«حكمة الشمس إضعاف للروح،وحكمة القمر إضعاف للعقل، وبين عالم النور وطوايا الظلام … قد يتوقف الفرد ليختار عالم الظلام،ويغلق على نفسه تماما،.في رحلة لا عودة منها، رحلة يسميها الناس جنونا،ويختبرها أهلها انجذابا وكشفا،ولنا في مجاذيب التصوف خير مثال على ذلك».
(فراس السوّاح: لغز عشتار ص252)
تكتمل حقيقة الفيض الإبداعي بوساطة فيض التلقي،ولا يمكن للمتلقي أن يبحر في دروب المعرفة الشعرية،إلا بالخلفيات المعرفية من وجهة، والمعرفة الروحية من وجهة أخرى،،كونها الكنز الذي يختفي وراء عالم العقل،ولا تتم المعرفة الروحية إلا بالتأمّل.
ولا شك في أن «دموع الحلاج» أحبولة نصية، وهيكل إشاري مستتر خلف الكلمات.
– فمن أين نبدأ وفيض الشعر يحاصرنا بمتعته العارمة، ويضيّق علينا الخناق، ويأسرنا فنذوب في تفاصيله، بحثا عن ذلك الواقع القابع في دهاليز الذاكرة؟
– كيف نبحث عن روح مستترة ؟لا تدركها إلا أرواح تقطن في هيولى العقل الخلاّق، لتخرج الموجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل، وتنتقل به من ظلمة التعتيم إلى بهرج أنوار التلقي، فيسفر الشعر عن جمالياته .
فكيف ننزع عن الدلالات لبوسها السطحي، كي نتمكن من القبض على إيحاءاتها وتحولاتها ضمن نسق النص الشعري؟؟.
لكل مبدع كونه المميز ومعجمه الخاص، لذلك تتجلى ذات المبدع في الإبداع فتولد القصيدة الحلم.
«دموع الحلاّج»، جسد يستقطر دموعه من عيون ميّتة، وقبر بلا هوية، يمتزج فيه الحق بالباطل والورع بالخطيئة والتصوّف بالزندقة.
وإذا كان النص بوحا مضمرا، فإن السبيل إلى كسر حاجز الصمت والتمنّع هو الآليات الإجرائية لسيمياء التأويل التي ستسهّل علينا العبور، من خلال تتبّع مسارات السيميوز(مسارات الرمز وتحولاته داخل أسوار اللغة ضمن النسق الكلي للقصيدة).إلى خفايا النص.
يتمتع نص القصيدة منذ البداية بالوظيفة الإغرائية، لأنه يمارس لعبة التستّر والانكشاف، من خلال العدول اللغوي. لذلك تقتضي الضرورة المنهجية مساءلة النص ومخاتلته كي نسترق منه شرارات البوح الكامن في السرّ اللغوي، المتمظهر فونولوجيا، ولعل أول عتبة يطأها المتلقي هي العنوان. فما المقصود بـ:«دموع الحلاج»، ولماذا استحضر الشاعر هذا الصوفي المتمرد بالذات؟
يمكننا أن نطرح سؤالين :كيف؟ ولماذا؟
ومن خلالهما نستطيع الربط بين المسارات الصورية والتشكيلات الخطابية لنحصل على نسيج نصي مترابط، يؤطّر المعالم اللغوية الكبرى في النص، و يشكل لحمةً فنية تحيل على أشياء في الإمكان وتستشرف الممكن .
عتبة العنوان:
لعل التصوّر السيميائي للعنوان يمكن أن يمدّنا بخيط مبدئي لنسج الدلالة الكليّة للنص، على اعتبار أن العنوان بمثابة الرأس للجسد، فماذا يقصد الشاعر بهذا العنوان؟؟.
لو نظرنا إلى العنوان من الوجهة اللغوية النحوية، فإن «دموع الحلاّج»، خبر معرّف بالإضافة لمبتدأ محذوف، تقديره «هذه»، والحلاج مضاف إليه، وتصبح الصيغة الأصلية: «هذه دموع الحلاّج».
وإذا نظرنا إليه من وجهة لسانية نصية(نحو النص)، فإن عبارة «دموع الحلاّج»: مبتدأ معرّف بالإضافة، خبره في المتن، وهو مسند إليه والمتن مسند.
كما يعدّ العنوان من هذه الوجهة بنية صغرى، متواشجة مع البنية الكبرى النص، من أجل تحقيق الانسجام والترابط الفكري
وإذا نظرنا إلى العنوان من وجهة نظر سيميائية، فإننا نعتبره علامة. تتألف من إشارتين لغويتين مشحونتين بدلالات رمزية، منفتحتين على قيم إنسانية وثقافية، واجتماعية، ونفسية، وأيديولوجية.
تحيل كلمة «دموع» على البكاء، ومع ذلك فالدموع لا تصدر عن البكاء فحسب، بل هي سائل مالح ينذرف من العين عندما يشوبها الغبار، ليطهرها.
كما يفيض الدمع في حالات الحزن الكبير، أو الفرح الشديد، أو الخشوع في حضرة المولى حين يستبطن المتعبّد الندم، الرهبة، الاستسلام، الرجاء، والاستغفار.
وكل هذه المعاني تحيل على الطهارة من الدنس، المادي أو المعنوي.
أما الحلاّج فهو اسم علم ويحيل على تلك الشخصية التاريخية المؤسطرة في الذاكرة العربية الإسلامية، وهي ذات الحسين بن منصور الحلاّج.
والحلاج من حلج؛ أي نفش الصوف، وتعني أيضا كشف السرّ، والبوح بمكنونات النفس، فهل يريد الشاعر من خلال استحضار هذا الرمز أن يبوح؟ وبماذا يريد البوح؟
يعد الحلاج من الناحية الاجتماعية صوفيا متمردا على السلطة الصوفية والسلطة السياسية، لذلك صُنّف من المتصوّفة المنحرفين، فعاش مرارة السجن والتعذيب ثم الصلب، مثلما عاش متعة الطواسين[، والتجربة الروحية.
ولعل وعيه الثقافي الذي عدّ زائفا هو الذي أدى به إلى التهلكة في زمانه.
والذي يهمّنا في هذا المقام، هو صياغة العنوان.
فلماذا جاء العنوان بهذه الصيغة بالذات؟ «دموع الحلاّج»، وهل اشتهر الحلاّج بالبكاء؟؟
وإذا بكى الحلاّج في خلوته رهبة ورغبة، أو إذا دخل الأسواق ينصح الناس، فإنّه لم يبك عندما قُطّعت أطرافُه قبل صلبه، مما يدل على قوّة صموده، فالبكاء في هذا الموقف يعد ضعفا، والحلاج كان جريئا متيقنا من صحة ما يقول، وعلى الرغم من لفظ المجتمع له، وتصنيفه في خانة الزنادقة.إلا أنه كان ناقما على مجتمعه ومتمردا على الطريقة الصوفية، وهذا العدول وسَمه بالفرادة والحرية في الفكر والمنطق والسلوك.
فعدّت مأساته وقتله بتلك الطريقة البشعة، أسطورة: الولي / الزنديق .
ثم لماذا استحضر الشاعر الحلاج دون غيره من المتصوفة؟ هل هناك شبيه لمأساته في الزمن الراهن؟
تفيض دموع الحلاّج من هناك، من الأقاصي البعيدة، من بوّابة الزمن الغابر، وتتدفق طوفانا يغمر الزمن الراهن بغية تطهيره من مآسيه وأحزانه، لعلها النقمة على تناقضات الواقع، والتمرد على سلطة الأعراف الدينية المتطرفة هي التي ابتعثت حلاّج الزمن الغابر.
يستنهضُ «محمد علي شمس الدين» الحلاجَ من تخوم الصمت إلى تخوم الصحو نحو العوالم المقدّسة، فتتحرّر كثافة مادته اللغوية لتكشف عن الصوفي القابع في ذاته.
فعندما يجتمع حلاج الزمن الغابر بحلاّج الزمن الراهن، ترقى الكلمة وتصدح ضد قوى الشرّ، عندما يتمرد التمرد ذاته على قيم التمرد، تتجلى الحقائق، وتولد الرغبة في المجا بهة
يلبس الشاعر بردة الحلاّج ليبوح بمكنونات الواقع المتعفّن، واضعا نفسه على مشارف الإلهي وتخوم الحرّية، رافعا وجهه إلى السماء يبكي المآسي، فماذا تقول دموع الحلاّج المعاصر؟
لماذا قابلنا الشاعر بعتبة الدمع والتمرد وأسطورة الولي الزنديق ؟
وهل تتميز هذه الدموع بتحوّلات ؟
كيف نبني المعنى المبعثر في القصيدة ؟
كيف نلملم شظايا آهات الشاعر المتزندق المتصوف؟
كيف نسترق المعنى من هذه المتاهة النصية؟
كل هذه الأسئلة وغيرها سيجيب عليها المتن.
2-فيض التلقي وشعرية المتن:
تتألف القصيدة من اثني عشر مقطعا،
تتوزع على الفواتح النصية التالية:
1- أعليت دموعي
كي تبصرها يا أالله
.. . . . . . . . . . . . . . . .
2- للناس حجّ ولي حجّ إلى سكني
تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي»
. . . . . . . . . . . . . . . . .
3- أرسلت غزالا نحو الشمس لينطحها
وأسلت بكائي في القصب
. . . . . . . . . . . . . . . . .
4- أنا إمام الطواسين
وحلاّج الزمن الغابر
. . . . . . . . . . . . . . . . .
5- صليت ببغداد صلاة الدم
ونثرت بغزة أوجاعي
. . . . . . . . . . . . . . . . .
6- على سكة الحديد التي تصل الحجاز بفلسطين
أمشي غير عابىء بالقطار الذي يمرّ سريعا ويسحقني
. . . . . . . . . . . . . . . . .
7-يارب ضبي مشى في التيه مرتحلا
ألفا وعامين لم يبرح على عجل
. . . . . . . . . . . . . . . . .
8-كم دمعة فيك لي ما كنت أجريها
وليلة أفنى فيك أفنيها»
. . . . . . . . . . . . . . . . .
9- وأخيرا وجدتك أيتها الشمس في أعالي أريحا
تدورين خائفة على الأسوار.
. . . . . . . . . . . . . . . . .
10- يا غوث شمس غياث الله غيثني
أنا الضعيف كأعناق الرياحين.
. . . . . . . . . . . . . . . . .
11- ولكن
ها إن أقحوانة الدم تزهر في قميصك يا» منصور»
وإبرة الموت العميقة
. . . . . . . . . . . . . . . . .
12- كادت سرائر سري أن تبوح به
وكاد خوفي عليه لا يسمّيه».
لعل القصيدة في حدّ ذاتها قطرات بكاء مكتوم، يستعيد بها الشاعر الطقس الجنائزي للحلاج المصلوب، ليقارن بينه وبين الكلام المصلوب والحقيقة المصلوبة في زخم الواقع، أو ربما هي إلهام مستمد من «حكمة الليل التي تدير وجه صاحبها عن صحو النهار ومنطق الشمس، هي انفصال عن الواقع اليومي وإيغال في عوالم الباطن حيث يخفت تدريجيا إيقاع الزمن الأرضي»(1)
وعندما يخفت هذا الزمن تتعالق الملفوظات بالزمن السرمدي، فتتكسّر الحواجز بين العبد وربّه، وتبدو وكأنها هذيان صوفي وجنون، وهو أفضل دليل على أصل الجنون المقدّس الذي يعانيه أصحابه انجذابا نحو قوة داخلية علوية في آن معا(2) فتتخلّق الحكمة من الشعر في زمن اختلاط الحقيقة بالواقع، .
يقول الشاعر:
أعليت دموعي
كي تبصرها يا أالله
وقلت أعيد لك الأمطار
فلتنشر غيمك حيث تشاء
فإنّ الغوث يعود إليك
والحزن يعود إليّ.
لا تتحقق الكتابة إلا إذا استبطنت إمكانية القراءة، ولعل النص الشعري الذي بين أيدينا استمدّ شرعيته من منظومة صوفية، فإذا ارتقى المتصوفة بالرمز إلى مستوى المصطلح، فإن الشاعر ارتقى بالقصيدة إلى مستوى الرمز المجازي الخاص ؛لأنه رهّن المصطلح الصوفي، و مارس انحرافا داخله وعاد به من منبعه الروحاني، الأمر الذي جعله ينتقل من الحكمة ومجاهدة الباطن إلى الحكمة الشعرية ومجاهدة الواقع، وهنا بالضبط تكمن شعرية اللغة، كونها تفرغ القديم من محتواه وتشحنه بدلالات جديدة ومتفردة.
إذ كيف يرتقي الدمع إلى السماء ويخرق منطق الجاذبية؟؟
وكيف تُعاد الأمطار إلى الله؟؟
وما المقصود بالغوث والحزن ؟؟
لاشك في أن الشاعر يستنهض الغائب /شطحات الحلاج، ليكتب الشاهد/حاضر القصيدة. ويسلسل حلقات تراكم الألم عبر الزمان والمكان ليسيّج به إيقاع الجسد الراهن. وانطلاقا من مقولة ميرسيا الياد فإن العاشق والمجنون والشاعر وحدهم يملكون خيالا كاملا، ولعل المتصوف يندرج في خانة العاشق للذات الإلهية .
يتبدى الشاعر وليا متألما في سياق رمزية ترشح بطقوس الموت والتضحية، وإذا انطلقنا من «الحزن» بالمعنى الصوفي وهو حالة من حالات المتصوفة و»الغوث «أعلى درجة من مقامات التصوف فإن الشاعر في هذا السياق حاول أن يحقق تمازجا بين البعدين، فيغدو المصطلحان الحزن/الغوث مولدا دلاليا وإيقاعيا، ومعبرا بين الذات الشاعرة والإله، والذات وعالمها، والذات وذاكرتها، فيمتزج الكيان الناطق بالطبيعة ويستحيل سحابة تأتي بالغيث كي تحيي الأرض اليباب، فيتحوّل الدمع المعبّر عنه في مفتتح القصيدة إلى رمز للخصب والنماء بدل رمزه للحزن والقهر والألم، ويغدو الحزن موقفا من العالم حين يفقد العالم بريقه ويتشح بالسواد، ويتحول إلى غيمة تضلل أفق السماء، فيشاكل الشاعر بحلوله وامتزاجه بالطبيعة الحلاج بحلوله في الذات الإلهية في المنطق الصوفي، ولعل الدمع الذي يعتلي السماء لا نجد له منطقا إلا إذا تشاكل مع البحر في البنية العميقة كون البحر سائلا مالحا يتبخر بفعل حرارة الشمس فيعتلي الأفق ويتحول إلى سحابة ممطرة، من هذا المنطلق نستطيع أن نبني من اللامنطق منطقا، ونقبض على معاني لعل أبرزها في هذا السياق:
الدمع……….البحر…………المطر
الحزن………السحاب………الأمل
الغوث………الغيمة…………الغيث
الدمع والبحر والمطر سوائل تحيل على الماء وهو طقس عبور ومبدأ الأشياء .
والحزن والسحاب والغيمة تحيل على الظلمة التي يعقبها انفراج فإن الشاعر يخلق من الظلمة النور، ومن القحط دمعا وبحرا ومطرا باحثا عن الأمل في التجدد والانبعاث، أو لعله يريد التطهر من دنس مثلما تتطهر الأرض بماء المطر وتتجدد.
فمن أي دنس يريد أن يتطهر؟
يقول:
وأنا حين ربطت الريح بخيمة أوجاعي
جمّعت ينابيع الأرض ففاضت من ألمي
هذا ألمي
قرباني لجمالك لا تغضب
فأنا لست قويا حتى تنهرني بالموت
يكفي أن ترسل في طلبي
نسمة صيف فأوافيك
وتحرك أوتار الموسيقى
لأموت وأحيا فيك
هذا ألمي
هذا ألمي خفف من وقع جمالك فوق فمي».
يستعيد الشاعر بماء الينابيع فعل الخلق المتمثل في شكل القصيدة، فتتضمن رمزية الماء الدلالة على الانبعاث والتجدّد، لأن الشاعر يلبس عندما يتطهر بردة النبوّة
ويشاكل الكلام الشعري الوحي، ويشاكل الشاعر الرسل في دعواتهم، إنها إذن الرغبة المفتوحة للبوح بالسرّ تسكن في توق الإنسان وتدفع به إلى تحقيق إنسانيته في الكون.
فجملة «أعليت دموعي كي تبصرها يا أالله» التي افتتح الشاعر بها القصيدة، أدت دورا استراتيجيا حاسما في توجيه النص، وقدّمت إشارات أسلوبية بني عليها الكون التخييلي برمته، وهو البوح والسرّ
لأنها خالفت المنطق الصوفي على الرغم من أنها تعلن منذ البداية عن فضاء صوفي دلّنا عليه المكون المعجمي المذكور سلفا، مع أن شهوة البوح محظورة تماما في المقام الصوفي، ؛لأن البوح بالسرّ هتك للقداسة الصوفية»دمنا يباح إذا نبوح»
ولكن كلمة «أعليت دموعي كي تبصرها»أصلها «أعليت صوتي كي تسمعه»
فهذا الانزياح جعل الحواس تنوب عن بعضها، بل إن الدمع الحقيقي لا يكتمل إلا إذا اقترن بالصوت، والسمع لا يكتمل إلا بالبصر، وهذا التكامل المعنوي هو الذي يعطي للشاعر شرعية البوح من خلال ما يرى ويسمع عما يبصره في الآفاق.
تخيّر الشاعر وحداته اللغوية، وركبها تركيبا يمنحه فرادته، مستحضرا خلفياته المعرفية، الدينية والأسطورية والتاريخية في ذاكرته، فتزدحم الصور الشعرية من خلال لغته الترميزية، وتغاير المألوف وتكسب هويتها وانسجامها في سياق خاص بها، فيتسم الشاعر بالفرادة، ومن خلا تتبع مسارات السيموز نجد أن الشاعر يتناص مع أساطير غارقة في القدم ولا شك في أن استحضارها يوشّح القصيدة بهالة أسطورية يتحول بموجبها الشاعر إلى إله الشعر، ولعل ظلال أسطورة أبوللو نستمد خيوطها من وحدات أسلوبية مندسّة في تضاعيف القصيدة، كقوله:
«قرباني لجمالك لا تغضب»
وتيمة الجمال يتميز بها أبوللو الذي نفاه الإله زيوس، إلى الأرض، حيث عمل راعيا عند أحد ملوك البشر، ولكنه كان مميزا بأوتاره الموسيقية فقد سحرت الأنغام السماوية التي تصدر عن ناي ((أبّوللو))سكان المملكة جميعهم، ومنه تحول أبّوللو من قائد مركبة الشمس إلى رب الشعر والفن والموسيقى (3)
فحضور أوتار الموسيقى وحضور الجمال، وتيمة الشمس التي تتردد خمس مرات في مقاطع القصيدة، تحيل إحالة ضمنية على رب الشعر والموسيقى، الذي يحاول الشاعر أن يستمد قوّته منه، ومن ضياء الشمس التي كان أبوللو يجرّ عربتها
«حين ربطت الريح بخيمة أوجاعي»، ملفوظ الريح يحيل على الدمار والخيمة تحيل على الأمة العربية والوجع يحيل على الوجع العاتي والدمار الذي يلف الأمة
والقربان وسيلة تطهير، واللغة تطهر المبدع وتحييه لأنه يستمد قوّته من رب الشعر كي ينتشله من الموت.
قرباني لجمالك لا تغضب
فالقربان البشري يمثل نقطة اللقاء بين البشري والإنساني، لذلك يريد الشاعر أن يقرب نفسه قربانا لخلاص البشرية
هذا ألمي
هذا ألمي.
يستقطر الشاعر ألمه من خلال الكلام الشعري حيث يعبر به من الغياب إلى الحضور لأنه منصهر في ذاته كبركان يريد أن يقذف به إلى الخارج، فأنفاس القصيدة انصهرت بآماله وآلامه وعقده وأحلامه وهي الآن موغلة في التستّر، تريد أن تتفجّر، لأنها تحولت إلى سائل محرق يتلاقى فيه الخفاء الكامن في تجلي الكلمات ولذلك يتأوه الشاعر ويتألم.
خفف من وقع جمالك فوق فمي.
تكتسب اللغة هويتها وانسجامها في سياقها الخاص، فيمتد الشاعر إلى أقاصي الأسطورة بحثا عن زهرة الشعر، فهو كالحلم الموشح بأغاني الوجود الخالدة، فينتشل الشاعر عزلته وألمه عندما يحرّك أوتار الموسيقى القادم من عمق الأسطورة احتماء بالجمال والصورة، والموسيقى يقابلها الشعر، والشعر، جمال وصورة، فينحت من اللغة والتاريخ والتراث الديني، ليستحضر هذه التحفة الفنية الدالة عليه، فيستبطن الكشف الصوفي ويبعث الحلاّج من مرقده ليسير معه بالموازات أو يجعل روح الحلاج تحلّ فيه علّه يستمد منه قوّة تجربته وصبره على بلائه، أوعلّه يستمد منه القوّة الخارقة التي امتصت الدمع من عينه وهو في أقصى درجات الابتلاء، لأن الدمع ضعف، والحلاج لم يضعف، من هنا تأتي المفارقة بين الحلاج والشاعر، ويصبح الكلام الشعري بمثابة امتداد لصوت الحلاج المكمم، هو الدمع المكبوت، هو الحزن المكتوب بمداد الروح، فيصبح الشعر سكنا للشاعر، يحج له لينسلخ من دنسه العالق بروحه التي تلوثت وتتلوث بمعايشة الواقع، كما أن الخصّيصة السحرية للغة حوّلت الدمع إلى غيث، وينابيع، وقدمته في وحدات أدبية رمزية تعمل على اختزاله ثم تقديمه مجددا للوعي، مما جعل ظلال الأسطورة التموزية تظهر خلف أسوار الرمز، فيحضر دومزي –ابسو، ابن الماء الخلاّق مجدّد طاقة الحياة وحافظ قوى الخصوبة، الذي قهر الموت و حرر نفسه من قوى العالم الأسفل، وهو الوحيد القادر على إعطاء الإنسان أملا في تحقيق الخلود، والأخذ بيده عبر برزخ الموت نحو عالم آخر أكثر بهجة وسعادة(4)، ولعل هذا المعنى هو الذي يتحول بموجبه الموت من مصير فردي مظلم إلى مرحلة تطهير وتجديد، وبالتالي تفصح الأسطورة من خلال الرمز الشعري عن وجه القدم، ووجه الآن المزروع في السرمدية (5) المتمثل في مبدأ الخلاص، وفهل يبحث الشاعر عن المخلّص
يفتتح المقطع الثاني بمقولة الحلاج :
«للناس حج ولي حج إلى سكني
تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي»[
تم يعقبها بقوله فيبدو التناغم الشعري على نفس الوتيرة:
يا عابر الجسد الصحراء خذ بيدي
وخفف الوطء إن الوطء في ألمي
تمشي وأمشي فهل يدري بنا زمن
ساعاته الرمل والأيام كالعدم
يكفي من الأرض شبر أنت حارسه
يطوف حولك إما طاف بالحرم
تغفو الرمال فأصحو والرمال مدى
جسمي لها البيد لكن الهوى سقمي. القصيدة.ص1
لاشك في أن الاتكاء على مقولة الحلاج في فاتحة المقطع الثاني تحيّن مرّة أخرى فكرة القربان، وهذا النمط التكراري المتولد بصيغ مختلفة في المقاطع اللاحقة، يخلق في ذهن المتلقي مسارا آخر من مسارات التأويل، لأن القربان الجسدي متأسطر في ذهنية البشر واستبدل بقرابين حيوانية لإحياء الطقوس، ولكن الشاعر يعيد هذه الفكرة مرّة أخرى، ليعود بنا إلى البدء وفكرة المنقذ « تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي، خفف الوطء إن الوطء في ألمي، جسمي لها البيد…..» فكل هذه الإشارات تحيل على القربان البشري،
والسؤال المطروح، لمن يقدم هذا القربان ؟؟؟
لا شك في أن الشاعر يبني وجودا آخر موازيا للوجود الأصلي ويرسم من خلاله ما يجب أن يكون، ولعل «الموت هو المثير الأكبر للكتابة، وبين أن يكون الموت مثيرا، أو أن يكون غوثا ورحمة يقف الشاعر، وكل ذلك يسربل الأقوال والأحوال بالغموض، (…)فالشعر ليس صدى للوجود، أو ظلاً من ظلاله أو تعبيراً عنه، وإنما هو وجود آخر مواز للوجود الأصلي»(6)
يتمازج الجسد القربان بأديم الأرض فيتمدد ليصبح صحراء شاسعة برمالها، وهنا يتناص الشاعر مع أبي العلاء المعرّي في قوله:
خفّف الوطء قليلا فليس
أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
ولعل الشاعر باستحضاره هذه المعاني يريد أن يعبّر عن الموت الذي يطوف حول البشرية .
ولعل فكرة القربان هنا تعبير عن القتل والدمار، والحزن القابع في الذات البشرية، فأين الغوث، وأين الخلاص ؟تقدم القرابين البشرية كل يوم للإله البشري، لأن الموازين اختلّت، والبشر تألّهوا
يمتزج الشاعر بالطبيعة برمتها، فإذا كان جسده هو أديم الأرض فإن عصير عنبها دمه، ولعل الشاعر الفرد يعبّر عن الجمع المتمثل في الشعوب المقهورة، المظلومة
المقطع الثالث:
أرسلت غزالا نحو الشمس لينطحها
وأسلت بكائي في القصب
ليس نبيذا ما يعصره العصّارون
ولكن فيض دمي في العنب
سأهيم على وجهي أسال عمّن يسقيني الماء
فلا أسمع غير طنين ذباب الأعراب على الكتب
من حولي سبعة أنهار
وبحار تذرعها الحيتان
وأذناب يخوت من ذهب
وأموت بصحرائي عطشا……..
شرد العقل وأفلتت الكلماتُ
وجُنّ «المتدارك» في «الخبب»
وسأقتل أعلم يقتلني الأمراء
وأصلب
مابين اللد ّومكة والنقب
يتحول الشعر في أرقى مستوياته إلى ترتيلة ونمط من الأنماط الأسطورية المتكرّرة على مرّ العصور، يميط فيه الشاعر اللثام عن كارثية الحوادث المتلاحقة، ليعبّر عن شروخ الأمة التي تزداد فواجعها
يظل الطقس الجنائزي طاغياً على المقاطع، فتتشح بسواد الموت ويتحول الدمع عبر بوابة القصب إلى نبيذ ثم إلى دم وهنا تظهر فكرة المسيح المخلّص جلية تحيل عليها الرموز اللغوية المذكورة، كما تحيلنا أيضا على أجواء أسطورية تحمل بذور الموت والانبعاث، فالإيمان بالانتصار على قوى الموت وعناصر الخراب، والتضحية فداء للفكرة، تحيّين الرموز الأسطورية (تموز، بعل، أدونيس، أوزيريس)، التي يغيبها الموت فيعم الجدب، ولكنها تعود من عالم الأموات فتتجدد الحياة، ولا شك في أن هذه الفكرة كانت حاضرة في ذهن الشاعر وزهو يبني صورته
أرسلت غزالا نحو الشمس لينطحها…لماذا؟وما المقصود بالشمس؟؟
الكلمات في أية لغة ذات وجهين، وجه دلالي يرتبط بالمعاني المباشرة للمسميات ووجه آخر سحري متلوّن بظلال متدرجة بين الخفاء والوضوح…فكلمة شمس تعكس في النفس معاني أخرى فهي الوضوح وهي الانتظام وهي الصحو والعقل والحقيقة(7)
تكررت الشمس في المقاطع التالية :
– أرسلت غزالا نحو الشمس لينطحها
– وأخيرا وجدتك أيتها الشمس في أعالي أريحه
– تدورين خائفة على الأسوار
– وتغطسين في البحر كبرتقالة مريضة
– وما من يوشع يعيدك من غروبك المبكّر
– أخبريني أيتها الشمس
– إنني الآن أرفع يدي نحوك أيتها الشمس الحبيبة
– يا غوث شمس غياث الأرض غيّثني
– تلقين في الأرض شمسا غير كابية
التكرار المتواتر للشمس يجعل منها علامة سيميائية داخل النص الشعري تتلون بتلون مسارات التأويل وهي تستدعي مقابلا من نفس جنسها ويمثلّه القمر،
إذا انتقلنا إلى المعنى الأسطوري نجد أن حكمة الشمس» تدعو إلى تركيز الحواس وشحذها للتعامل مع الواقع بأعلى كفاية ممكنة «(8) فإن هذا الواقع تعفّن كالمستنقع الآسن، ولا يستطيع أن يعايشه الإنسان الحرّ، الذي يمتلك فكرا مستنيرا، لذلك يتحد الشاعر بإمام الطواسين الحلاّج، ويستدعي من خلاله حكمة القمر، التي «تدعو إلى بلبلة الحواس الخارجية من أجل تفتيح الحواس الداخلية»(9)، وإذا كانت حكمة الشمس تدعو إلى بناء الجسد وتوجيهه لأداء وظائفه العملية(10)، فإن هذا الجسد مات والأرض تعجّ بالأموات، وقرابين البشر متناثرة على أرض البسيطة كحبات الرمل»جسمي لها البيد»، لذلك «تدعو حكمة القمر الجسد إلى اللعب الحرّ، إلى الرقص الذي يجعل الجسد موضوعا لنفسه، ويعكس طاقته نحو نفسها، محوّلا الحركة المادية إلى نشوة روحية ووجد صوفي»(11)
لذلك يريد الشاعر تغييب الشمس حتى لا تسطع على المكر والخديعة.
ولعل الصوت المجلجل من أعماق الشاعر هو صرخة غريق في وحل الألم، صرخة لملمت شتات الميثولوجي والتاريخي والفلسفي والديني لتعبّر عن مأساة الإنسان بعامة والعربي بخاصة، صرخة السعر المكتوب بالدم ومداد الروح.
لئن كانت القصيدة هي الدموع المستحضرة، فإنها مكتوبة بقلم القصب بمداد الدم المتحول إلى خمر ثم إلى دم، فينتشي القارئ بخمر الكلمة فتنجلي أمامه حقيقة الذات، وألم الذات
أسلت بكائي في القصب
ليس نبيذا ما يعصره العصّارون
ولكن فيض دمي في العنب …..ص2
فيتحول مداد القلم إلى دمّ ليكتب به الشاعر حزنه، ويتذوق القارئ ثمار الخمر المعتّق
والسكر في هذه الحالة يحيل على الصحو فتنجلي الحقائق، وترسخ في الذات، فتعرف نفسها، لأن من يعرف نفسه يعرف ربّه، ويعرف وجع الإنسان ويحس به.
لعل فيض دم الشاعر هو هذه الرموز المتناثرة على مقاطع القصيدة برمتها، والفيض هو لحظة التجلي في عرف المتصوّفة، فيرتقي الشاعر بالقول الشعري إلى درجات الكمال والخيال الخلاّق كونه يشاكل المتصوفة، فيبصر الحقائق مثلما تنكشف الحقائق للمتصوف، ولكنه يخالف المتصوّفة ويقتدي بالحلاّج الذي قتله لسانه، فيبوح بالأسرار، والبوح بالأسرار العرفانية أصبح في زماننا كالبوح بالأسرار الدنيوية، فكل متمرد يريد أن ينير البصائر يعاقب بالقتل.لذلك يقول الشاعر:
«سأهيم على وجهي أسأل عمّن يسقيني الماء
فلا أسمع غير طنين الأعراب على الكتب
من حولي سبعة أنهار
وبحار تذرعها الحيتان
وأذناب يخوت من ذهب
وأموت بصحرائي عطشا.»
يعيش الشاعر معاناة مفارقة لمعانات السندباد البحري، فمعاناة الشاعر، والشعوب العربية هي معاناة السندباد العربي في بلاد الخير معاناة الذات ومعاناة مجتمعه الإقليمي والعربي، يبحث عن مخلّص من ظمأ الفكر، وعمى البصيرة، والتوهان عن المبدأ الحقيقي، لأن الصحراء مرتبطة بالتيه، ولعل الأنهار والبحار المستحضرة تحيل على البترول، الذي تسيطر عليه حيتان العالم الدنيوي،، فالحقائق جلية، والشاعر فلتت الكلمات من جوفه ولم يستطع إمساكها لذلك يعبر عن أقوال صناع القرار العربي بـ:
فلا أسمع غير طنين ذباب الأعراب على الكتب»
ومن خلال هذه المقولة يستحضر الرفض والتنديد والاستنكار، الذي أصبح أسطوانة روتينية تتردد على منابر الحكام العرب، والشعوب العربية تموت عطشا في بلدان الثراء.
ومع ذلك فالشاعر يدرك أنه سيقتله لسانه، كالحلاّج تماما الذي قيل عنه «قتله لسانه»
لأن عقله شرد وذاب مع الأفق الرحب وتحرّر من الواقع وتفتحت أمامه الحقائق والحجب ولا يستطيع التوقف
«شرد العقل وأفلتت الكلمات
وجن «المتدارك» في «الخبب»»
تدافع الكلام دون توقف، لذلك يخاف الشاعر أن تختلط الكلمات بـبعـضها مما سيصيبها من سرعة خبب المعاني، ففاضت المعاني عن النفس، وبالتالي لا يستطيع اللسان ردعها، لأن نشوة الشعر، وخمر الكلمات والحلول في تفاصيل القضية أسكرت الشاعر، فباح بالمحظور فأدرك أنه:
«سأقتل أعلم يقتلني الأمراء
وأصلب
ما بين اللدّ ومكة والنقب»
يتمزّق الشاعر ويخرج هذه الهرتقات الصوفية ويبوح بمكنونات النفس كبركان أخرج حمأه
ولعلّه إن مات سيكون جسده هو قربان الخلاص، فسنة الحياة أثبتت أن الدعوات لا تهزم بالأذى أبدا.
لذلك سيقتله الأخوة الأعداء، لذلك يحاول الشاعر أن يكرر فكرة المنقذ بمعان مختلفة وكما ان النبوة وحي وسعي وراء تطهير البشرية من الرجس، كذلك الشعر، لذلك يشاكل الشاعر النبي يوسف، ويتناص مع قصة يوسف، ليضيفها إلى حلقة معاناة الأبطال ويطلب الغوث من الله:
«ياغوث شمس غياث الله غيّثني
أنا الضعيف كأعناق الرياحين
تلقين في الأرض شمسا غير كابية
كالبرق يشعل أحشاء البساتين
إني رأيت ولي رؤيا مغامرة
نجما تألق في أقصى شراييني
رؤيا أخاف إذا ما قلت سيرتها
من اخوتي أن يخونوا أو يكيدوني
فاكتم حكايتها في القبر يا ابتي
فالورد ينبض في أصل البراكين».
لعل التناص مع مشهد الرؤيا في قصّة يوسف يحيل إحالة مباشرة عن يوسف الزمن الراهن، وهو يوسف المقهور، يوسف المنبوذ، يوسف اللاجئ يوسف المحصور في جب الأوطان، فيتحوّل من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع.
ولعل رؤيا الشاعر تبشر بقرب ظهور المخلّص، وهو يعلم بل يحاول أن يتنبأ بزمن البعث، لأن سنة الحياة تقتضي فلا تبرعم النبتة إلا إذا تعفّنت، ولا يشرق الأمل إلا إذا اشتدت حلكة الألم :
«ها إنّ أقحوانة الدّم تزهر في قميصك يا منصور
وإبرة الموت العميقة
تطلع من جسدك متوّجة بقطرة جميلة من ماء الحياة»
ترحل دموع الحلاج رحلة سندبادية في جسد القصيدة، وتتحول إلى ماء الحياة
ومنه ينقشح الحزن المخيّم الكون التخييلي وتأتي الخاتمة النصية مفعمة بالأمل:
كادت سرائر سرّي أن تبوح به
وكاد خوفي عليه لا يسميه
ينأى ويقرب مجلوا ومستترا
كالغيب أجمل ما في الغيب ما فيه
من ذا هو الرجل العالي ولست أرى
إلا بريق نجوم في أعاليه
يلقي على السهل ظلاّ من عباءته
فينبت العشب في أقصى حواشيه
يكاد يلبس قلب الماء مبسمه
فيهطل الغيث إن صلّى بواديه
نعم إنه الخلاص على يد المخلص الذي تنتظره البشرية، ونحن أيضا لا نريد أن نبوح، غير أن الأمل العربي دائما يعلّق على أبطال يشفون غليل الشعوب، وأحسب أن الجميع يعرفهم والتاريخ سجلهم .
يختم الشاعر قصيدته بالأمل المنتظر، ولئن قدّم المنقذ كإله أسطوري، فإن نسيج القصيدة برمته جسّد أسطورة الإله الميت، بمختلف الصيغ
فسيزهر دم البشرية المهدور بقدوم الربيع، ويدل عليه زهر الأقحوان .
ولعلنا منذ البداية نلمس حلولا وتمازجا بين الإنساني والطبيعي، فلا مبدّل لسنّة الله، فالجدب يعقبه الخصب والسنون العجاف يعقبها الغوث، والموت تعقبه حياة، واليأس يعقبه الأمل والظلام يعقبه النور والليل يعقبه النهار، نمط يتكرر منذ الأزل، والباطل سيزهق لا محالة والحق سينتصر وسيتبدد الظلام عن الضمائر .
سيهطل الغيث وتتحول الدموع إلى أمطار ويخضر الكون وينتعش العشب ويحيا الناس بالحق وتعود مركبة الشمس لمسارها المنتظم .
تعد دموع الحلاج مرآة كاشفة للمحيط الداخلي والخارجي، حيث خلق الشاعر خطابا صوفيا محمولا بنبرة مأساوية تسعى من خلال تشتت أصواتها إلى إعادة بناء الواقع من خلال ترميم ثقوبه، ولملمة الوعي العربي المبعثر في عصر ضاعت فيه البصيرة، وبين العمى والبصيرة يقبع الشعر الأصيل، الذي يقدّم من خلاله الشاعر المكرّس لدور المرشد مشروعا أيديولوجيا متكاملا جامعا بين المقدس والمدنّس، ليكشف من خلال المتناقضات عن الذات الجمعية الضائعة في هذه المتاهة الكونية، حلما بالنموذج الحضاري البديل وفقا لما تقرّه قوانين الطبيعة ونواميس الكون وسنن التدافع، لذلك تولد اليوتوبيا وتنتعش الأيديولوجية في هذا النص الشعري، ليصبحا من منظور- فرو يدي –سلوكا دفاعيا تجاه هذه المتغيرات الحاصلة.
فرحلة الشاعر وارتقاؤه هي رحلة الفكر الفتيّ، الفكر اليقظ، رحلة العارف في المنطق الصوفي «ورحلة العارف هي رحلة المطلق والبحث عن الكمال وتجاوز انحرافات الواقع وتشوّهاته»(12)
هكذا يتبدى وجع الكتابة ويتشظى حقل العبارة ويتكسّر ليُبنى على المفارقة فيصبح الدمع صوتا داخليا، وما دام صوت العقل مغيبا، فالشاعر حاول أن يستقطب المستمع « للإصغاء لصوت الحكماء الذين حلموا بالمدن الفاضلة التي لم تبن حتى الآن، فالسياسات استولت على ارث الأنبياء والحكماء وحوّلته إلى رايات للقتال، وممالك للسلب والنهب»(13)
فيبوح الشاعر عن مكامنه ويكشف عن تغريبة الإنسان ومصيره العاتي، «فيضيع الفارق بين النبوة بالمعنى الشامل والشعر فيغدو التأسيس الشعري، تأسيسا نبويا بالدرجة الأولى»(14)
ولئن كانت الأسرار العرفانية، من الطابوهات، فإن مايحدث في زماننا يشاكلها، لأن سنة تكميم الأفواه، كانت وما زالت، غير مراحل الحياة أثبتت، أن التمرد على الأعراف يفعّل وتيرة الحياة.
تفاصيل كثيرة تعج بها قصيدة دموع الحلاج، فهي منفتحة على قراءات عديدة، فهي فسيفساء نصوص قادمة من سياقات شتى متمازجة، متناغمة، معجونة في محك تجربة الشاعر، غارقة في شعرية اللغة والتوضيف الرمزي للكلمات المفرغة من دلالاتها الأصلية والمشحونة بدلالات تتماشى والسياق العام للقصيدة، وشعرية التناص الصوفي والأسطوري والديني والتاريخي، جمعت بين حلقات الألم والأمل .
الإحالات والهوامش
1- فراس السواح :لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، ط8، دمشق، سوريا 2002 ص251.
2- فراس السواح :لغز عشتار ص252.
3- سليمان مظهر، أساطير من الغرب، دار الشروق، ط1، القاهرة2000، ص14
4- فراس السواح، الأسطورة والمعنى، دراسة في الميثولوجيا والديانات المشرقية، دار علاء الدين، ط1، دمشق، سوريا2001، ص175
5- المرجع نفسه ص176
6- محمد علي شمس الدين، الجنوب حملني ثم حملته، الثورة:حوار مع محمد علي شمس الدين، يومية الثورة، تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر، لقاء الأسبوع 12/11/2008 أجرت الحوار فادية مصارع
الرابط الإلكتروني:
http/thawra.alwehda.gov.sy/_Rint_veiw.asip ?fil Name=9598305820081111221038
7- فراس السواح، الأسطورة والمعنى، مرجع سابق ص22.
8- فراس السواح، لغز عشتار، مرجع سابق ص203.
9- المرجع نفسه ص203.
10- المرجع نفسه ص203
11- المرجع نفسه ص203.
12- صدوق نور الدين، عبد الله العروي وحداثة الرواية، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت لبنان /الدار البيضاء المغرب، 1994ص40.
13- محمد عرب، شرائع النفس، العقل، الروح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، سوريا 2005 ص205.
14- محمد لطفي اليوسفي، لحظة المكاشفة الشعرية وإطلالة على مدار الرعب، الدار التونسية للنشر، تونس، 1998.ص266.
ملاحظة
المقال نشر في مجلة مقاربات:دورية محكمة، دورية محكمة تعنى بالبحث العلمي، آسفي(المملكة المغربية)، خريف2009
شاديــة شقـــروش
أكاديمية من الجزائر