إضاءة:
«هكذا يضخّم المنفيُّ جماليات بلاده ويُضفي عليها صفات الفردوس المفقود. وحيث ينظر إلى التاريخ بغضب لا يتساءل: هل أنا ابنُ التاريخ، أم ضحيّته فقط؟ يحدث ذلك عندما يكون المنفى إجباريّاً(…) وهناك منفى اختياريّ، حيث يبحث المنفيُّ عن شروط حياة أخرى.. عن أفق جديد. أو عن حالة من العزلة والتأمل في الأعالي والأقاصي، واختبار قدرة الذات على المغامرة والخروج من ذاتها إلى المجهول، والانخراط في التجربة الإنسانية، باعتبار الوجود الإنساني كلّه شكلاً من أشكال المنفى».
محمود درويش: مقالة في «المنفى»، المجلة الثقافية، الأردن، عدد أبريل 2008م.
1. المنفى، الهجرة والاغتراب:
ثمّة تعالُقٌ دلاليٌّ، في اللغة العربية، بين مفردات المنفى والهجرة والاغتراب:
ـ المنفى من الجذر «نفي»: جاء في (لسان العرب): نفى الشيءُ يَنْفِي نَفْياً: تنَحَّى، ونفى الرجلُ عن الأَرض ونَفَيْتُه عنها: طردته فانْتَفى، ونفى الشيءَ نَفْياً: جَحَده. وفي (مقاييس اللغة): النون والفاء والحرف المعتلّ أُصَيلٌ يدلُّ على تعْرِية شيء من شيءٍ وإبعاده منه. وفي (الصحاح في اللغة): نَفاهُ: طرده. وفي(القاموس المحيط): نَفاهُ ينْفِيه، ويَنْفوه عن أبي حَيَّانَ: نَحَّاهُ، فَنفا هو.وانْتَفَى: تنَحَّى.
ــ الهجرة: جاء في (لسان العرب) الهَجْرُ ضد الوصل. هَجَرَهُ يَهْجُره هَجْراً وهِجْراناً: صَرَمَه، وهما يَهْتَجِرانِ ويَتَهاجَرانِ، والاسم الهِجْرة. الهِجْرة والهُجْرة: الخروج من أَرض إِلى أَرض. وهَجَر الشيءَ وأَهْجَره: تركه. وَهَجَر الرجلُ هَجْراً إِذا تباعد ونَأَى. وهي المعاني نفسها في المعاجم الأخرى.
ــ الاغتراب: الغَرْبُ الذهابُ والتَّنَحِّي عن الناسِ. وقد غَرَبَ عنّا يَغْرُب غَرْباً، وغَرّب، وأَغْرَب، وغَرّبه، وأغربه: نَحّاه. والغَرْبة والغَرْب: النَّوَى والبُعْد، وقد تَغَرَّب. والتغريبُ: النفيُ عن البلد. وَغَرَب أَي بَعُدَ. والتَغَرُّب: البُعْدُ. والغُرْبة والغُرْب: النُّزوحُ عن الوَطَن والاغْتِرابُ؛ والاغْتِرابُ والتغَرُّب كذلك؛ تقول منه: تَغَرَّب واغْتَرَبَ، وقد غَرَّبه الدهرُ. وفي (الصّحاح في اللغة): الغُرْبة: الاغتراب، تقول منه: تَغَرَّب واغتربَ، بمعنًى، فهو غريب وغَرُب أيضاً. والجمع الغُرَباء. والتَّغْريب: النفي عن البلد. وفي (القاموس المحيط): الغَرْب: المَغْرِب، والذَّهابُ، والتَّنَحِّي، وأوَّلُ الشَّيءِ، وحَدَّهُ، كالغَرْبة وقد تَغَرَّب. وبالضم النُّزُوحُ عنِ الوَطَنِ، كالغُرْبة والاغْترابِ والتغَرُّب. وفي (مقاييس اللغة): والغُرْبة البُعد عن الوطن، يقال: غَرَبَتِ الدَّار.
يَظهر لنا أنّ المفردات الثلاث تتقاطع في معانٍ بينها قرابة واضحة دلاليّاً ونفسيّاً: هناك معنى التنحّي والبعد والنزوح عن الوطن من جهة، وهناك معنى الطّرْد والنّفْي من جهة ثانية.
هذا التّعالُق هو نفسه الذي نجده في أدبيّات المنفى. في كتابه «تمثيلات المثقّف»، يصف إدوارد سعيد المنفى بأنّه «من أكثر المصائر إثارة للحزن»، مستخلِصاً أنّ النفي والطرد في التاريخ القديم كان عقاباً مروِّعاً للشخص المنفيّ، لأنه كان يعني سنواتٍ من التشرُّد الذي لا هدف له، بعيداً عن العائلة والأمكنة التي ألفها المرء، مثلما يعني نوعاً من النبذ وعدم الشعور بالاستقرار في المكان. وقد قارن إدوارد سعيد بين المنفى في الأزمنة ما قبل الحديثة والمنفى في العصر الحديث، فوجد أنّ دلالة المنفى في الحاضر تحوّلت من تجربة شخصية إلى تجربة جماعية أصابت شعوباً وأعراقا بكاملها تعرّضت للاقتلاع والتشريد والنفي القسري، ممثّلاً على ذلك بهجرة الفلسطينيين والأرمن(1). وقد وصل إلينا أنّ هناك مجتمعات شتاتٍ كاملة تبتعد، طوْعاً أو كرْهاً، عن أوطانها الأصلية، وتتخلّى عن لغتها الأم، وثقافاتها الأصلية لتصبح جزءاً من المجتمعات والثقافات الجديدة التي هاجرت إليها، مثل الأفارقة والمغاربيّين في فرنسا، والهنود والباكستانيين في بريطانيا. وقد أنتج هؤلاء آداباً مُهجّنة، وهم يتّخذون من الفرنسية أو الإنجليزية لغةً للتعبير والتواصل، كاشفةً عن حاجيات الذات الجديدة، وجُروحٍ في الوعي والكينونة، وتشظّياتٍ في الهويّة. وبسبب من ظروف الحرب في لبنان، أو الإضطهاد السياسي والحصار في العراق، أو بسبب الحرب في السنوات التي أعقبت احتلاله، والقمع واستحالة في أكثر من بلدٍ عربيّ، شهدت العقود الثلاثة الأخيرة هجرة كبيرة لمجموعاتٍ بشريّة كبيرة، وفيهم المثقّفون والأدباء، إلى البلدان الأجنبية التي استضافتهم كأيدٍ عاملة أو طلبة علْمٍ أو لاجئين سياسيّين. أليس صحيحاً أن النظرة إلى المنفى في الأدب، بل وفي الدين، تخفي ماهو رهيب وفظيع في حقيقته، وهو أنّ المنفى أمرٌ دنيويٌّ على نحو لا براء منه، وتاريخي بصورة لا تطاق، وأنه من فعل البشر بحق سواهم من البشر؟
بوسعنا أن ننظر إلى المنفى، كما يرى منظّرو ما بعد الدراسات الاستعمارية، في اتّجاهين مختلفين: منفىً مفروض وآخر اختياري، مُميِّزين بين المنفى والاغتراب، فالأول مفروض، حيث لا يستطيع المنفيُّ العودة إلى وطنه الأم حتى لو رغب في ذلك، أما الثاني فهو اختياري نشأ نتيجة رغبة المرء في مغادرة وطنه، لأي سبب من الأسباب.
ومن الصّعْب اليوم أنْ نضع تخطيطاً لمعنى المنفى ضمن هذه الظروف المعقَّدة من عمليات النزوح والشتات والاغتراب والاقتلاع والتشريد والنفي من جهة، ومن مسارات الرحيل الطوعي أو الهجرة بحثًاً عن الحرية أو الرغبة في الرقيّ بأوضاع المعيش من جهة ثانية. ولذلك، يحتفظ معنى المنفى بطبيعته المعقّدة، ويستوعب معنيي الهجرة والاغتراب معاً: الهجرة حين يجري السعي إلى المنفى وتفضيل الإقامة فيه اختياريّاً خارج الوطن، والاغتراب حين يُنظر إليه بوصفه حالة من الشعور بالعزلة والإبعاد اضطراريّاً داخل الوطن وخارجه. وبالنتيجة، من الصعب أيضاً أن نميّز بين الثلاثة، لأنّ هذا التمييز ليس دقيقاً كما يجب؛ فثمة تداخلٌ ومساحاتٌ رماديّةٌ تصل ما بين المنفى والاغتراب، ثمّ بين ذينك وبين الهجرة.
وفي هذه الحالات جميعها، يمثّل المنفى واقعاً انتقاليّاً يتمُّ بالقوّة أو بالفعل، عندما يعني الانتقال من الأليف والمعلوم إلى الغريب والمجهول، ويعني مواجهة الكائن الإنساني لمصيره في حضرة رعب الوجود وقسريّته، وبالتالي ننتقل في الحديث عن المنفى من كونه واقعاً مستجدّاً إلى كونه تجربة إشكالية تقذف بالذّات المنفية في أتون أسئلة المصير والهويّة الملغزة. للمنفى، إذن، أسماء كثيرة ووجهان، داخليّ وخارجيّ. داخلي هو غُرْبَة المرء عن مجتمعه وثقافته بسبب سلطةٍ من السّلظ، فيصير داخل الوطن تعريفاً حادّاً للمنفى. وخارجيّا هو انفصال المرء عن مكانه الأول وعن جغرافيته العاطفية وعن فضائه المرجعي. وإذا كان الأوّل يجد متنقّس مدلولاته في الاغتراب بما هو شرخ في كينونة الذات، فإنّ الثاني يستتبع واقع الهجرة إلى المكان الغريب حيث الانقطاع عن الفضاء المرجعيّ يولِّد لدى الذات الفردية رقْصاً على الأجناب بين الـ«هنا» والـ«هناك».
وليس هناك أقوى من الأدب للتعبير عن هذه التجربة، حيث تبرز لنا الطبيعة الغنيّة والمركَّبة لأدب المنفى عبر الموتيفات التي تلتمع في ذاكرته، وتتكرر في نصوصه الشعرية والسردية على السواء.
2. أدب المنفى أم أدب المهجر؟
عبر التاريخ الثقافي، كان هناك دائماً حيّزٌ محفوظ لأدب المنفى بتعبيراته المتنوّعة والنوعيّة، من عصر إلى آخر، ومن تجربة إلى آخرى، ذاتية وجمعيّة. فأدب المنفى قديم في الآداب الإنسانية، ويتجلّى حضوره في ثيمات الاستبعاد والخروج والهجرة القسريّة، ويتّخذ من لحظة النفي علامةً فاصلةً في تاريخ الفرد والجماعة، باعتبارها لحظة انتقالٍ نفسي زمنيّ تتمّ من وإلى المكان المهجور إليه، ومن ثمّة تنطوي على شرخ في سيرة الفرد مثلما في تاريخ الجماعة. وهذه اللحظة الانتقاليّة، بكلّ تجلّياتها وأشواقها، كانت في معظمها تستدعي سؤال الكينونة ومعنى الوجود، في سياقِ لا يشي إلّا بالاغتراب والحنين والشعور بالانفصال. لكنّ حضوره اليوم طاغٍ، باعتبار «عبور الحدود» الرمزيّة والمادّية الذي يتصاعد، وتجارب الهجرات الآلام والمصائر المجهولة التي تترتّب عنه هجرةً أو نفيًا أو لجوءًا، حتّى أصبح ثيمة غالبة، في سياق عصْرٍ متحوِّل، قياميّ.
ولم يسلم الأدب العربي، عبر تاريخه الطويل، من تجربة المنفى الأدبي؛ فقد شعر الكثير من شعرائه وكتّابه بطعم الاغتراب والبعد عن الوطن، واشتاقوا إلى الأمكنة التي هجروها، لسبب قاهرٍ على الأرجح. تجسّدت معاناة هذه التجربة في صيغٍ كتابيّة متنوّعة، بدءأ من طلليّات الشاعر الجاهلي، ومروراً بكتّاب وشعراء ذاقوا النفي حنظلاً وكتبوا عنه، ولعلّ أشهر هؤلاء أبو حيان التوحيدي ودعبل بن علي الخزاعي وأبو فراس الحمداني والمتنبي وأبو تمام وابن عبد السلام الخشني وابن زيدون، إلى أحمد شوقي وسامي البارودي وعلال الفاسي وطه حسين وتوفيق الحكيم في العصر الحديث. لكن يبقى المهجر اللبناني إلى أميركا أو»الأندلس الجديدة» بتعبيرهم، في الربع الأوّل من القرن العشرين، هو الأبرز في تاريخ الأدب العربي.
من مهجرٍ إلى آخر، كان الكُتّاب العرب يكابدُون مختلفَ حالاتِ النفْي، القسرية منها والاختيارية. والاغترابُ عن الوطن لا يعدو كونه إحدى هذه الحالات، بل ربّما صحّ القول إنه في الغالب أهون هذه الحالات، أي أخفّها وطأةً . وبسبب من الأوضاع المعقّدة التي تعيشها مجتمعاتنا العربية، والتحدّيات المصيرية التي تواجهها في الداخل والخارج، تعدّدتْ وتنوّعتْ مفاهيمُ «النفْي» و»المنفى» لدى المثقّف العربيّ، الذي يجدُ نفسه حائراً بين الشكوى من المنفى وبين التغني به، متنازَعاً بين منافيه الداخلية ومنافيه الخارجية . وقد شاع الكلامُ كثيراً عن المنفى ومفاهيمه في الأدب العربي الحديث، وصار واحداً من أبرز موضوعاته. ولم يدخل مصطلح أدب المنفى تاريخ الأدب العالمي إلّا في ثلاثينيات القرن العشرين.
لكن «أدب المنفى» يُثير إشكاليْن: أوّلاً، أنَّه ليس نوْعاً أدبيّاً بالمعنى الدقيق، بقدر ما هو أدبٌ موضوعاتيّ يلازمه حدثٌ مهمٌّ ألا وهو النفي، سواء كان إجباريّاً أو اختياريّاً. ويغطّي أدب المنفى كل الأجناس الأدبية المعروفة من شعر ورواية وقصة قصيرة وملحمة ومسرحية، وأحيانًا يتجاوز المتعارف عليه من الأنواع الأدبية الرفيعة، ليُقدَّم في شكل يوميات أو شهادات أو سير ذاتية وغيريّة.
ثانياً، أنّ مفهومه مُلْتبس وفضفاض وغير قارّ، يختفي سرعان ما يظهر مجدّداً في حُلّة مغايرة تتلوّن بألوان العصر وظلاله السياسية والسوسيو الثقافية، وتبعاً للسياق التاريخي والمعرفي الذي ظهر أو أُنْتِج فيه.
وبغضّ النظر عن المُسمّيات التي أطلقها دارسو أدب المهجر الجديد، ورفض بعضهم لمُسمّى «أدب المهجر» بسبب من تغيُّر الحساسيّات ورؤى الكتابة، وتغيُّر الظروف الراهنة عن الظروف التي رافقت ولادة أدب المهجر، مٌفضّلين عنه مُسمّى «أدب الاغتراب» أو «المنفى»، إلّا أنَّنا آثرنا أن نأخذ بمصطلح «أدب المهجر»، لأنّه يتّسع لأدب المنفى، ويشتمل حتّى على معاني الغربة والنفي والحنين إلى الوطن والإغتراب بالمعنى الوجودي، وهي المعاني التي ظلّت ملازمة له، والموتيفات التي وسمته كظاهرةٍ أدبيّةٍ خلال النصف الأول من القرن الماضي وما بعده بتأويلات جديدة. وإذا كانت كلُّ هجرةٍ، بمعنى من المعاني، نفَْياً، فإنَّه ليس بالضرورة كلُّ نفْيٍ هجرَةً، فلكم عاش المرء منفاه، وذاق ويلاته وهو في وطنه حيٌّ يُرْزق. ثُمّ ليس كلُّ من عاش المنفى، خارجيّاً أو داخليّاً، كتب أدباً منفيّاً. إنّ مفهوم المنفى نفسه تغيَّر، وتغيّرت الشروط المستجيبة له، فعن أيّ منفى نتحدث اليوم في زمن صعود التكنولوجيات الجديدة التي حقّقت ما يُسمّى بـ«الشفافية الجغرافية»؟
نعود إلى المهجر، ولا نشكُّ في أن مغادرة المكان الأول هي الشرارة الأصليّة التي تقدح نار الهجرة وتداعياتها. وإذا اختلفت أسباب الهجرة، واختلفت تبعاً لذلك دلالاتها وتجلّياتها. فإنّ المهجر لا ينطوي على القسر الذي ينطوي عليه المنفى، بل ينطوي على درجة من حرية الاختيار، ويبقي إمكانية العودة مفتوحة دائماً، حتّى وإن كانت الهجرة قسريّة أحياناً. ليس للهجرة ذلك التأثير النفسي الضاغط الذي يتركه المنفى على المهاجر. يشعر هذا الأخير أنَّه منفيٌّ، مُطارَد وغير مرغوب فيه، وهو ما يقوّي الشعور بالغربة والاغتراب لديه. مصطلح «المهجر» يستوعب أفق الدراسة، وله كفايته الإجرائيّة في التحليل، فيما «المنفى» و«النفي» مضلِّل ويوحي بمدلول سياسي وإيديولوجي لايمكن أن نعمّمه على كتاّب المهجر وشعرائه.
وإذا كان مصطلح «أدب المهجر» ليس متداولاً إلا في كتب التاريخ الثقافي والأدبي، إلّا أنَّه لم يتراجع، بل هو في اطّرادٍ مستمرّ غيَّر حتى في الوعي بمدلول المهجر نفسه، في سياقٍ مُعَوْلم تأثّرت به طريقتنا في التفكير والتأويل؛ فلم يعد المهجر مهجراً بالمعنى القديم، ولا هو ذلك المكان الذي تقلّ احتمالات عودة من يذهب إليه، مثلما لم يعد الأديب المهجريّ بمنأى عن مجريات الأحداث في بلده الأمّ. وهو ما يدفع بقوة مفهوم «الحضور الغياب» كما طرحه «هيدجر» و»ليفيناس» و»دريدا» إلى حقل الدراسات الأدبية المقارنة، حيث الإنسان والكلمات والأشياء تحضر في الغياب، وتغيب في الحضور. ويقترح جورج شتاينر أطروحة ثاقبة مفادها أن أدب المهجر يمثل جنساً قائماً بذاته بين الأجناس الأدبية في القرن العشرين، عصر اللاجئين، وهو أدب كتبه المنفيّون، وعن المنفيين. يقول شتاينر: « يبدو صحيحاً أن أولئك الذين يبدعون الفن في حضارة شبه بربرية جعلت الكثيرين بلا وطن، لابدّ أن يكونوا هم أنفسهم شعراء مشرّدين ومترحّلين عبر حدود اللغة، شذّاذاً متحفظين نوستالجيين في غير أوانهم عمداً»(2).
يُعاد اليوم طرح السؤال المتعلّق بأدب المهجر، بقوّة وداخل تفسيرات خصبة وحادّة. وصار دارسوه يتحدّثون عمّا أسموه بـ«المهجرية الجديدة» في الأدب العربي، بعد أن هجر المئات من الأدباء والكتّاب بلادهم إلى دول وفضاءات وعوالم جديدة، في أوربا وأميركا الشمالية وأستراليا. وقد تأثّر هؤلاء بالثقافة والمحيط الاجتماعي الجديدين، ممّا وسم كتاباتهم الشعرية والنثرية في مجملها بسماتٍ خاصّة وجديرة للانتباه. لكن صيغة السؤال تبدو مختلفة هذه المرّة، فالبحث عن سمات وخصائص في نصوص هؤلاء المهاجرين الجدد، قد لا يتأتى بالقدر نفسه من السهولة والوضوح التي استطاع بها دارسو الأدب تحديد سمات أدب المهجر الذي نشأ في بدايات القرن العشرين.
لقد تغيّر «أدب المهجر» العربي، وتجدّدت ظاهرة المهجريّة بصورة لافتة، وتعدّدت المَهاجر، بدايةً من الربع الأخير من القرن العشرين. ولقد ترتّب عن هذه الأوضاع المستجدّة ما نلمسه من ثراءٍ نوعيّ وكمّي في الحالات والمآلات التي استقرّت عليها وضعيّة المهجر الجديدة، وهي تتدرّج من سكون اللحظة وحيادها إلى المأساوية المكثّفة، مروراً بأشكالٍ من التغرُّب ونبرة الاحتجاج والإحساس اللذوعي بسؤال الوجود والكينونة لم يكن يعرفها ويرقى إليها وعي المهجريّين الأُول. وفي خضمّ ذلك، انخرط المئات من الأدباء في الكتابة باللغة العربية أو باللُّغات الأجنبية (الفرنسية، الإنجليزية، الألمانية، الهولندية، الإسبانية وسواها)، وقد امتزجت في كتاباتهم هموم أوطانهم بالواقع الذي يحيونه في الدول المضيفة، وتوحي تجاربهم في الغربة بذكريات طفولتهم ونشأتهم الأولى، وهو أهمّ ما يشكّل أدبهم ومفهومهم للكتابة والتخييل، مستثمرين الهجرة كأفق للكتابة، وعاملين في أفق «الهوية المفتوحة»، وجدلية «الأنا» و»الآخر» غير القابلة للانفصام.
وفي هذا السياق، من المهجريّين من بقي مندمجاً في حركة الثقافة العربية في الداخل، ومستكملاً عناصرها بوجودهم الشعري على مستوى النصوص والمشروعات الشعرية أو الحضور الثقافي، ومنهم من ظلّ تابعاً للمراكز الثقافية الكبرى، وهم بذلك يُكرّسون مركزيّة المركز الثقافي وينتفعون منه أيضاً، وهم نفَرٌ غير قليل. لقد بدت المهجرية الجديدة كأنّها «تبدأ من الانقطاع التامّ عن أيِّ ماضٍ وارث للمكان الجديد، سواء ماضيها الشخصي والثقافي، أي كينونتها هناك في الداخل، والانتماء إلى مشروع ثقافي أوسع هو مشروع الحداثة العربية»(3).
ومن جملة الآداب التي طبعتها ظاهرة المهجريّة الجديدة بقوّة، هناك الأدب المغربي المكتوب بالعربية أو بغيرها من اللغات الأجنبية.
3. ظاهرة المهجريّة في الأدب المغربي:
بالنظر إلى الموقع الجغرافي الاستثنائي للمغرب، فقد كانت الهجرة بالنسبة لأبنائه أفقاً للترحال والكتابة، والمغامرة أيضاً. ولم يعدم الأدب المغربي، من عصر إلى عصر، مهجريّيه من الشعراء والكتّاب والرحّالة. وكان هؤلاء يهاجرون، في بداية الأمر، إلى المشرق لأسبابٍ ترتبط بالعصر نفسه، منها الحجّ أو الرحلة والاستكشاف أو العمل المهني والسياسي ومتابعة الدراسة. ابتداءً من ابن بطّوطة المهاجر الأكبر، وصولاً إلى عبد الكريم بن ثابت وعبد الكريم غلاب ومحمد برادة ومحمد السرغيني وأحمد المجاطي ورشيد يحياوي ومحمد لفتح وسواهم ممّن عاشوا أجواء الحياة الثقافية في هذه البلاد لفترةٍ، وتأثّروا بها، وقد كتب معظمهم عنها في رواياتٍ وسير ومذكّرات وشهادات. ولم يعرف أدباء المغرب، في مهجرهم، «منفاهم الأدبي» إلّا في بحر السبعينيات من القرن المنصرم، ولاسيّما أولئك الذين هاجروا أو نفوا إلى فرنسا، بعد أن تعلّموا لغتها في المغرب زمن الحماية، فاحتضنهم الوسط الثقافي هناك. ولعلّ أشهر هؤلاء هم: إدريس الشرايبي، محمد خير الدين، الطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي. ومعظمهم كان يكتب في سياق ثِقْـل ثقافي وسوسيوتاريخي ضاغط كانت ترهنه، باستمرار، العلاقة الاستعمارية بين فرنسا والمغرب. وإذا كان هذا الرعيل الأول من كتّاب المهجر المغاربة يعاني من تلك العلاقة المتوترة مع لغة الآخر المُسْتعمِر، مُتحوِّطاً من أن تستدرجه إلى مواقعه الفكرية والسياسية، فإنّ هناك جيلاً جديداً هاجر إلى فرنسا أو نشأ في فضاءاتها أو ولد بها، بدا مختلفاً يكتب مُتحرّراً من عقدة المستعمر الأجنبي، وأصبحت الفرنسية بالنسبة لديه أداةً تعبيريّةَ للبوح وارتياد الحرّية. ولقد خلق هذا الجيل المتكوّن من حساسيّات ورؤى متعارضة بين الشعر والسرد، (محمد حمودان، محمد العمراوي، سهام بوهلال، عبد الله الطايع، سليم الجاي، رجاء بنشمسي، ماحي بنبين، إدريس الحداوي، سميرة العبشي، هدى روان، محمد رزان وسواهم) حراكاً حقيقيّاً ومتنامياً في أوساط المهاجرين والمشهد الثقافي الفرنسي على السواء. وفي فرنسا أيضاً، هناك من المهجريّين من جاء إليها بعدما درس في أرض الوطن وناضل داخله، وقلبه مشغوفٌ بالعربية يكتب بها ويبدع فيها (جمال بدومة، عبد الاله الصالحي، احساين بنزبير، محمد المزديوي، عبدالله كرمون، ميلود غرافي، المعطي قبال، حنان درقاوي وسواهم).
ولقد تعدّدت اليوم المهاجر المغربية في أوروبا وخارجها، وبات هناك العشرات من الكتّاب والشعراء الذين يكتبون باللغة العربية أو بلغة الدول المضيفة أو بهما معاً: في بلجيكا (علال بورقية، طه عدنان، عبد المنعم الشنتوف، محمد الزلماطي، عيسى آيت بلعيز، غباري الهواري وسواهم)، وفي ألمانيا (محمد مسعاد، مصطفى الحجاج، عبد اللطيف بلفلاح، عبد اللطيف يوسفي، رشيد بوطيب، وردة صافو، نور الدين بلهواري، ريم نجمي وسواهم)، وفي هولندا (عبد القادر بنعلي، فؤاد العروي، مصطفى استيتو، حسن حجي، حفيظ بوعزة، سميرة العياشي وسواهم)، وفي إسبانيا (نجاة الهاشمي، رشيدة لمرابط، نبيل دريوش وسواهم)، وفي إيطاليا (أحمد لوغليمي، أسماء غريب وسواهما)، وفي إنجلترا (يونس بن ماجن، عبد الإله كرين وسواهما)، وفي جمهورية التشيك (عمر منير وسواه)، وفي النرويج (زكية خيرهم وسواها)، وفي الولايات المتحدة (فدوى مساط، خالد سليكي، نجوى المجاهد، ليلى العلمي وسواهم)، وفي كندا (هشام فهمي، عبدالرحمن بكار وسواهما).
إنّنا أمام ظاهرة حقّاً، ظاهرة المهجريّة. يبرز لنا التحوُّل الجذري اللّافت الذي طال مسألة الهجرة والوعي بها، وعلاقتها المتوتّرة بالكتابة، بالقياس إلى ما كان متداولاً قبل عقدين أو ثلاثة. وتسمح لنا هذه الوضعيّة المعقّدة من تارخ المهجريّة المغربية في الأدب والفنّ معاً، بإبداء هذه الملاحظات:
أ- تكشف الوضعية حقيقة الانتماء الصعب والمركَّب إلى عالمين متناقضين، وثقافتين بينهما عناصر توتُّر. وإذا كان ذلك يشكّل مصدر ثراء واختلاف بالنسبة للأدباء الشباب من الجيلين الثاني والثالث، إلّا أنّها بالنتيجة تسم كتاباتهم بروح التساؤل والحيرة واللّايقين والقلق بإزاء موضوعات اللغة والذات والمكان.
ب- أغلب المهجريّين الجدد، يجهلون العربية، ويكتبون بلغات الدول التي ولدوا بها ونشأوا فيها، ولم يعرفوا المغرب بلدهم الأصلي إلّا عبر البطاقات البريدية، أو من خلال العطل و الزيارات العائلية، وأحياناً يتحدّثون عن المغرب ككُتّاب أجانب، وهو ما يقوّي الشعور الحادّ لديهم بالمنفى وانشطار الهويّة.
ج ومن هؤلاء من لهم صيتٌ بأوروبا، واختيروا كأهمّ كُتّاب في بلدان المهجر التي يعيشون بها، وكتبهم بلغت مبيعاتها سهْماً مُحترماً، وحظوا بجوائز أدبيّة معروفة، لكن أعمالهم لم تترجم إلى العربية وليس لها صدى ببلدهم الأصلي المغرب الذي يُجْهلون به.
د- بالمقابل، هناك قطاعٌ آخر من أدباء المهجر من غادروا البلاد في سياقات مختلفة، ووجدوا أنفسهم موزَّعين بين «المنافي» بأوروبا وأمريكا الشمالية حيث يعيشون حياة جديدة، لكنهم يحرصون على الكتابة بالعربية، وبالتالي يبدون أكثر من سابقيهم اندماجاً في الحراك الثقافي المغربي على مستوى النصوص والأعمال التي ينشرونها بالمغرب وتتداول بين النقّاد والقرّاء، أوالحضور الثقافي (ندوات، مشروعات ثقافية، مجلّات، مواقع إلكترونية، حوارات صحفية..).
وأيّاً كان، فإنّ الكتاب المغاربة المنتشرين في بقاع العالم يُشكّلون قيمة مضافة لأدبهم الوطني الأصلي، وهم يُدْخلون «رَعْشاتٍ» جديدة في أنساغه واساليب رؤيته وتعاطيه مع أسئلة العالم، منخرطين، بالتالي، في إعادة صوغ الهويّة الفردية والجماعية للمغاربة المتجدّدة في تعدُّدها وانفتاحها وتطوافها. وفي هذا السياق، يجب أن ندرك أنّ جزءاً مهمّاً من أدبنا يتشكّل في المهاجر بلغاته العربية والفرنسية والإسبانية والهولندية والألمانية والإنجليزية والإيطالية، بل حتى باللغات الإسكندنافية.
4. شعريّات مهاجرة:
منفى الكتابة وأسئلة التجربة
في هذه اللحظة المتوتّرة من ثقافتنا المعاصرة، لا يكفُّ الشعر المغربي عن المناداة بحداثته وشقّ دروب مغامرتها في الآن والمجهول، بمختلف الأيدي والأفواه والحساسيّات والرؤى الجمالية. من جيل إلى آخر، ومن ذاتٍ إلى أخرى. وبالرّغم من ذالك، لا تزال كثيرٌ من تجارب هذا الشعر تتكلَّم التيه والعماء في الداخل والخارج على السواء، ولا يزال النقد الشعري عندنا يُراوِح مكانه. فليس هناك من مسوِّغ، البتّة، أن يظلّ نقد الشعر المغربي كما هو، وأن يثبت خطابه على ميدان هيمنة السلط والكليشيهات، فلا يغيِّر نفسه. يستنزف المستقبل بقدرما يستنزف نفسه. وإذا لم يعد هناك ما يقوله، فإنّ عليه أن يتغيَّر، لأن الخطاب حول الشعر يتغيَّر لما يتغيَّر الشعر نفسه. كما عليه أن ينظر إلى الأراضي الجديدة التي يحترثها الشعر المغربي في الداخل و»المهاجر» على السواء. وربّما اعتبرنا الوقت قد حان لتبعث «الشعرية المغربية» من تاريخها المنفيّ في أنفاق كثيرة، وتقوم بواجب الإصغاء لمسارات الشعر المغربي، حتّى تدرس خصوصيّاته، وتُقايِس إضافاته النوعية ضمن تيار الحداثة الشعرية، وتكشف عمّا يتحكّم به من قوانين وأسئلة متنوّعة ومركّبة. ومن جملة الإشكالات التي عليها أن تتصدّى لها، هذا الإشكال: عن أيِّ مُتخيَّل شعري وطني يجب أن نهندسه بصدد شعراء مغاربة يكتبون بالعربية، أو بلهجاتهم ورطاناتهم المحلّية [الأمازيغية، الحسّانية والعامية]، أو بلُغات الدول التي تُضيّفهم في المهاجر بأوروبا وكندا وسواهما؟
ثُمّ هذا الإشكال: هل بإمكاننا اليوم أن نتحدّث عن جيل المهجريّين في الشعر المغربي، ولاسيّما بلغته الوطنية، حيث تجدهم أمام نداء لذوات مشروخة ومحفوزة في مرايا التاريخ والمطلق، ومن ثمّة تكون الجغرافيا المقياس في التنظير والتحليل بدلاً من التاريخ، والمهجر المكاني بدلاً من التحقيب الزّمني؟
1.4. مقترح للقراءة:
نقترح، هنا، أن نبحث في أربع تجارب شعريّة مغربية تقْدِم إلينا من تلك الجغرافيا النفسية والثقافية والتاريخية للمهجر الأوروبي، رعاها وأكبَّ عليها شعراء جمعهم بينهم قدر الهجرة، وفرّقت بينهم سبل الكتابة والحياة، مُنْصتين لنوع التمايزات في شكل الكتابة وانبناء الذّات واللغة والمتخيّل والتيمات، ولنوع الموقف الذي يتّخذه كلُّ شاعرٍ من ذاته ومن الآخر، وكذلك من الشعر نفسه. هؤلاء الأربعة هم: عبدالإله الصالحي، طه عدنان، محمد مسعاد واحساين بنزبير.
وما يوفّر لبحثنا أرضيّة ممكنة للسؤال والتحليل أنّ هناك أكثر من قاسم مشترك بين هؤلاء الشعراء، فهم ينحدرون من جيل واحد نشأ وشبّ عن الطوق في بلده الأصلي، ولم يهاجروا إلى أوروبا إلّا في بحر التسعينيّات هجرة اختياريّة للعمل أو متابعة الدراسة من جهة، واندمجوا في مجتمع المهجر الثقافي من خلال برامج ومشروعات ثقافية(4)، بقدرما اندمجوا في الحراك الثقافي والشعري المغربي على مستوى النصوص والأعمال التي كانوا ينشرونها تباعاً ببلدهم المغرب من جهة ثانية، ولم بصدروا باكوراتهم الشعرية المكتوبة بالعربية إلّا في الألفية الجديدة بين الدارالبيضاء وبيروت، وإن كانت أغلب نصوصها وُقّعت في بحر التسعينيّات، ممهورةً بسؤال كينوناتهم المهجري من جهة ثالثة.
وإذا كان هناك من قاسم آخر ما زال بينهم فهو «قصيدة النثر»، وقد جعلوها لسان حالهم في الكتابة والرؤية إلى الذّات والعالم، لكنّهم لا يكتبونها بسويّةٍ واحدةٍ، وذلك استناداً إلى مصادرهم في الكتابة والمرجعيّات الفكرية والجمالية التي متحوا منها. في (كلّما لمستُ شيئاً كسرته)(5)، نجد لدى عبدالإله الصالحي في قصيدته قدرةً على التقاط تفاصيل الحياة بتفاهاتها حتّى، والتعبير عنها بطريقةٍ تمزج بين اللذوعيّة والكلبيّة، مثلما نجد احتفاءً بالذاتية بالغ الفجاجة، وفي (أكرهُ الحبّ)(6)، نجد لدى طه عدنان في قصيدته مُقاومة رمزيّة ومعكوسة لا تًهادِن واقعاً تحياهُ، وتتعيَّش على تناقضات الحياة المنثورة في كلِّ مكان. وفي «(زغب المياه الراكدة)(7)، نجد لدى محمد مسعاد في قصيدته وعْياً حادّاً بمسألة الدالّ الشعري تخييليّاً وجماليّاً، بحيث تشفّ عن عملٍ بالغ القيمة لشعرية الجسد في تأويلها الإيروتيكي للغة. وفي (بالصدفة، نثر الفصول)(8)، نجد لدى احساين بنزبير في قصيدته شعريّةً للسلب تعمل على نقض العقل الدلالي للصورة، وإحلال اللّعب الصدفوي محلّه. وهكذا، فإذا كان عبدالإله الصالحي وطه عدنان يهتمّان بالمدلول الشعري وأخلاقيّات كتابته، فإنّ محمد مسعاد واحساين بنزبير انصرفا إلى الدالّ الشعري وجماليّاته، إيجاباً وسلباً. وهي تجارب تقيم، جميعها، في المسكن التُّخومي وتخرج عنه إلى آفاقٍ أرحب خارج التخوم .
2.4. جماليّات اليوميّ بين اللُّذوعية والكلبيَّة:
نكتشف في مجموعة عبد الإله الصالحي الشعرية احتفاءً واضحاً باليوْميّ الذي يمزج في بناء جماليّاته بين اللذوعيّة والكلبيّة، واحتفاءً بالذاتية منقطع النظير. عبر نصوصها جميعاً، تلتقط الذّات الشاعرة تفاصيل الحياة اليومية ومعيشها القاسي وباهظ الثمن في المهجر. من البدء، يقول الشاعر في قصيدته التدشينية «دروس باريسية»:
«ماذا لوْ كانت هِجْراتُنا مجرّد أعذار؟/ ماذا لو كُنّا في الواقع مجرّد شخصياتٍ ثانويّة/ لا تتحمَّل أدْنى حبْكة؟».
ويزيد في لهجة تشفُّ عن معاناتها وحنينها وانشدادها إلى مكانها المرجعي:
«الكمائن: الجغرافيا بَدَل التاريخ./ وفجأةً نجد أنفسنا مكبَّلين بالسلاسل./ هربنا منك فوجدْناكِ بعد عُقود على قارعة الطريق./ أكثرَ ضراوةً/ مساحيقُك متقنة الآن/ وثأرك سيمفونية مُشهَّرةٌ في وجوهنا إلى الأبد»(ص10).
وفي سياقٍ من هذه العلاقة الملتبسة والمتوتِّرة التي تُقيمها مع العالم، لا يحضر ملفوظ الذّات الشاعرة إلّا في ما نلمسه من شرْخٍ وسوء تفاهم وصراع بينهما، وهو ما يجعل الذّات ساخطةً على المجريات والوقائع حولها، ويجعل نبْرةً احتجاجيّةً طافحةً تسري في ملفوظها وتسمه بالمباشرة والرخاوة من جهة، والعنف والصدامية من جهة أخرى:
«ماذا سنفْعلُ بِشَرْخ/ وقد أزْهرَ العشْبُ في أفواهنا؟/ من مغامرة لأخرى تفننّا في الكبْس على الأزرار./ أخرَسْنا أجمل ما فينا/ صحّحْنا النّدمَ بالبهارات/ وأنجبْنَا أبناء يفهمون في الطاعة والموسيقى.»(ص11).
وكلّما توغّلنا في أدغال التجربة، تناهتْ إلى أسماعنا صور الحياة المهجريّة وأصداؤها، التي يكتبها الشاعر ويعانيها بصدق وعدم مبالاة، فيجعل أسلوب المفارقة الساخرة الأنسب للتعبير عن حياةٍ تتّشح بالسواد، والكشف عن تصدُّعات الذات الشعرية وشروخها وندوبها:
«رغم الزّحام وشراسة المنافسين/ سرقْتُ قلبها في طرفة عين./ رميْتُ عقلها في صندوق قمامة»(ص56).
ثُمّ، في خضمّ ذلك، نُواجَه برؤيةٍ تشاؤميّة قاتمة للحياة، ونُحسّ بالسوداوية المصحوبة بمسحة عُنْفٍ صداميٍّ وبُصاق على حالة راهنة، تقودُ الذّاتَ من حالةٍ إلى أُخرى أكثرَ التباساً:
شارل بودلير أقرب إلينا من أبي تمام/ يتقيّأ المستقبل كلَّ صباح./ التقدُّم يحمل وزْرَنا بحروفٍ بارزة/ يخذلُنا الكحول والشعر أكثر فأكثر»(ص65).
وبسببٍ من ذلك، نلمس اطّراد صورة الشاعر العنيفة والصداميّة وتواترها الذي يتمّ حسب قوة الفعل وردّه، إذ هو الغريب المهاجر والمنبوذ الّذي يحيا الليل بخمره وحاناته وروادها، وتحيا شوارعه المكتظّة بالسكارى والسكّيرات من نساء يمارسن حياة الليل بكل أبعاده، في مدينة لا تعرف الظّلمة مثل باريس، حتّى يشتقّ له من عبور الليل الأبيض فلسفة حياةٍ لا تبعث في نفسه كثير أملٍ، وتبعث طاقةً هائلة من التهكّم والهزء في عصبه، من دون هويّة:
من حين لآخر يكفهرّ العالم/ تقفل التلفون/ تلعن الكتابة/ تلعن النساء/ وتلعن نفسك (ص49).
وفي موضعٍ آخر:
نحن مُعوَّقو هذه الحرب نتحسّس نُدوبَنا ونحن نحتسي كؤوساً رخيصةً مع عاهراتٍ بدون أسماء في حاناتٍ مظلمة»(ص18).
ثُمّ سرعان ما تتلبّس الذّاتَ سلبيّةٌ شديدة من الواقع، تنزع عنها كلَّ لَبوس أخلاقي وطابوه اجتماعي، ويُفضي بها، رأساً، إلى «كلبيّةٍ» تتجلّى في ارتياب الشاعر العامّ في دوافع الآخرين، وفي إحباطه وعدم رضاه وخيبة أمله، ثُمّ في مزاجه السيّء الجامح وإحساسه بالعبث داخل سلوكٍ مُدمِّر، مُجدّفاً بالأخلاق وساخراً من إمكان وجود الخير في النّاس والضوء في الطبيعة:
«أتمنى ألاّ تشبهني قصائدي أبداً/ فأنا رجلٌ عصبيٌّ لا صبر له/ بطني مُتهدّل/ وأسناني الأمامية شديدة الصفرة/ كما أنني نذْلٌ/ وتنقصني الكرامة»(ص24).
وفي موضع آخر:
«أتراجع باستقامةٍ/ أتوجّسُ كالكلب./ أسكنُ جنوب ضحكتي/ وأتحمّلك بموهبةٍ أقلّ..»(ص78).
وفي موضعٍ ثالث:
«تتآلفُ مع الأسباب/ تبذر روحك/ وتشرب كؤوسك بسرعة»(48).
مثلما نجد رغبةً لدى الشاعر للتخلُّص من العاطفة، وهو الذي كلّما رأى ابنَهُ تجدّد يأسه من الحياة:
«العاطفة كلْبٌ أجْرب/ ينهشني لأعوي كتِسْعين في المائة من الحُقَراء الذين يسكنون هذه المدينة/ الكلب يهزمُ الذّئب في أعماقي»(ص35).
إلّا أننا نلمس، وسط هذه الصور العنيفة المتواترة، صورة أخرى للشاعر الذي لا يُقاوِم خجله، ويُداري حنينه إلى الوطن الذي يهزأ ممّن جعلوه «فكرة مريحة»، ويتضامن مع سواه من جوعى المهاجرين ومنبوذيهم، ويدفع بقصيدته إلى أقصاها إلى في إدانة الأوضاع الاجتماعية هناك، كما في نص «فرنسا وشركاؤها»:
«نقف في زحام الطابور الطويل/ عرباً وزنوجاً/ فصحاء وجوعى./ نحزن بالفرنسية/ رغم لكنتنا الأجنبيّة.»(ص64)
هكذا، بلغة تنبع من داخل الحياة نفسها بلا بلاغةٍ وتدبُّر شكلاني، إذ جمعت بين المباشرة التي لا تخلو من بذاءة حيناً، وبين نبرة الاحتجاج في شراستها وصداميّتها حيناً آخر، يقترح علينا عبد الإله الصالحي شعريّةً بالغة الواقعية، وهي ليست نوعاً من الترف، بقدر ما هي خيارٌ صعب تبدو فيه مسؤولية الكتابة ممارسة أنطولوجية في عبوراتها المتوتّرة للذات، الأشياء والعالم.
3.4. واجب الإصغاء ونقد الأَتْمَـتة:
في مجموعة طه عدنان «أكره الحبّ»، نعثر على شهادةٍ شعريّةٍ بالغة الدلالة عن عَقْد من الاغتراب، ليس عن وطنٍ، بل عن أرْضٍ برُمّتها. إنّنا أمام ذاتٍ ملتزمة تتبنّى، في تعبيراتها التي زاوجت بين القضايا الكبرى وتفاصيل الحياة اليومية، رهان «المواطنيّة الأممية». لنقل إنّ قصائدها هي نوع من التأريخ الشخصي لذاتٍ مشروخةٍ، ولعالمٍ يزداد شرْخاً وإيحاشاً واغتراباً عن نفسه، في مناخ من أتَْمتة الجوهري والجوّاني، من الحبّ إلى الشعر. وهو نفسه تأريخ للإقامة في المهجر (بروكسيل، تحديداً)، والعبور في الأمكنة القريبة والبعيدة (مراكش، نيويورك، بوسطن، بودابست)، والافتراضية أيضاً.
هكذا، يتمُّ تدبير أجروميّة المعنى الشعري وُفْقاً لفضاءين متوازيين يضيء أحدهما الثاني:
أ. فضاء أوّل تحضر فيه الذات الشاعرة، وبسببٍ من أنّها منشغلة بما يجري لها وحولها لا تكفُّ عن أن تُعبّر عن حقيقتها الخاصة بها، فتبدو لنا الذّات من لسانها جريحةً لا تمتلك قدرة الفعل. تتكلّمُ العزلة والفقدان من انفصالها عن مكانها المرجعي:
«لا قُدرة لي على حبس خيولي(…)/ خيول الذاكرة تُفضِّل الركض حيناً/ إلى مراتعها الأولى..» (ص7).
وفي موضعٍ آخر:
«آهٍ كم كانتْ حُروفي مُزهرة !/ مثل أصْحابي هُناك/ كان لي بابٌ ومفتاحٌ قديم وسَماءْ/ كانَ لي دفْترُ أشْعارٍ/ سَريرٌ ورِفاقْ/ لكنْ أغوتني قصَائدُ سرْكون بُولص/ أغْواني أدبُ المهْجر/ منذُ الرابطة القلميَّة..» (ص 36 – 37)
وبسببٍ من عدم القدرة ومداراة الوحدة والخوف من الإفلاس، تشعر الذّات بالخسارة وخيبة الأمل والتيه في منفاها، كما في قصيدة «وئيداً أحفر في جليدٍ حيّ»:
«حتى البكاء لم يعد مجدياً/ ليُسعِفَ روحي البردانة/ أنا القادم من جهة الشمس/ محنتي هذه البلاد المطيرة/ أنا القادم من جهة النخل/ هائمٌ على وجهي/ في صحراء تشبه الصحراء/ أحصي خساراتي/ فلا تكفيني الأصابع/ تائهٌ، أُجرجر أثقالَ روحي/ من المحيط الأطلسي/ إلى بحر الشمال»(ص36)
وفي موضعٍ آخر، بنبرة تحسُّر فاقعة:
«آه كم ضيّعتنا المنافي/ التي من سرابْ/ لا نار في أحشائنا/ لا ماء. لا ورد في الشبّاك..»(ص43)
مثلما تبرز القصيدة مشاغل الذّات، تكشف سخريّتها ولعنتها اللاذعتين للتكنولوجيا التي لم تجْنِ منها سوى الوحدة والقلق من جهة، كما عمّقت لديها شعوراً فادحاً بأن كلّ شيء ينهار ببرودة أمام عينيها ويُباع ويُزيَّف ويُسوَّق، بما في ذلك الشعر والحبّ والرغبة والصداقة والنضال من جهة أخرى، حتى وإن كانت من خلالها تستعيد، نسبيّاً، حرّيتها المفترضة والمفقودة في الخارج عبر الإبحار في عوالم الافتراضي:
«تبّاً/ هذا الضّياع البارد يُكبّل أنفاسي/ بهواءٍ كالزُّجاج» (ص47).
إلى ذلك، ترثي الذات نفسها بعد ثلاثين عاماً من الشكوى والخوف والهواء الفاسد، ومعه ترثي الحبّ الذي يأتي من جهةٍ ليست له، زائفاً وعاطلاً عن العمل. إن تفكيرها،هنا، موصولٌ بما تحلم به وتحياه في مهجرها عن الأصل والذاكرة وشهوة البدء، ولذلك تتّخذ الذّات هذا العبء من فاتورتها الرمزيّة الباهظة في رحلة الروح والجسد معاً. الحبُّ المكروه، هنا، كائنه لا ممكنه والمحلوم به:
«لا أُحبّ الكره/ لأنّه غالباً يكون ما يكون مجانيّاً/ وبلا أسبابٍ وجيهة/ وأكره الحبّ/ لأنَّه مُكلِّفٌ للغاية» (ص114)
ب. وفضاء ثانٍ مرتبط بالغير في سياق من تبادل لعبة المعنى بين الذّات والآخر، حيث تجعل الذّات من الآخر موضوعاً لها، ويُفصح الآخر عن نفسه في مرآة الذات ومشاغلها، لا سيّما إذا كانا، معاً، يقتسمان المنفى نفسه، والمجهول نفسه. وهذا التحوّل في مسار إنتاج المعنى يُدمج أفق التجربة الشعرية للديوان في حواريّة خصيبة تكسِّر رتابة إيقاع الذّات، ويتيح لها في الوقت نفسه الخروج من المنظور المحدود للأنا الفردية المغلقة، فننتقل من مسارٍ ذاتٍ غنائيّ إلى آخر ذي نفَسٍ ملحميٍّ وإنساني.
يغتني هذا الفضاء في قصائد «أمادو ديالو» و«نينو» و«الماروكسيلواز» « la maroxelloise »، وإذا كانت القصيدتان الأوليان تحملان اسمين لمهاجرين أوّلهما شابّ غيني قُتِل برصاص أربعة من رجال الأمن أمام منزله بحيّ البرونكس بنيويورك، والثاني شابّ جزائري شاطر كريم النّفْس وجد نفسه في بروكسل بلا هويّة، فإنّ الثالثة حملت عنواناً عبارة عن تركيبٍ مزجيّ باللغة الفرنسية، يعني «مغربية بروكسل»، وهي لا ترصد فقط صورة بنت من الجيل الثاني للهجرة تعيش وحيدة، بل صور لمهاجرات من بنات جنسها وبلدها وُجِدْن موزَّعات وتالفات بين ضفتين ولسانين وثقافتين.
يقول الشاعر طه عدنان في الأولى، بما يُشْبه التماهي مع قرينه الّذي نحرتْه العنصريّة في نيويورك تحت رمز حريّتها، في رُبّ لهجةٍ لا تخلو من تأسٍّ وسخريّة: «أخي إنّي أموت/ لأنّ لي حلماً/ بلوْنٍ فاتحٍ/ وجريرتي أنّي/ أحمل جرحي وترابي/ وأبحثُ عن وطنٍ/ من ظلٍّ/ وماءْ» (ص94)
وفي الثانية: «حَذِرٌ/ كُلّما حلَّ بِـوادٍ/ مُتوجِّسٌ/ مِنْ كلِّ بلاد» (ص166-167)
وفي الثالثة: «عربيّة/ أعجميّة اللسان/ شَمْسٌ باردة/ تغْزِلُ من نُدَف الثّلج/ رداءً للعزلة/ وستاراً/ للأسى/ (…) تغمّدتْها الوحدة/ وتقرّحت في روحها النُّدوب» (ص154-155)
فإلى جانب ما نلمسه من كشْفٍ فادحٍ لأعباء الحياة الإنسانية في المهجر، وما تؤدّيه الذّات المتلفّظة من روحها وجسدها بإزّاء ذلك، إلّا أن الرهان الاستراتيجي للعمل الشعري هو نقد الفضاء الأوروبي من بروكسل عاصمته الرمزيّة. يظهر ذلك من نوايا الذّات في بداية العمل: «هنا من شُقّتي بالمنزل رقم 34/ Rue dechambéry / هنا من على الشُّرفة/ وكنيسة القدّيس أنطوان شاهدة/ سأدّعي العالم كلَّه/ سأزعم من العواصم/ ما لم تطأ لي قدم» (ص12-13).
في نصوص العمل لا نجد أنّ الذات قد وقعت تحت طائلة الانبهار بالغير المتحضِّر وحداثته المادّية، بل هي لا تكفّ عن نقده والسخرية من داخل مفردات حضارته هو نفسه، ولا سيّما التقنيّة التي أغرقت الجوهريّ والإنساني في عصر الأتمتة، هو واقع العولمة الذي سلّع كلَّ شيء من الرغائب والملكات والقيم والأخلاق، وجعله عرضة لهواء فاسد من الكبت والاختناق، وبالنتيجة حوّل الكائن إلى مخلوق لاهث يُقسِّط عيشه بحسب الوتيرة السريعة للزمن:
«أيّتها الإلكترونات الرحيمة/ أنا أسيرُكِ المُساق برِضايَ/ سآتيكِ كاملاً غير منقوص/ سآتيكِ بما أخفي وما أعلن/ وبما لم يخطُر على بالي بعدُ/ سآتيك بأحْلامِي/ وأوْهامي/ بأسمَاء دُخولي كُلّها/ وبكلمات السرِّ/ سأحْمل رُوحي/ على فَأرتي/ وألقي بِها/ في مَهاوي الكُوكِيز/ لم أعدْ قادراً على العيْش خارجَكِ/ يا مدينةَ الكهْرباء» (ص68 – 69)
في قصيدة «الشاشة عليكم» كما في « I love you»، يستثمر طه عدنان مفردات التقنية، ساعياً من داخلها إلى التمرُّد، ونقدها ونقض ما تقوم عليه بأسلوب المفارقة الساخرة التي تبلغ ذروتها عندما يعمد الشاعر إلى التناصّ مع أيقونات معروفةٍ عقديّاً وشعريّاً تناصّاً مقلوباً، بغرض الإيحاء بما يعيشه الإنسان المعاصر من تخلٍّ عن واجبه النضالي، ضارباً بالمواضعات ومبادئ الاجتماع البشري عرض الحائط. يستحضر الشاعر بيت المتنبي:
أللّيْل والخيْلُ والبيْداءُ تَعرفُني والسَّيْفُ والرّمحُ والقِرْطاسُ والقَلمُ
في قوله: الويبُ/ والوَابُ/ والنِّيتْسكايْب تعرفُني» (ص69)، كما يستحضر بيت الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود:
سأحْملُ روحي على راحَتي وألْقي بِها في مَهاوي الرَّدى
في قوله: «أنا أمير الغرقى/ وشهيد المبحرين/ ابنُك البارّ/ أيُّها العنكبوت/ فاحضنني برأفة قبطانٍ/ بيتك بيتي/ فأجِرْني من عتمة هذي البيوت» (ص70)
إنّ رؤية الشاعر، الكوني ادّعاءً، لذاته وللعالم هي رؤية متمرّدة وساخرة ممّا يجري لها وحولها، دون أن تستطيع الفعل، فهي تعكس ما بداخل الذّات من هشاشةٍ وشرْخٍ وشعورٍ فادحٍ بالاغتراب، بقدر ما تندب زمنها حيث يتنفّس الكائن إنسانيّته إلكترونيّاً، ويضيع معنى كلّ شيء في لا شيء. من التناصّ والتهجين إلى الباروديا وشعرنة المبذول، قاومت اللُّغة الشعرية موضوعها بالتعبير عنه داخليّاً، فحافظت على مسافة ضرورية بينها وبين ما تصفه من حولها، ولم تتأذّ من سمت الرخاوة المفترضة. كما أنّها لم تجْرٍ على سجلٍّ أسلوبي واحد، بل عبر سجلّات متنوّعة عتيقة شُطّارية، وأخرى حديثة يومية، تتساوق مع المسار المتعرّج المفتوح الذي يسلكه متاه الدلالة الشعرية، مثلما مع إيقاعات الذّات بين النثري الانسيابي والتفعيلي المتوازي (فعولن، مستفعلن..). فظلّت اللُّغة متيقِّظة داخل الكثافة الرمزية، وهي تكتب معناها في عبور الأمكنة والأزمنة وتؤدّي دلالاته العميقة بسلاسةٍ ويُسر.
لنقُلْ إن مجموعة «أكره الحبّ» تمثّل، بمعنى آخر، رحلة أوديسية من زمننا تشفّ، في عبوراتها المختلفة والمكلِّفة، عن ذاتٍ تنتصر لعزلتها، وتقاوم بهشاشتها ضراوة المنفى وبؤس العالم.
4.4. شعريّة الجسد والتأويل الكايروسي للُّغة:
في مجموعة محمد مسعاد «زغب المياه الراكدة» نكتشف تجربةً شعريّة جديرة بالنظر لا يزال الشعر المغربي إلى اليوم يتحرّج من خوضها وكشف مسمَّياتها، وهي تجربة فضّ أسرار الجسد، المادِّي والمتعيَّن. إنّنا نجد أنفسنا مًواجَهين من طاقة الرغبة اللانهائية التي تُحرِّك متخيَّل النصوص ويبتعث من رمادها أسباباً لحياة تُستحَقّ أن تُعاش: «وباسم هذه الشهوة/ أقول سلاماً/ وأُقيم الشهادة كلَّها/ تحيّةً إلى هذه الأخّاذة السابية لحظاتي»(ص10)
بارتعاشاته وروائحه وأشواقه يصير للجسد معنى أن يخلق شعريّته المُفْردة والخاصّة، وضرورته. في «فاتحة» العمل تتقدّم إلينا ذات الشاعر مثخنةً بجراح السؤال، لكنّها تنطوي على طاقةٍ تشعُّ من داخلها وتحفزها على الرغبة والمعرفة، وعلى الرؤيا والكشف، وقد منحها الله هبة اللغة التي بها تتعافى وتُحبّ: «كلّما لملمني الجسد/ أرى الله يرميني بمحبّة اللغة»(ص7). ولذلك، يحضر جسد الذّات بكثافته الماديّة والرمزية، فلا يأخذ الجسد شكلاً وحيداً من الوجود، بل أشكالاً لا تنتهي من الكينونة المتحوّلة التي تتعدّد بتعدّد مستويات الحبّ والحياة والحلم والسفر التي تعيشها، وتتقاسم مع المحبوب صورها ولذائذها: «وأنا لباسك اغسليني بمائك الساخن/ وكواكبي/ تنزف/ صنوْبراً/ ونخْباً» (ص13).
من اجتماع الجسد بمحبوبه وتشوّفه الدائم إليه، تتخلّق كيمياء «الجسد المقدّس» بتعبير الخطيبي، وبعد ذلك لا نفجأ ابتداءً من القصيدة التي يعمل العمل عنوانها أمام هذا الحضور الطافح والبليغ والمُخْصب الذي يتجلّى به الجسد في بعديه الإيروتيكي والصوفي معاً، حيث «نُطفةٌ تتدلّى/ جسدٌ يتملّى». وإذا كان البعد الأوّل يُدمج النصوص في متخيَّلٍ كايروسي شهوانيٍّ حيث الذّات تُتأْتِئ بعطش الأعضاء، وتتعرّف على صورتها عبر ماء الرغبات الموسْوِسة: «الأشجار/ مخالب للجسد/ والأيادي كانت/ منْدافاً يشتفُّ/ وسوسة الرغبات» (ص18). وفي موضعٍ آخر أكثر محسوسيّةً وانفراجاً: «..أغويك وأعضُّ على أزرار قميصك. شهيٌّ هذا الأحمر على شفتيك. وهذا العشب الأخضر طازجٌ، لزِجٌ. يناديني كعريس بين وديانك» (ص46)؛ فإنّ البعد الصوفي بتجلّياته الرمزية يصعد بالذّات إلى مدارج من حالة السُّكْر، ولا يحضر إلا بمقدار ما يكون الجسد موضوعاً لتأويلٍ آخر يفيض عن معانٍ جديدة تفضّ عنه إسار المادّة: «واللّيْل مُجاهدة،/ أن تُقيم/ الجسد/ معناه/ الفتنة تحيا»(ص22)، أو يعد أن تستغرق الجسد مياه الشبق واللّذاذة، فيما هي تسترخي فرحانةً بما أتتْها الرغبة، وحرّكت فيها المياه الراكدة: «يا امرأة «السرّ الهاتِك»/ اجتمعي بي/ ونامي في موج القصيدة..»(ص23). فالذات المتلفّظة، وُفْقاً لذلك، تُدْمج المرأة الأنثى في لعبة من التمثيلات الرمزية لصياغة عالمها، وتركيب تضاريس جسدها وإنعاش ذكرياتها المعطّلة، إذ تتحوّل إلى بُؤرة جذب مُشعّة بحضورها المستحوذ ورغبوتها الهائل: «إطرحي/ عوراتكِ كلَّها/ وغرّري بأقْلامي كي يُسكب الحليب/ على فخّار الحروف»(ص29).
ونكتشف من خلال التناصات المركّبة التي تمزج بين النص المقدّس وبين النص الإيروتيكي وتُعيد تأويلهما من جديد، أنّ هناك رغبة لدى الذّات في تضويء ليل الجسد والتنفيس عن تاريخ المسكوت عنه بمنأى من مسكوكاته، والعبور به إلى عالمٍ أكثر تمثيلاً وموجوديّة. لا تعمل اللغة الشعرية بمنأى عن ذلك، إنّها تتحمّل أعباء هذه الشعرية وتُفجّر أنساقها في اتّجاهات مختلفة ومتنوّعة، وتدع الرؤية الكايروسية لأنا الشاعر، بوصفه ملّاحاً للشبق واللّذاذة، تتحرّك في موشورٍ هائل من الصور والحقول الاستعارية الحسّية والمفارِقة التي ترصد التحوّلات الخلاقة للصورة، وتدفع بشعريّةٍ جامحةٍ منشغلة بتجربة الجسد الحية حدّ الهوس، إلى أقصاها. هنا، ليست الأنا من تلفحها شهوة الجسد، بل اللغة أيضاً، بوصفها موضوعاً للتأويل الإيروتيكي أكثر من أنّها وسيلة تعبير فحسب:
«تتعرّى الحروف/ واللّغة تغوي/ تستطيع أن تسأل البحر !»(ص12)
وفي موضوع آخر يُجلّي متاهيّة اللغة التي تفيض بأكثر من معنى بين الذّات وما تتشوّف إليه: «لغتك ضيّعتني/ والبحر لم يتعب من فيض المدى/ بل من اضطراب الضغط في أعصاب اللُّغة..»(ص39). وفي موضع آخر إيحاءً يتقاجع فيه البعدان الإيروتيكي والأنطولوجي على نحو غير قابل للفصل: «الكلماتُ تُضاجع بعضها البعض/ وأنا متعبٌ/ ينهارُ الحكي منّي تحت عطركِ/ الأبجديّة فرْجٌ مخبأ للشهوات..»(ص39). وربّما أفصحت الأنفاس الأخيرة من العمل عن هذا التأويل الكايروسي للغة، ولاسيّما في قصيدتي «سيرة العشب» و»الغاوون»، حيث لِلّغة، الهبة التي لاتعوّض، رائحة شفّافة ومدوّخة تدفع بالذّات إلى أقصاها، وبالمحسوس إلى أقاصي المجهول. واضحة، سيّالة ونضّاحة. ببساطتها تشفّ وتغوي وتسبر الدفين. بدون أن تسقط في الإباحية ومهاوي الإسفاف والابتذال.
تمتح اللغة شجرة معجمها من حقولٍ مختلفة بلسانٍ عربي وغير عربي (الأورغازم، الستالايت، الهوتبورد، السكس ،Orgasmus، Bitte، Gin..). ومن أحواضٍ دلاليّة متنوّعة (صوفي، صناعي، معلوماتي، جنساني، موسيقي..)، بها تتشكّل حقولها الاستعارية إمّا بشكْلٍ صافٍ أو بشكل هجين أوغرائبي كما في هذه الصورة:
«قُضي الأمر/ كلّما جنَّ الليل/ بعدك/ الجثّة معلَّقة/ الفم غارة/ النّهود أيضاً/ فزّاعات على هيئة المولوتوف» (ص18).
كأنّ هويّة الجسد موزّعة بين هويّات كثيرة، ومَنافٍ سحيقة. فهكذا تتعدّد صور الجسد المادّي المتعيّن الذي تٌحيط به عباءات من حريرٍ إشراقي، بين الجسد المتحوّل، المتوثّب، الحيويّ والزاخر بمياه الحب واللذّة. وهو بهذه الصفة يعني موجوديّة الأنا وحياة اللغة، مثلما يخصّ الموت والوطن والأرض جميعاً. في المقابل، هناك الجسد «المتلاشي» و»المتهالك» و»الإلكتروني» الذي يقع ضحيّته من «يتحسّسون فحولتهم/ بين الكراسي/ في مقاهي الإنترنت»(ص24)، وهو نفسه الذي أضاع عرش سيف الدولة وصيّر المتنبي هاجياً «الخيل والليل والجراد»(ص41)، مثلما أضاع مهندسي مشروعات الثورة الأممية «بين فخذي صاحبة الجلالة»، غيفارا، كاسترو، لينين وماركس الذي اكتفى «بنصف لحيته/ كي/ يحرق/ بطون الرأسمالية»(ص43).
يسترفد الجسد، إذن، شعريّته من إسقاطات الذات وذاكرتها وتمثيلاتها الرمزية واللاواعية، كما من تراكم الأساطير والأيقونات الإيروتيكية، وتعيد من مجموع ذلك تحرير متخيَّله من فضاءات قامعة لسلطته، وبالتالي إضاءة بعضٍ من مسالك الذّات إلى مجهولها، حيث» الإيقاع لا يأتي من الكلمات، بل من وحدة الجسدين في ليْلٍ طويل»(ص28)، بتعبير شاعرٍ ما.
5.4. الكتابة بالسلب وإنهاك محتوى الصورة:
في مجموعة «بالصدفة، نثر الفصول»، نجد لدى احساين بنزبير كتابةً تعمل على السلب، على نقض العقل الدلالي للصورة، وإحلال اللّعب الصدفوي محلّه. ويتأتّى ذلك من الأولويّة التي تُعطى للدالّ الشعري الذي يصير شرْطاً أساسيّاً لا تُحقّق الكتابة به تصوُّرها للذّات والعالم فحسب، بل كذلك تُعيد هي نفسها التصوُّر الخاص بها، وبالنتيجة تتأثّر محمولاتها وقيم المعاني التي تفترضها. كتابة تحت كتابة، في مسارٍ مفتوح وبلّوري به يتغيّا الشاعر عن غفلةٍ منه تشكيل محتوى الصورة بعد إنهاك محتوى دلالتها الأصلي، ومن ثمّة يكون مسعى مغامرته، من ملفوظٍ إلى آخر، هو تحريك الأثر الذي تخلقه الكلمات فيما بينها من علاقات وتداعيات، ولذلك من غير المُجْدي أن نبقى خارج الكلمات، ننتظر ما تُحيل عليه، وتُمليه علينا، بل علينا أن ندخل عليها ونفكّر في داخلها أوّلاً، ثُمّ في العلاقات التي تستدعيها وتترتّب عنها.
يُتيح لنا احساين بنزبير إمكاناً كهذا في التفكير. يقول:
«حين تَصيرُ الكتابة مرجعاً، أرمي كلّ الكتب وأحرق حوار العارفين تحت إمرة قطّتي الجميلة. يعد ذلك، آخذ رماد الصّمْت وأسوّيه مَلِكاً على الجمل والفواصل والنقط والرجوع إلى السطر. آه يُضحكني وهو يتكلّم عن صوفية اللحظات، وصعوبة البياض…إلخ» (ص 14-15).
لا مرجع للكتابة، مرجعها هو نفسها مُقيمةً في الصّمت، تتسلّى مع رماد الذاكرة، وتعبث به. ولنقل هي لعبة الدالّ الذي يفتتن بين أيقونات الشكل وعلاماته. عدا هذا لا يجلب إلّا السخرية.
وهكذا، يترسّخ لدينا، مع الوقت، الاعتقاد بأنّ للصورة وظيفة سلبية غير إحاليّة. من مجموع ما تتشكّل به، وهو غريب بالتأكيد، يتناتج وينتسج طيَّ متواليات الكتابة فضاءٌ ثانٍ يقذف بنا في معانٍ وتخييلات غير تلك التي ألفناها داخل منطق العلاقة بين الدالّ والمدلول، فالعلاقة بين دَلَّ وفَهِمَ لا تُرْجع الأدلّة إلى مرجع، بل دائماً إلى أدلّة فحسب. عبر الكلمات لا نعثر على شيْءٍ ما كدلالةٍ. فقط ننتقل في سلسلة من الدوال لا تنتهي. يقول:
«ألمي. ذكراها، يوم استتر الخريف وراء الباب. كلامه الماكر. سدَّة النشيد الذي حرقتُ يوما. توأمة التبشير والخط. لألأة الفهود. رقة الجوارب لما تكون لينة. هدأة العزلة وعقوبة الصباح بعد ليل مخمور. حكاية شيخ بين أزقة بلدٍ رفيعٍ. وألمي»(ص32).
لا تُقيم الكتابة في صوت الذّات، بل في صوت الأثر الذي يترتّب عنه دالٍّ أجوف، فضفاض ومرتعش من ملفوظ إلى ملفوظ رَخْو وكسير الإيقاع. صوت المعنى الغائب (ذكراها) الحاضر (ألمي)، الذي يستدعي متنافرات الصورة من مصادر مختلفة، ولكن الاستعارات التي تُقيمها تبدو شيئاً ميؤوساً منه. ثرثرة الصورة. كأنّه ذلك الدالّ دالّ الدايزن الهايدغري.
وبسببٍ من ذلك، تقلّ السنتمنتالية في محتوى العمل، فلا حزن أو عاطفة أو نوسطالجيا من الحالات الشعورية التي تفترضها ذاتٌ لا صوت لا لها أصلاً، إلّا ما كان تجديفاً بالماضي وسخريّةً من اللسان:
«صفقات الشاعر تتجسّد في تهريب «الأنا» من صدى قصيدة. وغالباً ما تكون الأنا مريضة، سلبيّاً»(ص28)
وبالنتيجة، نحن أمام كتابة بالسّلب، في الداخل والخارج. وإذا كنّا نجد متواليات العمل تحتشد بكثيرٍ من حالات الذّات، فليس لأجل الدلالة على ما تُلقيه في مساحة النصّ من شعورٍ تأثُّري ونقيضه، بل بالأحرى أن تستحيل تلك الحالات، المتناقضة طبعاً. إلى أن تكون شكلاً في الحيّز يسلب اللغة قيم محتواها، ويتسلّى باللّعب معها. حشد فحسب، ثرثرة مرّة أخرى. فلا شيء أكثر أو أقلّ تأثيراً من شيء آخر. يقول الشاعر في «قصيدة غنائية»:
«كم أحلم بواقعية الصوت واللغة/ وأتخيّل الغناء يموت منتحرا/ ثم على سبورة قديمة أكتب:/ «دع الغناء بعيداً عن أنفي/ كلما جاءني/ رميته بعصا الفتور وحزن الدانوب/ خريفا»(ص34).
لا يتسلّى الدالُّ باللعب مع الأثر، بل يسخر منه، وممّا يُحيل عليه أيضاً. كل المعاني التي يُحيل عليها الملفوظ لا علاقة لها بـ«الغنائي» أو«الغنائية» التي تفترض زخماً عاطفيّاً، إنّها تصبح علَفاً للدالّ، يلوكها ويجترّها ثم يبصقها من ثقب الكتابة كصَوْت. الكتابة تمتمة، تقول ما لا يتوقّعه أحد ينتظره. وهناك، دائماً نداء للذّكريات والأحلام، له طعم الصّعْق، بما يرسّخ الكتابة كفعل مُقـاومة:
«تتلعثم الذّكريات في رأسه، وهشيم الأحلام يتعارك ضدذ صوفية الوعي. آه، أيّتها الأشياء والطرق الخفيضة، كم يثيرني رقصك وهندسة شيخوختنا»(ص15).
خليط أفكار، ذكريات وأحلام. وهي تتضامّ فيما بينها وتتلاسن، لا تُبرِّر وعياً، بقدرما توحي بفجوة سحيقة وفادحة في لاوعي المتواليات الشعرية: صوفيّة الوعي، صمت، هذيان، سهو وغيبوبة مُدمِّرة. في مسارٍ من جُمّاع هذا كلّه، يكتب الشاعر قصائد الفصول بالترتيب: الربيع، الصيف، الخريف، والشتاء. لكن، لماذا الربيع أوّلاً، والشتاء انتهاءً؟ هل لهذا الترتيب علاقة بمنطق الكتابة؟. إذا تأمّلْنا العنوان، والمناصّات التي يُتيحها لنا الشاعر من حينٍ لآخر، أدركنا أن الفصول مقذوفٌ في سيرورة تأويل جديدة لها تحرّكها قشرات الوعي الحادّة والغامضة، من قرية «أوريل»(ص18) إلى «مدينة فرسان عاطلين» (ص38)، وأن لا ترتيب أكثر مناسبةً من هذا، يستطيع أن يعزّز اعتقاداً بأنّ كلَّ شيء صائرٌ إلى بيات، ورهن الصّدْفة، وأنّ أنا الشاعر تقيم في كتابته إقامة مجروحة، بلا هويّة. تشفُّ عن تصدُّع الذات بقدرما عن بؤس العالم وعمائه:
«وأنا أحمل الكتاب الأحمق في جيب الأوقات…لأفهم سرَّ الفصول وغموض بِشْرة غائبة»(ص16)
أمام تشذيرات المعنى وأشكاله التي تجترحها الذّات الشاعرة، يلتقي كمصدرين أساسيّيْن للكتابة في العمل الشعري، شكل الهايكو مع السوريالية. وإذا كان الأوّل يٌلقي على مساحة النصّ مَسْحةً من هدوء اللّحظة وإشراقيّتها، فإنّ المصدر الثاني سرعان ما يُرْبك أثر المساحة ويُطوّح به في إقامة الاختلاف المجروحة، بلا مرجع:
«ببطء/ يتسلّل الضوء بين شعيرات العشب/ والغيم الحالم ينحني لأنخاب الشتاء» (ص10).
وفي موضع ثانٍ:
«شيلم الحقول/ عتبة طلال خفيفة/ وفي اللغة/ صبيحة ثلْجٍ نيّر..» (ص25).
إنّ الشعر، كما يفهمه احساين بنزبير، ليس تعبيراً عن إحساس أو ترجمة للواقع، بل الشعر لديه يبحث، من درجة في الوعي متوتّرة، عن الشعر الذي يحرث اللغة ليعيد تكوينها، ويُحدث في جدار الكتابة، أكثر من لغتها، ثُقْباً شرْخاً يضع كلَّ تَصوُّرٍ مسبق لفعل الكتابة مدعاة للضحك. الشعر ما لا يقاس، وهو دوْماً في حالة طوارئ. إنّه منجم اللّسان، والهجرة في الأمكنة ببلاغة يتيمة. يقول: «اليوم/ سألتزم بنفسي/ بواقع الجَمَل والذُّبابة/ سأكتب/ ما لا نعتبره شعراً/ وأشتقّ النُّحاس من فضّةٍ مغلوطة» (ص44).
في كلّ مرَّة، أو ضربة نرد كيفما اتّفق، يتجدّد إحساس الشاعر بحرمان اللسان، لسانه هو، من جنسيته الأصلية. لا مرجع، لا إرث، يستحضر شعراء فرنسيين (فيليب جاكوتيه، ميشال دوغي، إيف لوكلير) في الهجرة التي ليست، في نظره، أدباً بل تشكّل حائطاً للخروج من قدسية الهجرة نفسها.
إلى جانت هذه التجارب التي تمثِّل إضافات لحداثة الشعر المغربي، هناك تجارب أخرى لا تقلّ اعتباراً وإصغاءَ لزمنها من مثل تجارب جمال بدومة، أحمد لوغليمي، عبدالله كرمون، هشام فهمي، ميلود غرافي، وهي تستضيء بعبارة جيل دولوز: «الهجرة حقٌّ مقدّس».وفي هذه الحالة، لا يكون التوجّهُ إلى الآخَر تغرُّباً، بل – خلافاً لذلك- يكون تجدُّداً إذا استحضرنا بيت أبي تَمّام المشهور:
وإنّ بقاءَ المرْءِ في الحيِّ مُخْلِقٌ لديباجتيْه فاغترِبْ تتجدَّدِ
إنّه لأمرٌ بالغ الأهمية: ليس للشاعر سوى وطن القصيدة لكي يحقِّقَ ذاتَه، وقضيتَهُ حيالَ منافيه الكثيرة هي: كيف يُحْسِنُ اختيارَ كتابته في حياةٍ تُعاش خارج النظام المعتاد. حياة مُترحّلة. طباقيّة. بلا مركز. ما أن يألفها ويعتاد عليها حتى تنفجر قواه المزعزعة، وتضيء سبل إلهامه، من جديد .
هوامش:
1-
Edward said, Representations of the Intellectual, London, Vintage, 1994, p.35.
نقلاً عن فخري صالح، معنى أدب المنفى، مجلة الكلمة، لندن، عدد 10، أكتوبر 2007م.
في «تأمُّلات حول المنفى»، يستعرض سعيد حياة وأعمال بعض المبدعين الذين عاشوا حياتهم كلَّها في المنفى في القرن العشرين، معتبراً أن المنفى، في جوهره، حالة متقطعة من حالات الكينونة؛ فالمنفيّون مجتثُّون من جذورهم، ومن أرضهم، ومن ماضيهم. لذا يشعر المنفيّون بتلك الحاجة الملحة لإعادة تشكيل حيواتهم المحطمة. أنظر المقالة السابعة التي يحمل الكتاب عنوانها: تأملات حول المنفى، إدوارد سعيد، ت. ثائر ديب، دار الآداب، بيروت، 2004م.
2ـ نقلاً عن إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى، مرجع سابق، ص234.
3 – حاتم الصكر، في غيبوبة الذّكرى: دراسات في قصيدة الحداثة، كتاب دبي الثقافية، دار الصدى، ط1، ديسمبر 2009م، ص56.
4- أطلق عبد الإله الصالحي رفقة آخرين مجلة «إسراف» التي كان لها الفضل في تشجيع الكتاب الشبّاب على التمرد، وتوقفت المجلة لصعوبات مادية. وساهم عدنان في إصدار مجلة «أصوات معاصرة» في بداية التسعينات، وفي إطلاق نشرة «الغارة الشعرية» بمراكش سنة 1994. ويشرف حالياً على إدارة الصالون الأدبي العربي ببروكسل بتنسيق مع المركز الثقافي العربي، وعلى مهرجان شعر العشق العربي ببلجيكا مع المركز المتنقل للفنون «موسم». ويعمل محمد مسعاد محرّراً لموقع «الإلكترون» الثقافي، كما له ترجمات بالاشتراك من الألمانية إلى العربية.
5 – عبدالإله الصالحي، كلّما لمستُ شيئاً كسرته، دار توبقال للنشر، الدارالبيضاء، ط1، 2005م.
6 – طه عدنان، أكره الحب، دار النهضة العربية، بيروت، ط1، 2009 م.
7- محمد مسعاد، زغب المياه الراكدة، منشورات الغاوون، بيروت، ط1، 2009م.
8 – احساين بنزبير، بالصدفة، نثر الفصول،
ملاحظة: نشير إلى رقم صفحة النصوص المستشهد بها، لكلّ ديوان من الدواوين الأربعة، داخل الدراسة.
عبداللّطيف الوراري
شاعر وناقد من المغرب