آمنة الربيع*
لعلّها من المفارقات الصعبة أو الشبيهة بالأعجوبة أن أكتب شهادة عن العدد المائة لمجلة راهنتُ على نجاح استمراريتها في واقعي المجتمعي القابض فيه صاحب الفكر المختلف، والكتابة المغايرة على تفاؤل الوعي وإنارة الاستنارة وإشاعة الجمال! وهو وضع يُسلمنا إلى فضيلة التأقلم على شذوذها وجهالتها! «أليس أكبر تنازل تقدمه في حياتك هو أن تتأقلم» حسبما قال الشاعر محمود درويش!
وبما أن مجلة نزوى التي انطلق عددها الأول في عام 1994م، تبلغ اليوم من المكانة حضورا وتميزا يليقان بها، فسأسمح لنفسي أن أنعتها بلقب سفيرة الثقافة العمانية.
والأمر أيضا، لا يخلو من آمال قد تتبدد أو مخاوف مستترة أراها تلوح في الأفق البعيد، جعلها المجال العام وسطوة ميثولوجيا الخطاب الديني في السنوات الخمس الفائتة؛ لأن تتصدر كالهواجس عتبة الكتابة والخطاب. فحرية التعبير لم تتقدم، والاختلاف في الفكر متهم بالتكفير، وفي ظل هذه المراجعات، يخفت الشعور بقوة حضور التنوع الثقافي في المركز، بإرجاعه إلى الهامش والسفلي.
لماذا تبدو المفارقة صعبة هذه المرة؟ لأن الكلام بتعبير الكاتب والمترجم عبدالسلام بنعبد العالي «هو عابر سريع الزوال»؛ لهذا عندما هاتفتني الكاتبة هدى حمد لأكتب شهادتي، جال بخاطري البدايات، وكيف استبشرت وأنا في محافظة ظفار سعادة وأملا كبيرا بوجود مجلة ثقافية في عُمان، أسوة بمجلات أخرى؛ كالعربي، والفكر العربي المعاصر، والثقافة العالمية، وأدب ونقد، والقاهرة والأقلام والكرمل؟ كما جال في الخاطر أيضا، كيف لي أن أكتب وأنشر ويَظهر اسمي على صفحات هذه المجلة التي كان شأنها في البدايات – كما أرجو أن يكون كذلك إلى ما شاء الله – أن تُشكل منعطفا حضاريا كبيرا للثقافة العمانية ومستقبلها. «جدّيات»؛ لم يكن الأمر بسيطا، ولا عاديا، ولا مجانيا، أن تتوسط نزوى بين المجلات الثقافية الرائدة عربيا وخليجيا، كما تتنزل منزلتها المرموقة بين المجلات المحكّمة وغير المحكّمة، أو يكون لها موقعها المتميز بين المجلات الأكاديمية أو غير الأكاديمية التي تصدرها الجامعات العريقة في مصر والعراق والأردن ودمشق وتونس والمغرب والكويت. فمجلة نزوى تعني بالنسبة لي ذلك كله؛ حُسْن الطالع.
وكل الخواطر الأشبه اليوم بالذكريات المُدهشة تتخلّق مستعدّة لأكتبها وأشارك بها مع الأصدقاء. إنّها تنساب كماء شلالات دربات، فالكلام عن الخواطر والأفكار يظل مجرد كلام! وعلى عكس الكتابة، «فهي ميدان المحو والخدش»، ولا يجري تثبيت الكلام وتجاوز المحو إلا بواسطة الكتابة.
ليس بين الخاص والعام، أو الذاتي والموضوعي من مسافة في مثل هذه المناسبة الاحتفائية. كان وصول المجلة إلى ظفار يعني لي فرحا كبيرًا. وقد أخذ ذلك الشعور مع مرور السنين والوقت يَفقد ألقه، فللجغرافيا تأثيرها النفسي الساحق، ولوجود مجلة ثقافيّة مغايرة للسائد آنذاك تأخذ مكانها بين مجلات مستهلكة كان يتم توزيعها على جميع المتاجر في صلالة- مجلات تحكي- مقتطفات عن حياة الفنانين والمطبخ والأزياء، لا شك كان له وقعه الجديد في مدينة هادئة لها حساسيتها المكتنزة بالأسرار تجاه الأشياء الجديدة، كما لها تلقيها الخاص، والذي سيأخذ مع الوقت بالتشكّل على مهل لتأسيس ذائقة جديدة من التلقي لدى الأجيال القادمة.
ولت أيام الفرح والبهجة الأولى وأنا انتظر وصول أعداد المجلة بفارغ الصبر إلى مدينة صلالة المحاذية على ساحل بهي، وكم كانت سعادتي طفولية حينما كنت أذهب لشراء المجلة من محلات تصطف على الشارع في منطقة صلالة الجديدة؛ محلات تبيع إلى جانب مجلات الموعد والشبكة والجريمة، المواد الغذائية الاستهلاكية والمعلبات والخضروات، وكان بعض العمال الهنود يعرفونني فيحجزون لي العدد بمجرد وصوله تحاشيا لغضبي عليهم إن لم أحصل على المجلة؛ إذ كان غيابها أو تأخرها عن الوصول إلى صلالة لأسباب تتعلق إما بتأخر الطائرة أو سوء التوزيع، ما يجعلني مستعدة لكتابة مقال ضجر أو اعتراض. وتذكرت الآن دهشتي عندما أخبرني ذات نهار خريفي ملبد بالغيوم والرذاذ أحد الصحفيين العرب العاملين في جريدة الوطن أن أعداد المجلة التي تصل إلى ظفار آنذاك لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة! لأنها حسبما قال رحمه الله: مجلة النخبة المثقفة في عُمان.
قلتُ إن سعادتي في ذلك الوقت كانت طفولية، وأن أيام الفرح قد ولت؛ لأن انتقالي إلى الإقامة والعمل في مسقط سَهل معه الحصول على المجلة دون عناء انتظار طويل، كما سهّلت اليوم وسيلة النشر الإلكتروني قراءتها.
حسنا، سأعود مرة ثانية إلى البدايات لأكتب ما كنت أحاول ترتيبه ليظهر لكم في هذه الصفحات مقبولا ومشجعا ليكون بمثابة قراءة شخصية وشاخصة عني كامرأة من محافظة ظفار تقرأ آنذاك مجلة نزوى الخاصّة بالنخبة! أول نص مسرحي نشرته لي المجلة كان في عددها الثاني بعنوان (الحلم) وكانت مغامرة نشره بالنسبة لي جيدة، إذ حظي في العدد الذي يليه بقراءة نقدية فاحصة للناقد الدكتور أسامة أبو طالب بعنوان (المرايا وليس الحلم قراءة نقدية في نص مسرحي بكر- 1995م)، وذلك من حُسن الطوالع عندي. فماذا يعني ذلك؟
قد يعني ذلك، وجود علامة على وجود (ذات) تكتب، وعلى وجود (كتابة) ما! هذه الذات قادمة من ظفار الأساطير والتاريخ والحكايات والفنون والتحولات والمصائر الفريدة، وعلى وجه الخصوص من حارة (الحصن) السَّادِن سكانها بهدوء أمام قصر السلطان وبلاطه.
بعد نشر (الحلم) جرت لقاءات عدة مع الشاعر ورئيس تحرير المجلة سيف الرحبي، وكنت في كُّل زيارة لي من (الجنوب) إلى (الشمال) أحرص على أن أزور المجلة في مقرها القديم، وكنا في أغلب اللقاءات نتبادل الآراء والأفكار الممكنة لتطوير المجلة، لتكون صوت الثقافة العمانية الجديدة. وكنت في كُّل لقاء أو اتصال بالهاتف، أحرص على كتابتي، أو لنقل رؤيتي وموقفي من مسرحياتي أسلوبها وقضاياها.
وتتالى بعد ذلك نشر نصوصي في أعداد مختلفة، كمسرحية (الجسر- العدد الثالث) وقد أعطى نشرها أُكُله على غير المتوقع؛ لأن توزيع المجلة في المملكة المغربية ساعد لأن ينتبه لها القاصّ والمُخرج المسرحي المغربي عبدالمجيد شكير، فأقدم على عرض المسرحية مع فرقة اللواء البيضاء في داخل المملكة وخارجها في عروض عدة ولسنوات، ومسرحية (منتهى الحب، منتهى القسوة- العدد الرابع والعشرون) أما النص الذي لم يتم نشره فكان مسرحية (الذين على يمين الملك) وأذكر تفاصيل الحوار الهاتفي الذي ناقشني فيه رئيس التحرير بدافع الصداقة لبعض المحاذير العريضة المحتملة التي كانت ستحوم حول تأويلات النصّ الثقيلة!
لحسن الطالع تبعاته! واحدة من تلك التبعات التي سأوضحها هنا، أن رسّخ عندي تحديا نفسيا وإبداعيا عميقا. فهناك مسألة مهمة تتصل بالكتابة النوعية التي يُمكن لها أن تُنشر في مجلة ثقافية نخبوية من العيار الثقيل تسافر إلى أرجاء الوطن العربي متخطية الحدود، هادفة الانفتاح على الخارج؟ لا شك، أن المجلة كان لديها تطلع كبير حسبما كتب رئيس التحرير في العدد الأول: « تطمح مجلة نزوى أن تشكل حالة ثقافية خارج المنشور والمطبوع بين دفتيها، أي أن تكون نواة لفعالية ثقافية وإبداعية، تستقطب القدرات والمواهب الواعدة والمتحققة على مستوى السلطنة وعبر مَدّ الجسور الثقافية على المستويين العربي والعالمي».
بهذا المعنى، نشترك جميعا في نزوى في هذا الطموح، إنها جدية ننوء بحملها. وشعوري اللحظةَ، أشبه كالتي تُفكر بصيغة الجمع قائلة: أنا وأنتم، أو نحن وأنتم، نريد أن ننشر في نزوى كتابة فكرية وإبداعية جديدة، مستنيرة، قلقة، مشاكسة، غير ساكنة، ومتحفزة ترمي إلى تعريف العالم بإبداعنا العماني.
ومن تبعات حُسن الطالع أيضا، اتصال هذه النقطة بسابقتها، وتتلخص في أن استمرار صدور المجلة مَنوطٌ بضرورة استمرار الوعي بوجود الاختلاف بين جميع الاتجاهات الإبداعية، والتيارات النقدية المختلفة، وأن هذه الضرورة هي مفتاح التعددية. فكم هو جميل أن تمتزج ألوان الفكر وتتفاعل الأصوات المختلفة لتكون سببا في إنعاش الكتابة الإبداعية؟ فإيصال الأصوات المتباينة عبر المجلة مرهون بالدعم والتطوير وحرية الاختيار وحرية في الفكر. فإذا كان لا وجود اليوم في عُمان لمجلة ثقافية أهم من نزوى؛ وهذا ليس مناشدة لسيادة (الكميِّ) على حساب (الكيفي)، فمخاطر التكتلات أو الحسابات السلطوية التي يمكن أن تواجه إيقاف طباعة دورية ما في وطننا العربي ماحقة جدا.
ثمة مثل عماني في ظفار يقول: «من قْدُه تَحت الرحى يَصبر على تجرجارها» لا ينطبق هذا المثْل على ظفار وحدها، ولا أصف به نوعا خاصا من المجتمعات؛ المثل هنا توصيف لمرحلة تستند إلى تبعات حُسن الطالع كله بوجود مجلة ثقافة أراها سفيرة لأصوات متباينة من الإرث التاريخي والثقافي لعُمان الحاضر. مجلة تسعى إلى تخطي رزنامة الحسابات الضيقة، بالرغم مما يُقذف بها من تُهم بالشللية! وبالعودة إلى افتتاحية كلمة رئيس التحرير في العدد الأول لا شك أن شيئا كبيرا قد جرى إنجازه.
لقد تجاوزت المجلة منذ انطلاقتها الأولى محاولات «سد فراغ وثغرات الوضع الثقافي في البلاد»، كما نجحت محاولاتها وفي حدود إمكاناتها ألا تكون الأسماء اللامعة هي دليلها»، حتى صار هذا الاستدلال أحد أعراف بعض المؤسسات الثقافية بالسلطنة؛ الحرص على وجود الأصوات العمانية الشابة في مختلف المنابر. كما استطاعت المجلة منطلقة من ملفاتها ودراساتها، وحواراتها، وصفحاتها المخصصة للمسرح والسينما والشعر والنصوص والمتابعات والرؤى وكتبها، أن تجعل «معيار القيمة وما يحمله النص من إنجاز وإضافة، وأنه ليس هناك صراع أجيال، بقدر ما هو صراع قيم وأشكال تعبير ورؤى». فهل تبدو صورة المشهد الثقافي مكتملة أم ناقصة؟
أعود إلى «الرحى وتجرجارها»، شئنا أم أبينا، نحن أمام تحد في الوجود قد أعلنت عنه جميع الذات المُفكرة والكاتبة والمبدعة والناقدة، فلا أمامنا إلا البقاء في دائرة الوجود والإنجاز والعمل، للحيلولة من انكسار الأمل وانتصار اليأس.
المثقف من المحيط إلى الخليج يعيش اليوم أزمة طاحنة على جميع المستويات، ولأسباب عديدة متداخلة لا تقتصر على انهيار كبرى الأيديولوجيات في العالم، وفشل مشاريع التنوير، وفضح وجوه بعض أصوات المثقفين والمفكرين، وغيرها من الأسباب المتناثرة هنا وهناك على رقعة شطرنج! فبسبب غياب السجال الثقافي الجاد بين المثقفين أنفسهم وانحسار أدوار الأكاديميين في بحوث الترقية، وانشغال المفكرين بتسقّط أسباب المعيشة، ستؤدي أغلبها إلى التضحية بالثقافة، وأن أي مجلة ثقافية قد لا تستطيع الصمود أمام التبدلات القادمة وعُسْر هضم الاقتصاد؟!
وليس خافيا أن تحكم المؤسسات القبلية، والدينية، والعسكرية في وطننا العربي يؤدي إلى بقائنا في مجال غير حيوي مهما كان الجهد المبذول لإعلاء صوت الثقافة والتعددية وألوان الجمال.
لعلنا اليوم، أو في قادم الأجيال، في حاجة ماسة إلى ثورة في الفكر، وإلى إعادة نقد للمفاهيم التي تعمل السُلطات بأنواعها على تكريسها، وهذا كما يبدو للوهلة الأولى ليس مهمة هينة تستطيع مجلة نزوى أو أي مجلة أخرى في عالمنا العربي أن تتصدى للقيام بها، كما أنني لا أطالبها بذلك، لأن المثقفين أنفسهم لم يعد لديهم الإيمان بالعمل ضمن فريق، لقد أفقدنا عصر التقنية والسوشيال ميديا ذلك الوهج.
ولكن في ظل الجدية التي ننوء بتحملها والتصبّر عليها، فإن «تحريك الأطر والمنابر وإيجادها باتجاه القيام بهذا الدور»، طموح كبير كي لا نظل أسرى جزرنا المنعزلة.