لم يتوان في كل مرة عن إبهارنا بكتابات متجاسرة مبتكرة؛ بفطنة ذهن وعين متغورة لاقطة، وبجغرافيا استبصار إبداعي إنساني أرحب من فضاء مسقط رأسه كولومب بشار بالجزائر، ليحط محمد مولسهول؛ الروائي والضابط الجزائري العسكري السابق؛ الرحال في عالم الأدب عن جدارة، وباسم استعاره من زوجته «ياسمينة خضرا»، وهو الاسم الذي صار يعرف به فيما بعد في الأوساط الثقافية العربية والغربية.
فبعد النجاحات المبهرة التي حققتها رواياته «بم تحلم الذئاب»، «سنونوات كابل»، و«ابنة العم ك»، و«الصدمة»، و«حصة الموت»، و«الاعتداء»، و«صفارات إنذار بغداد»، و«ما يدين به النهار لليل» و«نظرة المشردين» أو «إلهة الشدائد», «المعادلة الافريقية»…،يطل علينا الكاتب الجزائري المقيم بفرنسا «ياسمينة خضرا»، برواية جديدة موسومة «ليلة الريس الأخيرة», الصادرة باللغة الفرنسية، عن دار نشر «جوليار» بباريس سنة 2015.
يبرز هذا الروائي المثير للجدل في العالمين الغربي والعربي؛ والأكثر ترجمة من بين الكتاب العرب، برواية مثيرة مزعجة مربكة، حول الرئيس الليبي الراحل «معمر القذافي»، مع العلم أن الروايات الصادرة عن الديكتاتور برزت بشكل كبير عند روائيي أمريكا اللاتينية في الستينات والسبعينات، كناية عن الطغمة العسكرية الحاكمة في بعض بلدانها، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: رواية «خريف البطريرك» لغابرييل غارسيا ماركيز، ورواية «أنا الأعلى» لآوغوستو رواباستوس.
سرد برزخي متصاعد
تؤرخ رواية «ليلة الريس الأخيرة» للحظات ذهنية وانفعالية لشخصية الديكتاتور؛ بحرارة تلك الليلة المحمومة التي قضاها القذافي في مخبئه منتظرا ومترقبا قدره المحتوم، مستبطنا فيها الكاتب شخصية القذافي، بجنون عظمته وتعدده ولا نهائيته، متقمصا شخصيته، لينسج لنا لحظة سردية باذخة تتنامى لتأخذ جدلها من تراكمات نفسية متورمة ومن ذاكرة جماعية ملفقة، وعبر تدفق سرد يتبنى فيه تقنيات المونولوج الداخلي والخارجي، نكتشف سلوكيات ديكتاتور مرتبكة، في لحظات قلقها وإشراقها وتوجسها, وجنون عظمتها ونرجسيتها وفزعها وتماهيها مع الذات الالهية,وحنينها وترقبها وانتظارها….
كما تتحرك الرواية داخل فضاء سردي برزخي متناغم؛ ينسل فيها الراوي بين الوجود والعدم، والمتخيل والواقع, والماضي والحاضر, برشاقة الريح وبخفة الساحر، ويعلن في الآن نفسه، بهمس ورهافة ومكر تبرأه من نسج الأحداث، بحيادية مبهرة، فيمضي في عالم سردي متدفق ومنساب، بلغة ذات جمالية فنية، وبجمل قصيرة تلتزم بوقائع الاحداث، شفافة وبسيطة، غلب فيها الروائي أسلوب الحوار الذي توزع على أغلب مفاصل السرد وجغرافيته، كما استعمل ضـمير المـتكلم ممـا جعلهـا تقـترب مـن الاعترافـات والتأملات والانطباعات الشخصية، وأحيانا تطفو على السطح تقنية الإرجاع (فـلاش بـاك) لكـسر خطيـئة الـزمن بلغة غير متكلفة، حتى أن حكيه وإن بدا ينحو منحى مباشرا فقد أتى متناغما مع ثقافة الواقع اللحظي، مما يدفعنا إلى القول ببراعة الكاتب في إيصال رسالته للقارئ بطريقة حداثوية تخيلية، قاصدا لعبة الإيهام, أي الإيحاء بواقعية السرد.
نوستالجيا الديكتاتور:
تبدأ وقائع الحكاية في مدرسة مهجورة بمدينة سرت الليبية، حيث كان القذافي مختبئا مع بعض رجاله ينتظر العون من ابنه المعتصم للانتقال إلى مكان آمن في جنوب البلاد، في ليلة من 19 إلى 20 أكتوبر؛ التاريخ الذي وجد فيه القذافي مقتولا؛ وذلك عبر سرد نوستالجي على لسان الراوي، الوسيط المفترض بين الكاتب والعوالم المحكية، الراوي الديكتاتور أو «الأخ القائد» أو «البصير المعصوم» «الطفل المبارك الذي يعيد لعائلة القذافي ملاحمها المنسية» ص 11، المتيم بالصحراء و المترصد لأصوله البدوية، المتأثر بخاله الشاعر، يستهل الكاتب روايته بقوله:»عندما كنت صغيراً، كان يحدث لخالي أن يصطحبني معه الى الصحراء. هذه الرحلة كانت بنظره أكثر من عودة الى الينابيع، كانت تطهيراً للروح. ما كان لي في صغري، أن أدرك ما يسعى الى إفهامي إياه، لكنني كنت أحب الاستماع إليه. كان خالي شاعراً بلا مجد ولا ادعاء، بدوياً كان، يوثر التواضع,ولم يكن يهمًه سوى نصب خيمته في ظل صخرة واستراق السمع الى الريح، صافرةً فوق الرمل، عابرة كالظل…»ص9.
هو الاسطورة المعتد بنفسه المتضخم الأنا، المكلف بمهمة إلهية: «أنا معمر القذافي، الأسطورة المتجسدة في رجل، إن كان عدد النجوم في سماء سرت قليلا هذا المساء والقمر أشبه بقصاصة ظفر، فلكي أبقى كوكبة النجوم الوحيدة التي لها اعتبار»ص13.
فالزمن النوستالجي، يكسر خطية الزمن السردي، بما هو زمن استعادي، مشحون بالكثير من الدلالات والقيم الروحية، حيث قيم البداوة المتجذرة، وحيث الاطمئنان والسكينة في حضن الصحراء بدل، اللاأمان الذي يستشعره في الزمن الراهن.
أليس البحث عن الذات مبررا لعودة الشخصية إلى الوراء بعدما فقدت الحاضر وتخوّفت من المستقبل؟
لعل هذا الامحاء الشبه كلي للزمن الاستشرافي، في تشكيلات النص الروائي لياسمينة خضرا، يبرره هذا الشك في المستقبل لدى الراوي، وما يمور الزمن الآتي من موت وغدر، على الرغم من حضور بعض التمظهرات التفاؤلية، وهذا اللااطمئنان لمستقبل ضبابي، يبرر قلة توظيف الروائيين الجزائريين لزمن المستقبل في إبداعاتهم االسردية.
ليلة بضوء الانتظار
هي ليلة سقوط مستعرة؛ تذكرنا بالفيلم السينمائي الالماني-النمساوي «السقوط» الصادر سنة 2004 من إخراج أوليفر هيرشبيغل، وإذا كان هذا الفيلم يصور الأيام العشرة الأخيرة لحكم أدولف هتلر لألمانيا النازية سنة 1945، فإن براعة الروائي ياسمينة خضرا، بالمقابل، ودون الحاجة إلى إجراء مقارنة شكلية بين النصين السينمائي والروائي، تكمن في اختزال لحظة السقوط في ليلة واحدة وزمن مكثف مدلهم، يشعل فيها الديكتاتور خلاله شموع الأمل والترقب والانتظار، زمن معتم يلاحق الراوي، بوصفه زمنا مرتبطا بفعالية السرد، مقابل وحدة المكان المتمثل في مدرسة مهجورة ضيقة، اختارها له ابنه المعتصم يقول : «اختارها لي المعتصم مسؤول الدفاع عن سرت، … يعتقد العدو متوهما أنني ربما أكون متواجدا في قصر محصن، غير قادر على التكيف مع الفقر…لا يمكن للعدو أن يتخيل وجودي في مكان بائس كهذا…كنت طفلا يعاني الجوع والحرمان، يمشي حافي القدمين فوق الاحجار الملتهبة»، فضاء مهمل بئيس، لكنه يصير أكثر رحابة وسحرا حين يستحضر عراء صحرائه، ويصير بعدها مرفها وثريا حين يستحضر نساءه وبطشه والدماء التي سالت على أعتاب عرشه بلا ندم:» لو قيض لي أن أعود إلى الوراء، لاخترت أن أبيد نصف وطني» ص 175، ثم يصير مأزوما متشنجا ومهينا حين يتحدث عن «غدر» شعبه وطعناته، وعن ذلك الجرح السري الذي لم ينكأ بعد، بعدما نعته الجنرال السنوسي بكلمة «نابية»، تلك الكلمة المفتاح المدسوسة في ملفه المخابراتي، سعيا لتحطيمه وثنيه عن تمرده وشغبه السياسي في ظل الملكية .
لكن الديكتاتور وهو يحدق في خلاء روحه، كان يبتسم للموت ابتسامة هادئة، ابتسامة يفسرها ذاك ذلك التناص لعمر الخيام الذي افتتح به الكاتب روايته: «إذا كنت تود أن تمضي إلى سلام كامل، ابتسم للقدر الذي يصيبك ولا يصيب أحدا»، لهذا ظل مبتسما لم يتملكه اليأس في الخلاص على يد ابنه المعتصم، أو الخلاص من أتباعه وحرسه وجيشه، ممن نسج معهم حوارات وأسئلة حارقة قلقة، وممن فضل بعضهم الموت إلى جانبه طمعا في فردوس أعلى محتمل.
نساء في قفص الانتقام :
هو المهووس والمفتون بالمرأة، لا قيمة لحكمه ولا انتصاراته بدون نساء يؤثثن حياته، ف»فاتن» الفتاة التي تقدم لخطبتها ورفضته في شبابه بعد عودته من الدراسة في انجلترا، لم ينكأ جرحها على مر السنين، يقول بعدما صار رجل ليبيا الاوحد:» طلبت من حراسي أن يحضروها لي في صباح أحد الايام، سجنتها لمدة ثلاثة أسابيع، قمت باغتصابها على مهل، تم توقيف زوجها…أما والدها، فقد خرج مساء ليتجول ولم يعد أبدا إلى بيته»، «منذئذ، كل النساء صرن لي» ص64.
هي علاقة انتقامية مريضة بالمرأة، تتجلى بشكل واضح في اعتماده على نساء أمازونيات قويات كحارسات لكرسيه، اللائي يقتسمن معه فراشه، في عز فتوتهن، كما هو الامر مع «أميرة» الأمازونية الممرضة، التي تهتم به وتمنحه جرعات من الهيروين، لكنه أبدا لا ينفي ثقته العمياء بهن.
الديكتاتور المتأمل:
والرواية لا تستثير غبطتنا ودهشتنا فقط، بل تدعونا أيضا إلى التأمل والتفكير في الوجود، وفي العديد من الاشكاليات المتشعبة بنَفس فلسفي رصين، خاصة علاقة الحاكم بالمحكوم :»بدون دم، العرش مشنقة محتملة» ص 165، وعلاقة المثقف بالسلطة وعلاقة الحاكم بالدين، فيتوهم السارد تماهيه مع الذات الالهية:» في مدرسة سبها، وبعدها في مدرسة مصراتة، كان رفاقي يستغرقون في الانصات لكلامي حتى النهاية، لم اكن أنا من افتنهم بمهاتراتي، بل الصوت الكبير الذي كان يشدو عبر كياني بأكمله»ص93.
كما تكشف الرواية عن آراء شتى حول الثورات العربية ومآل العرب اليوم، يقول السارد: «الثورات العربية لطالما أزعجتني، كانت كالجبال التي أنجبت فأرا» ص43، مع الاشادة بمنجزات القذافي بليبيا، واستهزائه من هرب بن علي : «ومع ذلك، أنا مسرور لرؤية بن علي، وقد طعن من قبل قطيعه» ص 42، مع نقده اللاذع للحكومات العربية وجورها لشعوب تحولت إلى «قطيع» تابع لها حسب السارد، ومعلوم أن هاته التيمة، ناقشها الكاتب في بعض أعماله السابقة، منتقدا الحاكم العربي الذي حول شعبه إلى «قطيع» مذعن خاضع غير قادر على النقد أو إبداء الرأي. كما لم يتوان السارد الديكتاتور عن انتقاد الغرب هادم اللذات ومفرق الجماعات، قاتل وناهب الشعوب العربية، في حين أن الديكتاتور هو الحصن المنيع ضد القاعدة في الغرب الاسلامي، هذا الغرب الذي عزله وتفاداه في أزمته، بينما تركه ينصب خيمته في حديقة باريس في عز سلطته وعنفوانه :»في السابق، سمحوا لي بنصب خيمة في حديقة باريس، متجاهلين فظاظتي، غاضين البصر عن «توحشي»، اليوم يعاملونني كفريسة مبتذلة هاربة من المشنقة»ص 155
هي علاقة يحكمها الكثير من التصنع والنفور من فن غربي مهما تسامق، فلن يعلو على ثقافته البدوية، يقول السارد: « لا أهتم كثيرا بالفنون، ما عدا الموسيقى الشرقية، وبطبيعة الحال حتى أبدو للغرب بأنني مهتم، فقد يحدث أن أتصنع الافتتان أمام رسم جداري أو عند سماع موسيقى موزارت، بالنسبة لي لا شيء يضاهي روعة خيمة منصوبة وسط الصحراء ولا سمفونية تضاهي هزيز الريح في البرخان»ص 61.
كل هاته القضايا تتشعب وتنصهر في شكل حوارات، يجريها السارد الديكتاتور مع أتباعه وحراسه ممن يوزع عليهم بالتساوي بعضا من شتائمه وأوامره؛ «منصور الضو» رئيس الحرس، «أميرة» الأمازونية ممرضته، والملازم «مصطفى» والملازم الكولونيل «تريد», عبر حوارات جدلية يوحدها سؤال مركزي مؤرق «لماذا يثورون علي؟، ليجد الجواب في حلم مكرور راوده طيلة فترة حكمه، حلم الرسام الهولندي فان جوخ، كواحد من أعظم رسامي ما بعد الانطباعية .الفنان الذي أهدى أذنه الوحيدة لحبيبته، ليقتنع الديكتاتور فيما بعد وكما نبهته والدته في بواكيره، بأنه ظل بأذن واحدة سلمها بسلاسة لشياطينه، بينما ظلت الأذن الأخرى صماء غير قادرة على الانصات والتواصل, وخاصة للأصفياء من أتباعه.
تعد رواية «ليلة الريس الاخيرة» امتدادا لمشروع إبداعي وفكري وإنساني ارتضاه الكاتب لنفسه؛ التزم فيه بالوسطية حين يتعلق الأمر بقضايا راهنة حساسة، وظل يخوض عبر ثلاثين عمل ابداعي تقريبا في موضوعات جدلية عن العنف والارهاب والأصولية الاسلامية و«حوار الذهنيات» ودلائل الانتحار ومآسي التشرد واليتم ..هي رواية ابنة لحظتها، وبقدر ما انشغل بطزاجة موضوعه ونفاذه في الوجدان القرائي، فهو لم يهمل المظهر الجمالي للكتابة و لا نسي اعتماد أسلوب في التعبير يتسم إجمالا بالأناقة والرشاقة والرقة، و لا غرابة في ذلك، وهو الملسوع بحمى الشعر، و ممن استزاد بفيض الارث الشعري العربي القديم والحديث منذ بواكيره.
لكنها لكن الرواية لم تكتب بنفس استعجالي لحظي؛ بل كتبت بروية وقدمت رؤية قصدية، واستطاع فعلا الكاتب تقديم عمل روائي متماسك ومنسجم، وخلاصة حياة مليئة بالثقوب امتدت في زمن مبعثر ومستقبل ضبابي، لتفقد شخصية الديكتاتور في النهاية جذورها وهويتها، ولا تستعيد أفقها إلا عبر خيال الكاتب، ذلك «أن الأمم، مثل السرديات، تفقد جذورها في خضم الزمان والأساطير ولا تستعيد أفقها إلا في الخيال» حسب هومي بابا، رواية لم يسقط فيها الكاتب في فخاخ المحاكمة التاريخية للديكتاتور، بل سعى إلى معرفة شخصيته واستغوارها وإعادة صياغة هويتها المرتبكة والمركبة، المتذبذبة والمنهارة والمنكسرة، عبر أفق جمالي إبداعي خصب ومتجدد، ومنحها هوية جديدة.
هامش
1 – ياسمينة خضرا، «ليلة الريس الأخيرة»,دار جوليار، باريس2015.
إكرام عبدي