحتها، أو ترحّم يتبعه قراءة صورة الفاتحة على روحها. )
( انظر، محمد العريمي، عبق الماضي الممزوج برائحة التجديد- قراءة في قصة كاذية بنت الشيخ للقاصة العمانية رحمة المغيزوي، موقع مدد mdaad. com)
والمهم أن حكاية هذه المرأة التي (زوجوها من رجل، وروحها مع غيره) فأحرقت في ليلة العرس يد زوجها عند محاولتها إحراق بيته قبل أن تقتل نفسها أو تُقتل، ويُقتل عشيقها من قبل إخوانها الذين قسموه نصفين (الأول برأس العرق والثاني ربك يعلم)، هذه الحكاية تحولت على يد رحمة المغيزوي إلى نص سردي مركّب متعدد بتعدد وجوه رواته وتنوع مداخله.
والملاحظ أن الجوانب الأسطورية والخرافية والشعبية المضافة إلى هذه القصة الواقعية هي نتاج الحكايات التي سمعتها القاصة في هذا المجلس من الغرباء أو الأجداد البعيدين، وليس من الأقرباء الحميمين. فحين تسأل الساردة الطفلة أمها، مثلا، عن حقيقة الكلام الذي يردده الناس عن تلك المرأة تجيب الأم: «حرمة من خرافات أجدادك.. الله يرحمها». في حين يذهب الناس في هذا المجلس وخارجه مذاهب شتى في رواية حكايتها مضيفين إليها، في كل مرّة، الجديد الممعن في غرابته ولاواقعيته.
فريحة هذه الكاذي من الجنة عند سعيد ولد البحر، وأن الله خسف الكاذي إلى غول يوم حرقت يد زوجها، حسب حميد الأصم، في حين نقلت عجائز الباطنة عن شريفة بنت الخير قولها عن الكاذي إنها حرمة لا من الجن ولا من الإنس، يأكل الطير من يدها، حرمة لبست (الثوب العود) ريحتها من الرويحينة وعطرها من الكاذي والمسك وشعرها من الليل والآس، حرمة حامل وما هي حامل يوم وضعت حملها كان الموت ولدها)، فيما تضيف العجوز صبحى:
– هذي الكاذي بنت الشيخ حتى القفّار ما وصل لطريقها يوم شردت مع عشيقها. خطواتها خطوتين خطوة من جن وخطوة من إنس.
أما ريا مخلفة مصبح فقد قالت:
– هذي الكاذي يوم مات عشيقها غرقت نفسها في البحر وصار شجرة يباب فيها روح كل مظلوم فروعها في الهواء وعروقها في الماء.. إلخ
وصورة الرجل القتيل عشيق الكاذي لا تقل إيغالا في الخيال عن صورة حبيبته، وإن كانت أقل تفصيلا منها. ولا غرو في ذلك فانشغال الناس به يأتي بسبب انشغالهم بالمرأة التي كانت تحبه. أي أن الاهتمام به لا يحصل إلا تكملة للصورة المرسومة للكاذي. و(خميس البناي) يقول عنه:
(- الرجل الأول لقيناه في رأس العرق، من سنين حفرنا نريد نبني بيت جديد،
وتحت لسان الكلب حصّلنا جسد آدمي من الصدر وما فوق وتحته غيلان الأرض تأكل التراب، وهذا مطلوب الكاذي وعشيقها. )
والمهم في حكاية كاذية بنت الشيخ هذه هو أن ارتباط الساردة بها وإحساسها بمأساتها يتجاوز في تعبيره ما يروى ويشاع من أخبار وتقوّلات ليدخل في أعماق المرأة، ويحيل حياتها وموتها إلى مطابقات شعرية تتلبّس حياة الساردة وتعيش معها وتستوي شانا شخصيا خاصا من شؤونها، وليس مجرّد خبر أو حكاية من حكايات المجالس وخرافات الأجداد.
وهي تقدم ذلك في مقاطع سردية منفصلة ذات إيقاع متميّز ولغة مختلفة في كثافتها ونغمتها الذاتية.
(من لي أن أعرف أنك وقود السهرات في كل مساء. من لي أن أعرف أنك ذاكرتي، ذاكرة الشمس المعلّقة في قدمي، وأنك رائحة الرويحينة الممتدة من المزارع إلى حقول الروح فينا. من لي أن أعرف عندما أحتل الزوايا الضيقة والأماكن الأقل إضاءة أنني أسكنك وأعيشك وأنني أستخدم أسلوبك في تضليل»القفار» بين خطواتك. من لي أن أعرف أنك تعيشين في أحاجي عجائز الباطنة وتموتين في خرافات شيوخ الباطنة، وأنك بين الأحاجي والخرافات تتنفسين في ذاكرتي. )
(رحمة المغيزوي، كاذية بنت الشيخ، دمشق، 2008، ص137 وما بعدها)
وهذا التعاطف، وحتى التوحّد أو التماهي بين الساردة وأبطالها وبطلاتها الخارجات على قانون العشيرة وأعرافها بهذا الشكل، يظل سمة من سمات الكتابة القصصية عند رحمة المغيزوي، سواء في مجموعتها الأولى( كاذية بنت الشيخ) أم مجموعتها الثانية (سفر المنامات). وهو لا يتبدى فقط في إحساس المشاركة الواضح بين الساردة وبطلتها، وإنما أيضا في طبيعة اختيار القاصة لنماذجها الأنثوية الممتحنة بوجودها ورغباتها المصادرة والمقموعة بسبب سيطرة الرجل وتحكّمه بحياة المرأة واختياراتها.
وصورة كاذية في القصة المتقدمة تتكرر، مثلا، في (شوق) المرأة العاشقة والمعشوقة التي تلقى المصير نفسه، فيما يبقى عشاقها يعيشون على ذكراها (يمارسون اشتهاءها)، كما تقول الساردة في قصتها (ذات مساء.. حين رقصت شوق) من مجموعتها الثانية (سفر المنامات).
ومقارنة بسيطة بين هذا المقطع الاستهلالي الذي تقدم فيه الساردة صورة أولى لبطلتها الجديدة، والمقطع السردي الذي تقدم ذكره، يمكن أن تعطي القارئ فكرة عن هذه الطريقة التي لا تستطيع فيها الساردة أن تحتفظ بمسافة ما بينها وبين بطلتها، مهما كان اسم هذه البطلة وطبيعة الظروف التي أسهمت في صنع مأساتها. فذات الساردة الهشة وغربتها وشوقها الجامح إلى بطلتها لا يجعلها، كما تقول، بعيدة عمن تتحدث عنها وتروي حكايتها :
(كان اسمها شوق، وكانت راقصة.. بدايات شوال وفي ليالي العيد كانت ترقص ومعها يرقص القمر والنجوم والليل وذاتي الهشة وغربتي وشوقي الجامحان إليها أمام خالد الساكن في وسط الرجال في ذلك المساء. ما أذكره جيدا أني رأيتها ترقص بتلهف باتجاه المجهول الذي لا تحدده إلا نظرات عيونها الثاقبة، وذلك بالذات ما جعلها صورة صامتة في ذهني حتى بعد أن زرت المقابر هذا اليوم وشممت رائحة السكون الأخير على جسدها) (حين رقصت شوق ذات مساء، ص29)
والساردة في حكاية (بنت السكل) من قصص المجموعة الأولى، تبدو أكثر ضبطا والتزاما بالمنهج الشفاهي المكتفي بإيراد الحكايات والأخبار الدائرة في القرية عن هذه المرأة التي كبرت بعد موتها، والتي لم تكن تكبر في حياتها، وأن الزمان لا يمر عليها، لأن نسبها يتصل بالجن، وأن أحد طيور الجنة قد دخل حين موتها بين النعش والكفن، وأن صوتا مجهولا قد سُمِع يقرأ عند قبرها بعض الآيات القرآنية. وغير ذلك من أقوال وإشاعات تجعل حكاية سليمة بنت مطر الملقّبة ببنت السكل مختلفة بعض الاختلاف عن نساء المغيزوي الأخريات من اللواتي تلاحق الفضيحة اٍسماءهن وتلوك ألسن أهل القرية سيرتهن في الحياة والموت. (انظر، قصة روايتان في سيرة بنت السكل، ص157)
بينما تبدو قصة (بنت) من المجموعة نفسها أقرب إلى صورة الذكريات العائلية التي نجحت القاصة في أن تصوغ منها حكاية نابضة بالحياة والحركة. إنها صورة الأم والبنت الطفلة غير المحظوظة التي تأتي بعد عدد كبير من البنات. يهرب الأب كالعادة نحو زوجة شرعية أخرى بحجة أن زوجته الأولى لا تلد غير البنات اللواتي بلغن تسعا، فيما تتمسك الأم الأولى بابنتها الجديدة مرددة، وهي تهدهد البنت، الأغنية الشعبية التي تذهب فيها الأم إلى تفضيل البنات على الأولاد.
(طلبت بنيّة وجيت أنت، طلبت بنية وجيت أنت، عطية الله ودومي يا عطية الله، يا النفّاعة يالبنت يا النفاعة، فرحة ساعة، وولد لفرحة ساعة، وأحسن من الصبي، والبنت أحسن من الصبي، بشارة في كل ساعة، حبيبة لي، وانت يا حبيبة لي… )
( قصة بنت، من مجموعة كاذية بنت الشيخ، ص29)
وسنرى فيما بعد أن هذه الطفلة الصغيرة المسماة (وردة) ما هي في الواقع غير الحفيدة الصغيرة التي تهدهدها الجدة، بعد أن هربت (وردة) الأم الحقيقية واختفت عندما أجبرها الأب على الزواج من ابن أخيه (القرد) الذي لا يفهم شيئا في الورود.
قصة جميلة ومؤثّرة، فيها شيء من التكامل والتكثيف السردي الذي يمزج الواقع بالخيال، والتاريخ القديم الجميل بالراهن الحاضر المؤلم.
وفي هذه القصة نستطيع أن نرى كيف تلعب متوالية التكرار في الأغنية الشعبية الشائعة دورا في نمو الهيكل السردي للحكاية، وتوالد الأفعال الواقعة بين ذكر الكلمة لأول مرة واستعادتها، على نحو يعمل على حفظ السياق السردي واستمراريته، والعودة به إلى نقطة انطلاقه الأولى، عن طريق هذه البنت الجديدة في اسمها وصورتها التي تعيد الى الذاكرة صورة الأم الأولى وتقدم، في الوقت نفسه، البديل عنها.
2- هدى الجهوري:
(نميمة مالحة)..
لغة الحكايات الأولى أو لثغة الطفولة والحنين
حينما أهدتني هدى الجهوري مجموعتها القصصية الأولى (نميمة مالحة) قالت فيها إن (النميمة هي امرأة تخشى أن تموت وفي فمها حكاية). والقاصة تبقى، بهذا، أمينة على الدور الذي اخطته الأنثى لنفسها من عمل جوهري يقوم بنقل الكلام وتحديد مصير الذات المتكلمة على أساسه. وهي هنا تواصل العمل ذاته الذي قامت به خدينتها وسابقتها الشهيرة شهرزاد التي لم تكتف برواية الحكايات لأغراض التسلية وتمضية الوقت، وإنما أيضا دفاعا عن نفسها وبنات جنسها ضدّ طغيان الرجل وتسلطه وشكّه وسوء فهمه لشريكة حياته ونصفه الآخر.
غير أن (النميمة) التي تحملها هذه المجموعة في عنوانها ليست حكاية بريئة. فهي لغةً تعني (التوريش والإغراء ورفع الحديث في وجه الإشاعة والإفساد وتزيين الكلام بالكذب)، كما جاء في لسان العرب. أي أنها حكاية خاصة تتصف بقدرتها المذهلة على التداول الاجتماعي والانتقال القصدي الحذر من أذن إلى أخرى.
ولعلّ إضافة الملح إلى الحكاية ووصف النميمة بـ(المالحة) يتضمن إشارة مزدوجة للخروج من (الفساد) الذي يلحق بالحكاية حينما تتحول بهذا الشكل إلى (نميمة)، في نفس الوقت الذي لا يمكن فيه للحكاية أن تكون موضوعا صالحا لبنية سردية فاعلة ومؤثّرة ما لم تتحول إلى (نميمة) مغطاة بملح الحياة والواقع الاجتماعي الممهور بأسلوب القاصة وطريقتها المميّزة في السرد القصير القائم على (تزيين) الكلام بالكذب. ولكنه الكذب الفني غير القابل للفساد لوجود هذا الملح. أي أن فساد المتن السردي للحكاية أو إفساده داخل حاضنته الاجتماعية الأولى يبقى شرطا لصحته وحياته في مبناه الحكائي الجديد، أو حاضنته السردية التالية.
ولعبُ القاصة على هذا النوع من المفارقات هو الذي يصنع الطعم الحريف لنصوصها، ويحولها أو يحول عددا لا بأس به منها إلى أعمال فنيّة مؤثّرة، وليس إلى مجرد مدونات ووثائق اجتماعية محكيّة. ونحن نقول ذلك مع معرفتنا بأن هذا النوع من النصوص يبقى موحّدا لا يقبل التحليل أوالقسمة إلى اثنين.. شكل ومضمون أو دال ومدلول، لأن هناك، في حال من هذا النوع، خطرا في أن تتحول الحكاية من جسد حي إلى جثة هامدة خالية من الروح.
وهو جسد يتمثل في هذه العفوية وهذا الصدق الذي يترقرق تحت الإهاب الموحّد للعبارة، والإيقاع الداخلي والخارجي المستند إلى مجموعة مدهشة من الصورالمجازية والاستعارية والكنائية التي تملأ صفحة النص القصصي بعلامات بلاغة مؤنسة، على الرغم من الخصوصية الدلالية لهذا النص واختناقه بعزلته الأنثوية المغلّفة بالنميمة وفساد الحكاية.
وما يبدو مدهشا في نصوص هدى الجهوري هو أن هذه (النميمة المالحة) مرتبطة عندها دائما بعالم الطفولة. وهي طفولة تبدو كما لو كانت خالدة نشعر معها أن الساردة كانت امرأة ناضجة في صغرها، مثلما تبدو طفلة صغيرة في نضجها. وكأن مراحل الحياة توحّدت أو توقفت لديها عند لحظة زمنية معينة لا تريد أن تفارق طفولتها، وعند طفولة تجاوزت زمنها، وجعلت من العين المندهشة، والمخيلة المتوثبة، والوعي غير المؤطر بحدود ثابتة ونهائية، طريقها إلى معرفة العالم ومقاربة الأشياء واكتشافها بالمشاكسات الطفولية، وبالحكاية والنميمة المتفرعة عنها. وهو ما يجعلها غير قادرة على (التخلّص من دهشتها بالأشياء) كما تقول في قصتها المعنونة (حين تأكلني المدينة).
وهو كذلك ما يجعل طريقة روايتها وتأويلها للحكايات لا تخلو من توهّج وحياة وحركة، على نحو لا يصبح مضمون الحكاية وتطورها وتتابع أفعالها السردية مهمّاً قدر أهمية روايتها وشكل كتابتها. والساردة تستعيض أحيانا بذكرى الحكاية والفضاء السردي الذي يغلّف وجودها في القرية عن تفاصيل الحكاية نفسها. فالمهم هو وجود الحكاية جسدا وظلا وبنية عميقة راسبة في قاع القصة. والساردة، ببساطة، امرأة تعيش على الحكايات التي سمعتها وعاشتها هناك، ولا تستطيع الاستمرار بدونها، بل إنها تخشى أن تموت وفي فمها حكاية، كما مرّ معنا آنفا.
تبدأ القصة السابقة التي تتحرك بطلتها داخل المدينة بعيدا عن القرية هكذا:
( لا شيء يسندني الآن أشعر أن الخيبات تتقاذفني، والوقت السمين يدوس رئتي ويمضي بكل ثقله. أشعر أيضا بالفقد لأشياء كثيرة لا أعرفها أستدل عليها بهذا الحنين الحامض الذي يتصاعد من أعماق روحي.. لا أحد الآن يضيء الحكاية المطوية بعناية في أجنحة الأنبياء، ولا أحد يمد أطرافه ليفرقع النهارات الحارة بالمقالب والضحك.. أفكّر الآن لماذا شربت القهوة مساء هذا اليوم ربما لأني كنت بحاجة إلى أن أشمت بكل شيء حولي، وأنا أتقاسم فناجين القهوة مع جارات أمي اللواتي يبادلنها الابتسامات الساذجة…
افكر الآن بأغنية لعبد الحليم حافظ.. أدندن بها، أكتشف أن صوتي يتسلق الجدران الموحشة، أشعر أيضا أن حواسي تتقد كالمصابيح، أحاول أن أطفئها بأن أعدّ الخرفان التي تقفز السور الوهمي في ذاكرتي، لكن النوم يفرّ مني كما تفر حكايات جدتي من الخرف الذي أصابها منذ سنتين.. كم هي مؤذية فكرة العودة إلى المدن وترك ترف القرى خلف ظهري، الإجازات القصيرة ليست كفيلة دائما بالاسترخاء في القرى البعيدة لا حذر هناك ولا وخز ولا أسئلة تنفخ رأسك فقط هي القهوة التي تديرها نساء القرية مع النمائم اللذيذة… )
( قصة حين تأكلني المدينة ص82 من مجموعة نميمة مالحة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت 2006)
المكان إذن هو القرية، والزمان هو الطفولة، والموضوع هو الحكاية أو الحكايات اللذيذة المصابة بآفة النميمة.
هذه هي، بشكل عام، الخطوط الرئيسة التي تتحرك نصوص هدى الجهوري على ضوئها، وبهديّ من علامات حكاياتها القروية المؤنسة.
ووجود الساردة في المدينة بعيدا عن القرية وحكاياتها لا يعني لديها سوى تحوّل مؤلم، عليها أن تتحمل ثقله وأوزاره طوال الوقت. بل إنه يجعلها تشعر أحيانا أنها (امرأة تقف على الحافة وبلا ظل.. قليل من الصدق سيفتح عليها فوهة كارثة.. وأنها مكشوفة تسير في الطرقات وهي تتلفت كي لا يلاحظ أحد أنها امرأة بلا ظل)، كما تقول في قصتها (الحكاية الشحيحة.. هل تكفي اثنين؟).
وهي أحيانا تشعر أنها بحاجة إلى (اختراع عين ثالثة) تختلس بها النظر الى التفاصيل التي (تخشى أن يرجمها العطب) في الناس والأشياء، كما تقول في قصة أخرى هي (امرأة ترعى قطيع الحب خفية).
وكأن العينين الطبيعيتين لا تكفيان وحدهما، ولا تتسعان لرؤية المزيد من الحكايات التي تحدث على سطح الواقع في كل لحظة داخل المدينة، حيث تحاول القاصة (التخفف من البشر الزائدين كي لا يعيقوا حركتي وأنا أنصت لصوت النميمة) كما تقول في مقدمة المجموعة.
أي أن هذه (العين) داخلية طالما كانت قادرة على أن تتحول إلى (أذن) أخرى تتسمع الساردة بواسطتها إلى (صوت النميمة)، مثلما تتحول الأذن إلى عين ترى وتسمع ما لا تستطيعه الأذن الاعتيادية ضمن قانون هذا النوع من التلقي الشعري الذي يتحول فيه الجسد بكل حواسه إلى مركز استقبال للذبذبات القادمة من مراكز الإرسال الحكائية في القرية والمجتمع في منطقتها، بشكل عام.
وحين تُحاصر الساردة من الداخل بحاجات جسدها وشوقها إلى حبيبها الغائب، أو من الخارج بأشياء عارضة كحادث سيارة (منحوسة) يقع لها في الطريق، فليس لها من مهرب سوى ذاكرة القرية التي تعمّر رأسها، وإلى الأم التي تبقى مَفزَعا وملاذا أخيرا (تجذبها إلى صدرها وتمسح على رأسها بحزن كبير) بعد أن كانت هذه الأم قد حذّرتها من هذه السيارة ومن (ساعة النحس التي تجلب معها كل الأشياء المؤذية دفعة واحدة)، كما جاء في قصتها (ضوء).
وقد يكون ذا دلالة خاصة أن نذكر هنا أيضا أن وجود الأم رغم خفته في هذه المجموعة لا يقارن بوجود الأب الغائب أو الذي لا يملك غير ظل خفيف جدا بالقياس إلى وجود الأم.
كما أننا نرى الساردة تمارس ألعابها الطفولية مع الذكور أكثر مما تمارسها مع الإناث. والإيحاءات الجنسية الخفيفة التي تواجهنا في تلك العلاقات الطفولية في القرية تتحول إلى مشكلات حقيقية ثقيلة مع الحبيب أو الزوج في المدينة عند زمن نضج الجسد واكتمال الأنوثة. وهو أمر يخلقة الفرق بين براءة القرية والدنس الذي يلحق بروح الساردة في المدينة، واللعنة التي تترتب على الإقامة فيها.
والمشكلة تظل متصلة دائما بالحكاية:
(لا أحب أن أغلق فمي والحكاية نائمة..
أدور في حلزونة الوقت دون أن أتخلص من لزوجته.. هناك الكثير من الخيبة تأكلني وليس لدي مبررات كافية، لا أريد الآن أن أحصل على المواساة أو أن أجتث شفقتك أو حبك، أنا فقط بحاجة إلى الكلام.. ولست مهتمة كثيرا بما سأقول وبما سترد، ولكني أحاول الآن الخروج من هذه الكآبة.. أنا أفقد نفسي ورقة ورقة في هذا الخريف المرهق. )
(قصة اللعبة حين تدار في الخفاء، ص9)
وكل ذلك يحصل في المدينة..
أما في القرية نفسها فالأمر مختلف، لأن الساردة تكون حينئذ وسط عالمها الخاص وجنّتها الأرضية المفروشة بآلاف التفاصيل والمشاهد والحكايات القديمة التي تُطل برأسها على كل شيء من حولها، على نحو يجعل من المماثلة بين الحياة والسرد موضوعا أساسيا وشائقا في بناء المجموعة، ويحيل الحياة فيها إلى حكاية أخرى مليئة بالنميمة التي تسري في عروق القصة لتمنحها حياة جديدة، أو مستوى آخر يفوق ذلك الذي يمكن أن تمنحه الحياة نفسها لأولئك المبرّئين من جرثومة هذه النميمة، وعدواها التي تشدّ قلم الساردة ومخيّلتها إلى زمن، وفضاء آخر مختلف في إيقاعه عن إيقاع المدينة وحياة أهلها.
في قصتها (على رأس جني) يبدو عيسى الآتي من عالم الطفولة البعيد عن حاضر الساردة، قريبا إلى الحد الذي تبدو (أنفاسه كعبق البخور، وصوته يخرج من كهف بعيد كالتعاويذ).
مشكلة صديق الطفولة هذا الذي (يستفيق) في الساردة على نحو قدري فتستعيد حياته أو حياتها معه قبل أن يصاب بمرض غريب جعله (متخمرا كالفطيرة في فراشه).. مشكلته أنه (بال تحت شجرة النبق على رأس جني). ولهذا كان على أمّه (ريّه) أن تقدم القرابين إلى شجرة النبق علّ الجن تغفر خطيئته. في حين ظلت البطلة تشعر بالخذلان لأن لها دمية صغيرة (اتفقنا على أن نتبناها معا ونصبح أبا وأما صالحين، لكنه خذلني وترك الصغيرة في حضني وحيدة).
(صديق طفولتي كنا نلعب معا، ونأكل النبق سوياً، وحين تشتد حرارة الشمس نسترخي بجسدينا في بركة صغيرة تدار مياهها في أفلاج متعرجة لتسقي أشجار الموز.. كنا نتحدث عن أحلامنا بشهية، وكنت لا أمل ثرثرته عن مشاكساته الطفولية)
وبعض هذه المشاكسات الطفولية لا تخلو من إيحاءات جنسية، كما ذكرنا: (اليوم انتبهت له وهو يعبرني ليحرض فيّ ثورة أو بكاء، هذا عيسى جاء ليمشط أرجوحة قديمة علقناها على شجرة النبق. كان يدفعني في الهواء وهو يضحك أخبرني بأن أغمض عيني وكلما ارتفعتُ ولامست سقف السماء أسرق نجمة وأدسها في فمي قال إن لها مذاقا يشبه طعم القبلات..
(عيسى منهمر عليّ ببلادته كالجوع، وعيناه تتسلقان جسدي الذي انفلت من شرنقته بسرعة، أنفر من تجسسه المزعج، أتابع سيري ولكنه ظل يعبث بسرة جنوني ليدغدغ عيسى الصغير النائم تحت أظافري وأنا تنتابني خشية أن يستيقظ عيسى على خارطتي لم تمنحه وطنا معافى). (على رأس جني، ص78-79)
وسنرى أن هذا النوع من المشاعر والمشاكسات الطفولية البريئة التي تحدث في القرية تختلف عن ألعاب الكبار التي (تدار في الخفاء) في المدينة، حيث الحوار الذي يجري بين حبيبين في لحظة فاصلة من حياتهما (لحظة زفاف الحبيبة إلى رجل لا تحبه ولا ترغب فيه) يبدو جارحا ومؤلما.. حوار متقطع رغم تواصله.. نوع من البث والنزيف الداخلي الذي يداخله حديث الذكريات وأغنية أم كلثوم (فات الميعاد).
لا توجد في هذا الحوار فواصل ولا وقفات طويلة ولا أحداث غير تلك التي مضت وانتهت إلى عالم الذكريات. ولذلك، ليس هناك تقدم في السرد نحو الأمام ولا حركة باتجاه ذرى وأفاق جديدة. نعم ليس غير هذه الحركة المتراجعة إلى الوراء أو الواقفة في محلها داخل نقطة تجمع ماضي الشخصية وحاضرها ومستقبلها في نقطة واحدة. إنه (منولوغ) داخلي وليس(ديالوغا) خارجيا، يجري مع ذات واحدة وليس بين أصوات أو ذوات متعددة.
تقول المرأة في هذه القصة أو (اللعبة التي تدار في الخفاء):
(حاول ألا تضع عينك في عيني لمحاولة التأكد من شيء ستفر دمعتي بسرعة ولن تستطيع اللحاق بسقوطي من الغيم! حاول أيضا أن لا تتعلم كيف تنتف الكلام من صدري كما تنتف عادة لحيتك.. كنت طوال حياتي أكره الرياضيات والفيزياء.. تلك الأشياء التي تهتم بضبط الارتفاعات والحسابات وكنت أنت بارعا بتصيّدي بهذه المعادلات الصعبة.. تنتظر فقط أن تضاف نقطة أخرى لرصيدك المدخر للسخرية البلهاء دون أن تدري أنك تخسرني وبشكل نهائي.. )
ويقول هو: ( ستخسرها بشكل نهائي!.. كان أكثر ما تبغضه (ياسة) أن أذكر لها قصص الحبيبات.. كانت تقول لي ليس من النزاهة أن يكون هناك جمع لكلمة حبيبة.. قد تأتي حبيبة وعندها تنقرض كالديناصورات يمكن أن تدخل حبيبة أخرى.. الحبيبات لا يأتين دفعة واحدة..
الملعونة كانت تدفعني لأن أصدقها.. كانت تقول لي أشياء كثيرة وكنت أصدقها وأعلق نفسي على سطح وشوشاتها المثلجة.. تلك المرأة الوحيدة التي دفعتني لأن أسبها وأشتمها بقدر حبي لها.. الملعونة.. ) – (نميمة مالحة، ص 18 )
وبين القولين ليس ثمة، كما يبدو، مكان لإجراء مصالحة بين هذه الذوات المستوحدة في غير هذه اللغة المتقطّعة التي تستمر الساردة فيها برشّ الملح على نمط حياة وعلاقات لتتحول هي الأخرى إلى نوع من النميمة التي لا تقبل الفساد بسبب وجود الملح فيها.
وفي قصتها (معصوبة العينين إلى البحر) نقع على ما يشبه مرحلة جديدة وشكل آخر في علاقة المرأة الساردة مع الرجل. فهي تُقاد معصوبة العينين إلى البحر حسب ما تقتضيه التقاليد بعد انتهاء (عدتها) التي أعقبت وفاة زوجها. والغريب في الأمر أن موت الزوج هذا الذي مضى عليه أربعة أشهر وتسعة أيام لا يبدو كافيا لخلاص البطلة من الآثار المدمّرة لعلاقتها به. ولذلك فإن الذهاب إلى البحر لا يمثل بالنسبة إليها طقسا اجتماعيا اعتادت النسوة في قريتها على ممارسته في مثل هذه المناسبة، وإنما لغسل جسدها من بقايا ذلك الزوج والبدء بمشروع زواج آخر مع الطبيعة التي يمثل البحر رمزا لا نهائيا من رموزها.
(غدا سأذهب إلى البحر معصوبة العينين لأغسل جسدي من بقاياك عليه، ولأمتطي صهوة النسيان.. سأعود عروسا بثوب أبيض، وسأستبدل طرحتي بتلك العصابة التي ستحكم قبضتها على عيني. ستقودني النسوة عروسا الذي سيغتالني بملوحته حين يدغدغ أصابع قدمي لأضحك، ورغوته ستمسد شعري المكشوف للشمس، سأنام على عري موجة وحيدة مثلي، وسألقي ثيابك، وعدة حلاقتك، وإزارك الذي أودعته تحت رأسي برفقة الملح والمجز الحاد الذي يبعد عني الأرواح الشريرة، كما سأتخلص من فراشنا المشترك، وسألقي بك في عين البحر لترمد) (نميمة مالحة، ص61)
ونحن لا نعرف عن هذا الزوج سوى أنه أربعيني ومتزوج من أخرى حين اقترن بالساردة التي لم تتعد الثامنة عشرة من عمرها، وأنه ما كان يحب الغربان، لأنه كان يعتقد بأن غرابا ما سيأخذ روحه في منقاره ذات يوم. وأن والد الفتاة حين اكتشف (الجنون) المبكر لابنته قرر أن يزوجها برجل (عاقل وكبير) ليخفف من نزقها وجنونها دون أن يدري أنه يطفئها باكرا في سرير بارد ويدفنها في مقبرة رجل ينام باكرا ويصحو باكرا ليغادر إلى عمله قبل أن تستيقظ الغربان، كما يرد على لسانها. (ص64)
هكذا تم زواج البطلة من هذ الرجل الذي كان يكبر طفولتها بعكاز، كما تقول؛ لأن الفتاة التي لا تتزوج باكرا سترتكب فضيحة. وهي تشعر الآن أنها صغيرة ايضا على هذا الحزن الذي يريدونها أن تدخل فيه بعد وفاة زوجها، مع أنها فرحة باستعادتها نفسَها حين تركت كل ما انتهكه زوجها معها من مسرات جسدية لم تُجِد التفاعل معها، ولم تفلح في غير تركها عين البطلة مفتوحة باتساع دهشة. (ص67)
والمشهد الأخير الذي تقاد فيه البطلة معصوبة العينين لتواجه البحر يستحق أن يُروى هنا لأنه يمثل نوعا من الاستعادة الخيالية للقاء المتخيل مع الزوج الحقيقي، بعد فشل الزوج في إشباع رغبة الزوجة بالاقتران الجسدي الأول، بكل ما يعنيه هذا الاقتران من أبعاد رمزية عاطفية وجنسية طاغية، فيها حركة متدرجة وتصاعد للفعل، ومشاركة وصراع وموسيقى وإشارات رمزية لا حصر لدلالاتها :
(أنا الآن أتزوج البحر، وهو يحاول استلطافي. أشعر به ينحسر ثم يندفع بولع إضافي صوبي، يتسلق أقدامي، وأنا أتجه صوبه بخطوات خائفة، أتعرّى من ثوبي الأبيض.
أرخي نفسي على صدره لأسمع صوت أنفاسه المتعالية.. تركت شعري ينبت على زبده، ورغوته تخضّب يدي بالحناء. اقترب مني وأنا بعد معصوبة العينين أستعين باذني وجسدي لأشعر به.
كانت القبلة التي تركها على فمي مالحة ولذيذة أغوت صدري المكشوف على الانغراس أكثر فيه. أنا أنتشي وجسدي يغريه هذا التدافع لدرجة أن العصابة بدأت ترتخي على عيني. هكذا يفعل الأزواج عادة وهم يرفعون الطرحة عن وجه العروس.
العصابة تسقط وعيناي ما تزالان مطبقتين بالحلم.)
(نميمة مالحة، معصوبة العينين إلى البحر، ص70)
وسقوط الغراب في البحر في نهاية المشهد كـ(تفاحة ناضجة) حسب تعبيرها، لا يمثل فقط نهاية هذا الحلم بدلالته السايكولوجية التعويضية الواضحة، وإنما هو يعيد الفتاة إلى رشدها ويشدها مجددا إلى مأساتها الواقعية المتمثلة بموت زوجها الذي كان الغراب رمزَه وعلامة من علاماته، فضلا عما يحمله ذكر التفاحة الناضجة من إشارة ورمز إلى الخطيئة الأولى.
والمهم في كل هذا أن الأساس الرمزي في الحكاية سواء أكان متمثلا بالغراب الذي أخذ روح الزوج، محولا حلمه ومخاوفه الذاتية إلى وقائع عملية قاسية، أم في هذا التماهي والامتزاج الذي تمارسه الزوجة مع البحر، يبقى حاضرا في القصة، لاعبا دور المولّدة السردية في بناء القصة منذ بدايتها الأولى حتى النهاية.
أما في قصتها (صرار)، فإن الانحراف الذي تدخله الساردة على الحكاية أو التقليد الشعبي الذي يمثل موضوع هذه الحكاية، هو الذي يهب هذه القصة طرافتَها، وحيويتها البالغة، ودلالتها المدهشة، وعنصر السخرية فيها.
موضوع القصة هو امرأة تحاول أن تحتفظ بـ(صرار) طفلها الوليد لتضعه، بعد سقوطه من بطن الطفل، في المكان الذي تختاره لمستقبل هذ الطفل، حسب التقاليد المتبعة في منطقتها. وهي تحرص على هذا الاعتقاد حرصا بالغا بعد أن رأت بأم عينها كيف أن بعض معارفها في القرية حققن أحلامهن بضمان مستقبل أبنائهن وفقا لهذ التقليد.
فهي تذكر، مثلا، ام عبود التي احتفظت بصرار ابنها لزمن طويل في درج سري من أدراج غرفة نومها، وانتظرت بشوق مجيء الوادي ثم قذفت به بكل ما تملك من قوّة كمن يقذف بسر كبير إلى غيب النسيان، لاعتقادها بأن ابنها سيصير مثل هذا الوادي نشيطا وقويا. وبالفعل أصبح (عبود) كما تقول الساردة (رجلا قويا كلما مرّ من أمامي أشعر بأنه واد جارف يستطيع أن يأخذ كل شيء معه).
( صرار، قصة خارج المجموعة قرأتها القاصة لدى مشاركتها في القراءات القصصية التي أقيمت في سوق صحار الأدبي عام2009).
وهي تذكر كذلك ما فعلته امرأة أخرى من معارف طفولتها وهي (أم عليوي) التي لم تنتظر بعد ولادتها مجيء الوادي ولم تشأ أن يكون ابنها نشيطا وخارقا للعادة مثل عبود، وإنما عمدت، في السر، إلى عمل حفرة صغيرة بجانب مسجد القرية ودفنت فيها الصرار وأهالت التراب وداست عليها لكي لا تنبشها خطوات المارين للصلاة. والساردة التي تابعت أم عليوي وكشفت سرها عرفت بعد زمن طويل لماذا انحنى رأس ابن ام عليوي هذا إلى الأرض وهو ينقاد إلى الصلاة بخشوع غريب، كمن ينقاد إلى قدره أو إلى حكاية تخصه، وكيف كان يجلس بعد الصلاة زمنا إضافيا يقرأ القرآن.. انحنى رأسه كثيرا وكأنه يفتش عن تلك الحفرة التي سقط فيها جزء من جسده إلى درجة أن الناس تناسوا «عليوي» الصغير وتذكروا الشيخ «علي» وبركاته.
وكل ذلك يؤكد عزم الأم الشابة واعتقادها، وهي تفكر بصنع مستقبل ابنها الوليد بطريقتها الخاصة، (أن الأمهات لا يربين الأطفال وحسب، بل يربين تفاصيل الحكايات التي لا يتأخر مجيئها كثيرا..
( ربما عرفت أم عليوي أن سرا آخر للحياة يمكن له أن يبدأ من قطعة اللحم الصغيرة والمتعفّنة تلك.. ربما عرفت أن روحا أخرى ستنبثق فيها.. وأن الحظ والخطوات سيتغير مسارهما كيفما تسنى لنا أن نتقن اختيار المكان الذي نزرع فيه جزءا من جسدنا.. ).
ولذلك فقد كانت هذه الأم الشابة حريصة على كتمان سرها الصغير وتنتظر أن يأتي زوجها من سفره البعيد لتطلب منه أن يذهب إلى العاصمة ويزرع « صرار» ابنهما بالقرب من كلية الطب أو الهندسة، لأن الرائحة التي تنبعث من قطعة اللحم الصغيرة والمدفونة بسرية تامة ستجلبه ذات يوم إليها، لا شيء كتلك الرائحة سيدله على خطاه، ولا يمكن لأي منا أن ينفصل عما يخصه من تفاصيل..
وما حصل بعد ذلك لـ»صرار» الطفل شيء لم يكن بالحسبان، والساردة ترويه لنا في نهاية القصة هكذا:
(لم يخرجني من نشوة الفرح بتلك الفكرة إلا بكاء طفلي.. قربت أنفي من حفاظه فانبعثت رائحة كريهة بتّ أعرفها جيدا.. كان لا بد من أخذه للحمام للتبديل.. لذا حملته بين يدي.. أزحت الحفاظ المبتل والملوّث.. فتحت صنبور الماء.. مررت يدي لأغسله.. فانفلت الصرار من جسده دون أن أنتبه.. حاولت الإمساك به إلا أنه تسارع راكضا مع الماء.. ولم أفق من ذهولي إلا على صوت وقوعه في البلاعة.. )
والأمر في هذه الخاتمة العجيبة لا يحتاج إلى تعليق، فيما أظن، ليس فقط لما يتضمنه من خيبة أمل وشعور باليأس والخذلان، وإنما أيضا لما يتضمنه من طرافة وسخرية عميقة بهذه التقاليد القروية البالية من شأنه أن يقلب ثيمة الحكاية ويحرّف منطقها، ويضيف إليها ملحا يحولها إلى مجرد نميمة فقدت فعاليتها وقدرتها على التلاؤم مع الزمن الجديد في المدينة.
أما قصتها الثالثة (صوت) فتختلف بعض الاختلاف عن أغلب نصوصها الأخرى، ليس فقط لأنها لا تعتمد على جذر حكائي صريح، وإنما أيضا لأنها تجسد أكثر من غيرها المزايا الأسلوبية الأكثر قوة وقدرة على عكس مدى إمكانات اللغة السردية بما فيها من بلاغة خطاب، وجماليات مخيلة حكائية لا حدود لغناها الشكلي والدلالي.
موضوع هذه القصة هو(الصوت) الذي تحاول الساردة من خلاله قراءة إيقاع بعض الشخصيات وأشكالها والكشف عن دواخلها وملامحها النفسية عن طريق أصواتها، بما تنطوي عليه هذه الأصوات من (ألوان، وطعوم، وحجوم، وروائح) وغير ذلك من صفات تعتمد التنويع في الأحاسيس والتداخل في الصور.
والقاصة تلجأ في ذلك إلى نوع من التوسع في الصور الاستعارية والمجازية المتصلة بحركة الذهن وإدراكه لكيفية التجوّز والعبور من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، اعتمادا على عفوية الإحساس وما يتصل به من تراسل بين الحواس، والمخيلة الحرة غير المقيّدة بقواعد وقوالب أسلوبية وبلاغية مقررة سلفا.
فهي مهووسة بالأصوات وتشعر بالخوف من (صوت الظلمة) وتود لو تعرف (لون) صوت أمها، وتمد إصبعها إلى لسان هذه الأم لـ(تتذوق) صوتها، وتشم (رائحة القرفة) في صوت أختها الصغيرة التي حاولت البطلة (إشعال صوتها) واستبدلته مرة برائحة ( شمع يذوب)، وكيف أنها (= البطلة) كانت تشعر بأن (رائحة) صوتها أصبحت نتنة كرائحة (قبو قديم) بعد أن مرت بمرحلة كانت تدرب صوتها فيها على أن تصبح له (رائحة ضوء)، وهي تتذكر في مكان آخر ذلك الخياط الهندي الذي نسي صوته في الهند وجاء بـ(فقاعة تبقبق في فمه) بدلا من اللسان… إلخ
والبداية في هذه القصة تكون مع المدينة، حيث تحاول الساردة أن تتغلب فيها على الحركة التي (تديركعبها العالي على راسي: عقارب الساعة.. الضوء.. السيارات التي تقطع الشارع المجاور لبنايتنا..
أحاول جاهدة أن أعطل هذه الحركة لكن أصواتها كالأبخرة أو كصداع في الرأس. هذه الأصوات هي نفسها أصوات الأصدقاء حين تندس أنوفهم الكبيرة في حكاياتي، هي نفسها أصوات الأطفال الذين يشجرون الشارع بلعب الغميضة، وهي أيضا أصوات النساء اللواتي يعلكن النميمة ثم ينفخنها كبالون صغير يفرق الحارات المجاورة..
الأصوات طويلة كالنخل تشعرني برغبة هائلة في أن أثقب رأسها برصاصة! في أحيان كثيرة ألصق يدي على عيني وأصرخ : اصمتوا.. أصواتكم تجعلني أحب وأخاف وأبكي وأصفع الهواء بقدم القهقهة.. لكنني أكتشف دائما أن صوتي يرتجف ولا يدحرج كلمة.. ). (نميمة مالحة، ص97 )
وأصوات المدينة هذه التي تضايق الساردة وتدفعها إلى الصراخ، سرعان ما ما تنزلق بذاكرتها نحو القرية وأصوات الأشياء والناس فيها بدءا من الصوت الأمومي الحامي مرورا بأصوات الأخوات وأبناء الجيران، والرجل الذي طلب يدها أول مرة من أبيها وكان صوته (مغلقا لا تتسلل منه الشمس، لكنه يجيد دهنه بالأصباغ).
3 – بشرى خلفان:
رفرفة الطائر الخائفة خارج العش
حينما قرأت ( رفرفة )* بشرى خلفان أول مرّة، شعرت بخفق أجنحة هذه المرأة العمانية الشجاعة التي ضاقت بأشواقها وثقل عواطفها، فحاولت أن تطير خارج وكر التقاليد الاجتماعية الضاغطة، جاعلة من الكلمات في القصة القصيرة وسيلتها في هذا الطيران نحو آفاق جديدة لا يمكن لغير الطرائق السردية الحيّة أن توفّر الفضاء الإبداعي المناسب لها.
وبما أن الفعل السردي في قصص من هذا النوع هو فعل متحقق بالقوة وليس بالفعل فقط، ما دام منشبكا هكذا بحلم المرأة في أن تكون وليس اكتفاءها بما هو كائن، لا يصبح غريبا أن تتخذ بعض الكلمات في القصة منحى شعريا يجعل فعل الرفرفة متحققا أحيانا في فضاء خيالي مصنوع من صورة الفعل ومثاله، وليس فقط من نموذجه الواقعي الثقيل ومنطقه الاجتماعي الذي لا يقاوم.
وبما أن الرفرفة نوع من الاختلاج وليست فعل طيران كاملا، وقد لا يبعد الطائر فيها عن عشه كثيرا بسبب إصابته أو عدم امتلاكه جناحا قويّا، فإن حركة بطلة بشرى خلفان التي ستقوم بفعل مشابه لا تعدو أن تكون موضعية تحلّق صاحبتها في المكان نفسه فتقتصر على المشاعر والعواطف الداخلية المكبوتة والمقموعة، أو المصابة في الصميم أحيانا. ولذلك فإن وظيفة الفعل السردي لا تقتصر على تقديم مقاطع عرضية لحالات وأوضاع نسوية واجتماعية عامة قد يكون بعضها معروفا، وإنما أيضا القيام بعملية سبر عمودية متأنيّة للعوالم الداخلية الخاصة بالمرأة من أجل كشفها وتسليط مزيد من الضوء على ما تنطوي عليه من تناقضات وآلام.
إنها رفرفة المرأة العقيم التي يجف رحمها دون أن تجف عواطفها نحو الزوج الذي يقترن بأخرى تحفظ له الاسم، ويشاء القدر أو الاختيار القاصد أن تكون هذه الزوجة الجديدة صبية بلون الحنطة شعرها ليل من الأسرار، وعيناها بحر ظلمات لا ينتهي، عودها قوي وحوضها باتساع المحيط.. كما ورد في (أزرق للحزن) أولى قصص هذه المجموعة.
وهي، كذلك، المرأة التي ما فتئت، مثل بنلوب التي تنتظر عوليس في الأسطورة اليونانية، تغزل خيوط البريسم وتفتلها لتصنع (كمّة) لزوجها فلا تتمها، لأن القدر يخبّئ لها مفاجأة أخرى يحمل فيها الرجال على أعناقهم جسد هذا الزوج ليسكنوه حيث دفن أبوها وأمها وأطفالها الذين حققوا بتوالي موتهم ذي الطبيعة القدرية الفاجعة قبله نبوءة تلك (الزطيّة) التي تقرأ الرمل ووجوه النساء الوحيدات، كما ورد في (البريسم) ثاني قصص المجموعة.
(بشرى خلفان، رفرفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، قصة البريسم ص12 وما بعدها)
وهذه الطبيعة القدرية الغالبة هي التي تتكرر هنا في قصة بشرى خلفان الأخرى المسماة (إفك) الموجودة خارج المجموعة. ففي ختام القصة ونهايتها نواجه بأهل القرية التي تقع فيها أحداث الحكاية وهم يتحلّقون حول السحرة الذين اعتادوا زيارة القرية في وقت محدد من كل عام بأسمالهم البالية وحصاهم التي جمعوها من أودية السحر السبعة ونثروها على التراب الأسود الذي جلبوه من سيوح المغايبة، وعصيّهم المأخوذة من أغصان السمْر الرقيقة والتي تقسم التراب إلى مربعات يقرؤون في تكوينها مصائر النفوس وتحوّلات أرواحها من حولهم.
إنها قصة شمسة الفتاة القروية البريئة التي تتهم بالإفك بعد أن يتم زفافها إلى شيخ قرية يكبرها بعشرات السنين لتكون رابع حرمه وقرينة أحد أولاده الصغار، بعد وفاة والدها وانتقالها إلى بيت عمها الذي لم يكن يحتمل فما جديدا على صينية الطعام. شمسه التي لا يتجاوز عمرها تسع سنوات تباع من قبل عمها الفقير إلى هذا الشيخ بمائتي قرش لا غير.
وبدلا من أن تمارس شمسة حياتها كزوجة لهذا الشيخ نجدها تلتجئ في الليل إلى حضن العودة زوجة الشيخ الأولى ذات السيطرة الكلية لتسهر عليها وتربّيها لتكون حرمة تسلمها بعد ذلك كثمرة ناضجة للعود الكبير، ولتقص عليها الأخبار والقصص الغريبة عن الشيوخ والأمراء الذين يمتطون رواحلهم ليضيعوا إلى ما لا نهاية في الدروب ويقاتلوا أطياف الجن والعفاريت والبنات اللواتي يتربين في بطون حبات الرمان الضخمة ويستشهدن بحل الحليل على أزواجهن المسحورين.
أما نهارها فقد اعتادت شمسة أن تمضيه في اللعب مع محمود أصغر أبناء زوجها الشيخ. وإذ ذاك يقع المحذور الذي تتحول فيه الألعاب الطفولية البريئة بمرور الوقت إلى علاقات (محرّمة) بين الفتاة وابن زوجها.
وهذه العلاقة (المحرّمة) التي تنتهي بالفتى والفتاة نهاية تراجيدية، لا تزيد فيما رأيناه من تفاصيلها على ذلك اللعب الطفولي في المرجوحة أو على حافة البئر أو وراء أشولة الرز والتمر في مخزن الغذاء. وهي لم تصل إلى تلك المرحلة التي يظهر فيها (الإفك) والكلام الخطير المرتبط به إلا في تلك اللحظة التي ترى فيها الخادمة (سودوه) محمود وهو يأخذ كفّ شمسه الجريحة بين يديه بسبب الحبال التي كانت تشدّها عليها معه لإخراج الماء من البئر:
« رأى الدم فأخذ كفها بين يديه وعندما تأكد من خلو المكان من حوله لعق دمها بطرف لسانه وقبّل باطن كفّها فارتعشت أوصالها للحظة ثم سحبت يدها من بين يديه وهربت إلى غرفتها وأغلقت الباب وبقيت تراقبه من النافذة وهو يستقي الماء وحده، ويبحث عنها بعينيه الغاضبتين».
هذا ما رأته الخادمة (سودوه) من نافذة المطبخ دون علمهما. وهي، كما تقول الراوية، لم تكتم البئر سرّها، بل دفنته مباشرة في صدر العودة. وقد لفت نظر محمود وهو خارج إلى الصيد أن العودة همست بدورها في أذن أبيه وهو يهم بركوب مطيته بشيء تكدرت معه ملامح الأب، وشدّ راحلته صوب الدرب وانطلقوا في قافلة صغيرة كان محمود في إثرها يلتفت بين الحين والآخر إلى الخلف.
ولئن كان موت الفتى محمود أو انتحاره حزنا على شمسة، قد صار معروفا لأنه قد تمّ أمام أعين أبيه وأخوته في ليلة تجهّزه للزواج من فتاة كانت العودة قد اختارتها له بعناية من بين بنات الشيوخ، فإن موت شمسة قد بقي غامضا لم تعرف أسبابه حتى إذا عرفنا منه حكاية الإفك التي حيكت حول الفتاة وذهبت ضحيته. ووصف الساردة لشمسة عند موتها بوجهها المشرق وفمها الذي يفتر عن ابتسامة خفيفة، وشعرها المبلول يتناثر تحتها في خصل طويلة كموج البحر.. يوحي ببراءة الفتاة وعدم وجود ما يشير إلى أي فعل خارجي من شأنه أن يتسبب بهذا الموت.
ولم تكن شمسة بنت علي مريضة حينما بلغهم نبأ موتها عن طريق (الطارش) الذي بعثته العودة للعود وأبنائه وهم يصيدون المها في وادي العيون، بل كانت صحة الفتاة تتحسن وصوت تنفسها الحاد وصفير رئتيها يتلاشى، فالعودة تهتم بتغذيتها فتسقيها السمن والعسل وتخبز لها الخبز المحلّى وتشتري لها (القشاط) من عند صانعات الحلوى البلوشيات اللاتي يعقدن السكر الأحمر في حليب البقر الطازج وهي تلتهمه حتى تكبر بسرعة وتنضج لئلا يفقد أبو محمود صبره كما أنبأتها العودة.
وما قاله الرجال الذين انتشلوا جسدها من البئر التي وقعت فيها لتغتسل من دمها الذي فاض مؤخرا من أن عينيها كانتا حزينتين، يؤكد في ظاهره هذه البراءة. ولكن هناك داخل النص مجموعة من الإشارات التي نستطيع باستعراضها ترجيح أن سقوط الفتاة في البئر لم يكن محض مصادفة. فمذ بداية القصة نرى خادمة البيت سودوه بنت بخيت وهي تدنو من الدراويش السحرة وتضع في يد كل واحد منهم قرشا قبل أن تقودهم إلى العودة التي استقبلتهم وقد حجبت نصف وجهها بوقايتها، ولتسمع منهم ما يطمئن مخاوفها حين يخطون بعصيهم على تراب الحوش خطوط القدر غير المقروءة ويقولون لها:
« سرش مدفون في أرض الجن، لكن كل شاة ولها رعاتها، وتحذري الدم ما يغسله ماء سبعة بحور» !
هكذا إذن نعرف ولو بطريقة غير مباشرة أن هناك سرّا مدفونا، وأن هناك دما مراقا لا يغسله ماء سبعة بحور. وما يؤيد هذه النبوءة ويقوّيها أن الدراويش الثلاثة الذين يمثّلون صوت ضمير العودة ومخاوفها الداخلية، يجدون لدي مجيئهم إلى القرية في نفس اليوم من العام التالي أن بيت العود كان قد « أقفل بعد أن هلك أهله صغيرهم وكبيرهم في حوادث صغيرة «.
أما ما أخبر أهل القرية هؤلاء الدراويش به عن «نواح حبال المرجوحة وهي تحتك بأغصان الغافة المعلقة عليها، وعن رائحة الطيب التي تغمر القرية كل مساء، وصوت شمسة الذي يردده البئر.. محمود.. محمود.. بس هبّطني «.. أما كل ذلك فهو نوع من التفاصيل ذات الطبيعة الشعرية التي يبدو أن الذاكرة الشعبية لأهل القرية تعرفها أو تضيفها كنتيجة ملازمة لذلك الفعل الرهيب الذي ترتب عليه موت تلك الفتاة البريئة بطريقة قاسية.
وصورة العودة التي همست في أذن الشيخ بشيء يتعلق بخبر العلاقة المحرّمة بين محمود وشمسة توحي بحد ذاتها بقسوة المرأة وقدرتها غير الاعتيادية على أن تكون وراء جريمة من هذا النوع، على ما في هذا الفعل من تناقض مع موقف العودة التي احتضنت الفتاة وحاولت رعايتها وتسمينها لتصبح حرمة ناضجة لزوجها، كما رأينا.
فـ «العودة امرأة طويلة حتى أنها أطول من العود بقليل، قويّة البنية ولها أنف صقر وعينا نسر. كان بإمكانها رؤية زوايا البيت من مكانها عند عتبة المبرز «.
ومع ذلك فإن هاتين العينين الحديديتين لم تريا محمود وهو يختبئ وشمسة « وراء أشولة الرز والتمر ليلعبا في المخزن بالصدف الذي جمعها من الشاطئ عندما ذهب مع أبيه إلى البحر لجلب الرمل، والعودة لم تر توهج عينيه عندما أسكرته رائحة الطيب في ضفائر شمسة ولم تشعر بباطن كفيها على صدره، ولم تر الدموع التي خبّأها بحرص عن أخوته وهو يقتسم معهم نومة المبرز «.
أي أن ما نقلته لها خادمة البيت سودوه للعودة عما رأته وهي في شبّاكها من علاقة محرمة ومشكوك فيها بين محمود وشمسة كان كافيا لتنفيذ مؤامراتها التي حاكتها مع العود ضد الفتاة التي كانت تحرص على تغذيتها وتسمينها للشيخ كما تسمّن خيل السباق أو هجن الرهان، ولكنها قررت ذبحها حينما فقدت الثقة بها فيما يبدو، تماما كما تذبح الخيل أو الهجن حينما لا تعود ثمة فائدة تذكر من استمرار العناية بها. وكأن العودة كانت وهي الضرّة الحاقدة تنتظر شيئا من هذا القبيل لتفعل فعلتها وتحوك مؤامرتها حول شمسة.
ووظيفة القصة وهي تروي حكاية من هذا النوع لا تقتصر على فعل الحياة الذي تحاول بشرى خلفان من خلاله الدفاع عن بنات جنسها ضد الموت وامتهان الكرامة الإنسانية للأنثى في مجتمعنا، كما كانت شهرزاد تفعل من قبل وهي تصب في أذن شهريار كل ليلة شيئا من حكاياتها الساحرة لتمنعه من مواصلة القتل المجاني لزوجاته اللواتي فقد الثقة بهن، وإنما هي تقوم، كما تقول الساردة في قصتها الأخرى (تضليل)، بـ (فعل استدراك) نعم « فعل استدراك لبديهيات الضحكات الصغيرة التي تنمو من خلال تماسها بمحيطها الحيوي، وهو استدراك يائس لبقايا العبور، والتماس، والتلاحم مع الصور المباغتة للتحولات الخفية التي لا ترصد بالعين المجرّدة، ولا تستطيع عدسة الكامرا القبض عليها دون الوقوع في فخ المبالغة والاستسهال «.
وهذا النوع من الكتابة داخل الكتابة أو عنها يبدو بالغ الأهمية لأنه يضيئ جانبا أساسيا من طبيعة تجربة الكتابة وهدفها لدى هذه القاصة العمانية، حتى إذا لم يؤلف في مجموعه نصا قصصيا ينطوي في نفسه على شروط القص وعناصره الأساسية. فالكتابة التي تمثل « فعل استدراك يتسق موضوعيا مع المشروع الأصيل للكائن المعني بوجوده» كما تقول القاصة في مكان آخر من قصتها المذكورة أعلاه، يمكن أن تضع أيدينا على المعنى أو معنى المعنى الكامن في قلب الذات الإنسانية المحاصرة والممتحنة في وجودها حتى إذا كان وعي الذات قاصرا أو غير قادر على التعبير عن مواجده وأشواقه الروحية داخل وضع بشري خاص كذلك الذي وجدت بطلة القصة السابقة شمسة نفسها فيه متورطة داخل علاقات بشرية محرّمة أو غير طبيعية.
ولعل ما تقوله القاصة عن التماس والتلاحم مع الصور المباغتة للتحولات الخفية التي لا ترصد بالعين المجرّدة، هو الذي يمثل جوهر الواقعة السردية في قصة شمسة وابن زوجها محمود. إنها تلك التحولات غير الملحوظة وغير المعبّر عنها ربما في جسد شمسة ومحمود وروحهما. ولكنها قد تنطبق بصورة أكبر على نص تضليل نفسه. فهو نص التفاصيل الصغيرة والأشياء التي تستطيع العين الخبيرة الراصدة أن تعيد لها الحياة وتهبها وجودا ليس لها في غير الكتابة والتأملات المرافقة لها. والكاتبة هنا تكشف عن حسّ تشكيلي مرهف لا يكتفي بوصف الشيء كما هو، بل رؤية انعكاسه وصورته كما تظهر مثلا في صندوق دائري يزينه من الخارج رسم لنساء باريسيات يحملن مظلات في يوم ماطر، وهن يقطعن الشارع أمام محل لبيع الحلويات المحلات بالسكر المحروق وفانيللا السحلبيات الحمراء العطرة والمحشوة برغوة الكريما وشوكولا اللذة.
ومثلما يعمد الرسام إلى توجيه الانتباه إلى تفصيل معيّن في اللوحة تعمد الساردة في هذه القصة إلى العودة إلى الوصف المكثف للوحة النساء الباريسيات الموجودة على غلاف مندوسها أو صندوق حاجاتها الصغير.
«أتأمل لوحة النساء الباريسيات بمظلاتهن الرمادية أمام محل الحلوى، أعد النساء: سبع نساء، سبعة وجوه أخفاها الرسام بمكر ليسجل في المقابل حركة المظلات المزدحمة بالمطر ولغة الاختباء والتخفي في التفاصيل المبالغ فيها في تفاصيل حواشي الدانتيل في ذيول الفساتين الفخمة، كشكشة الكمام، المقدمة الدائرية الناعمة لحذاء ما، الفص الأخضر لخاتم في بنصر في بنصر ملتف على إحدى المظلات».
غير أن كل ذلك لا يجعل من هذا النص، كما أسلفنا، قصة بالمعنى التقليدي المعروف لأنه لا يتوفر على العناصر الحكائية المرافقة لعملية القص الذي اعتادت بشرى خلفان كتابته في غير هذا النص.
وربما كانت قصتا بشرى خلفان الأخريان المعنونتان بـ ( تكسّر) و( تلك المرأة) تقومان، هما الأخريان، على هذا النوع من المفارقات الموجودة في البنية السردية، حيث الدلالة النهائية للقص لا تتوافر وتكتمل دون اكتمال الحكاية، ما دامت هذه الحكاية غير موجودة بشكلها التقليدي، وأن القارئ مضطر للتدخل لإكمالها بطريقته الخاصة مستعينا بمجموعة من العلامات التي تفتح السرد على عوالم مسكوت عنها في حياة الشخصية حينما تكون عرضة لعلاقات بشرية متعارضة وغير متوازنة، ومعرّضة لسوء الفهم وأحكام المصادفات الجائرة.
في( تكسّر) نرى الفعل أو الأفعال السردية المتصلة بموعد أول مضروب بين رجل وامرأة، تسير في اتجاهين طويلين متوازيين وغير قابلين للالتقاء مع بعضهما. ولذلك يتعذّر اللقاء ويحدث التكسّر ليس فقط في كعب حذاء المرأة عند عودتها الخائبة إلى الدار، وإنما أيضا في المشاعر والأحاسيس الداخلية التي اجتاحتها بسبب عدم تحقّق اللقاء. وكأن القرب المكاني بين الرجل والمرأة ووجودهما في المطعم نفسه وتشابه حركاتهما الظاهرية في البحث عن بعضهما غير كاف لردم الهوّة القائمة بينهما. وعلى الرغم من عدم تعرّفنا على الأسباب الحقيقية التي وقفت دون إتمام هذا اللقاء وعدم تعرف الرجل والمرأة على بعضهما مع وجودهما في ذلك الحيّز المكاني الضيّق، فإن هناك دلالة وحيدة لهذا النوع من الفعل أو الأفعال السرديّة. وهو أن البطلين في هذه القصة غير قادرين حقيقة على اللقاء، وأنهما، وهما يتجهان صوب بعضهما، لا يريدان في الواقع أن يلتقيا ويتعرفا على بعضهما، لأن هناك أسبابا داخلية غامضة تحول دون ذلك. ولذلك بقيت حركتهما تتبع حتى النهاية هذا الاتجاه المتوازي غير القابل للردم. وطريقة المونتاج المتوازي التي اتبعها الراوي في الوصف من شأنها مفاقمة إحساس القارئ بعزلة هذه الذوات البشرية ووحدتها المأساوية. وهو وصف لا يخلو من قدر من السخرية من هذه الأوضاع البشرية التي يبقى أصحابها نهبا للوساوس والمشاعر الملتبسة وللصدف العمياء وسوء الفهم.
أما ( تلك المرأة) فإننا نتعرّف فيها على فصول أو مقاطع وأجزاء من حياة امرأة من خلال لوحة مرسومة لها. أي أن المرأة في هذه القصة غير موجودة إلا وجودا صوريا. غير أن هناك خطابا مرسلا على شكل حوار مستعاد مع هذه المرأة يتناول تفاصيل حياة يومية تنطوي على صعوبات ومشكلات أثقلت كاهل المرأة وأخذت أشياء من كرامتها. وكل ما في الحوار الجاري مع هذه المرأة يوحي بوجود طرفين وليس طرفا واحدا. مع أن المرأة تبقى صامتة مكتفية بتلقي هذا الخطاب عن حياتها وشؤونها المختلفة السابقة دون جواب. فهي، كما قلنا، مجرّد لوحة نجح الراوي في الحصول عليها من دكان (المسيو مرسية) الكائن في أحد الشوارع الضيقة لمدينة باريس.
وعلى الرغم من أن هذا الراوي لا يقول لنا إن الأمر يتعلّق بلوحة، وأنه يتحدّث طوال الوقت عن امرأة تشاركه السكن في داره الصغيرة التي لا تتعدى مساحتها بضعة أمتار، فإن القارئ ما يلبث أن يتعرف، كما قلنا، على طبيعة اللعبة التي تتحول فيها صورة المرأة المرسومة من قبل رسّام فرنسي شهير، فيما يبدو، إلى امرأة حقيقية بجسدها العاري الشبيه بمثلث متساوي الأضلاع وشعرها المحلول وأذنها اللطيفة ويديها المتقاطعتين على صدرها، وغير ذلك من أمور تتصل بعلاقاتها الموجودة خارج اللوحة مع أطفالها الجائعين وزوجها الذي ينتظر منها إطعامه مع الأطفال عن طريق بيعها لجسدها على الفلاحين في الحقول.
ولعلّ واحدا من مصادر التشويق في هذا النص هو أن صورة المرأة الموصوفة بالطريقة المتقدمة تكون منطلقا للبحث عن حياة معبأة بتفاصيل وأسرار لا نهاية لغرابتها وخصوصيتها. وبين الحياة وصورتها المجسّدة في اللوحة تكتب القصّة نفسها بهذا الشكل الذي لا يخلّف في ذهن المتلقّي غير الإحساس بمأساة الوضع البشري، سواء ذلك الذي مازال حيّا وواقعا راهنا، أم ذلك الذي أصبح غيابا أو تاريخا مجمّدا في لوحة. ولكنها لوحة يمكن أن تتحول إلى حضور، نطل منه على مناطق سريّة من الحياة على نحو قد لا يتوفر لنا عند معاينتنا المباشرة للواقع الحي نفسه.
* انظر بهذا الصدد، ضياء خضير، القلعة الثانية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2009، ص 187 -195)
4- جوخة الحارثي
نافذة في مديح الحب
الثيمة الأساسية في قصص جوخة الحارثي ذات طبيعة داخلية، الفعل الخارجي فيها موظف لاكتشاف الأبعاد الأخرى غير المرئية أو المسكوت عنها. وبطلها أو بطلتها، وراويها أو راويتها تبدو بحاجة دائمة لرؤية نفسها عن طريق الآخر. فسلومة المرأة المطلقة والإنسانة البسيطة الساذجة والمحاصرة في راهنها بالمرض والوحدة لم تتعرف على جماليات العرس ولم تشعر بالحاجة إلى اكتشافها والتمتع بلحظاتها الباهرة كما وردت في قصة (العرس) إلا عن طريق تحديقها المستمر في وجه عروس في حفل باذخ دعيت سلّومة إليه، على الرغم من أن تجربة العرس ليست جديدة عليها وأنها مرّت بها قبل ذلك لدى اقترانها بسبعة رجال، وليس واحدا.
(صبي على السطح، دار أزمنة، عمّان، ص13)
وناصر العبد الحارس في ديوان الوالي يكتشف متأخرا أن الحياة ليست ساكنة، كما بدت في عينيه دائما، وأن اللوحة التي ألِف رؤية الخيول الراكضة فيها يمكن أن تبهت ألوانها وتنطفئ عيون الخيول فيها، حينما يرى الطفلة الصغيرة (ندى) قد نضجت فجأة وصارت امرأة.. طالت والتمعت عيناها، ولمح ناصر العبد فيهما السحر بعينه، السحر الذي باغته فجأة وأفقده السكينة، وغيّر نظرته إلى الحياة. ( نفسه، ص35)
وعواطف (الصبي على السطح) تلتهب وتزداد غلمته وهو يتجسس من على السطح على بعض مفاتن النساء الراقصات في عرس ببيت مجاور. ( نفسه، ص 41)
وعقوبة المخالفة للآداب العامة توقع بحق سعيد بن سالم بن سلمان الموظف في المركز الصحي لأنه كان يراقب النساء المراجعات من وراء زجاج الكابينة التي يعمل فيها. (نفسه، ص 38)
والساردة في قصة (ما لن يأتي عبر النافذة) تراقب الأشياء والحركات من نافذتها في غرفة النوم، وهي لن تفارقها إلى غرفة أخرى في آخر الممر الطويل في منزل العائلة إلا لتروي لنا بطريقة مؤثّرة مأساة أختها المعوّقة عن طريق متوالية من الأحداث السردية التي تصف لنا حالة هذه الأخت وتدهور حالتها الصحية.
فيما يبدو نصّها المعنون بـ (سفر) مركبا، يمثّل حلم اليقظة الذي تحلمه بطلة القصة الجالسة إلى جانب النافذة في القطار برفقة رجل آخر، موظفا لإظهار غرائبية الواقع ولامنطقيته. والغزالة التي ألصقت وجهها على نافذة البطلة هي المقابل أو المعادل الموضوعي للرغبة الحائرة وغير المستقرة على شيء. وتبادل الأدوار بين الأب والزوج والأخ ورؤيتهم في شخص رجل واحد من قبل هذه المرأة، لا يفضي في ذهن القارئ إلى شيء غير عزلة الذات ومحاولتها الانطلاق في فضاء مركّب ومتعدّد الأبعاد.. القطار المنطلق، والخيال المنفتح على كل التوقعات، ثم أخيرا غزالة الرغبة التي تبتسم في النهاية وتلصق بطنها ببطن البطلة وتركض بها ساعات طويلة.
( في مديح الحب، دار ميريت، القاهرة، عام 2008، ص11-12)
وتحتل النافذة في قصص جوخة الحارثي ونصوصها مكانه خاصة ترمز إلى هذا الموقف المراقِب وتجسده. وهي ليست مجرد نافذة في بيت، وإنما هي إطلالة داخلية وحيز يؤشر لفتحة صغيرة وفضاء داخلي تحمله الساردة معها حيثما اتجهت.
إن الساردة تمضي كثيرا من وقتها تنظرمن النافذة، وعلماء النفس يعتبرون النظر والتحديق من المكونات الأساسية في تشكيل الأنا كفرد، وهو الذي يهيّيء لها العبور من خلال اللغة إلى النظام الرمزي والاجتماعي والثقافي. و(لاكان) يرى أن العين تسمع، ولا ترى وتقرأ فقط.
(انظر، د. ميجان الرويلي ود. سعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي بيروت، ط3، ص95)
ولذلك فإن هذه (النافذة) قد تتسع في بعض النصوص لتكون (بحجم جدار)، أو تضيق ليجلس الضمير على حافتها الخطرة، أو تكون سطحا يُطل منه الصبي على الأسرار الأنثوية في البيت المجاور. وهي في الأحوال كلها مكان للتجسس والتلصص والمراقبة والنظر للخارج من الداخل. ولا تخلو من جماليات سردية يمكن أن نرى من خلالها ابن الحارس وهو يرفع قلبه في إناء خشبي، فتشيح الأميرة القابعة في شرفتها بوجهها عنه..
والنافذة التي يزداد دورها في ( مديح الحب) موجودة، كما قلنا، في بيت، ولذلك فإننا نرى شحذا للعاطفة وتمركزا للذكريات داخل إلفة هذا البيت. وعلى الداخلين فيه أن يتجنبوا الدخول من الباب، لأن في هذا الباب عمومية واتساعا لا يوجدان في خصوصية النافذة. فهذه الأخيرة، خلاف باب البيت، لا تنفتح على عالم الآخرين، بقدر ما تنفتح على عالم الوحدة، وغربة الذات، التي تكتفي باجترار خيباتها مع الرجل وانكساراتها التي تتحول أحيانا إلى طوفانات لفظية طاغية.
الأشياء خارج هذه النافذة في قصص جوخة الحارثي لا يمكن لها، كما قلنا، أن تلج البيت من بابه، بل من هذه النافذه الضيقة التي لا تتسع لأكثر من ذكرى أو صورة معبأة بالألوان البنفسجية التي يرسلها مصباح غرفة الساردة وراء تلك النافذة. ولذلك فإن هذه الأشياء مضطرّة للتكيّف مع الوجود الداخلي لهذا الفضاء الضيق في جغرافيته السردية على مستوى المكان، والمتسع في مساحته الشعرية أو الشاعرية على مستوى الصورة والحلم المرافق لها والمؤلف لبطانتها الداخلية. ولا غرابة في أن نرى الكاتبة بعد ذلك حريصة، غالبا، على أن تزيل من ذكرياتها طابعها الاجتماعي، وتستعيد، عبر التوتر العاطفي ذي الطبيعة الفردية، أحلامها وتجسّدها في صور. ووسيلتها إلى كل ذلك هي هذه النافذة الحقيقية والمجازية التي تقدم الإطار لحلم يقظة متصّل.. منامات وأحلام تستطيع الصور والكلمات الشعرية المحلّقة في دنيا الخيال أن تحققها، وتؤلّف فيها ما يشبه الوحدة الداخلية بين وعي الواقع الراهن وذكريات الماضي، ماضي الطفولة على نحو خاص.
ووجود الباب بدلا من النافذة في كتاباتها يعني غالبا ثقبا صغيرا فيه، أي نافذة أخرى تتلصص البنت من خلالها على ما يدور خلف الأبواب المغلقة.
كما تقول، مثلا، في حكايتها المسماة نافذة الماسنجر:
(عاش الملل الشرير في القلعة الحصينة، والبنت التي تتلصص عليه من ثقب الباب، سقطت لما التقت عيناها بعينيه.. )
(في مديح الحب، ص45)
غير أن نافذة جوخة الحارثي غير متنافذة، أي أنها لا تسمح بمرور الضوء والرؤية المرافقة له إلا باتجاه واحد هو اتجاه الداخل إلى الخارج. فهي عمياء لا ترى شيئا بالاتجاه المعاكس، اتجاه الخارج إلى الداخل. ولذلك لا غرو أن يظل الحوار مقطوعا، غير قابل للوصل، كما تقول في هذا المشهد:
– (في النافذة واجهت البنت وجها آخر، تدق هي الزجاج، ويدق الوجه الزجاج، ولكن كلا منهما يدق من جهته، لم يسمع أحدهما الآخر أبدا). (المرجع السابق، ص45)
وتقول في مكان آخر (في مديح الحب):
– (راقبت العامل ولم يرني).. (نفسه، ص62)
وهي، بهذا، لا تريد أن تكون موضوعا، بل ذاتا مراقِبة لا مراقبَة. تَرى ولا تُرى، من أعلى لا من أسفل، من خلف لا من أمام. وهو ما ينسجم مع وظيفة النافذة التي تفتح كوة من داخل البيت إلى خارجه، والعين الراصدة لدى الأنثى التي تريد أن تراقِب وتَعرف ولا تُراقب وتُعرف. مع أننا نعرف أنها لا تهرب من الآخر إلا إليه، ولا يتحدد وضعها إلا به.
لقد كان سارتر يقول إن وجودنا الاغترابي يعتمد على الكيفية التي ينظر بها الآخرون إلينا، وبدون هذا النظر والتحديق فإننا لن نكتسب هويتنا الوجودية.
(د. ميجان الرويلي ود. سعد البازعي، مرجع سابق، ص95)
إن الكاتبة تنظر إلى نفسها لترى نفسَها مرئيةً في الوقت نفسه. وهي حين تتأمل غيرها وتنظر إليه من خلال نافذتها الخاصة لا تنسى نفسها أبدا، أي أنها تتأمل نفسها حين تتأمل غيرها. وأتفه الكلمات والأفعال والرغبات يمكن أن يولّد لديها احتداما والتباسات وتأويلات لا نهاية لها.
ولذلك لا نجد من الغريب أن هذه النافذة يمكن أن تختفي ولا يعود لها وجود إذا توفر لتلك العين الراصدة رؤية الآخر في مكان ثان خارجها:
(لم أعد أرى النافذة الكبيرة المواجهة والسلالم الجانبية، رأيت صوته، واضحا وارتعشت)
(منامات، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- عمّان، ص108)
لقد بطل، بحضور الهدف عمل الوسيلة، وسيلةِ الرؤية وأداتها الخاصة المتمثل في هذه النافذة، ولم تعد له جدوى أو ضرورة. وحين يتحقق اللقاء وتلتقي النظرات عبر هذه النافذة، فإن الفتاة تسقط ولا تقوى على المقاومة، كما رأينا في النص السابق.
وزجاج هذه النافذة لا يبدو موضوعيا محايدا لأنه يلون الأشياء المنظورة خارجه بلون مربعاته، كما يحدث، مثلا، في هذا المقطع في رواية منامات الذي يصور أخت الساردة وهي في مواجهة النافذة في البيت الجبلي لعمتها في الحجرة الوحيدة التي تقطنها على سطح المجلس:
( تلك النافذة المقسم زجاجها إلى مربعات، لكل مربع لون، فإذا ما ألصقت وجهها على الأول تلون الجبل باللون الأحمر، وسقطت منه الحمم وثارت تنانينه وحيواته الباطنة، وإذا ما ألصقته بالمربع الثاني رأت الجبل الأزرق وقد اتحد فيه السماء والبحر، وسالت مياهه ألقا صافيا، وشهقت الأمواج على حواف الحصا، وإذا ما ألصقت وجهها على المربع الأخير نظرت الجبل وقد انشق عن الجنان، وسقط فردوسه على الأرض الجرداء، ومارت بواطنه بسر الشجر وحياة الأغصان. وحين تهز رأسها ذات اليمين وذات الشمال تتداخل الألوان وتمتزج السماء بالجنة والنار) ( منامات، مرجع سابق ص41)
وعمل النافذة لا يقتصر، كما ذكرنا، على هذا الخارج الملوّن بألوان العين القابعة خلفها، بل هي تقتضي توسيعا لفضاء البيت الداخلي الذي ينمو ويتمدد ويكتسي هندسة وحيّزا مكانيا وزمانيا مختلفا في مساحته ورائحته، وليتحول بمرور الوقت إلى عالم وسيع ومولّدة لرؤى ومنامات وأحلام يقظة لا نهاية لغناها وتنوع صورها وحكاياتها الواقعية والخيالية.
أي أن سعة البيت هذه سعة خيالية لا تعتمد بالضرورة على امتداد مادي صرف، لأن الساردة تستطيع أن تتخذ من علبة كارتون صغيرة مقرا لإقامتها:
( أنا في علبة الكارتون، علبة زرقاء مزخرفة بورود رقيقة، مبطنة بحرائر وردية ناعمة وريش نعام وموسيقى. أنا في العلبة أستلقي براحة ملكية، وحين تنمو أطرافي أقصّها لكي لا تشرخ كارتون العلبة. ) ( في مديح الحب، ص 39)
وهو وضع يمكن أن يشير إلى نوع من حنين طفولي إلى رحم أمومي، وإلى وجود مرونة أكبر لأحلام اليقظة، والخيالات التي تصنع عالم الشعراء والأطفال الكبار، أو يصنعونها.
فهذا البيت الصغير، أو علبة الكارتون كاف لأن يحمل الأحلام القديمة للكاتبة، وأن يحصر وجودها ويكثّفه في علبة صغيرة. والأمر ليس مجرد صورة أو استعارة شعرية مجردة، فهو بالنسبة إلى كاتبة مثل جوخة الحارثي لغة حياة يومية وأشكال لقوالب خيالية غير مكتملة عاشت معها منذ الطفولة، وتضمنت معاني وأبعادا ذات طبيعة وثائقية نفسية وتاريخية خاصة. فهي تحاول أن تعيد، بهذا، رسم صورة أولية لحياتها، وأن تؤكد وجودها على نحو يتيح لها أن تسترخي (براحة ملكية) في ذلك الحيّز المكاني الضيق الذي صنعته لنفسها، وجعلت منه صورة تتيح لها أن تستمتع بعزلتها واكتمال عالمها.
وحين تقول في نهاية تلك الصورة بأنها ستقص أطرافها إذا نمت خارج كارتون تلك العلبة، فإنها إنما تعيد التأكيد على داخلية التجربة وحميميتها التي لا ينبغي أن يفسدها الاتصال بالعالم الخارجي.
لقد قرأت في كتاب جاستون باشلار (جماليات المكان) مرة ما يلي:
(في بيوتنا أركان وزوايا نحب أن ننطوي فيها بارتياح. الالتفاف والانطواء الجسديان ينتميان إلى ظاهرية فعل يسكن. والذين تعلموا أن يتكوروا في الزوايا والأركان هم الذين يستطيعون السكنى بحدة. وفي هذا المجال نمتلك في دواخلنا مجموعة كاملة من الصور والذكريات التي لا نبوح بها بسهولة. إن المحلل النفسي الذي يرغب في تنظيم صور انطواء الراحة يستطيع أن يقدم لنا وثائق عديدة. )
(جاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، بغداد، 1980، ص39)
وهو امر يتصل أيضا بخطورة الكتابة التي تتضمن البوح والإعلان الذي يمثل سقوطا جديدا في اللجة:
( لا استطيع أن أكتب، الكتابة بوح، والبوح سقوط في اللجة من جديد) ( نفسه، ص56)
وبصرف النظر عن كل ذلك، لا أتردّد في القول بأن جوخة الحارثي شاعرة في كل نصوصها التي يحتويها كتابها الصغير (في مديح الحب)، وهي تقودنا في هذا الكتاب إلى مواقف متطرّفة. لأننا نشعر أن هناك في أعماقها ميّتا لا يريد أن يموت ولا ترضى هي له ذلك، حتى إذا صرخت به لماذا لا تموت وتتركني:
« أنت ميت طبعا/ فلماذا يتحشرج قلبي في السكرات؟
هل الحبل الملتف حوله متصل بتابوتك؟
لماذا تابوتك ثقيل إلى هذا الحد؟» (في مديح الحب 29)
هكذا يمكننا أن نرى في أغلب هذه النصوص، إحساسا بالفشل تشير إليه طبيعة الشخصيات المختارة، والانشغال بتكوين المطابقات البلاغية الحارة التي تعلقها الكاتبة على مشجب الذكريات الفائضة عن الحاجة أحيانا، والتي تهدف إلى الانتقام والثأر، أحيانا أخرى. وهو انتقام يأتي في مثل هذه الكلمات التي تقول عنها الكاتبة مرّة بأنها (حصاد مشبوه):
« أنت مجرّد نملة في كتاب الأطفال الملوّن
أنت مجرد عواء متوحّد لذئب القلب المنفلت
أنت مجرد أب ميّت لأطفالي القادمين»
( في مديح الحب، كيف نكتب قصيدة هجاء؟ ص19)
ومع كل ذلك، يمكن القول إن لكتابتها العاطفية في هذا الكتاب وجها علميا إذا صح التعبير. فما تقوله بهذه الطريقة الشعرية المقتصدة يستند إلى وقائع عملية لا يقلل من موضوعيتها أنها داخلية، سريّة، غير معرّضة للهواء وضوء الشمس إلا في هذه الكلمات التي تتصاعد إلى السطح على شكل فقاعات ملونة مثل أنفاس غريق.
صحيح أن الكتاب يحمل نغمة اعتراف ذاتي لا شك فيها ولا برء منها، ولكنه ينطوي كذلك على قدر غير هيّن من شجاعة امرأة عربية قرّرت أن تعلن عن نفسها إنسانةً مساوية للرجل وقادرة مثله على البوح والإعلان عن شؤونها وشجونها الخاصة، وعن الأنثى الساكنة فيها وعن حقها في أن تقول وتعبّر بطريقتها الخاصة عما يقوله الرجل ويعبّر عنه في حالات مشابهة بطريقته الخاصة أيضا.
وعلى الرغم من هذا البوح والتعرية العنيفة لأحاسيسها الداخلية والجسدية، بقيت الكاتبة ملتصقة بحلمها الأنثوي ذي الطبيعة العذرية، وبمشاعرها التطهرية غير الممسوسة بغير يد الشعر والكلمات المحلّقة مثل فراشات ملوّنة في سماء النص، شأنها في ذلك شأن الشعراء العرب العذريين الذين درستهم وأدمنت قراءتهم، مع هذا الفارق الذي نرى فيه المرأة وليس الرجل هي التي تتحدث طوال الوقت وتستخدم الخطاب الشعري أو النثري القريب في شكله وروحه من الشعر للتعبيرعن مواجدها الذاتية ومشاعرها التي بقيت ملتهبة حية رغم موت العلاقة في هذا الحب وانطفاء جذوته الأولى.
يمكننا أن نتحدث، كذلك، في هذا الكتاب عن نقاء مشاعر وأحاسيس تبدو خطرة لأنها صادقة وغير متورطة في لعبة الصور الشعرية المزيفة التي تنقلها المرايا الاجتماعية والعاطفية غير المستوية، وعلى نحو لا نجد معه ضرورة لأن نسمع الساردة تكرر لحبيبها مثل هذا الكلام:
(- أريدك أن تعرفني، كما أنا، صادقة وحقيقية).
(في مديح الحب، ص15)
فطبيعة الحال تغني عن المقال، كما يقال.
ورغم أن الكاتبة تتخذ أحيانا مسافة من نفسها وتمارس اللعب على الكلمات، فإننا لانخطئ في التقاط تلك النغمة المميزة، نغمة الاعتراف الذاتي هذه والصدق الذي يترقرق تحت إهاب عبارتها الموحدة في طول الكتاب وعرضه.
نعم هناك إحساس لا تخطئه العين بالنزاهة الشخصية وسمو الذات التي تبقى عصيّة على الابتذال وامتهان العواطف وعموميتها، حتى ونحن نرى الكاتبة تحاول أن تطوع الفشل وتسرد إخفاقاتها على مسامعنا. وهي، في معاناتها الخاصة، تهاجم نفسها، ولا تكتفي بمهاجمة ذلك الذي ألقى بقلب الفتاة التي أحبته إلى القطط الجائعة في الشارع لمجرد أنه كان يخشى على جيبه من الاتساخ بدم هذا القلب. (في مديح الحب، ص40)
ومشكلتها هي أن الرجل الذي هرب منها قد بقي ساكنا في أعماقها بعد أن قامت، خلال علاقتها العاصفة معه، بابتلاعه فغصّت به، ولم تستطع الخلاص من تأثيره المدمّرلصحتها العاطفية والنفسية.
وحينما تقول في نصها الصغير المسمى بـ(الأرنب المسلوخ) وهي تسأل معلمتها أبلة كريمة على هذا النحو:
(- هل ذنبي أن السكين أنا والبطة البيضاء أنا، أنا أيضا.. )، (في مديح الحب، ص43)
فإنها تكرر بهذا شيئا يشبه موقف (بودلير) الشاعر الرجيم، حينما يقول في إحدى قصائده (أنا الجرح وأنا السكين). وهو ما يدعونا إلى أن نلتمس سببا أو أسبابا لهذه الحال الذي يتحول فيها (مديح الحب) عند كاتبتنا إلى هجاء له، وعذاب فيه، وإلى صراع تكون فيها الذات الإنسانية أمام خيارعاصف يضع وجودها بين الحياة والموت، ويجعل من صاحبته السكينَ والبطة المذبوحة، أو الجرح وسكينه، في آن معا.
وسارتر يقول في تعليقه على أبيات بودلير المتقدمة إن ذلك يؤلف ازدواجية كاملة، يستولي الجلاد فيها على الضحية، لأن صاحبها لم ينجح في رؤية نفسه، ولذلك فهو ينبشها كما تنبش السكين الجرح. فضلا عما يعنيه ذلك من انقسام عميق تتعرض له الذات.
(جان بول سارتر، مقدمة أزهار الشر، ترجمةحنا الطيّاروجوجيت الطيّار، http:almasira eurosarter. htm).
وذلك يمثل بالنسبة إلى كاتبتنا (درجة من الوعي الزائد بالذات)، كما تعلق الساردة في رواية (منامات).
إذ هو ( يؤدي دورا مزدوجا: أعيش الحياة وأراقب عيشي، أحيا وأراقب هذه الحياة، أفعل وأراقب هذا الفعل، اندماجي في الحياة مقرون بتلك المسافة من البعد عنها)، كما يقول أحد أبطال هذه الرواية). (منامات، ص32)
لقد قالت جوخة قبل ذلك في روايتها منامات الصادرة قبل (في مديح الحب) بحوالي أربع سنوات (2004)، وهي تتحدث فيما يبدو عن ذلك الحب نفسه:
( حملت جرحي – اضطرارا لا اختيارا – وشما إلى الأبد. ومهما برئت من الألم أرى زرقة انحفاره التي كانت، وأبصر في لهبها الداكن سحيق الأذى الذي نلحقه بأرواحنا حين نحاول دمجه بأرواح أخرى)، (منامات، مرجع سلبق، ص8)
منتبهة فيما يبدو إلى الخطر الذي يلحق بالذات الإنسانية نتيجة لموقف متطرف من هذا النوع.
والكتاب لا يفسح لقارئه كبير مجال للتفكير في طبيعة الأسباب التي أدت إلى أن يوجد في حياة الساردة (شرخ) من هذا النوع، وما إذا كان الحب وحده مسؤولا عن كل ذلك. فالتباس العلاقة في هذا الحب يصل بصاحبته إلى حد القول مرة إنها (قالت كلاما كثيرا عن الحب كي لا تحب)! ( في مديح الحب، 54)
وهي، في الأحوال كلها، لا تتحدث عن الحب بالطريقة التي يتحدث فيها، مثلا، شعراء غزل معروفون في تاريخ أدبنا العربي مثل عمر بن أبي ربيعة المخزومي من القدماء، أو نزار قباني من المعاصرين، على الرغم من كل المزاعم والادعاءات العاطفية التي ترافق قصيدة الحب التقليدية في لغتنا العربية عند هذين الشاعرين أو غيرهما.
وهي لا تتحدث، كذلك، على طريقة الشعراء العذريين الذين يتصعد الحب لديهم إلى آفاق سماوية بعيدة عن العلاقات البشرية السوية، كما هو الأمر في هذين البيتين اللذين وجدتهما الساردة مرة على مكتبها في ورقة بخط من تسميها (أمها شمسة):
قلوب العاشقين لها عيون ترى ما لا يراه الناظرونا
وأفئدة تطير بغير ريش إلى ملكوت ربّ العالمينا
(منامات، مرجع سابق ص103)
هناك فقط هذا الألم الممض وهذا الأنين المتواصل، وهذا الانسحاق تحت ثقل مشاعر وأحاسيس تُمارس على ذات حساسة ممتحنة بوجودها تحت عنوان هذا الحب الذي يتعدى علاقة أنثى مع رجل إلى نوع من الذوبان فيه والتماهي مع جسده وأشيائه وتاريخه:
(أحببت كريات دمه الحمراء والبيضاء والصفائح الدموية وزر قميصه وعظام قفصه الصدري وكبده وحذاءه وصحن السمكة الأزرق والحصى الذي يبعد عشرة كيلومترات عن بيته ومخ ساقه وبصيلات شعره وشايه الأسود وصورة الملكة في علبه الرخيصة وهاتفه الذي داخله الماء وهاتفه الجديد بالكامرا الذي سرق وصوت نقره على لوحة المفاتيح وعلم مدينته وطحاله وعظام جمجمته الناتئة وكرة القدم التي ركلها صبيا والماء الذي يشربه والبنت التي قبلته في السادسة والبركة التي سبح فيها يوم العيد مع أطفال الجيران وسوط أمه ونظارة أخيه ولمعة قرطي أخته العروس وبياض وسلة غسيله والخشب في سقف جيرانه ونار أبيه وعظمة إبهامه وهداياي التي باعها بثمن معقول وحرف السين الذي يمضغه). (في مديح الحب، ص15)
ونحن لا نملك إزاء كلام من هذا النوع غير أن نقف مندهشين أمام هذا الاندفاع والرغبة العارمة، والواحدية في الحب.
والغريب أن صورة الرجل الذي يحتل كل هذا القدر من اهتمام المرأة وعشقها غير واضحة تماما. فهو لا يظهر بنفسه في الكتاب إلا لماما، يُرى ولا يَرى، كما ذكرنا. وهو منظور لا ناظر، يجري الكلام عنه أكثر مما يأتي منه.
وما يثيره كتاب جوخة الحارثي هذا من متعة قرائية خالصة بكل ما ينطوي عليه من لغة رائقة، وإيقاعات داخلية وخارجية، واكتناز دلالات ضمنية وظاهرة، وبلاغة خطاب شعري ونثري، يبدو كافيا ومغنيا عن التفكير بطرح أية أسئلة أخرى، خصوصا ونحن نشعر أن الشاعرة [ولا أتردد في وصف جوخة الحارثي في هذا الكتاب بهذه الصفة] تغتذي من كلماتها، وتعيش على الصور والإيقاعات والحكايات الجديدة التي تخلقها، وتبدأ في كل مرة بتأمل ذاتها من جديد من خلالها. فضلا عن تلك الحقيقة العامة التي تقول إن الشعر الحقيقي يتجاوز باستمرار مصدره ويوفر عن طريق شكله ولغته نفسها قدرا من المتعة التي تقود إلى الشعور بالحرية والتخفّف من كثير من التبعات الاجتماعية الحافة، سواء بالنسبة لمبدعه أم قارئه.
وذلك لا يتعارض طبعا مع شعورنا بأن الكاتبة تنطلق من تجربة ولا تكتفي بالتعبير عن أفكار، أو صور معلقة في الفراغ. فهي تمارس بذلك حالة استرخاء وتهويمات تستند إلى وقائع نفسية وعملية يتم خلطها بالحلم من أجل تبريرها وتخفيف حدتها ورؤيتها في ضوء جديد. وقراءة الكتاب على هذا الأساس يمكن أن تفسر لنا الكيفية التي تنزلق فيها الكاتبة بسهولة نحو ماضيها الشخصي، ماضي طفولتها وبيتها الأول وعلاقاتها العائلية وذكرياتها وذبذبات مشاعرها الجسدية والعاطفية المبكرة، في كل مرة تتحدث فيها عن حبها وحبيبها الغائب. ذلك أن أليس التي عرفت طريقها منذ البداية، لم تستطع أن تتخلص من المريول الأول الذي لبسته في رحلتها الخيالية الطويلة إلى بلاد العجائب؛
ولنقرأ بشيء من الانتباه هذا النص:
( عرفت أليس طريقها منذ البداية، لكنها لبست مريول البنت الصغيرة، لأن الفضول كان يدفعها لرؤية بلاد العجائب.
مشكلة أليس أنها لم تعرف كيف تخلع المريول بعد استيقاظها من رحلتها). (في مديح الحب، ص24)
نعم، هذه هي مشكلة أليس أو ميّزتها الأولى.. أن تكون امرأة ناضجة في طفولتها، وطفلة صغيرة في نضجها.
وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن هناك ظاهرة أسلوبية ذات طبيعة بنيوية، لأن ظهورها يتكرر في الكتاب على نحو لافت. وهي ظاهرة التشخيص الذي تتحول فيه الأفكار والمشاعر، كالفرح والحزن واليأس والملل، إلى كائنات ومخلوقات لها سمات بشرية تجعلها الكاتبة هدفا للخطاب والحوار، كما في هذا النص بعنوان (هدايا):
(يجلس الحزن في الكرسي المقابل، نتبادل الهدايا بصمت، ثم نتبادل أطباق الطعام، لا ننتبه أنها فارغة، نتبادل: شرائط شعري بربطة عنقه، نتبادل: رباط حذائي برباطه، نتبادل: أنا والحزن، يجلس على كرسيّ وأجلس على كرسيّه.
نتحاذى، قليلا فقط يرتفع كتفه على كتفي، وهواء قليل يمر بين أيدينا غير المتشابكة.
أما أن تكون الدائرة مكتملة، ندخلها ولا نخرج لأنها بلا زوايا، وإما نسير معا، الحزن وأنا، خارج الدوائر، ونجلس متقابلين، الحزن وأنا، نتبادل الهدايا بصمت) (في مديح الحب، ص38)
ولهذه الظاهرة دلالة خاصة تؤكد على عزلة الذات الإنسانية وحاجتها إلى تثبيت المشاعر والوقائع الداخلية التي جرى إدمان معايشتها، وتأنيسها، ومنحها كيانا مستقلا تكون الكاتبة قادرة معه على تأملها والنظر إليها بطريقة جديدة وإجراء حوار معها.
ومعروف لنا أن مصدر التشخيص وبواعثه تنطلق من قوة العاطفة وعمقها. وحين يتصعد الوجدان الإنساني إلى حدود استثنائية في مدياته، فإنه يمتد ليشمل كل ما يشعر به الإنسان ويحيط به من كائنات، حيث تسقط الكاتبة ذاتها على الوجود والطبيعة من حولها، وليس فقط على مشاعرها التي تتحول، كما قلنا، إلى كائنات قريبة منها وبعيدة عنها في الوقت نفسه.
وربما بدا هذا من بعض الوجوه نوعا من المصالحة مع النفس، ومحاولة لقبول الواقع، والاقتناع بما تيسر فيه من ألم وحزن وملل ويأس، كما لو كانت هذه الأشياء قدرا مفروضا على الذات وطبيعة أخرى فيها. مع أن المحاولة تظل، على مستوى دلالتها العامة، مضمّخة برائحة المرارة التي يشعر بها من يلجأ إلى الداء لمعالجة الداء نفسه.
أما على مستوى الدلالة الشكلية لهذه الظاهرة، أي شعريتها وأدائها البلاغي والتركيبي الخاص، فإنها تبدو فاقدة أحيانا لتوتر العبارة وتَلوّنِ دلالتها النصية، لتدخل في ما يقرب من رتابة النثر وتفقد بعض ميزاتها الشعرية.
وبعض الشعراء العرب، مثل عباس بيضون، يرون بأن التشخيص يظل ذيلا من ذيول الرومانطيقية التي مارسها شعراء عرب وأجانب عانوا من تورم الذات، وما يرافق ذلك من إعلاء طوباوي وجمالي وغنائي للعاطفة.
( انظر، مقدمة عباس بيضون على آرتور رامبو، الآثار الشعرية ترجمة كاظم جهاد، منشورات دار الجمل 2007، ص52).
الأمر الذي لا نجد له صدى واضحا هنا في غير هذه الرغبة في تدجين العواطف والتصالح مع ما يبدو شديد الوقع على النفس منها.
ضيـــاء خضيـــر
ناقد وأكاديمي من العراق يقيم في عُمان