حاورته : هدى حمد
تصوير: هدى البحري
وعَى العالم بأذنيه عندما أصغى لوالده الذي قرأ له الشعر وكلاسيكيات الأدب العربي المتمثل في قصص “ألف ليلة وليلة” وكتاب “حياة الحيوان الكبرى” و”المستطرف” و”نزهة المجالس” و”بهجة المجالس”، فتغذى الشاعر فيه أولا ثمّ استيقظت حساسيات الروائي الأولى.
نشأ على ضفة وادٍ من وديان الطائيين في مزرعة صغيرة، واعتاد على أن ينصت إلى الأصوات الضئيلة والخجولة التي تخرج إلى الوجود ليستدل عليها. يصعدُ الجبال لكن ليس كما يفعل الرياضيون، بل لأن روحه تتوق لشيء غامض وخفي كي تتعلق به، هناك يعد قهوته على حطب الأشجار فيغدو طعمها الممزوج بالدخان لا مثيل له. تبدأ الكتابة لديه كما قطرات ماء تنزُّ من حوض، قطرات ضئيلة تحاول خط دربها، فهو يبدأ الكتابة ببطء شديد في البداية ثمّ تندحق مياه الكلمات من الحوض شاقة درب سيلها عبر المكان.
يكابدُ قلق أن تعافه الكتابة فلا تعود إليه تلك الجذوة التي عاشها من قبل، فيدفعه الأمر لدأب يومي معها. يجلسُ بعد الفجر ليكتب شيئا، صفحة أو صفحتين، فلا يطيل الجلوس، تاركا للأفكار فسحة النمو على مهل.
العمل السردي من وجهة نظره ليس توثيقا للقصّ الشعبي ولا للحياة المجتمعية أو السياسية أو التاريخية، وإن اتكأ عليها، بل هو حالة مستقلة بذاتها.
تذهب أعماله لاستنطاق الماضي، أساطيره وحكاياته ومفرداته شديدة المحلية، في “جبل الشوع”، و”جوع العسل”، و”القناص”، و”تغريبة القافر”، لكنه الماضي الذي يكر سبحته بطرق لا نهائية، إذ يرى القاسمي المسألة ليست في ماذا نكتب، ولكن كيف نكتب، فالرواية عمل فني يحتاج إلى الإخلاص له في أي زمن كان، فالأهم هو إحكام العمل بدقة.
أقلقه الضجيج الذي أخرجه من صمته، عقب فوز روايته “تغريبة القافر” بجائزة البوكر العربية، ورغم أهمية ضجيج الجوائز للنصّ، لجعله مرئيا، إلا أنّه متلهف للعودة إلى سكينته، لتأملُ الظلال والكائنات وتشكلات الحجر والإنصات إلى لغة الكون مجددا.
نحاور الشاعر والروائي العُماني زهران القاسمي، وهو من مواليد 1974م، صدرت له أعمال كثيرة، فله في الشعر عدّة دواوين نذكر منها: “أمسكنا الوعل من قرونه”، “الهيولى”، “أغني وأمشي”، “يا ناي”، “سيرة الحجر”، “الأعمى”، “موسيقى”، وغيرها، وصدر له من الروايات: “جبل الشوع”، “رحيق النار” ، “القناص” ، “جوع العسل” ، “تغريبة القافر”.
* لنعد إلى البدايات الأولى، لنقل المُحرضات الأولى التي دفعتك لعالم الكتابة.. في أي عمر شعرت أنّك مُنجذب لهذا العالم ولماذا؟ هل تمثل الأمر لك في هيئة أشخاص أسرك دأبهم على الكتابة، أم ثمّة كتب قرأتها وأنت صغير كانت بمثابة الشرارة الأولى؟ وهل كانت الكتابة سابقة لفعل القراءة أو العكس؟ وأي نوع من اللذة منحتك الكتابة في الصبا؟
– لا أعرف العمر الحقيقي بالضبط الذي جذبني إلى الأدب، ولكنني أتذكر أنني كنت في طفولتي أحبُّ الجلوس بجوار أبي وهو يقرأ الشعر أو يقرأ بصوته الجميل الكتب القديمة المليئة بحكايات العرب، مثل حكاية الحسن البصري وألف ليلة وليلة وكتاب حياة الحيوان الكبرى والمستطرف ونزهة المجالس وبهجة المجالس، كنت لا أملّ من الاستماع إليه، ربما كانت تلك هي البذرة الأولى التي شكلت الشاعر أولا ثم الروائي بعد ذلك.
في تلك السن المبكرة أيضا اكتشفتُ الراديو، كنت أستمع إلى بعض المسلسلات وأتابعها، أتذكر أنني كنت مأخوذا بحكاية الزير سالم، ثم قصّة سيف بن ذي يزن، كنت أنفرد بالراديو لأستمع إلى الحلقات وحيدا حتى لا يشوش عليّ أحد، وأنتظر الحلقات بشغف من يقرأ متتبعا الأحداث.
كانت قناة تلفزيون عُمان تستعصي في أغلب الوقت لكوننا نعيش بين الجبال، ولكن في بعض الأحايين وهذا ربما له علاقة بالطقس وبرودته، وربما حركة الرياح، بحكم أنّه لا توجد محطة تقوية في المنطقة، كنت مأخوذا بالبرامج التي لها علاقة بالشعر أو المسلسلات حتى الكرتونية منها.
في تلك المرحلة أيضا اكتشفتُ مجلات تخص الأطفال مثل مجلة ماجد، وبعض القصص التي شكلتني بشكل أو بآخر مثل قصص المكتبة الخضراء، التي زرعت لدي بعد ذلك حب القراءة.
أتذكر أنني كتبت قصيدة وأنا في الصف الأول الإعدادي وأعطيتها إلى معلم اللغة العربية كانت موزونة، فكان يسألني مكررا، هل أنت من كتب هذه القصيدة؟ كانت مكونة من عدة أبيات لا أتذكرها الآن لكنه أصر عليّ أن ألقيها في طابور الصباح.
في تلك السن المبكرة كان في بيتنا مكتبة صغيرة معظمها كتب في الفقه وكتب في الشعر، فنهلتُ من الشعر القديم وحفظتُ الكثير منه ذلك الوقت، وكنتُ كلما حفظت قصيدة أحبّ أن أتباهى بذلك أمام إخوتي وألقيها بوجود أبي، كان ذلك الشغف للشعر يمتد حتى بدأت أخط تجاربي الشعرية، والتي أهملتها للأسف عندما كبرت واختفت من كثرة تنقلاتي الدراسية.
قرأتُ أول قصّة قصيرة في جريدة سودانية كانت على طاولة معلم التربية الإسلامية، لا أتذكر عنوانها ولا كاتبها، ولكنني أتذكر أنني طلبتُ من المعلم أن يعطيني الجريدة، فظللتُ أقرأها مرات عديدة مأخوذا بأسلوب القصّة، وعندما علم بأنني مُهتم بالقراءة أعطاني كثيرا من الملاحق أو الصفحات الثقافية التي كنت أقرأها من الغلاف إلى الغلاف، مأخوذا بتلك اللغة المختلفة عن الأدب القديم الذي اعتدت على قراءته في مكتبة أبي، حينها اكتشفتُ عالما زاد شغفي على دخوله عندما كبرت.
في مدرستي الثانوية تعرفتُ على صديق عزيز، كنتُ أراه لا يمشي إلا حاملا كتابا، شدني ذلك بين جملة الطلاب الذي لا همّ لهم إلا الجلوس ولوك الأحاديث، فاقتربتُ منه وعرفت أنّه يقرأ كتبا متعلقة بالأدب، في تلك الفترة من مقتبل العمر، اكتشفت عن طريقه الطيب صالح، ونجيب محفوظ، وجبرا إبراهيم جبرا، وجبران خليل جبران، والسياب، وسعدي يوسف، وكل شعراء المدرسة الرومانسية، مثل أحمد شوقي، وأبو القاسم الشابي وغيرهم، كان شابا قارئا، تعلمتُ منه الالتزام بقراءة الكتب، وفتح عينيّ على مكتبة الأدب العربي والغربي، وعلى الشعر الحديث، كانت تجاربي الشعرية كلها موزونة، وإن كان هناك من فضل في دخولي إلى هذه المنطقة فهي لذلك الصديق الذي ما زلتُ أكن له المحبة والاحترام حتى اليوم.
صرتُ كلما كتبتُ شيئا أعطيه ليقرأه ويبدي رأيه، ووجدت فيه الصديق الذي شجعني على الاستمرار، وهذا يُعيدنا أيضا إلى فكرة من نحن سوى أصدقائنا، نحن ركام من التلقي اليومي والمستمر لمن نعاشرهم، وعلى الرغم من ثقافته العالية ولغته الرصينة إلا أنّه ظل قارئا فقط ولم يحاول الكتابة، الكتابة التي تورطْتُ بها بعد ذلك.
عندما ذهبتُ إلى الدراسة في المرحلة الثانوية إلى مسقط بحكم أنّ قريتنا لا توجد بها مدرسة ثانوية آنذاك، اكتشفتُ مكتبة زاخرة قريبة من البيت الذي كنتُ أعيش فيه، كانت موردي ومنهلي في القراءة، قرأتُ من خلالها كثيرا من الكتب في مختلف المجالات، شعرا وسردا ومسرحا، وبدأتُ في التعرف على بعض التجارب العُمانية التي بدأت تُنشر في ذلك الوقت مثل سالم آل تويه ويحيى سلام ويونس الأخزمي في القصّة القصيرة، وقرأتُ سيف الرحبي أيضا، ووجدتُ له مجموعاته الأولى التي على الرغم من أنّني عشتُ صدمة قراءة قصيدة النثر الأولى في دواوينه إلا أنّها كانت تجربة رائعة.
* تنعكسُ خبرتك الشخصية بالمكان بصورة لافتة في كتابتك منذ روايتك الأولى “القناص” ثمّ “جوع العسل” وصولا إلى “تغريبة القافر”؟ فهل أنت شخصٌ متأمل؟ مشّاء؟ منحاز للطبيعة بفطرتك؟ وكيف تُغذي هذه العوالم الخارجية تصوراتك للكون والحياة؟ كيف تتسرب للشعر والسرد بخفة العارف واليقظ لأسرارها؟
– كنا نعيش على ضفة واد من وديان الطائيين في مزرعة صغيرة، نقضي سحابة نهارنا تحت ظلالها وفي المساء نهبطُ إلى الوادي لنفترش مناماتنا هناك، كان جزء من الليل ينقضي في الحكايات التي نسمعها من آبائنا، يتجمع الكبار أبي وإخوته وأبناء عمومته ويبدأ سيل الحكايات ينهمرُ عن ذكرياتهم والأخبار التي يسمعونها من هنا وهناك، مُستذكرين تاريخا غابرا أحيانا ولا تخلو تلك السهرات من العروج إلى الحكايات والأساطير الخرافية المتعلقة بالمكان.
إحدى هذه الحكايات هي شخصية “الروع”، وهو شخصية أسطورية أو خرافة عن أحد الجن غير المؤذيين والذي يقوم ببعض الأعمال للدعابة حتى يوقع الخوف في نفس من يمشي وحيدا في الظلام، كأن يصدر أصواتا مخيفة أو يتشكل على شكل حيوانات مفترسة أو جَمل بدون رأس وهكذا، وعندما يواجهه شخص لا يخاف يختفي ولا يعود، ولكن عندما يخاف الإنسان يزداد الروع في تماديه حتى يهرب الإنسان من ذلك المكان. وهو اختبار لقوة صلابة من يواجهونه.
كان أبي حكاءً، فكل يوم توجد لديه حكاية جديدة، ما إن يبدأ أحد الحاضرين بسؤاله حتى تبدأ الحكاية في الانثيال، كنت استمع بشغف لكل تلك التفاصيل وأحبها واستذكرها وأطلب أحيانا منه إعادتها، كتبت كثيرا من تلك الحكايات ضمن مشروع “سيرة الحجر” و”القناص” و”جوع العسل” وحتى “تغريبة القافر”.
كل ذلك المخزون الحكائي كان يُؤسس للمكان وتعلقي به، أيضا وبحكم وجودنا على ضفاف الوادي المليء بالماء والبرك التي كنا ونحن صغارا نقضي جل وقتنا ونحن نلعب ونسبح حتى غروب الشمس، تعلمنا التحرر من البيت، لنكون وجها لوجه أمام الطبيعة لا نعود إلا وقت الغداء ثم بعد ذلك عند غروب الشمس، ويا ويل من يتأخر سيكون عقابه الضرب أو الصلب على جذع نخلة من نخيل المزرعة.
في تلك الفترة من العمر عرفتُ الوعل وتذوقتُ لحمه ورأيته يرعى في قمم الجبال، وشاهدته معلقا من قرنيه، بحثتُ مع الآخرين عن العسل وتلذذت بطعمه، كان كل شيء له حكاية، له اسم خاص به، وكنت أحبّ المشي كثيرا، وعلى امتداد القرية كنا نمشي من أولها وحتى آخرها داخلين في الحارات والضواحي، نبحثُ عن ثمار المانجو أو السفرجل أو العصافير.
بعد أن كبرتُ قليلا واكتشفت الجبال والوديان البعيدة، كنتُ أقضي وقتا للمشي بين الجبال، ليس هناك أحبّ إليّ من صعود قمة والجلوس في الأعالي مُتتبعا لتفاصيل الجبال والأشجار والظلال.
الغرق في تلك المجرة من الصمت، حيث تبدأ الأصوات الضئيلة والخجولة بالخروج إلى الوجود للاستدلال عليها مثل بعض الطيور والحشرات والزواحف، كنت أتأمل كل تلك التفاصيل بعشق، جريان الماء في منحدر صخري، تدفقه من صخرة صماء، وغوره مرة أخرى بين الحصى، مراقبة الحشرات التي تطن على صفحته، الطيور التي ترد إليه.
أيضا كانت تلك الفترة ثرية بمعرفتي بأسماء الأشجار والأعشاب الجبلية، مثل شجرة القفص والعسبق والسيداف، ومثل أعشاب الجعدا والسخبر والظفراء وغيرها من أشجار الجبل.
لذلك فأنا أحب المكان الذي عشت فيه وأشتاقه، أشتاق لهذه التفاصيل وأبحث عنها، أقضي وقتا طويلا وحدي متأملا كل شيء، الظلال والكائنات وتشكلات الحجر والأشجار، ويحلو لي أن أنام على ضفاف أحد تلك الوديان والإنصات لذلك الصمت العميق في هذا الجزء من العالم.
ما زلت حتى الآن محافظا على المشي بين الجبال، ما زلت أصعد القمم، ليس لهدف الصعود وحده كما يفعل الرياضيون، ولكنه التعلق بشيء ما في الروح، تلك النسمات الباردة التي تقابلني في القمة وتأخذ تعبي، هي في نظري ثراء روحي لا حدود له، وكذلك طعم القهوة المطبوخة على حطب الأشجار والممتزجة بدخانها لا يشبه طعمها شيء، وهي الرفيقة لي في الجبل وهي التي تذهب التعب مني لأبدأ مغامرة جديدة.
* ما الذي يُحرض انفعالاتك ويجعلك مُتحفزا للكتابة وجامحا؟
– هناك دائما فكرة، قد تجيء في أية لحظة يشعلها موقف ما، حديث عابر، حكاية تذكرتها، ألم أعيشه، أو حالة إنسانية أقابلها، قد تكون من كتاب قرأته، أو فيلمٍ شاهدته، أغنية تبدأ في التكرار طوال الوقت في خاطري، أغنيها عندما أصحو من النوم، في وقت المشي، في أوقات اليقظة وحتى النوم، أو مقطوعة موسيقية أبقى أسمعها لأيام، أحد هذه الأشياء يشعل في داخلي جذوة الكتابة، كنت أعتقد أن هذا مرتبط فقط بحالة الشعر عندما كنت أكتبه فقط، فجأة أشعر أن هناك تغيًرا ما سيحدث في نفسيتي، شيء يشبه الحزن وليس بحزن، يشبه الكآبة وليس بكآبة، يشدني إلى العزلة وإلى تصور الفكرة التي لمعت في داخلي، عندها تسيطر عليّ الفكرة فلا أستطيع التفكير خارجها حتى أبدأ في الجلوس والبدء في كتابتها.
تبدأ الكتابة كما قطرات تنز من حوض، قطرات ضئيلة تحاول خط دربها منحدرة، كلمات قليلة وخجولة، تستمر لفترة طويلة نسبيا، أكتب ببطء وأنا مدرك لصعوبة الكلمات التي ترفض المجيء، ثم كما تندحق المياه من الحوض شاقة درب سيلها عبر المكان، يندحق الكلام ويأخذ طريقه عبر الكتابة.
* هل ثمّة طقوس خاصة بك؟ هل تكتبُ دفعة واحدة ثمّ تحرر النصّ؟ أم أنّ الأمر رهن للمزاجية؟
– أختار وقتا محددا كل يوم، وقتا أجلس فيه للكتابة، وغالبا بعد الفجر، أجلس إلى حاسوبي وأبدأ من حيث انتهيت، قد أكتب صفحة أو صفحتين وقد أكتب مقطعا واحدا، لكنني أظل ملتزما بذلك الوقت مُخلصا لفكرة الجلوس والالتزام حتى لو لم أكتب شيئا، أحيانا أعيد قراءة ما كتبت قبل ذلك، هذا يفتح لدي آفاقًا وأفكارًا جديدة، وقد اعتدت أن لا أطيل كثيرا في الجلوس للكتابة وأن لا أكتب دفعة واحدة، فقد اكتشفتُ أن الأفكار تأتي أكثر جمالا عندما نباعد بين مقطع وآخر.
* في الحقيقة، أنت تذكرني بإرنست همنجواي في كتاب قرأته عنه بعنوان: “مباهج الكتابة وأوجاعها”، فهو لا يُفرغ بئر كتاباته كاملا بل يتوقفُ عندما يشعرُ بأنّ هنالك شيئا ما أسفل البئر، يدعه يمتلئ من الينابيع التي تُغذيه. ينصتُ ويُراقب، آملا في تعلم شيء ما، يقرأُ كتب الآخرين لئلا يُفكر في عمله.
– في بعض الأوقات أكره الكتابة، أهجرها، أدخل في حالة من الكآبة ولا أستطيع حتى التفكير في مجريات الأحداث، حينها أتوقف نهائيا لأيام أو أسابيع وقد تطول لأشهر، ثم أعود لاستكمال النص بروح طازجة وهكذا حتى ينتهي العمل. في بعض الأوقات تطرأ حالات لم تكن في الحسبان، كسفر ما، حينها أتوقف أيضا وعند الرجوع أعود للكتابة.
* ما الذي يجعلك تشعرُ بأنّ هذا الانفعال الأولي سيغدو شعرا أو قد يغدو سردا؟ كونك تكتب الجنسين الأدبيين؟
– الحالة الشعرية لديّ تختلف عن السرد، الشعر يأتي دفقات على شكل مقاطع غير مترابطة، ولكن في ذات المشروع الذي أكتب فيه، بينما السرد لا بد من التفكير في مجريات الأحداث، طبعا قبل ذلك لابد أن أقرر هل هذا العمل عملٌ سرديٌ أم شعريٌ، فإن كان سرديا بدأتُ في البحث عن مادته الخام وجمع ما هو ممكن من معلومات ذات قيمة، أما الشعر فيبدو أكثر سهولة إذ تعتمد الحالة الكتابية على ما يجول في الخاطر ومن ثم على تدفق الشعر.
* لا أخفي عليك، لقد تفاجأتُ كثيرا من تعبيرك حول سهولة الشعر إزاء كتابة السرد، الأمر الذي قد يزعج الشعراء؟
– لكل من الشعر والسرد تقنيات كتابة تختلف من شخص إلى آخر، فالشعر لديّ يأتي دفقات، وهذا في الوقت الذي أشتغل فيه على حالة أو مشروع شعري، أكتب تلك الدفقات على شكل مقاطع صغيرة، أو على شكل قصائد، الفكرة أنّ هذه المقاطع قد تكون مستغنية بحالها، لا تحتاج إلى ربط أحداث وتكوين شخصيات، وبحث عن قاعدة معلومات لتكون داخل العمل السردي، ليست السهولة في كتابة الشعر بحد ذاته، الشعر يستعصي أحيانا حتى عن كتابة مقطع واحد، ولكن في حالة التدفق -وهذا ما أعنيه- تختلف تقنياته عن تقنيات السرد.
* وكيف أفاد الشعر من السرد والسرد من الشعر؟ كيف غذى أحدهما الآخر؟
– تخفف الشعر العربي -وخصوصا قصيدة النثر في الفترة الأخيرة- من التهويمات اللغوية وصار أكثر سلاسة ودخلت فيه أساليب السرد من قصّ وحدث، واعتمد على الصورة الشعرية العامّة، استفدتُ من ذلك في بناء قصيدتي، وكذلك استفدتُ من تلك الحالة الشاعرية في كتابة بعض المقاطع السردية بلغة شعرية.
وإن كنا نؤمن بأن الشعر هو روح الحياة وملحها، فأيضا الرواية هي حياة متخيلة لا يمكن أن تخلو من الشعر.
* هل تؤمن بدور الأصدقاء الذين يقرأون النصّ قبل خروجه من بين يديك؟ وكيف تختارهم؟ وهل تنحاز لكل ملاحظاتهم؟
– بكل تأكيد لدي أصدقاء دائما ما استمع إلى آرائهم في النصّ الذي كتبته، كان ذلك سابقا على الكتابة السردية، أتذكر أنني أعطيتُ ديواني الأول لعدد من الأصدقاء الذين وجهوني لملاحظات داخل الديوان وعدتُ إلى الاشتغال عليها، فالنصّ الأدبي ليس نصا مقدسا، ونحن عندما نكتب نكون داخل النصّ فلا نرى عيوبه، لذلك نحتاج إلى من يصوب لنا تلك الأخطاء، كنتُ أبعثُ المخطوط لأحد الأصدقاء الذين أثق بهم وعندما يُعيده لي بملاحظاته أشتغل عليها ثم أرسله إلى صديق آخر.
هذا أكسبني المرونة في التعامل مع نصّي، أحذف ما يستحق الحذف، وأعيد كتابة بعض ما يحتاج إلى الإعادة وقد أغير مسار حدث ما أو كما حدث في رواية “جبل الشوع”، غيرتُ مدخل الرواية بناءً على تلك الملاحظات.
أحيانا تكون بعض الملاحظات مغايرة عن مخططي وفلسفة العمل فلا أقبل بها، فهي غير مُقنعة، وهذا أيضا تحت نطاق المرونة التي أتعامل فيها مع الملاحظات، فأنا آخذ ما أراه مناسبا، فمثلا في رواية “القناص” رأى أحدهم أنّ نهاية الرواية لم تعجبه ومع ذلك أبقيت عليها.
* بما أنّك تتحدث عن النهايات، فمتى تشعر بيقين تام بأنّه آن الأوان لدفع هذه القطعة الأدبية “المخطوط” لدار النشر؟
– بعد الاشتغال على الملاحظات التي وصلتني وشعوري بأنّ العمل أخذ كفايته في التنقل بين الأصدقاء، أترك العمل لأشهر بعيدا عني، أخرج منه وأنساه، ثم أعود لقراءته بتمعن كقراءة أخيرة وبعدها أدفع به للنشر، وقد يستغرق مع الناشر فترة قد تطول أو تقصر وهذا يعتمد على اهتمام الناشر بعملية تحرير وتجويد النص.
* مع الوقت والمران والممارسة، هل يخفتُ شعورك بالقلق إزاء ما تكتب؟ أم أنّك في حيز اللايقين؟
– بالنسبة لي كل مشروع جديد هو مشروع أعيشه وكأنّني أكتب لأول مرّة، هناك قلق كبير يعتريني خوفا من أن أكتب نصّا أقل جودة من النص الذي سبق، هناك قلق من أن تعافني الكتابة ولا تعود إليّ تلك الجذوة التي عشتها من قبل، وهناك قلق من القارئ الذي يقرأ نصي ولا يعجبه، هناك قلق في كل مرحلة من مراحل الكتابة، وبعد الكتابة أيضا، ولم أصل إلى يقين بجودة ما أكتب، بل إنني قلق دائما من أنّ ما أكتبه شيء لا يستحق، أو أنني لم أخلص له تماما.
* لو ذهبنا إلى روايتك “تغريبة القافر” الفائزة بجائزة البوكر العربية، لوجدنا أنّ “الماء” يلعب دورا مُخاتلا، بين منطق النُدرة وغرائبية الوفرة! وكلا الطريقين يذهب بنا إلى الفناء والموت؟ فإن كانت ثمّة بطولة في هذا العمل فأحسبها للماء أكثر منها للشخصيات، فهو الذي يقلبُ مصائر الناس بين شقاء ومسرة؟ فكيف نما هاجس الماء بداخلك لتكتب هذا العمل؟
– كانت فكرة الماء معي منذ زمن بعيد، ارتبط الماء دائما بحياتي بحكم أنني ولدتُ ووجدتُ على ضفاف واد صخري عندما يأتي السيل بهديره يصبح ذلك اليوم عظيما، لقد شاهدتُ السيل في طغيانه الكبير وهو يجرف في طريقه الأشجار والبساتين والسيارات، مات ناس كثيرون في السيول، وتغيرت معالم المكان، ثم رأيتُ الجفاف وهو يحتل الأرض لسنوات حتى تتضاءل الحقول وتموت المزروعات، أدركتُ أهمية تلك الثنائية التي يرسمها لنا الماء في هديره ووفرته، وفي ندرته أيضا، وعندما اشتغلت في الزراعة مؤخرا عرفت الماء عن قرب، جرف مزرعتي التي كلفتني مالًا طائلًا وجعلها حطاما، ثم جاء الجفاف وأكمل على ما تبقى، تمنيت حينها أن يكون هناك قافر يستطيع أن يسمع الماء في جوف الأرض حتى يدلني على مخزون المياه، لمعت فكرة الرواية وبدأت في كتابتها بعد ذلك.
* عرجت في “تغريبة القافر” على قصّة النبي سليمان الذي أمر بشق الأفلاج في عُمان. وعندما غزلت “نصرا” زوجة سالم الصوف ريثما يعود من غيابه الطويل، سمّت الخيوط بأسماء أفلاج دخلها سالم، خيط “السمدي”، خيط “العفريت” الذي حفره الجن… وكأنّ كل “خيط هو درب يأخذها إلى حبيبها”. إلى أي حد في أعمالك الروائية تستقي من القصص الشعبية الشفوية أو المكتوبة؟ أو قصص التراث؟ وهل كانت حاضرة في أعمالك الروائية الأخرى؟
– هذا يعتمد على مكونات العمل وبيئته، ففي تغريبة القافر ولأن الاشتغال على الماء، والفترة التي كان يدور حولها النص فترة قديمة نسبيا، فهذا يتضمن أيضا الرجوع إلى ثقافة الناس الشفاهية عن الماء والحكايات والأساطير المتعلقة به، كان لا بد من تضمين العمل بعض تلك الحكايات الشعبية حتى تتوافق مع سيرورة النص وثقافة مجتمع الرواية، تقصيتُ العديد منها واستفدتُ من بعضها لتكون في الرواية، لكن في أعمال روائية أخرى كان حضورها خفيفا لأن تلك النصوص لا تحتاج إلى ضخ وتضمين القص الشعبي في داخلها، في “القناص” مثلا هناك أسطورة أنّ الوعل يحرسه الجن لذلك كان من الصعوبة جدا رؤيته واقتناصه، وفي “جوع العسل” كانت القصص الشعبية غير حاضرة لأن محتوى العمل لا يحتاجها.
في نظري، العمل الروائي ليس توثيقا للقصّ الشعبي ولا للحياة المجتمعية أو السياسية أو التاريخية، بل يستفيد من ذلك كله لصنع عمل يتكئ على معطيات محددة، ومُقاسة بدقة تامة حتى لا يبدو النصّ متضخما بأشياء لا فائدة منها، تماما مثل الطبخة ومقادير الوصفة التي تجعل منها لذيذة.
لو رجعنا إلى النصّ واتبعنا صوت الراوي في “تغريبة القافر” سنجده واقعيا جدا فهو لم يكن يتعمد زج الحكايات الشعبية إنّما كانت الشخوص هي التي تأتي بها في سياق حديثها وهذا في اعتقادي متماشٍ تماما مع ثقافة تلك الشخوص، فماذا سيكون حديثها وتفسيرها عن جوانب الحياة في ذلك الوقت إلا بهذه الطريقة.
* تُقدم الرواية زخما معرفيا حول الأفلاج، فقد عرفنا عن “أمّ الفلج” الرئيسة، و“سواعد” الفلج و“فروضه”، واكتشفنا بأنّ الأفلاج تختلف من قرية لأخرى باختلاف الطبيعة الجغرافية. تصفُ الرواية الدقة الهندسية في التوغل لعشرات الأمتار، تصف الميلان المناسب لتدفق الماء، التهوية والحواجز الحجرية لدعم سقف القناة من الانهيار. نعرف أيضا أنّ المياه أنواع: مياه كريمة، مياه مخادعة، ولكل مياه خطّة ومفاتيح. لقد كانت هذه الخبرات وافرة في “القناص” و”جوع العسل”، فكيف يمكن للمعرفة والخبرات الفردية أو تلك التي نبحث عنها أن تدخل بخفة ودراية في نسيج النصّ دون أن تفسده، ودون أن يترهل السرد أو يضعف؟
– هناك تفاصيل مهمة تدخل في تكوين النص السردي، منها ما يتعلق بالمكان فمثلا لا يمكن إغفال تفاصيل الجبال والوديان بما فيها من أشجار ونباتات وطيور وأيضا تفاصيل الزمن والوقت وتأثيرات الضوء، كل هذا يخلق صورة ذهنية مع القارئ حول المكان، وكذلك موضوع الرواية، فهناك المادة الخام التي يشتغل عليها العمل الروائي، فلو تصورنا أنّه يدور في بيئة عمل لأحد المستشفيات، فنحتاج أن تكون لدينا معرفة نوعية ومهمة عن تلك البيئة وعن المرضى والأمراض وعن الأحداث التي تقع حتى يبدو العمل مأخوذًا من بيئة واقعية، في القناص مثلا كانت الوديان والجبال حاضرة بمسمياتها وصفاتها، كانت الأسلحة وأدوات القنص ومهارات صيد الوعول مهمة حتى لا يبدو العمل مقتصرا على سرد الحدث فقط، كما أن طبيعة النباتات المزهرة وأنواع الأشجار التي يستقي منها النحل رحيقه وأنواع العسل ومختلف طوائف النحل مادة مهمة كونت من خلالها رواية جوع العسل، هذه تفاصيل مهمة تجعل للعمل الروائي بيئته الخاصة، ولكن كل تلك التفاصيل والمعلومات المهمة لابد من وضعها في موضعها حتى تبدو ملائمة دون الزج بها لتكون أحد عناصر العمل مخافة أن تصنع خللا في النص السردي.
*تربط الماء بأوضاع اقتصادية وسياسية كابدتها القرية من قبيل: “البلاد خيرها فيها لكن محد ينطاله”، إشارة لمبدأ الاحتكار الذي مارسه الشيخ الذي امتدت يده لحرمة الفلج، أو: “النفوس الفاسدة تجلب مياه فاسدة”. ويتعمق الأمر ويتجذر ليأخذ بُعدا فانتازيا عندما يشير إلى أنّ الجن يُعاقبون بني الإنس بسحب الماء للأرض السفلية. هل يمكننا عبر الفن والكتابة عن الماضي تمرير أوجاع الحاضر؟
– كل ما يمكن أن يُقال في الفن سنجد له نظيرا في الحياة، الفنون كلها عبارة عن مرايا لما حدث ولما يحدث، هذا عدا أن تكرار الحدث ذاته وتشابهه بين فترات زمنية مختلفة له علاقة بالوجود الإنساني ومعاناته وتقاطعات علاقاته مع البشر ومع الطبيعة، والقدرية التي قد تقوده إلى صنع فلسفته عما يحدث، لذلك نرى أن كثيرا من أحداث التاريخ تتكرر بطرق شتى.
في النص لا يمكن أن أقول إنني عنيتُ حالة بعينها ولا يمكن لي ككاتب أن أحمّل النص حمولات لحظة كتابتها ولكن تبدو كل تلك المقولات المتضمنة في النصّ خاضعة أيضا للأحداث والظروف وليست طارئة.
* ألا تبدو النساء أشبه بنسخ مُتشابهة..“نصرا” صورة من “كاذية” وهذه نسخة أخرى من “مريم”، وكذلك حال “آسيا”، فكلهن يعبرن مخاض رعب الانتظار، كلهن تواقات لانفراجة صغيرة في بؤس حياتهن المشوبة بالتعثر، ألا يبدو نسج النساء بصورة مثالية على هذا النحو مبالغًا فيه دون اشتغال أكثر على نوازعهن الداخلية المتباينة؟
– هذا يعتمد من وجهة نظري على المتلقي، هل فعلا هذه الشخصيات متشابهة؟ فقط لأنّهن تشابهن في حالة واحدة، ألا يمكن لنا جميعا أن نكون متشابهين في انتظار شيء ما، كل بطبيعته، فهل نحن متشابهون.
كانت “مريم” مصابة بصداع رهيب لا يمكن لها أن تكون ذاتها حتى تقرر كيف ستكون، هي لم تكن تنتظر شيئا بقدر ما كانت تبحث عما يسكت ذلك الطرْق في رأسها، أما “كاذية” فالظروف هي التي جعلتها تربي القافر، أيضا لم تكن تنتظر في حياتها شيئا، الوحيدة التي كانت تربي الأمل هي “نصرا”، فأين أوجه التشابه بينها، أعتقد أن هناك قصورًا في تشريح هذه الشخصيات، أنا لا أراها سوى شخصيات طبيعية وجدت في قرية ولها ظروفها.
* هل كنت تشتغلُ بوعي على البعد الفلسفي للرواية أم أنّ الصدف هي التي أنتجته؟ هل تكون مشغولا بمقولات النصّ وما يكمن خلفه من ارتدادات؟ أم تترك الأمر لمستويات التلقي المختلفة؟ فمادة حياة “القافر” هي مادة هلاكه؟ غرقه الأخير هو غرقه الأول، ظلمة الفلج الذي انهار عليه، يُعيدنا إلى ظلمة رحم أمّه التي غرفت به في البئر، وكأنّ الأمّ التي أخذته إلى الغرق الأول هي المرأة التي أنجته من غرقه الأخير عبر حالة حُلمية متداعية؟
– ليس هنالك صدف في الكتابة، هناك بناء حاولت جاهدا أن يكون محكما ومتوائما مع الزمن والأحداث، ودائما هناك مسار وهدف للوصول إلى النهاية، فأنا لا أستطيع أن أبدأ أي نص دون وجود رسالة فلسفية عامة منه تنبثق منها رسائل كثيرة بوعي طبعا، حاولت جاهدا أن أربط حياة القافر بالماء منذ ولادته وقطرات الماء المتساقطة في أذنه من سقف البيت، وسماعه لخرير الماء منذ صغره، ووقوفه عاجزا أمام الصخرة ثم الغواية الأخيرة التي حدثت له في النفق المظلم.
مع العلم أنني ممن يكتبون النص ثم يقومون بعمل الروابط فيه بقصدية، لذلك ليس لدي كتابة تصاعدية، فأنا أعود للفصول مرات كثيرة وأعمل لها الروابط مع الأحداث المستقبلية. وقد تكون الفكرة التي بدأت بها ليست هي الفكرة النهائية التي يظهر بها النص، فأنا دائم الإضافة والحذف، فلقد حذفت فصولا وغيرت من مسارات الأحداث في مواقع، وهكذا حتى يبدو النص في الأخير كما هو عليه، وهذا ينطبق على رواياتي الأخرى.
* تبدت لي نبرة مُتشنجة تشيرُ إلى أنّه من غير الممكن أن تنمو رواية جيدة في واقع لا يحتدمُ بالقضايا الكبرى والمُعقدة كالحروب والصراعات السياسية على سبيل المثال، ولذا -من وجهة نظرهم- تأتي الرواية لدينا في عُمان مُستترة وراء أقنعة اللغة أو النزوع إلى الماضي؟ ما رأيك؟
– ليس هناك قالب جاهز لكتابة رواية، هذا ما أومن به دائما، المشكلة التي وقع فيها الكثير من العرب في اعتقادهم أنّ العمل الروائي لابد أن يتطرق إلى قضايا آنية تهم البشر في تلك الحقبة الزمنية، كالحروب والهجرات والاستعمار وغير ذلك، مع أهمية هذه المواضيع إلا أننا نستطيع صنع قضية كبرى من قضية تخص الإنسان ذاته، هل هناك قضية أكبر من همّ الإنسان ووجوده ومعاناته على الأرض؟ عندما نعود إلى كثير من الروايات العالمية نجدها تنطلق من مبدأ الإنسان ووجوده دون التطرق إلى ما أطلق عليه بالقضايا الكبرى، “فالس الوداع” و”الكائن الذي لا تحتمل خفته” مثالا من كونديرا، “آنا كارنينا” مثالا من توليستوي، “ميتتان لرجل واحد” مثالا لأمادو، والقائمة تطول.
تبنيت منذ البداية في رواياتي الجوانب الوجودية للإنسان وهذا النمط الذي أشتغل عليه، لا أرى استتارا وراء اللغة ولم يكن الماضي يعنيني بقدر ما تعنيني الحالة، وحتى لو كنا نكتب عن الماضي فهذا ليس سيئا أبدًا، ففي الماضي من الأشياء الكثيرة التي نستطيع النبش فيها وصنع عملٍ إبداعيٍ، المسألة كلها متوقفة ليست في ماذا نكتب، ولكن كيف نكتب، فالرواية عمل فني يحتاج إلى الإخلاص في كتابته في أي منطقة كانت، الأهم هو الإخلاص للعمل.
* رغم كل ما قد تجلبه جائزة البوكر من مباهج إلا أنها تجلب معها مخاوف جديدة ، هل لك أن تقول لنا ماذا غيرت فيك الجائزة؟ ماذا أضافت لك وماذا أخذت منك أيضا؟ وكيف سوف تتعامل مع أعمالك المقبلة؟
– أنا شخص يعيش طوال يومه في صمت حقيقي وفي أوقات كثيرة لا أسمع حتى صوتي، ما أقلقني أنني خرجت من تلك الحالة التي اعتدت عليها إلى الفعاليات والمقابلات والحوارات التي يجب علي أن أتحدث فيها، قد يكون من الجيد أن نكون منظورين جيدا لكتابتنا، لنتاجنا، لكن ليس لي ذاتيا، مع ذلك حتى الآن أحاول أن أخرج من هذه الحالة والعودة إلى سكينتي حتى أستمر في مشاريعي القادمة، التي لا أعتقد بأنني متخوف منها، إذ أنّها ستكون في مخبئي ولن تخرج للنور حتى أقرر ذلك.
أعتقد أنني أستطيع العودة إلى عزلتي، لقد قررت أن أعطي لنفسي الوقت اللازم لما بعد الجائزة من لقاءات وحوارات، قد يستمر ذلك لسنة، ولكنني سوف أعود بعدها إلى كتابتي وعزلتي، أعلم أن ذلك ليس من السهل طبعا، ولكن لابد من قرار جريء لذلك، وسيحدث.