1
يتكئ على الجدار الشامخ للأعلى أكثر من جدار بيتهم، يحجب عن جلسته في الصباح الشمس المشرقة.
تندس الشمس أحيانا.
التحفت سحابة ً أرسلت له قبلة.
لم يصدق، ثم ظلت تلك السحابة تروح وتأتي أمامه، كفتاة في مثل عمره، فاتنة يانعة، يمكنه قطفها؛ إذا ما جاع في وحدته التي أراه فيها.
يتمدد الظل أمامه، يتقدمه، يصير أكبر منه إذا ما وقف، يتجاوز ظله النحيف شارعا يوليه شطره، أصدقاؤه من أبناء الجيران يتأخرون في الخروج إليه، تصير الأشياء صديقة وفية لوحدته، معها يلعب؛ إذا لم يجد شيئا يصنع منه لعبة ليديه.
تذهب يداه نحو أنبوب المياه المار إلى جهة لا يجيد تشكيل ملامحها إذا ما أراد خياله رسم مكان ينسكب الماء فيه، يستكين الأنبوب البلاستيكي الأسود، يرضخ لملله، وهو ينتظر أفواها ستخرج بحكايات تسرد حلم الليلة الفائتة.
بريئا في وحدة ظل يتناقص؛ كلما ارتفعت الشمس قليلا عن عش شروق تشيِّد فيه اصفرارها، بين جبال على شاطئ الوادي.
زجاجات فارغة صغيرة، بيضاء وخضراء تتظلل الجدار، تأخذ يده إحدى الزجاجات الملقاة على شاطئ الظِّل، يكسرها في حصاة صغيرة، يأخذ قطعة من زجاج، يزرعها في الأنبوب السائر على هدى لا يعرف كنهه ومداه.
يتألم الأنبوب ولا يصرخ. يبكي، تسكب عينه ماء انبثق في هذه اللحظة. يتبع أثر الماء القافز من الأنبوب إلى الأعلى، يقف رافعا يده في خط سير الماء الصاعد للأعلى، يتناثر من كف يده التي تقطع سيره، خفيفا باردا يرش براءة استدارة وجهه.
أخيرا استطاع أن يجد لعبة يلهو بها حتى الظهيرة.
2
في صباح يوم تالِ لاكتشاف لعبة الماء، غاص خياله في الماء النافر من الأنبوب البريء، بالماء الطائر نحو وجهه صنع لعبة ثانية، حوّل الماء البارد إلى دم حار وساخن. على شعيرات الجلد أن ترقص طربا للسخونة؛ إذا مس الدم جلده الأسمر.
امتدت العين إلى زجاجة كانت يده قد كسرتها يوم أمس في الصباح.
أخذ قطعة رأسها، أمسكها بيده اليسرى. رأس عنق الزجاجة حاد كنصل خنجر معلق على وتد.
أغمض عينيه، زرعها قطعة في ساق قدمه اليسرى، تلذذ غير متألم بغرس فسيلة الزجاج في لحمه، سار بها حتى لحمة الفخذ، طار الدم للأعلى قليلا، لعب به؛ حتى غاب الظل من أمام جدار بيت الجيران.
3
بكى كلما أتت ذبابة نحو الجرح، صار صديق البكاء كطفل لم يأخذ إلى بقالة الحيِّ. في نواح العصر لا يجد من يشتري له حلاوة. يعشقها ولا يشترونها، خوّفوه أنها مضرّة للأسنان.
– تأكل الأسنان وتنخرها، مثل ما ينخر الدود جيفة أو جثة على شاطئ الوادي اليابس: – قال أخوه الكبير.
لا دكان ولا بقالة في الحي؛ لذلك لم يأكل الحلاوة كثيرا.
يطلب نقودا من أبيه ولا يعطى. الفراغ ملكُ أبيه الفقير. في يوم الجمعة لا يذهب الولد إلى المدرسة، وعصرا يرتبط أبوه بنقل العمال والمزارعين لمشاهدة أفلام سينمائية هندية تعرض على جدار كبير في صالة تسمى سينما، هي أول وآخر صالة عرض في الولاية، تقع خلف مسجد عائشة.
قبل سفر شمس الجمعة سيلجأ البيتُ إلى صنع الحلاوة للولد، يفكرون في طريقة ترضي آخر الأولاد، يجذب التمرُ الموزعُ في أماكن كثيرة من البيت المطل على شارع وزاوية مزرعة عيني الأخ الأكبر؛ فيأخذ حبات من التمر. يخرج منها النوى، يلفها صانعا منها كرة سوداء صغيرة، يغطيها بكيس ملوّن، يخرق الكيس الملتف حول التمرة التي على شكل كرة بشوكة سعفة نخلة، منها يقبض الولد حلاوته.
في أول صناعة لتلك الحلوى اكتشف الخدع الكاذبة، بعدها ما أحب الكذب، لاحقا صارت لا ترضيه إلا حلاوة يشتريها وحده، من امرأة تبيع للصغار في حارة بعيدة عن حارتهم.
4
مع أواخر ثمانينيات القرن البسيوي الجاف بدأت بائعات حلوى الأطفال والصبية يرحلن من بيوتهن العتيقة، تلك المنزوية قرب ظلال النخيل، والمتوزِّعة على زوايا جدر الطين التي حرست النخيل، وأشجار تين وفرصاد(1) إلى حياة الخلود.
حدث بعد سفرهن غزو، نفذه قانون الحياة التجارية على شوارع القرية، تلطخت البيوت بلوائح محلات بيع المواد الغذائية، بدأت « الدكاكين» تزداد، تتوالد بين الزوايا والأزقة، كطحالب اعشوشبت واخضرّت في بركة ماء راكد.
اشتهرت بناية « عبيد» وسط الحارة بأوّل دكان في القرية، أما الظاهر فعرفت بدكان « سالم محمد» هو أول دكان فيها، من بعده فتح الهندي المسلم « أشرف « دكانه، لتحل مكانه بعد سنتين خالتي…(2)».
قبل أن تفتتح دكانها بلائحة تجارية تحمل اسم زوجها كان الولد يشتري أكياس البطاطس والعصائر من دكان سالم محمد، في مرّة اشترى ما أحب، ظل ينتظر مبلغه الباقي، بعد أن فكّ قيد نقد كان في يده.
حدث أن أخطأ البائع، أرجع له مبلغا أكثر مما له، حسب الولد ماله، أعلم البائعَ عن خطئه، فأرجع له حقه، قال البائع: « ما شاء الله عليك، صرك صادق وأمين.
صحابيا للصدق والأمانة طار الولد نحو البيت.
5
خزان الماء الشامخ للأعلى أشبه بشموخ أعلى قمة جبلية في عُمان، تسنده أعمدة أسمنتية ضخمة، ترفعه للسحب في الظهيرة.
صادقته السحبُ، إذا ضربتها الشمس تمتص الرحيق من الخزان؛ لتصنع منه سحبا متخمة بعشق الأرض، تمتلئ حتى تفيض، ثم ترش رؤوس أولئك الذين أحبوا قراهم وحولوهن لأمهات كبيرات بالحب.
القرى الصغيرة الوادعة بين الجبال أمهات حنونات، الجبال الملتفة حولها صديقات الصبا، والأرض بما فيها رفيقة العمر هناك.
حول الخزان الكبير تتناثر الأرض خضراء، أما النخل فباسقات كأجنحة الطائرات تحاول تجاوز قمة رأس الخزان.
درجه مغرٍ للصعود إلى القمة، يحلو للولد صعود القمم العالية؛ رغم وعورة الدرج في الظهيرة المسافرة نحو السماء.
في كل ظهيرة يسافر وحيدا إلى قُمَّةِ الخزَّانِ، كل الأشياء هناك تحاوره، النخيل والنجيل، الجبال والحبال.
حبال الغسيل اللاتي في البيوت تحرك ملابس الفتيات المجبورات على نوم القيلولة، يغريه هدوء القرية عند الظهيرة، يتأمل الحمام وهو يطير قافزا من نخلة إلى أخرى، العصافير الصغيرة تتخذ أعشاشها حول زوايا أعمدة الخزان الضخمة، شدو أصواتها عذب في ظهيرات الشتاء. يحاول الولد نقب أعشاش الطيور من أعلى قمة شامخة باتجاه تلال السحب، ينجح في إسقاط عصفور بريش أصفر في حوض الماء، يترك ما في يده، يحلِّق من القمة إلى حوض الماء خلف عصفوره.
أوشك التقاط العصفور؛ لولا سقوطهما في ماء الحوض البارد.
6
الولد، ابن الفقير المعدم لا يملك دراجة. أفرط في عشق الدراجات الهوائية، كعاشق يدمن في التلصص على حبيبته.
كان يرسم الحمراء والخضراء منها على ورقة بيضاء، قبل أن يلتهم النوم أحلامه المستبدلة بالرسم.
أن تعشق شيئا وأنت لا تستطع إليه سبيلا! تخيل معي كيف أن الحياة ناقصة ستكون؟ خاصة إن كان الآخر صديقا يملك ما تحب، ولا تملك أنت شيئا!
.. وهو في شارع الشقاوات صباحا، مرّ صبي من الجيران بدراجته الهوائية، أحمر لونها، مزينة بسلة بلاستيكية بيضاء، يرفرف منها علم، فيها تجلس أخته البالغة من العمر خمس سنوات، كملكة على عرش دراجة جميلة.
ظلت تلك الدراجة تمر على الولد – الذي لا يملك دراجة – مرارا وتكرارا.
في كل مرور على طرف شارع الشقاوات كانت كلمات – منسية في هذه اللحظة – تخرج من فم جاره الصغير الراكب ظهر دراجته الحمراء.
حدث إثر سماع تلك الكلمة، أو بعد إعادة صياغتها بحروف ممدودة أو ممجوجة أن خلع الولد، سيد الشارع حذاءه؛ قذف به من في تلك الدراجة.
أطلقت الطفلة صيحة من قفص سلتها، توارى الولد صاعدا نخلة تختبئ خلف البيت، ظل خائفا، يختبئ كديك ينتظر ذئبا يأتيه ليضحك له ويغني؛ حتى يسقط من رأس النخلة، ليُؤكل بخدعة العواء المغنى في الليل.
الهوامش
* نصوص متتالية من مخطوط سيصدر قريبا في الكويت، عن مؤسسة الفراشة للنشر والتوزيع..
1 – التوت.
2 – حجب الاسم الحقيقي عن قصد، رأيت أن منح الشخصية اسما آخر يفقد النص لذته للكاتب، وهذا ما سيحدث لاحقا أيضا، هنا لست منشغلا بلذة القارئ، أنا مع لذتي، أرمم ذاكرتي كي أنسى.
حمود حمد الشكيلي