عجباً لعمْـرُك ِ ما أعاني
شوقي إليك ِ وأنت قربي
وتنهدي والحزنُ يهدم ُ في كياني
وأظل أجترّ الدقائق والثواني
فلعلَّ قلبك ِ يرق ُّ إذا رآني
ورأى فلولَ الشوق ِ وهي تدك ُّ قلبي
وفتى ً تناوشه الأسى من كل صوب ِ ورمته عين ٌ لا ترق ُّ بسهم ِ حب ٍّ
عجباً لعمرك ما أعاني / ص 122ـ العناقيد
من يقرأ أشعار (سيف المري) يجد نفسه أمام شاعر مطبوع بالأصالة والحداثة، تتدافع كلماته منسابة برنين الذات والآخر، الوجود واللا وجود، الواقع والحلم، السلم والحرب والوطن، السماء والأرض، الحب والمعاناة، الوحدة والغربة والانتشار ؛ لتتراكم هذه الموسيقى في القصائد كحالات إنسانية ملامسة لأنايَ وأناك، لأعماق اللحظة المكتوبة واللا مكتوبة، وسيشعر القارئ بلغة شعرية موزونة الصمت والصوت والصدى، تتحرك بقوتها محيرة، متسائلة: هل الشاعر من عصرنا أم أنه قادم من أزمنة المتنبي وأبي فراس الحمداني، ليطلَّ من قصائده كما تطل الأيام القادمة على الحب والحلم والفجر ؟
j j j
بعد إصداره لديوانين شعريين (الأغاريد ـ الديوان الأول / 2001) و(العناقيد ـ الديوان الثاني / 2004)، يضيف الشاعر (المري) للمشهد الثقافي الإماراتي خصوصاً، والعربي عموماً، مجموعته القصصية الأولى (رماد مشتعل) التي تفتح الآفاق الدرامية الحياتية على الكلمة، والكلمة َ على آفاق من درامية التأمل الناقد، الساخر بتراجيكوميدية موجبة، إضافة إلى انفتاحها على العوالم الإنسانية الجوانية والبرانية، تاركة من الدلالات أثراً لا يمّـحي سواء من خلال الشخوص، أو الأحداث، أم من خلال الأسلوبية الشفيفة العميقة، لا سيما حين تنكتب القصة بشعرية تتكامل فيها اللغة والحواس والحلم والوجدانات العالية. وأحياناً، تضاهي اللغة نفسها حين تستفيد من التحاورية مع القرآن، أو حين تنزح عن نفسها منتجة عالماً من الملحمية الغرائبية التي نجدها ـ مثلا ً ـ في قصة: (طوق النجوم) ذات الإيحاءات المتعددة وعلى أكثر من صعيد نفسي واجتماعي، عكستـْـها بنية اللغة المتقاطعة مع عدة محاور، وأهمها: الحكمة «و أخبرها أن الذين رفعوا أسعار النجوم هم أنفسهم الذين وطئوا وجه القمر! / كالأعمى لا يميز بين الدرة والآجرة ـ ص 89» ؛ والمتشابكة ـ عائدة على اللغة ـ مع الحلم والشعر: «وعادت هي بعده إلى سوق النجوم ثانية تتأمل عقودها، غير قادرة على اقتناء شيء سوى الحلم الذي لا يبرح، فتذكرت قوله: أخبري النجمة عني / فأنا والليلة السوداء من حزن لحزن / وتمني إننا ليس لنا غير التمني» / «ليس للريح عليّ سلطان، وأنا لست شراعاً»، نلاحظ كيف تتصارع المكنونات بين الحلم والريح والفضاء، بين الليل بدلالته السوداء الأولى ودلالته الإشارية المضمرة لسواد آخر تدل عليه إيحاءات الكلمات: (الذين وطئوا وجه القمر/ من حزن إلى حزن / سلطان الريح)، ورغم ذلك تلتقي الدلالة النقيضة (الضوء/ البياض/ الإشعاع) التقاء رمزياً مختزلا ً بـ (الحلم/ النجوم/ وأنا لستُ شراعاً)، ويتجسد هذا الصراع بتتابعية أخرى، تبرز في الوصف الخلاق المنبني على رؤيا فلسفية للعتمة والصمت وما بينهما من مكشوف ومسكوت عنه، كما في هذه المشهدية من ذات القصة: «و عاد الليل يمشط شعره الطويل وهناً على وهن، ونامت هي على الحلم الأول، فتراءى لها فيما يتراءى المنغمسون في العتمة الثانية، أن صاحب الوعد جاء من غير ميعاد، وأخبرها أن أوريون الصياد نبأه أن كبير السحرة قد فرّ من سجنه، وأنه لا يزال طليقاً، وأن شهباً سترجم شهباً في حرب نجوم مجنونة، وستأكل الأخضر واليابس، وسيمتد خطرها إلى أرجاء المعمورة: فالسماء ظل للأرض، ومن في الأعلى يتحكمون فيمن تحتهم وتلك هي قضية الإنسان.. وحذرها في حلمها من وضع العطور، فهي تدل على مصدر العطر، ولم يقتلع الإنسان الورود إلا لطيب عطرها، فكان حسنها مصدر تعاستها، وإلا فهل اقتنى الإنسان عوسجاً أو أهدى شوكاً؟ / ص 90». في هذه المشهدية الحلمية يظهر بعد ٌ ملحميٌّ خفي ّ، يمزج العتمة بفلسفة الكشف الكونية وتداخلاتها مع إيقاعات الروح والذات وطبيعة الوجود الإنساني المكثفة في هذا القول: «قضية الإنسان» حيث من في الأعلى يتحكم بمن في الأسفل، ومن جهة تداخلية أخرى، لا تبتعد هذه الشطحة المتصوفة عن فلسفة الأصل والتحوّل كما في رمزية العطر وأصله «فهي تدل على مصدر العطر»، وبين مفارقة حكيمة:»فكان حسنها مصدر تعاستها»، و«السماء ظل للأرض». هذه المفارقات، وتلك التدرجات والدرجات للعتمة، واستبدال أمكنة الظل بين العالم العلوي (السماء) والعالم السفلي (الأرض)، منحت البنية المكتوبة (الفضاء الأسود) تأويلات جديدة للبنية العمقى (الفضاء الأبيض / اللا مكتوب) فاسحة للصمت القادم بعد التأمل أن يتحرك بترابطيّـة متواصلة مثلما تتحرك أمواج المحيط العميقة مع أمواجه المسافرة بعيداً.
و إضافة لهذه الالتقاطات المختزلة، تبرز جمالية أخرى عائدة إلى مكنونات اللغة وتوظيفها كمكونات دلالية تخلق عالماً من الارتقاء الساحر بالحالة السردية: «و حيثما يممت ثمة ليل وحزن وموتورون افترشوا الأديم الذي خلقوا منه، وعاد أحبابهم إليه في مأتم لا آخر له، وعالم لا وجه له، وليلة لا صباح لها إلا في عيون الحالمين بنهار موعود، وفرح موؤود، وحزن مولود وآلام كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة / ص 90».
ورغم أن الحالة النفسية للبطلة تنعزف على أحلامها إلا أن التأمل المناظر للحلم لا ينطفئ، ويظل منتظراً معها بطل المخيلة والحياة في كل الحالات: «وعلى الحالمة أن تنتظر عودة الفارس الذي إن لم يعد هو فلا شك أنها لاحقة به».
وهكذا يتحول «طوق النجوم» من عنوان للقصة إلى دلالات تتسلسل لتنحكم بهيئة طوق أو بكلمة أخرى بهيئة دائرة تنغلق بالتدريج على أعماق الشخصية التي لم تغادر البرزخ من موقعَـيْـه: (الضوء ـ الظل) / (الموت ـ الحياة) / (الحلم ـ الواقع).
j j j
أليس أي عمل إبداعي هو احتمالات كتابية قابلة لتعدد القراءات تبعاً لتفاعلات كل متلق ٍّ وثقافته ومداده المخيلتي ؟
إذن، لنقرأ قصص (رماد مشتعل) من العنوان الذي تركته إحدى قصص المجموعة ليكون مفتاحاً بدئياً لما تتناوشه إيقاعاتها:
بدءاً، نلاحظ أن رماد العنوان يخون انطفاءه ليظل مشتعلا ً، والاشتعال، هنا، رمز لمدلولات كلام الرماد إذا ما اعتبرنا الرماد صمتاً من نوع ما.. والرماد المشتعل، رغم بساطة التركيب الأولى، دلالتان تنطويان على أبعاد متناثرة في الحياة والوجود المتناثرين في الذات الإنسانية سواء تراءت لنا في قصص المجموعة كلها، أم ارتكزنا في قراءتها على القصة الحاملة لهذا العنوان بما فيها من تأويلات تمنح الحكمة بعد سلوك طائش يقوم به الرجل تجاه امرأة كان من الممكن أن تكون زوجته ذات لحظة ـ كما تمنح العبرة للقارئ وهذه النقطة تشكـّـل هدفاً محورياً للقصص ـ لكن عنصر المفاجأة القصصي يضعنا أمام شاب يكرر خطيئة أبيه مع فتاة هي أخته بعدما تكشف الأحداث عن صلة الدم والقربى بينهما.. تبدأ القصة من مكان واقعي معلوم (غرفة الانتظار في مركز الشرطةـ ص 67)، تنعكس عليه حالة الشخصية المتوترة (يسحب أنفاساً من الدخان ثم يطلقها)، والذاهلة أيضاً (و قد أذهلته صورة المرأة التي أمامه) ؛ ومن ثم تنتقل بنا الأحداث إلى (قضية أخلاقية) بين الشاب والفتاة ليستعيد الرجل فلاشباكيـّـاً ما قام به مع المرأة، فيطفو على الذاكرة زمنه الماضي المجسد بسلوكه بعدما يرى وجه المرأة وقد مر عليهما زمن وأحداث: (نعم هو يعرفها حق المعرفة. أ ليست هي الفتاة التي غرر بها ذات يوم، ثم لما نال مطلوبه منها أطلق ساقيه للريح واختفى من حياتها، بعد أن جعلها ضحية يدمي قلبها جرحان غائران لا مجال لشفائهما إلا بالموت؟!). ويأتي الشفاء في خاتمة القصة: (وأقفل المحضر الذي لم تكتب جميع تفاصيله، وماتت تلك المرأة بعد أيام فجأة / ص 69). ما بين البداية والنهاية تنتسج قصة واقعية لكن بطريقة غير واقعية وهذا عائد إلى الثيمة الفنية التي توازت مع ثيمتها الواقعية دافعة القارئ إلى احتمالات الإجابة عن عدة أسئلة:(فمن المسؤول؟ ومن الذي يجب أن يسجن؟ هل تسجن الفتاة التي وقعت في الخطيئة بسبب أب غائب عن البيت، وإذا حضر فهو سكران لا يكاد يقول كلمتين على بعضهما ؟أم الأم المهملة المنساقة خلف الزيارات والصديقات والعلاقات الاجتماعية الهامشية؟ أم الشاب الذي اختصر طريق العلاقة بإيهام الفتاة بأوهام الحب والزواج حتى سقطت ضحية بين يديه؟ أم الفتاة التي غلبت عاطفتها على عقلها فصدّقته ؟)؛ وبالمقابل، يضعنا السؤال الأخير أمام احتمال جوهري آخر مفاده: لماذا لا يلتزم الشاب والفتاة بالأخلاق الجميلة المنعكسة عليهما وعلى المجتمع؟ فلو أن الفتاة (رفضت الانسياق خلفه وطالبته، كأية فتاة شريفة وعاقلة، بأن يدخل البيت من بابه ويأتي لخطبتها من أهلها، كما تقتضي الأصول والأعراف ويأمر الدين والأخلاق؟).
تتداخل الأسئلة لتحيلنا إلى حياة كل من الشخصيتين البطلتين (المرأة)و (الرجل)، موضحة بنقدية ما أفعال المرأة المنصرفة عن ابنها وأفعال الرجل الهارب من زوجته وحياته إلى الخمرة كون امرأته لم تكن أكثر من (امرأة تافهة (…) فهي إما في السوق وإما نائمة، وإما تتحدث عبر الهاتف مع إحدى الصديقات). وتترسب النتائج بصورتها الأكثر فجائعية في هذه الكلمات:(فلقد أخرسته المفاجأتان القاتلتان: الأولى أن ابنته متهمة في قضية أخلاقية، والثانية أن ابنه هو الفاعل، أي أخ مع أخته)!.
بلا شك، تضمر القصة المقولة الشهيرة:(الجزاء من جنس العمل)، تاركة في ذاكرتها عبرة أخلاقية مؤثرة في الروح والوجدان، وهذا الأثر هو بشكل ما الرماد الذي حافظ على اشتعاله كونه ظل متناسلا ً من الأب إلى البنت، ومن الأم إلى الابن.. لكن، ما يؤخذ على النص أن حقيقة الرابطة الأخوية ظلت محجوبة عن الأخوين (البنت والشاب) حتى بعدما أجهضت البنت ما في أحشائها المنسوب إلى أخيها غير الشرعي.
j j j
رماد مشتعل مجموعة قصصية من الواقع الافتراضي كما أشار لذلك الكاتب بنباهة على الغلاف، موحياً بعنوان ثان مضمر، وأهم ما يميز أسلوبية هذه الافتراضات هو :
(1) ـ القصة الساخرة.
(2) ـ القصة الحكيمة.
(3) ـ القصة المقالة.
(4) ـ القصة الشعرية.
و نلاحظ أن نسبة القصة إلى (الحكيمة) تعتمد على مضمونها كثيمة موضوعية، ومثالنا عليها قصة (ظلمات ـ ص 93) الدالة على ظلمات المكان (السجن) وظلمات التربية المنتجة لشاب مجرم يتوارى في ظلماته (بنيته وأعماقه) المجرم الأساسي = الأب المهمل، اللا مسؤول، والظالم، وقصة (عندما تثاءب الأسد ـ ص 101) المعتمدة على الحيوانات كشخوص تدير الرموز َ المقصودة من الكاتب لتسقطها على المجتمع الإنساني، فالبعوضة ضئيلة بالنسبة للأسد ولن تؤثر عليه مهما فعلت وكذلك الآدميّ الصغير بأفعاله، الضئيل بأخلاقه.
أمّـا نسبة القصة إلى (الساخرة) فتعتمد على كيفية المقول المتوازنة مع معنى المقول، مشيرة بنقد لاذع، وبتشويق جاذب، إلى المتناقضات المنبثقة عن (التراجيكوميدي) الذاتي والمجتمعي، كما في قصة (كيد الرجال ـ ص 127) التي تبدأ بطريقة فلاشباكيّـة تختزل في مشهدها الأول لحظة غامضة مشوقة تجعل المتلقي حائراً متسائلا ً: «خرج من باب المحكمة وهو يتنفس الصعداء، فقد صبر عمراً طويلا ً حتى يرى هذا اليوم ! هل هو يوم الحكم ببراءته من قضية كبيرة ؟ أم هو حكم حصوله على حق طال انتظاره؟ أم هو يوم إعادة الاعتبار له بعد أن تلوثت سمعته ظلماً ؟» ثم تتوالى الأحداث مستعيدة من ذاكرة الرجل وذاكرة القصة ما يتناسل تدريجياً ليوصلنا إلى طلاق تمّ بين البطل وزوجته بعد 25 سنة، وتأتي الخاتمة مفارقة وكأنها تنزح بأفق التوقعات:»و بعد أن طلقها زغردت المرأة فرحاً بحريتها التي، كما تقول، كانت قيد الاعتقال مع رجل بارد المشاعر.. وانصرفا كل إلى حال سبيله: هي إلى بيتها الذي قرر أمام القاضي أن يتنازل لها عنه طواعية، وهو إلى وكالة سفريات، حيث حجز تذكرة إلى دولة ثانية، ليعود بعد أيام متأبطاً ذراع فتاة بعمر بناته، ولتبدأ قصة تستمر عدة سنوات/ص129». وهكذا تأتي النهاية مفتوحة على احتمالات قصة جديدة قد يكتبها كل قارئ بطريقته وذلك من خلال نظرية القارئ الشريك في العمل الإبداعي.
و تتقابل مع هذه الطريقة البنائية الساخرة قصة (الزوج السادس/ ص17) الذي ينوي التخلص من زوجته الثالثة طامعاً بأموالها التي جنتها من خمسة أزواج سابقين عليه، إلا أن السحر يرتد على الساحر فبدل أن ينفذ فيها عمله الإجرامي مهيئاً لسقوطها في حوض السباحة يسقط هو ويصبح جليساً على كرسي نقال. ولا بد أن يقف المتلقي عند هذه الجملة ليتأمل دلالاتها وانعكاساتها على النفس البشرية:»ما تأتي به الريح تذهب به الزوابع». ترى، كم من حكمة تنطوي في هذه الكلمات لا يلمسها إلا الماكث في مقام النور بين الفلسفتين: (التاويّـة) و(السكـّـرة الإلهية).
بينما نسبة (القصة المقالة) فأنا أعتبرها ميزة جمالية يجربها الشاعر (سيف المري) بطريقته اللاقطة لحواس الحدث وحركته من ناحيتين: الحركة الداخلية لشخوصه متمثـّـلة بالحالة النفسية، والحركة الخارجية المحيطة بالحركة الداخلية للشخوص من زمان ومكان وبنية حياتية: تربوية واجتماعية واقتصادية، ولا تنقطع الحركتان عن حركة الوعي المنقوص لشخوص بعض القصص كما في شخوص (رماد مشتعل) و(تاغالو / ص 37) و(سوء فهم الأبوة / ص 81)، كما لا تنقطع عن حركة الوعي الوجداني كما في شخصية الرجل الوفي، المخلص، الذي لم يقبل أن يبيع ساعته التي أهدته إياها زوجته بمئات آلاف الدراهم، فلم يؤد ِّ به تقديره لزوجته الذي لا يثمـّـن إلا إلى طرده من مكان عمله، وإلى مفارقة لن يتوقعها القارئ الرومانسي لقصة (رومانسية ـ ص 71) لأن الزوجة بدل أن تحترم زوجها الذي قلّ نظيره تطلب منه الطلاق!.
و إلى ذات الفضاء المتحرك تنتمي قصة (دورة الأيام / ص 59) المتمحورة حول حدث يستدير من الجملة القصصية الأولى (ما فيش تسجيل) استدارة تتكور كما يتكور زمن القصة لتنغلق الدائرة الحدثيـّـة عند ذات الجملة (آسف ما فيش تسجيل) لكن من قِـبل شخصيتين مختلفتين تتبادلان ذات العبارة من موقعين مختلفين تتبادلانه أيضاً:
(1) ـ بداية القصة: «ما فيش تسجيل، عبارة كان لها وقع الصاعقة على ذلك الفتى ذي العضلات المفتولة، فقد كان مهيـَّـأ ً لأن يغدو رياضياً، ولكنه كان معدماً لا «واسطة» لديه ولا مال، والمدرب من النوع الذي يراعي هذه المسائل.» الجملة المبنية على إغراض في الرفض كون الطالب بلا وساطة ولا مال لكنه يمتلك الكفاءة.
(2) ـ خاتمة القصة وذلك بعدما يصبح الفتى وزيراً:» وعرف الوزير هذا الوجه، فهو المدرب الذي قذف في وجهه بقايا الطلب وهو يطرده دون سبب واضح، ولما كان الطلب الذي تقدم به لقبول ولده خالياً من أي شرط مقنع، قام «الوزير» بتمزيق الطلب ورماه في وجهه قائلا ً له: «آسف ما فيش تسجيل»، وجاءت الجملة هنا في مكانها كون الطالب للتسجيل ليس كفئاً، والقرار المنطوية عليه الكلمات عادلا ً.
أدت هذه التناظرية في الحدث والعبارة وظيفتها السردية المفارقة، والمناسبة، وكانت مثنوية الدالة والدلالة بطلا ً خفياً لسلوك الشخصيتين المتبادل بتواز ٍ وظائفي أقرب ما تكون إلى (دائرة الأوروبورس) الأسطورية المؤكدة على دوران الزمان وانغلاقه كأفعى ذيلها في فمها، ولو استبدلنا الزمان بالحدث في هذه القصة لرأينا كيف تنغلق حواس الحدث لتكون نقطة بدايتها هي ذاتها نقطة نهايتها.. وبلا شك، هذه التكويرية منحت النص إيقاعاً آخر لفنية التعامل مع البنية كوحدة كبرى.
j j j
ولن تفوتنا قصة (عقد وشرابيك ـ ص 97) التي تصلح لتشكيل حالة متفردة، من الممكن أن تصبح مثلا ً شعبياً، تكفي فيه الإشارة إلى الاسمين (عقد) و(شرابيك) لنعرف أن المقصود من الأستاذ (عقد) ذلك الرجل الذي انبنى منذ الطفولة بطريقة غير سوية: «بين إهمال الأم وتذبذبات الأب»، وحالما نذكر (شرابيك) سنستحضر تلك المرأة التي: «لم تحصل يوماً من الأيام على شيء ترغب فيه»، ومع ذلك تلتقي هاتان الشخصيتان كزوجين: «وهكذا نشأت في المجتمع أسرة جديدة تضاف إلى آلاف الأسر المنتشرة والممتدة.. ومثل أي وضع طبيعي، سيكون هناك أطفال وتربية ! وأرجو منكم أيها القراء الكرام، أن تتخيلوا شكل أسرة من هذا النوع».
تذكرني هذه القصة بالمثل القائل (وافق شن ٌّ طبقه)، لذلك من الممكن أن نقول استبدالا ً: (وافق عقد ٌ شرابيك).
j j j
ليس آخراً، لا بد من الإشارة إلى التوازيات الدلالية كنقطة جمالية تضيف للوصف والعنونة حركة تسعى إلى التكامل لا سيما على مستويين من عناصر القص: (الأحداث) و(الشخوص)، مثل قصة (قال وقالت / ص 103) وقصة (هو وهي). كما أننا نتبيـّـن انكشافات ما بين (الموت) و(الحب) و(البرد) تتجسد كشبُـهات تجمعها القصة في قصة التناقض: (حار… بارد) المشيرة إلى البطل من خلال (بلاده الحارة) وما فيها من طبائع واحتمالات وانعكاسات، وبذات الإشارة تدلنا على البطلة و(بلادها الباردة): «وكعقدة أي رجل «صياد» تتحداه الطريدة، ظل مثابراً عليها حتى أوقعها في حباله وتزوجا، ليعيش بعدها مع هذه المرأة الباردة قمة الألم الذي من الممكن أن يتعرض له رجل ؛ إذ كانت تذيقه صنوفاً من العذاب فيشتعل إلى درجة الاحتراق، ثم تعود لتعامله ببرود إلى درجة التجمد.. (…) يجد نفسه محصوراً في شقة باردة يملأ أركانها الصقيع مع امرأة بارعة الجمال، ولكنها من جليد، وشديدة البرودة إلى درجة الموت، والموت هو البرد الأكبر/ ص 48».
و تأتي الخاتمة لتضيف إلى تناقضات الرمزين (الحرارة/البرودة) ما يتساوى مع الموت والحياة (الحب) بانزياحه الأبعد (الجنون)، وذلك بفنية تعتمد التصويرية المتحركة المرتكزة على الذوبان كحركة أولى في مقصدية:(تمثال الثلج)، وعلى الاحتراق والتبخر كحركة ثانية، ومن الضرورة أن ألفت الانتباه إلى أن (الذوبان) و(الانصهار أو الاحتراق) يتفاعلان في زمنية متوازية واحدة، لينتجا وحدة من الحركة المشهدية: «و لأن الحب جنون، ولأنه شديد الغيرة، فلقد دفعته غيرته إلى الشك في سلوكها، ودفعه الشك إلى أقصى درجات الثورة.. وفي لحظة من لحظات هياجه أذاب التمثال الثلجي واحترق معه».
حركة تصويرية شعرية تنفتح على أبعاد قابلة لأن تتشكـّـل كما تريدها أخيلة كل قارئ تبعاً لارتفاع أحاسيسه وقدراته التصويرية والتكوينية وتداعياته الجوانية المتقابلة مع الحالة.
j j j
و بالنسبة لحجم القصص فلقد كان متناسباً مع المقاصد من متعة وفائدة وإضافة، وتحديداً، عامل التشويق المختزن بتسارعه للــّـحظات العابرة من حياتنا في حياتنا، والعاكس لوعي شامل مثقف بحساسيات مختلفة، عالية الاختزال والانعكاس، تستوقف القارئ ليتأمـّـل وينتقد ويحلم، وربما ابتداء من الشكل الفني الجميل للمجموعة ولوحة غلافها المعبّـرة عن الزمن (الساعة) التي تنغلق على ظلال إنسانية تتطاول كأشباح في متاهة، بينما تدور الألوان خارج الوقت (الساعة) ليموج الأخضر في الأزرق، والأزرق في الأحمر، تاركين الأصفر وتدرجاته الترابية تتسع كصحراء نفسية ومكانية. وإذا ما أصغينا أكثر إلى الوقت ودوائره وألوانه سمعنا كيف تعزف إشارات الاستفهام مقطوعة موسيقية دائمة الترحال في متغيرات الأحوال.
أ وليس الإبداع سؤالا ً ؟ وإذا لم يكن سؤالا ً فماذا يكون سوى اللا شيء ؟
j j j
أخيراً، (رماد مشتعل) تجربة قصصية بين الواقع المعاش والواقع الافتراضي، تحركت بثيمات موضوعية وفنية ارتكزت على بساطة اليومي وتعقيداته، وعلى العالمين الذاتي والخارجي بطريقة (سوسيو سايكولوجية)، وظفت اللغة والمخيلة وما بينهما من اشتباكات حياتية ونصيّـة بأسلوبية تعددت سماتها الفنية التي غلبت عليها (الأنا العالمة بكل شيء) كزاوية تبئيرية لرؤية (الذات الكاتبة)، ورؤاها المتجولة بنا وبيننا بكل تفاصيلها الصغرى وقضاياها الكبرى، ومن جهة أخرى، أتوقع أن تظل هذه القصص قيد القراءة والاحتمال، مثل مؤلفها الذي تنطبق عليه مقولة «جان ليسكور»: «المبدع يحيا بالأسلوب الذي يبدع به».
هكذا هو الشاعر والقاص (سيف المري) الذي عرفته عن قرب أيضاً..
فما رأيكم لو نقرأ (الأغاريد) و(العناقيد) و(رماد مشتعل) قراءة مختلفة، ومن ثمة لنسأل الإبداع: لو لم تكن دواخل الذات الشاعرة والقاصة تفيض بفيوضات الغيب هل كنا قرأنا كتابات سيف المري بكل هذا الرفيف الداخلي المتنوع للإنسان واللغة والذي أسميه (أوركسترا الأبجدية)؟
j رماد مشتعل / قصص / ط1 / الصفحات (154) / دار الصدى / 2006.
غاليــة خوجـــة
كاتبة وشاعرة من سورية