اي حديث عن تاريخ الفن التشكيلي في مصر يقتضي الوقوف في محطة أساسية: محطة محمد محمود خليل، ليس باعتباره فنانا، وانما لتأثيره في الحركة التشكيلية، ولانه خلف ثروة فنيت قل نظيرها، ويصعر كلى انسان بمفرده أن يجمع مثلها.
فهذا الإنسان الذي ولد عام 1877 لاسرة ثرية، درس الزراعة اول الامر، بناء على رغبة الاسرة، وحسب القتاليد السائدة، ليكون مشرفا على العقارات والأطيان الزراعية، لكن ما أن تخرج في الجامعة حتى سافر الى فرنسا، وبدل ان يواصل 1لدراسة في نفس 1لاختصاص، اتجه الى دراسة الحقوق، اثناء إقامته هناك احب ثم تزوج فتاة فرنسية كانت تدرس الموسيقى، وبحكم إقامته في باريس، ثم زواجه من هذه الفتاة، فقد تغيرت حياته، وتغير دوره في هذه الحياة، إذ لم يعد يهمه أن يواصل عمل العائلة، وخاصة بعد أن استبدت به هواية جديدة، جعلت يتخذ طريقا مختلف عن غيره من أغنياء مصر الذين يهم اكثرهم مراكمة الثروة فقط.
فالفتاة التي تزوجها عام 1901 فتحت له نافذة، ما ان أهل منها حتى سيطرت عليه، وأصبح اسيرا لها، إذ لم تكد تمر سنة أو اثنتان علي زواجه إلا ووجد نفسه متورطا في قضية لم يكن يفكر فيها من قبل: اقتناء الأعمال الفنية.
فاميلين، زوجته، لم تكتف بان تجول بصحبته علي المتاحف، وأن يشهدا العروض الفنية معا، بل وأغرته أن يشتري لوحة أحبتها، وأرادت أن تحتفظ بها، وهكذا استجاب لها، ودفع أربعمائة جنيا مقابلا لهذه اللوحة.
كتب محمد محمود خليل في مذكراته عن هذه الصفقة:
"باريس، فبراير، 1903" "أربعمائة جنيه كاملة دفعتها اميلين اليوم ثمنا للوحة امرأة رسمها رينوار، انا لا أتصور أن يدفع كل هذا المبلغ في لوحة واحدة، لكن اميلين تقول اننا رابحون في هذه الصفقة، من يدري، فقد كون كذلك !" (1)
هذه اللوحة كانت بداية التغير في حياته، وبداية مشوار بدأ في نلك الوقت ولم ينته إلا بوفاته، اذ أصبحت لوحة رينوار نواة المتحف الذي حمل الأن اسمه واسم زوجته، والقائم في القاهرة، ويعتبر واحدا من المتاحف الهامة، لما يحتويا من الأعمال الانطباعية للقرن التاسع عشر ثم لبداية القرن العشرين.
يقول واحد من الذين كتبوا عنه: "أما الرائعة التي يتحدث عنها الشاب البالغ من العمر ستا وعشرين سنة في مذكراته، والذي وجد أن الأربعمائة جنيا تعتبر ثمنا باهظا، فان ثمنها الأن يتعدى، بسهولة، الأربعين مليون جنيه !"(2)
هكذا كانت البداية، وبين العام 1903، التاريخ الذي اشترى فيه خليل تلك اللوحة، وعام 1953، حيث أغمضي عينيه لأخر مرة، ثم بعد ذلك، وإلى الأن، فان هناك الكثير الذي يمكن أن يقال عن الرجل والمتحف وبعض الأحدث ذات الدلالة، والمؤثرة في الحياة التشكيلية في مصر.
فهذا الرجل الذي ورث عن العائلة أموالا طائلة، وأضاف اليها اعير من الأعمال التجارية التي مارسها، استبدت به هواية اتتنا، الأعمال الفنية، خاصة أعمال الانطباعيين الفرنسيين، كان يشتريها لنفسه أول الأمر، ثم أخذ يشتريها لحساب المتاحف في مصر، أو لحساب القصور الملكية التي كلفته بهذه المهمة، فتراكمت نتيجة ذلك، وخلال خمسين سنة، أعمال بالغة الأهمية، تعتبر مفخرة لمصر، وثروة لا تقدر بثمن، كما تعتبر نموذجا لعتل مستنير، وطريقا لخلود الأسماء التي تقدم شيئا للوطن.
ان أي زائر للقاهرة الأن، خاصة من تستهويه الأعمال الفنية، لابد من أن يتوقف في لجيزة مرتين، على الأقل، المرة الأولى لزيارة الاهرامات، والثانية لزيارة متحف محمد محمود خليل ! ففي مكان غير بعيد عن كرمة ابن هانئ، حيث كان يقيم أمير الشعراء، أحمد شوقي، وغير بعيد أيضا أيضا الجامعة المصرية، يقوم على ضفة النيل اليسرى قصر جليل مؤلف من ثلاثا طوابق، تحيط به حديث فسيحة، كان يسكن هذا القصر ذات يوم محمد محمود خليل، وبحكم الوصية التي تركها الرجل، وأكدتها زوجته قبل وفاتها، فقد آل القصر بكل ما فيه، إلى شعب مصر، أي أصبح متحفا.
لكن قبل الوصول إلى الخل المتحف، بوضعه الراهن، من الضروري تقديم عدد من الملاحظات.
بعض هذه الملاحظات يتعلق بالمناخ الفني تاريخيا، وبعضها الأخر يتعلق بالتجاذبات والمؤثرات التي ظهرت أو سيطرت خلال الفترة التي سبقت ثم رافقت حياة هذا الرجل.
فمصر التي استفاقت من غفوة العصور الوسطى على دوي مدافع نابليون، وجدت نفسها حائرة موزعة وهي ترقب جحافل الغزاة الذين وصلوا، اذ بالإضافة إلى الجيوش والمدافع، كان هناك عدد كبير من العلماء، في معظم الاختصاصات، يرافقهم الفنانون والخبراء، وقد انكب جميع هؤلاء على دراسة مصر من ألفها الى يائها، كما يقال.درسوا الزراعة والأثار وحالات الطقس والزواج والوفاة، كما درسوا العادات ومعها الأفكار والأحلام، وكتبوا عن ذلك الكثير، بحيث تبدر لديهم ما يمكن تسميته: وصف مصر.
الفنانون الأن رافقوا هذه الجحافل، لم يكبوا، لكنهم قالوا ما هي مصر من خلال الصور.فمالا يمكن وصفه أو قوله بالكلمات تولى المصورون تصويره. ولأن مصر بالنسبة لهؤلاء بدت جديدة ومخطئة عما ألفوه، فان كم الصور التي سجت تلك المرحلة كان كبيرا وهاما، بل أكثر من ذلك ان الذين رافقوا الحملة، وبعد هزيمة نابليون، استهوتهم مصر إلى موجة اثر بعضهم الاقامة فيها لفترات معينة أو بشكل دائم، وأختار أكثرهم القاهرة القديمة مكانا لسكنهم، كما استمروا يواصلون المهمة التي جاءوا من أجلها: التصوير، ومن خلال الحياة التي عاشوها، خلقوا حالة من الفضول ثم التأثير في المحيط الذي عاشوا ضمنه.
وبحكم المناخ السياسي الذي ساد بعد نابليون ، ثم وصول محمد طي الى السلطة، اتجهت الأنظار لى عناصر التقدم المادي في إطارا لمعارف والعلوم، وهكذا كانت البعثات التي أوفدت إلى فرنسا بشكل خاص مهتمة بالصناعة، الحربية تحديدا وما يتعلق بها، ولان الموفدين الزموا بنظام صارم، كالزي الموحد والسكن المشترك، فان هؤلاء لم يلتفتوا إلى غير الاختصاصات التي وجهوا إليها، بحيث لن الشيخ الذي رافتهم، كي يؤمهم في الصلاة، كان أكثر استنارة ورغبة في لاطلاع والمعرفة من طلبته، وهذا ما يظهر جليا في كل تاريخ هذا الشيخ: الطهطاوي، إذ كتب: تخليص الابريز في تلخيص باريز.
ولان مصر ارهقت ثم لمستزفت نتيجة حروب محمد علي، ثم سياسات الذي خلفوه، ولان الطامعين فيها لم يتركوا لها مجالا كي تسترع وتستجمع نفسها، لذا فان الفنون لم تتطور لم تزدهر، فالفنون تحتاج جوا من الاستقرار والرخاء، لذلك لم تتبلور مناخات تساعد على الإنتاج الفني إلا في أضق لمحدود، رغم استمرار تدفق الفنانين لأجانب على مصر، والإقامات الطويلة لبعضهم في ربوعها، بحثا عن موضوعات أو أجواء جديدة. وما عدا بعنى المستنيرين من المصرين،خاصة الذي سافروا الى أوروبا. واحتكوا بأجواء لها علاقة بالفن، فان الأغلبية الواسعة من الناس ظلت بمعزل، أو قليلة الاهتمام بالفن،عدا العمارة والأعمال التطبيقية،خاصة الحفر على الخشب والنحاس وصناعة السجاد ولأدوات الخزفية، وظل الفنانون الأجانب وحدهم، تقريبا، هم الذي يرسمون.
اعتبارا من عام 1891 بدأت تقام في مصر سلسلة من المعارض الفنية، وأخذ المستنيرون من المصريين أمثال محمد عبده وقاسم أمين وهدى شعراوي وغيرهم يدعون إلى الاهتمام بالفنون وتسجيعها، لان أية نهضة حقيقية لا معمل بالإنجاز المادي وحده إذ لابد مز لن يكون إلى جانبه، بل وقبله، فكر يوجه ويقود، بما في ذلك ثقافة متعددة الوجوه والفروع، ويجب لن كون الفنون جزءا منها.
ولان مددا س حكام مصر لو تبطرا بفرنسا نفسيا ولغويا، وبعضهم أكرمن ذلك، فقد أصبت فرنسا بالنسبة لهم النموذج الذي يجب أن يحتذى، من حيث المعمار والزي واللغة، وأيضا الفنون، وهنا ترد الى الذاكرة الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة فتح قناة السويس، وما جرى خلالها من تحضيرات وانشادت بما فيها إقامة دار الأوبرا، وتكليف الموسيقار فيردي باعداد مشهدية تلائم المناسبة. يقول دزموند ستيورت واصفا ما جرى أثناء فتح قناة السويس: "كان أسماعيل اذن هو علاء الدين في زي رئيس خدم، إذ دعا ألفا من الضيوف، وقرر لن يدفع، أو ان يقترض،مليون جنيه استرليني لخر، ليرى مصر تنفصل ماديا عن الشرق وتنضم روحيا إلى أوروبا التي أعجب بها".(3)
ويقول إنجليزي لخر واصفا أحدي قاعات قصر عابدن: "قاعة الاستقبال في تصرعا بدين أثر عصري الطراز مبتهج بالذهب واللون القرمزي والمرايا الجدارية "(4)
أما حين بدأت بودر عصر النهضة، وأخذ المصلحون يرفعون أصواتهم مطالبين بوضع حد لحكم الاستبداد والاستعمار، وبسيادة حكم القانون، ووقف الهدر والاستداثه وبذخ الحكام، فقد ترافق ذلك مع كابات واسعة ومستمرة حول الأسباب التي تؤدي الى نهوض الأمم وتقدم الشعوب، وما يجب تداركه كي تستقيم الأمور. وقد تم التطرق في هذه الكتابات إلى تأثير الفنون، بما فيها الرسم والتصوير، في خلق وعي جديد وذائفة جديدة.
فبعد الطهطاوي، وما أشار اليه من أهمية الفنون في تهذيب ذوق الناس، يقول. محمد عبده عن الرسم: "… والرسم إذا نظرت اليه، وهو الشعر الساكت، تجد الحقيقة بارزة لك، تتمتع بها نفسك، كما يلتذ بالنظر فيها حسك، وأن حفظ هذه الأثار حفظ لكم في الحقيقة "(5) ويشارك محمد عبده في هذا الري رشيد رضا، وتؤكده أيضا هدى شعراوي، أما قاسم أمين بعد زيارته لباريس، وبعد أن رأى بأم عينه اللوفر، وما يحتويه ن أثار فنية بالغة الأهمية والتنوع، وتأثير هذه الأعمال كي الناس، فلقد رجع بعد هذه الزيارة مبهورا، وكب محرضا على ضرورة الاهتمام بالفنون.
أما لطفي السيد فانه لا يكفي بابداء تقديره لأممية الفنون، بل ينادي ويحاول أن تكون جزاء أماميا من المواد الدراسية في جميع المدارس، وأن تبدأ هو لأطفال منذ المراحل الأولى.
بعد سلسلة المعارض التي بدت في مصر عام 1891، والتي أخذت تتوالى بوتيرة زمنية متتابعة، وما يرافقها من زيارات لفنانين أوروبيين مرمرقين، واعتبارهم أن مناخ مصر أكفر ملاءمة، خاصة بعد أن تراجعت أساليب معينة في الرسم الأوروبي، وحلت أساليب جديدة مكانها، بما فيها الرسم في الهواء الطلق، والتعامل مع الضوء بصورة مختلفة عن قبل، وأيضا اختيار موضوعا يتم التقاطها من الشارع خاصة الأحياء الشعبية، خلافا لأسلوب الاستشراق، فان هذا المناخ ترك انعكاساته وتأثيره في أوساط واسعة.
وما إن بدأ القرن العشرون يطل، وبتأثير هذا المناخ، المتعدد والمتفاعل، ولانه صادف وجود أمير شغوف بالأعمال الفنية، ولديه ثروة طائلة، هو لا امير يوسف كمال، فقد جاء من اقترح عليه إنشاء مدرسة فنية في القاهرة، فتحس لفكرة، وهكذا قامت مدرسة الفنون، ومن أجل ضمان استمرارها، وتحسين الأداء فيها، أوقف كيها الأمير عقارات وموارد تكفيها، بما في ذلك إيفاد الخريجين المتفوقين إلى أوروبا لمواصلة درسا تهم والاطلاع طي الأعمال الفنية، وهكذا أصبحت سنة 1908 علامة مميزة في تاريخ التشكيل المصري.
ترافق ذلك أيضا مع قيام مجموعات وجعيات لمحبي الفنون الجميلة، وأخذت ترتفع الأصوات بضرورة تشجيع الفنانين واقتناء أعمالهم، كما أصبح اقتناء الأعمال الفنية،خاصة التي يرسمها الأجانب، هواية بعض الأثرياء ومجالا للتفاخر فيما بينهم، مع الإشارة منا لمى أن عددا غير قليل من هؤلاء الأثرياء من أصول غير مصرية، وكان بعضهم عل دراية بالفنون وأسعار الأعمال الفنية، نظرا لاسفارهم المتكررة إلى أوروبا، ولوجود ذوي المعرفة والخبرة حولهم.
بدءا من عام 1912 أخذت البعثات الفنية تتوجه الى أوروبا لمواصلة الدراسة،. وكان ضمنها المثال مختار، الذي أثبت جدارته وحضوره، بما أنجزه من أعمال فنية، ولأن طبيعة المادة التي يتعامل بها تقتضي تجهيزات ومسامان لم يكونوا متوافرين في مصر، لذلك كان من أوائل المصريين الذين تم إيفادهم إلى باريس.
ونظرا للمخزون الشعبي العرق في تكون هذا الفنان العبقري، ولأنه أستمد أغب موضوعاته من حياة الناس، خاصة أبناه الأرياف، وقدرته على الاختيار والتلخيص، ولان مصر كانت تمر في فترة مخاض وتغير، كي جميع المستويات، من حيث ظهور الكيان السياسي وإعلان الدستور وقيام البرلمان وإنشاء بنك مصر، وظهور عدد من الصناعات ؛ ولان مخاضا مماثلا كان يجتاح فرنسا، وعبر عن نفسه بموجات جديدة، ورسوخ ما كان منبوذا أو مستبعدا، خاصة الموجة الجديدة من الانطباعية الأكثر نضجا، ولأن المثال الفرنسي رودان أصبح خلال تلك الفترة في ذروة العطاء، ومن ثم في ذروة الاحتراف والشهرة، فان مختار استفاد كيرا من اقامتا في فرنسا سواء بالاحتكاك بأجراء جديدة، وبالتالي الاستفادة من الخبرات المتراكمة، أر بتجاوزه للصعوبات والعوائق التي كانت تميط به في مصر، وهكذا انطلق بحماسة كبيرة ليعبر عن نفسه، وليسهم أيضا في إثراء المناخ الفرنسي نفسه من خلال الموضوعات التي تناولها مادة لعمله أو طريقه التعبير نمها خاصة وهو يحمل تراثا من بيئة مغايرة، وهكذا أصبح أول مصري يعرض في " صالون الفنانين الفرنسيين " إذ قدم تمثاله "عايدة "، وكان لما زل في الثانية والعشرين من عمره !
ان هذه الدراسة تقتصر، بالدرجة الأساسية، علي محمد محمود خليل، إلإ أن معرفة الأجواء التي عاش خلالها تضيع جوانب مهمة في رحلته الفذة، وتعبر عن مدى الجرأة التي تميز بها وهو يبحر في مواجهة عواصف وعوالم جديدة.
ولعل رحلة مختار الفنية، وما أنجز خلالها من أعمال بالغة الأهمية والحداثة، تعكس الأجواء التي كانت سائدة، إذ رغم الاعتراف به كمثال متميز، ولاقت أعماله هوى ثم اعترافا في فرنسا ثم مصر، ومن الأوساط الشعبية أيضا، إلا أن القوى المحافظة المناهضة في مصر لم تكن كيلة ولم تكن ضعيفة، إذ بعد ى عانى الكثير من الصعوبات والفقر أثناء الحرب العالمية الأولى، مما اضطره إلى العمل في غير مجاله لتحصيل قوت يومه، استطاع أن ينجز تمثاله "نهضة مصر" وحمله الى معرض الفنانين الفرنسيين الذي أقيم بعد الحرب العالمية مباشرة، فرأى فيه نقاد الفن "أول إشعاع تنبثق منه نهضة الفن المصري".(6)
ومع أن شخصية مختار وانجازاته الفنية تستحق وقفة خاصة، فالذي يعنينا هنا: دور محمد محمود خليل، ومجموعة أخري من المستنيرين، وأيضا موقف الشعب، خاصة الفقراء في المدن والأرياف، وكيف تضامن الكثيرون بالاكتتاب والتأييد من أجل إقامة تمثال،نهضة مصر"، بعد لن أصبر الموضوع قضية وطنية نتيجة الصعوبات التي وأجهت إقامة هذا التمثال، وما رافق ذلك من تجاذبات سياسية واتجاهات فكرية متضاربة.
إذ بعد أن رأى سعد زغلول، أثناء زيارة لباريسى، نموذجا لتمثال،نهضة مصر"، أخذت الصحافة تطالب بإقامة هذا التمثال في مصر، وبادرت "الأخبار" بالدعوى إلى الاكتتاب وجمع الأموال اللامة، كما تشكلت لجنة لمتابعة الموضوع، كان من بين أعضائها محمد محمود خليل. ولما تقرر أن تكون مادة التمثال من حجر الجرانيت، علي غرار تماثيل مصر القديمة، فقد أمكن جمع 00ه6جنيا، وطلبت اللجنة من لحكومة الموافقة على إقامة هذا التمثال فرافقت شرط أن يكون تحت إشراف وزارة الأشغال العامة.(7)
لقد كانت عملية الاكتتاب لجمع الأموال مرأة لمشاعر الناس، إذ بادر لي ذلك الفقراء قبل الأغنياء، وساهمت الأرياف بحماس يوازي حماس المدن. وكفي منا بمثال واحد ورد في رسالة من الشحات ابراهيم الكيلاني، العامل بهندسة السكة الحديدية بالزقازيق، إذ قدم تبرعا مقداره ستمائة مليم ومعه الكلمات التالية:
"إنني رجل فقير جدا اشتغل بهندسة السكة الحديد الأميرية بوظيفة فاعل، ويوميتي 70 مليما ومتزوج بيتيمة الأب وأم زوجي تبيع ترمسا ولي شغف بقراءة الصحف عن عهد النهضة المصرية الأخيرة. بينما كنت جالسا أقرأ جريدتكم الغراء بكيت بكاء شديدا، فسألتني زوجتي عن سبب بكائي فخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر، ولم يكن معي نقود أتبرع بها خلاف 200 مليم، فقالت زوجتي انها تتبرع بمائة مليم أيضا، وقالت أمها مثلها وكذلك فعل أخوها وعمره 15 سنة. أما أختها البالغة من العمر 13 سنة فقالت إنها لا تملك إلا 50 مليما فتبرعت بها، ولي طفل عمره سنة ونصف كانت أمه وفرت له 50 مليما فاحضرتها فأصبر المجموع 600 مليم. فأرجوكم أن تتقبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صندوق تمثال نهضة مصر، وتتوسطوا في قبوله ونكون لكم من الشاكرين. هذا واني أدعو جميع الفعلة في الزقازق وخلافها وأدعو أيضا جميع العمال للتبرع لتمثال نهضة مصر لنتسابق مع الأغنياء زادهم الله من فضله ".(8)
أثناء قطع الأحجار للتمثال من شمال مصر ونقلها الى القاهرة، وبعد الانفاق على المراحل الأولى من العمل، انتهت المبالغ التي تم الاكتتاب بها، وكاد يتوقف المشروع عام 1922، إلا لنا أحد النواب، ويصا واصف، استطاع أن يحصل على اعتماد من البرلمان قدره 12 ألف جنيه لمواصلة العمل، ورغم الاستمرار إلإ أن العقبات التي وضعتها الحكومة كانت تعرقل وتؤخر. كتب وكيل وزارة الأشغال، المعترض هي إقامة التمثال وعلي مكان اقامته، طالبا "تشكيل لجنة من ذوي الذوق للنظر في صلاحية التمثال ".(9) وظل الأمر بين شد وجذب إلى أن، استطاع مختار أن يتم تمثاله ". "وظل يرتقب إزاحة الستار عنه شهورا لي أن تغلب تيار الحماسة العام، وتم احتفال رسمي أقيم في 20 مايو 1928، وألقى فيه رئيس مجس الوزراء كلمة الحكومة، كما ألقيت قصيدة شوقي التي أعدها عن التمثال، القاها الشاعر علي الجارم ".(10)
إن إقامة تمثال " نهضة مصر " تعكس الجو الذي كانت تعيشه الحركة الفنية، إذ رغم الحماس الشعبي، والدفاع الحار من قبل اعلام الثقافة والفن ولأدب وقطاع مستنير من السياسيين وأبناء الشعب العاديين، إلا أن موقفا مناهضا من عدد غير قليل،خاصة من السياسيين، كان يحول دون انطلاق العمل الفني، ويضع في وجهه المصاعب والعراقيل.
(2)
في هذا الجو الذي يتسم ببعض الإيجابيات والكثير من السلبيات، بدأ محمد محمود خليل رحلته الطويلة الحافلة، وإذا كان قد بدأ بلوحة رينوار، بحكم اقامته في فرنسا، وطغيان الموجة الانطباعية فلا تلك الفترة، فان خياراته اللاحقة ظلت ضمن نفس المدرسة، سواء وهو يشتري لنفسه أو فدما كلف بالشراء للمتاحف في مصر أو للقصور الملكية. وإذا تجاوز تلك المدرسة فإلى ضفافها أو لمرحلتها بالدرجة لأساسية. كان يفعل ذك نتيجة الجو الساند في فرنسا أولا، ولأن حوله من يشور عليه. خاصة وأن المدرسة الانطباعية التي كانت مجرد هامش ضيق في البداية، تحولت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الى فوجة زاحفة، وأخذت أصداؤها وانجازاتها ترحل إلى أمريكا والى روسيا، كما أصبح تأثيرها شديد الوضوح في أعمال الكثيرين.
يضاف إلى هذا أن ذوي النفوذ الاقتصادي أخذوا يدركون ما تشكله الأعمال الفنية من أهمية في مجال الاستثمار، ليس كمجرد أحتياطي محتمل أر بعيد للثروة. وإنما كشيء عاجل، بل ومؤكد أيضا. ونشطت في هذا الحقل دور المزادات، وما تخلقه من المنافسة والإغراء، يبث أمس جمع اللوحات والتحف الفنية والسجاد والأثار القديمة ثروة بذاتها، كما كان حال الذهب في فترة سابقة.
عزز هذا الأمر أن الكثير من لأعمال الفنية التي كانت في الكنائس والقصور قبل الثورة الفرنسية، ونهبت أو تشتتت خلال الثورة ثم بعدها، أخذت تظهر في دور المزادات. وأصبحت هذه الدور هي التي تعطي القيمة والمصداقية لهذه لأسال، وبالتالي لها زبائنها وسماسرتها وأساليبها في الترويج بما في ذلك تبني بعض المدارس والمر لحل والفنانين، وتحديد الأممية والمستوى والأسعار، الأمر الذي زاد في المنافسة، وزاد في الطلب علي مدرسة معينة وفنانين محددين.
محمد محمود خليل، وهو يزداد اقبالا لشراء الأعمال الانطباعة، أصبر أكثر ادراكا لقيمة ما يشتريه، بحكم الممارسة ونتيجة تأثير المستشارين الذي يحيطون به، حتى الأعمال التي تنتمي إلى مدارس أخري، وأشتراها لنفسه، ربما بهدف الاستثمار، وكان أغلبها من مدرسة الاستشراق، ما لبث أن تخلى عنها سواء بالبيع أو باهدائها إلى جهات متحفية في مصر.
ولأنه رفق النشاط التشكيلي في مصر منذ البداية، وظل يقيم أو يتردد على باريس من مطلع القرن العشرين، ولان مدرسة الفنون أوفدت خريجيها المتفوقين الى فرنسا، فقد كان خليل وثق الصلة بهؤلاء، وقامت بينه وبين بعضهم علاقات متميزة، الأمر الذي جعله يساهم في الجماعات والجمعيات التي تكونت في مصر لدعم الفنون، ولشراء الأعمال الفنية.
صحيح أن عددا من الذين تم إيفادهم إلى فرنسا أو إيطاليا بقي محافظا، فلم يتفاعل مع المدارس الفنية الحديثة، ولم يتأثر بالاتجاهات والموجات لجدية، إذ كان التوجه لدى بعض هؤلاء الحصول علي الشهادات والحلول مكان الأجانب الذين كانوا يكون الوظائف والمناصب الادارية في مصر، إلا أن آخرين تفاعلوا مع الجو الجديد، وستطاعوا اكتساب مهارات إضافية، وساهموا بالتالي في خلق مناخ فني أكثر تحررا وأكر خصوبة، ولعل أبرز هؤلاء: مختار ثم عياد ومحمد حسن ويوسف كامل.
بتأثير هذا الجو، والذي أصبح أكثر نضجا وانفتاحا، وقد ساهم في خلقه الموفدون العائدون وكوكبة من ألمع المثقفين، أمثال لطفي السيد وأحمد شوقي وطه حسين وهدى شعراوي وعلي عبدالرازق وعبدالرحمن عزام والرافعي وغيرهم، علاوة علي الصحافة والمعارض، أمكن ادخال مادة الفنون فجميلة كمادة دراسية في جميع المدارس، وزيادة الاهتمام الشعبي، وحتى الرسمي، بالقضايا الفنية المطروحة، كما تعالت الأصوات مطالبة بزيادة العناية ولإنفاق في هذا المجال، وكان محمد محمود خليل صاحب تأثير مباشر، مما جعل الدولة تخصص مبالغ مالية لاقتناء الأعمال الفنية، وتكلفه باختيار هذه الأعمال.
قام خليل بشراء عدد غير قليل من الأعمال الفنية من "صالون القاهرة " لمصلحة وزارة المعارف، وحين كلفته الدولة بشراء أعمال تناسب القصور الملكية ونادي محمد على للدبلوماسيين، ثم لمتحف الفن الحديث، فقد اختار نسبة كبيرة مما هو معروض في دور المزاد بفرنسا، واستمر يفعل ذلك طوال الفترة التي ظل خلالها مكلفا بهذه المهمة، وكان يصطحب معه لهذا الغرض عددا من المستشارين وذوي الخبرة في رحلاته، وحين يكون مثقلا بأشغال في مصر تعوقه عن السفر، كان ينيب عنه بعض مستشاريه للقيام بهذه المهمة.
على رأس المستشارين الذين استعان بهم خليل، أو كانوا ينوبون عنه في اختيار الأعمال الفنية: ويشار موصيري، وهو يهودي مصري، وتحديد الهوية هنا لهذا المستشار بالذات ضروري، لان المواقف اللاحقه، خاصة بعد وفاة خليل، توضيح بعض الملابسات التي رافقت ما أثير حول صحة نسبة عدد من اللوحات لمبدعيها.
فإذا عدنا الى سيرة محمد محمود خليل، فإنه ابتداء من عام 1923، أصبح سكرتيرا لجمعية محبي الفنون، ثم ما لبث أن تسلم رئاستها، وظل كذلك إلى حين وفاته، تقريبا، أما مهام هذه الجمعية فكانت إقامة المعارض، شراء اللوحات، توسيع دائرة الاهتمام بالفنون، سواء بعقد الندوات والمحاضرات، أو باستضافة المعارض والفنانين، مصريين وأجانب، كما شجت الجمعية أو تبنت بعض المشاريع،كتمثال نهضة مصر، ودفعت أعضاءها إلى مساندة المشروع والتبرع له، والى توضيح أهميته بالكتابة عنه، وبالكتابة عن الفنون بشكل عام.
أما حين أصبح خليل عضوا في مجلس الشيوخ، ثم رئيسا له، فقد أقنع الحكومة بزيادة المخصصات لشراء الأعمال الفنية، وبدأ ذك عام 1925، ثم استمر خلال فترة ليست قصيرة، ولان أغلبية المشتريات كانت تتم من فرنسا، لقناعة خليل أنها الأكثر جدارة بالاقتناء، تولد رد فعل لدى الفنانين المصريين، لكن خليل لم يأبه لمثل هذه الاعتراضات، بسبب الفارق في المستوى الفني بين البلدين، ولان طبيعة شخصيته من حيث الاعتداد والصرامة جعلته الوحيد الذي له القرار في هذا المجال، مما دفع بعض الفنانين لان يطلقوا عليه: ديكتاتور الفن، أكثرمن ذلك، رسم الفنان محمد حسن لوعة كاريكاتور تمثل هذا الديكاتور وحوله عدد من أصدقائه وبطانته !
ومع أن الملك فؤاد كلف خليل باختيار المقتنيات الفنية التي يحسن أن تكون في القصور الملكية، إلا أن العلاقة بين الطرفين اتسمت بالتنور وببعض الثغرات، نظرا لما يتصف به خليل من روح الجرأة، والاستخفاف بالشكليات والبروتوكول، فقد كان يسافر إلى حاج مصر، مثلا، دون استئذان القصر، ويعود دون أن يفكر بتقديم فروض الطاعة، خلافا لما كان يفعل أمثاله من كبار رجال الدولة !
لتأكيد ذلك، ويمنطق تلك الحقبة، فإن خليل لم يحصل على لقب باشا، رغم أن من هم دونه رتبة حصلوا عليه، والسبب ما نقل عن لسانه، ووصل بسرعة الى أسماع الملك فاورق، قال: "أصبحت الباشوية في هذه الأيام ورقة لا تساوي الحبر الذي تكتب به ".(11)
هذا السلوك، بجرأته وتميزه، كان يعني موقفا أيضا، إذ يقول عن نفسه عام 1949 انه "عاش طوال حياته يؤيد الديمقراطية ويبغض الديكتاتورية على أي وجه من الوجوه، ولعل ذلك من أهم الأسباب التي دفعته الى حماية المعارضة في مجلس الشيوخ وتشجيعها وتنشيطها، بحيث كان لها من الشأن ما ليس لغيرها في سائر المجالس وسائر العهود".(12)
أما المندوب السامي البريطاني في مصر أنذاك فقد كتب في أحد تقاريره عن محمد محمود خليل «…بانه طرد رجة متوسطة من الذكاء، ويشترك في الكثير من الدسائس، ويتخيل نفسه رئيسا لمجلس الوزراء" وانه "ثعبان سام يبث الدعاية المعادية والحديث الانهزامي، ويشتبه في أن ميوله إيطالية ".(13)
مواقفه ثم تقييم الأخرين لها، يدلان كي صفات في الرجل لم تكن تتوافق والسائد، بدءا من خياراته الفنية، مرورا بسلوكا تجاه القصر، مقارنه بالاعراف الساندة، ثم طريقه النظر إلى المنصب الذي يشغله، فعندما انتخب رئيسا لمجلس الشيوخ، وقد فاز بأصوات حزب الوفد، ولكي يضمن الحياد، استقال مز الحزب، أما رأي المندوب السامي البريطاني فإنه نابع، بالدرجة الأولى، من عجزه عن استمالته، وإذا كانت سيوله، أو هواه، من الناحية الفنية، على الأقل، نحو فرنسا من حيث القناعة والسلوك، فإن إضفاء مثل هذه الصفة طيه خلال تلك الفترة لا تعني شيئا كبيرا أو خطيرا لذلك اختار المندوب السامي صفة تلائم المرحلة: ان يتهم الرجل بالميول الإيطالية، وواضح ما تعنيه مثل هذه الميول في مرحلة الثلاثينات، مرحلة هلتر وموسوليني!
لو تركنا هذه لأمور جانبا، وتابعنا المسار الفني لمحمد محمود خليل، نجد انه لعب دورا رئيسيا في التأثير على الحركة الفنية كاتجاه وكمقتنيات، فقد أصبح خلال ثلاثين سنة متواصلة أبرز الصانعين لذوق الفني، من خلال مقتنياته، وما يختاره للمتاحف، وأيضا ما يستطيع لن يقدمه للآخرين. إذ بعد أن جمع كما غير قليل من الأعمال الانطباعية لنفسه أو للمتاحف، أصبح أيضا أول مسؤول مصري في معرض باريس الدولي للفنون الذي أقيم عام 1937، ويعبر هذا المعرض من أبرز وأهم المعارض العالمية، لأن من يقدر في مثل هذه المعارض، أو ما يعرض فيه يكتسب أهمية ومرقعا لا يتاح لغيره، وهذا ما يجعله أكثر،تأثيرا وأكثر رواجا في الداخل والحاج.(ولابد لن تدرس هذه المؤثرات في إطار تاريخ الحركة التشكيلية المصرية، وكيف لعبت دورا سلبيا أو إيجابيا في تطور هذه الحركة واتجاهاتها).
فإذا كان مختار يعد عودته إلى مصر، وعدد آخر من الفنانين، قد أقاموا تجمعا فنيا أطلقوا عليه أسم "جماعة الخيال" خلال النصف الثاني من العشرينات، وكان ملتقى رواد الفن المصري المعاصر، فان هذه الجماعة لم يقدر لها لن تعيش طويلا، إذ حل مكانها خلال العقد اللاحق "جماعة المحاولين "، وتبعتها "جماعة الفن والحرية " وكلها إرهاصات عن تحول ديناميكي في اتجاهات وخيارات الفنانين المصريين، الذي كانوا يحاولون ويبحثون من اجل الوصول إلى لغة وشخصية خاصة بهم، كما كان يحصل في عدة أمكنة من العلم خلال ذات الوقت، ولعل تجربة المكسيك أكرما وضوحا وتبلورا.
في هذا الجانب، وكأصداء لما يحصل في أمكنة عديدة، ظل الأسلوبان الأكثر سيطرة في مصر: للكلاسيكية الحديثة ولانطباعية، إلى أن وصلت الموجة السريالية بتفرعاتها المتعددة. فأصبحت المدارس والتيارات الفنية في مصر عديدة ومتفاعلة، كما برزت مجموعة من الفنانين المميزين، وكان لعدد غير قليل منهم ملامح خاصة ستمدة من البيئه ومن التراث، لكن بقسمات حديثه وباجتهاد متواصل.
(3)
وظل محمد محمود خليل "ديكتاتور الفن " عنصرا مؤثرا في حركة الفن المصري، خاصة ولن مقتنياته ازدادت وتفوت: كما أصبحت للعارض التي تقام في مصر تحت إشرافه لها صفة دولية. ولعل أهمها المعرض الكبير التي أقيم سنة 1647، وقد شاركت فيه دول محيت، مشها فرنسا وأمريكا والاتحاد السوفييتي وبلجيكا والصين. وشاركت فيه أيضا مصر والعراق من البلدان العربية.
ورغم ما يتصف به الرجل من صرامة وتعلق بالانطباعة الفرنسية، فقد أصبح بمرور الوقت أكثر احتفاء بالفن المحلي أو المختلف، فأخذ يزور المعارض التي يقيمها الفنانون المصريون،ويتبادل مع اكثيرين الحوار ووجهات النظر، كما أصبح قصره يستقبل أعدادا متزايدة من المهتمين بالفنون. للاطلاع علي مقتنياته، ولمناقشة الأعمال التي يتم عرضها في مصر.
وتطورت علاقات فليل بالأوساط الثقافية واتسعت، ولعل أبرز لأمثلة التي تدلل على ذك أنه تعود زيارة طه حسين أسبوعيا؛ ففي كل يوم أحد، الساعة السادسة مساء، لابد لن يكون في الزيارة التقليدية لعميد الأدب، في الوقت الذي يمتنع عن زيارة القصر الملكي، وتضعف علاقاته بالسياسين التقليدين، ويصبح أكثر ميلا للتمتع بالأعمال الفنية التي اقتناها.
وفي هذه الفترة أي في أواخر الأربعينات ولكي يتأكد من كل صغيرة وكبيرة ضمن مجموعته، وقد تقدم بالعمر، أخذ يفكر بمصير المقتنيات التي جمعها، فبعد أن كلف الناقد ومؤرخ الفن، محمد صدقي لجبا فنجي، أن يعد له دليلا وتصنيفا لهذه المقتنيات، راح يتأمل الخيارات المتاحة أمامه، وما يمكن لن تنتهي اليه هذه الثروة الفنية.
كان بإمكانه لن يتصرف بهذه المجموعة كما يشاء: لن يبيعها: أن يهبها لفرنسا؛ أن يخص بها أحد الورثة (وقد تنازعوا طويلا بعد وفاته)، لكن استقر رأيه أخيرا لن يهديها إلى زوجته، علي أن تؤول بعد وفاتها على مصر، الشعب والدولة، وهذا ما حصل، رغم أن لخوف لم يزايله لحظة وأحدة على مصير هذه الثروة بعد وفاته، إذ يمكن أن يساء بها التصرف أو لن تتبدد، لكنه حسم أمره في النهاية وقرر لن تصبح ملكا لمصر، فقد جاء في الوصية: "أخشى لا يعرف المصريون مقدارها فيشتتوها هنا وهناك "، ثم يستخدمون القصر فيغرض من لأغراض العادية ".(14)
لكن الزوجة، الفرنسية، وانفاذا لرغبة خليل العميقة والحقيقية " كتبت في وصيتها ما يلي: "… ويهمني هنا أن أوضح أنني أردت بهذه الوصية أن أعبر عما أشعر به في الصميم من حب مصر التي صارت لي وطنا منذ زواجي بالمرحوم محمد محمود خليل، ولن ما لحاطني به من عطف وما شملني به من رعاية كزوج مخلص بادلني حبا بحب، وقد رأيت من حقه علي أن أخلا ذكراه في نفوس مواطنيه كجندي من ابرز جنود مصر الأوفياء، ومن أجل ذلك فانني اقرن وصيتي بشرط اقتضيه من الحكومة، وهو لن تجعل المنزل والتحف التي يضمها متحفا باسم محمد محمود خليل وحرمه، على لن ينتح هذا المتحف الجمهور، وإذا رئى أن توضع تعرفة دخول فلتكن رهيدة بحيث يكون الدخول ميسورا للجميع (15)
لقد أقدم خليل علي هذه الخطوة في منعطف هام من تاريخ مصر، ولابد من تأكيد ذلك بوضوح للتدليل علي معدن الرجل، ومدى تعلقه ببلده ؛ ففي السنة التي سبقت وفاته قامت ثورة 23يوليو، ونحي خليل عن رئاسة "لجنة محبي الفنون " كما اعتبر، بنظر الثورة، مع آخرين كثيرين، من السياسيين الفاسدين، أي من رجال العهد الملكي، وكان من السهل أن يؤدي مثل هذا للوقف الى رد فعل يجعله يتصرف بالثروة الفنية بطريقة غير الطريقة التي اتبعها، لكن الشعور الوطني حكم تصرفاته وردود أفعاله، وهكذا وثق وصيته، وجاءت زوجته بعده لتؤكدها، بحيث تؤول التركة الفنية الى الدولة.
ذكرنا سابقا لن ويشار بوصيري كان أبرز مستشاري خليل في اختيار اللوحات، وانه كان ينوب عنه في شرائها بعض الأحيان، وبغض النظر عن الفوائد التي كان يجنيها هذا المستشار من قيامه بهذه المهمات، ومن الجانبين، سواء أكانت هذه الفوائد مادية، أو على شكل " هدايا " عينية تمنحها دور المزار، فانه حرص علي الاحتفاظ بجميع الوثائق الخاصة بهذه المشتريات، والتي تتضمن كافة التفاصيل المتعلقة بالأعمال، من ناحية صحة نسبة العمل للفنان، ثم المواصفات بالمقاييس والمساحات والحجوم، ثم التاريخ، ونوعية المادة المستخدمة وغير ذلك من المعلومات والاثباتات التي تؤكد انتقال الملكية، بحيث تعتبر هذه التفاصيل بمثابة شهادة رسمية لاثبات الهوية وصحة الملكية.
حين انتقلت ملكية لأعمال الفنية الى الدولة، كلف بوصيري واخرون أن يشرفوا على عملية لجرد والتسليم، وقد قام المذكور بهذه المهمة تبل أن يسمو له بمغادرة مصر، إذ كانت لديه الرغبة بالهجرة، لكن لما سافر اخذ معه جميع المستندات، وكان من شأن هذا أن يغذي الشكوك التي ثارت في وقت لاحق حول صحة نسبة بعض الأعمال لمبدعيها، ولعل أبرز هذه الشكوك كانت حول لوحة زهر الخشخاش لفان جوخ، اذ وجد من يقول أن اللوحة ليست لفان جوخ، ووجد من يقول انها مزيفة وليست أصلية (أي مقلدة)، وظلت الحال كذلك إلى لن عرضت مع الأعمال الانطاعية الموجود في مصر بباريس، وفي متحف اورساي، ولقد قام المختصون الفرنسيون بفحص اللوحات بدقة كما رجعوا إلى سجلات دور المزاد التي تم شراؤها منها، وتأكدوا انها أصلية، وانها تمتلك شهادة نسب حقيقية لمبدعيها، أكثر من ذلك تم التأمين هي لوحة فان جوخ بالذات بمقدار خمسين مليون دولار أثناء رحلتها من مصر الى فرنسا بزيارة ثم أثناء العودة.
وهناك أمر اخر زاد في الشكوك والظنون حول هذه اللوحة بالذات، فاللوحة لختنت من متحف خليل في احدي المراحل ، وقد تم ذلك أثناء زيارة كان يقوم بها بوصيري الى القاهرة بعد لن غادرها مهاجرا، لكن هذا، "الاختفاء" لم يطل، إذ عادت اللوحة إلى مكانها بعد فترة قصيرة، ربما نتيجة الضجة التي ثارت، أو لعجز الذين "استعاروها" عن تهريبها، ولخوفهم من انكشاف أمرهم، رقد قام البوليس المصري باستدعاء بوصيري والتحقيق معه قبل لن يسمح له بمغادرة مصر مجددا.
عملية الشكوك حول بعض الأعمال خلال فترة، ثم اختفاء اللوحة في فترة لاحقة، ثم عودتها مرة أخري، كلها أمور تستدعي التأمل ثم التساؤل حول علاقة بوصيري بذلك ومدى خطورة الدور الذي لعبه، بدءا باحتفاظه بـ" الشهادات "، مرورا بالشكوك التي ثارت حول صحة نسب بعض اللوحات، وربما محاولة اقتناص لوحة زهرة الخشخاش، ومن يدري، قد لا تكون محاولة السرقة وتهريب اللوحة هي الأخيرة في سلسلة المحاولات التي تجري من أجل وضع اليد على بعض الأعمال، أو الاساءة اليها.
ولكي تكتمل لعبة "القدر" فان مخاوف خليل حول لن يستعمل القصر في غير غرضه، قد وقعت بالفعل. اذ بعد أن حول القصر الى متحف إثر وفاة زوجة خليل، وظل كذلك طوال فترة الستينات، وما كاد عبدالناصر يغيب وياتي السادات الى رئاسة الجمهورية، حتى وضع الأخير يده على القصر والحقا بسكنه الخاص، بعد أن أفرغ محتوياته ووضعها في مستودعات، قيل انها لم تكن مستوفية للشروط الفنية اللامة والسليمة.
ولعل من لبرز وأهم التعليقات التي قيلت حول هذا التصرف ما قاله توفيق الحكيم، قال: العادة الجارية، وفي جميع أنحاء العلم، لن تتحول القصور إلى متاحف، لا أن تتحول المتاحف إلى ملحقات بالقصور!
وتأكيدا لما قاله الحكيم فهناك قصور ملكية تحولت الى متاحف للفن، ولعل أبرزها متحف فان جوخ القائم حاليا في امستردام، ثم انه من اجل لوحة مفردة لفنان عظيم، أو من اجل أثر تأريخي بارز تبني المتاحف والأجنحة والقصور لاستقبال اللوحة أو الأثر: ولابد من أن نتذكر في هذا السياق لوحة الجرنيكا لبيكاسو، وكيف أعد لها جناح خاص لكي تستقبل في متحف الباردو؛ وكيف صمم متحف برلين ليكون مكانا مناسبا يليق باستضافة الملك العظيم سرجون وشارع نصره وعرباته المذهبة.
(4)
بعد غياب السادات عاد القصر متحفا مرة أخرى، لكن التحديات والمخاطر لم تنته، ففي مواجهة ديون مصر لخارجية التي خلفها الرئيس المذكور، ارتفعت بعض الأصوات مطالبة ببيع محتويات متحف محمد محمود خليل لتسديد هذه الديون، والتي قدرت بحولي 32 مليار دولار.
هذه الدعوة واجهها العشب المصري بالادانة والرفض، ومثلما وقف بجدارة رسخاء من اجل اقامة تمثال نهضة مصر في العشرينات، فعل مرة اخري وهو يتصدى ببسالة ليحمي ثروة مصر الفنية، ففي موقف نادر المثال، تداعى المثقفون، أواسط الثمانينات، في أكبر تجمع ثقافي وفني في تاريخ مصر المعاصر ليلعنوا بصوت واحد: لا لبيع تاريخ مصر، لا لبيع تراثها الفني. وهكذا عزم الاقتراح، وظلت مصر محتفظ بما تراكم لديها من أعمال فنية، أصبحت بمرور الوقت جزاء من تراثها الذي تعتز به وتدافع عنه. أكثر من ذلك، ارتفعت أصوات عدد غير قليل من المثقفين تطالب بمنع مغادرة هذه الأعمال، ولو برحلة قصيرة الى خارج مصر، وتدعو من يريد رؤيتها لن يأتي لزيارتها في مكانها، كما يفعل الكثيرون كل عام من اجل زيارة الاهرامات ومعابد الملوك !
موقف مثقفي مصر درس كبير، إذ بمقدار ما يستند إلى تراث رواد عصر النهضة في بداية القرن، فانه يقع نحو المستقبل أيضا، في محاولة لحماية كل ما هو ثمين وعزيز، فالأباء يحرصون على أن يسلموا هذه الثروة للابناء، والأحفاد، كجزء من تاريخ مصر الذي يجب أن يبقر.
ولابد من كلمة ضرورية في هذا السياق، قبل أن نخل كمرحلة أخيرة، إلى رحاب متحف محمد محمود خليل.
إذا كانت خيارات محمد محمود خليل قد لاقت في البداية الاعتراض، وحتى لاستنكار، واعتبر البعض أن تخصيص مبالغ لشراء مثل هذه الأعمال هدر للأموال، وتوجه يتعارض والذوق السائد وينافي "التراث " أيضا، فقد وجد من يرى رأيا أخر، وفي سياق هذه الدراسة أشرنا إلى عدد من هؤلاء، وكيف كان ضمنهم بعض كبار الرأسماليين، أمثال هلعت حرب وواصف وصا، إذ أصبح التقدير العام لن الأعمال الفنية جزء من الثروة القومية، ويمكن لهذه الثروة لن تكبر وتزداد أهمية من خلال التبني والرعاية.
وكما هي العادة في البنوك والمؤسسات المالية الكبرى أن يوظف جزء من الرأسمال في الأعمال الفنية بالذات، نظرا للتقديرات أن تزداد قيمة، فان من جملة ما يساعد على بقاء الأعمال الفنية في مواطنها أن تخل المؤسسات المالية ضمن هذا النشاط. ولعل في تجربة محمد محمود خليل الدليل الملموس، كيف بدأ وكيف تطور، ثم كيف انتهى. بدأ بلوحة رينوار، ودفع مقابلا لها اربعمائة جنيه، لتصبح اللوحة بالذات بأربعين مليونا أو يزيد، وليدخل محمد محمود خليل في رحاب التاريخ المصري المعاصر، في الوقت الذي اختفت، وإلى الأبد، أسما، المئات من السياسيين، وغيرهم، الذي ملأوا الدنيا ضجيجا في أزمنتهم، ثم حين ولت تلك الأزمنة لم يبق منهم أي أثر!
وإذا جاز لنا أن نفتح قوسا هنا للفت النظر إلى حقيقة تمر تحت أعيننا ولا نوليها ما تستحق من اهتمام، فهي مجرة أعمالنا الفنية إلى الخارج، هذه العملية تجري كل يوم وبشكل متسارع، وبمسوغات عديدة ومختلفة، واذا ظلت الحال كما هي لأن فسوف نكتشف بعد عقود قليلة ان أهم أعمالنا الفنية المعاصرة قد أصبحت خارج الحدود، وحتى لو أردنا أن نستعيدها، أو نستعيد جزاء منها، فسوف يكون ذلك صعبا ويأثمان تفوق التصور، ولعل في كل جواد سليم، الفنان العراقي البارز، تأكيدا لذلك، إذ نتيجة الاهتمام، وربما الجهل، فان أغلب أعمال هذا الفنان يبت لأجانب أو رحلت الى لخارج، ولما حاولت الحكومة العراقية في وقت متأخر لن تستعيد بعضها، لم تستطع استعادة إلا القليل، ودفعت من اجل هذا القليل أموالا طائلة.
لا يعني ذلك حرمان الفنان من بيع لوحاته، لكن يجب أن ترضع ضوابط وقيود كي سفرها لي لخارج، كما تفعل الأن الكثير من الدول. كما ابد من أن تتكون جماعات وجمعيات من أجل حماية الثروة الفنية، والحرص على بقائها في الوطن، ولن يتيسر ذلك إلا بتشجيع المؤسسات والأفراد علي الاقتناء، وتأمين شروط حياة مناسبة للفنانين، بحيث لا يكونون مضطرين للتصرف بأعمالهم لمن يدفع، وانما يجب أن يعرف مصير العمل الفني، وأين يجب أن يبقى.
لا يقصد من هذه الملاحظة تقديم الوعظ، وانما خلق المناخ الذي يساعد علي بقاء الأعمال الفنية الأساسية في مواطنها، وإذا انتقلت او انتقل بعضها فضمن صغة متكافئه يؤخذ فيها المستقبل بعين الاعتبار، لان الثروة الفنية بمقدار ما هي خاصة فانها عامة أيضا، وبمقدار ما تعني الحاضر تتطلع إلى المستقبل، إلى الأجيال القادمة، وهذا ما يجب الالتفات اليه مبكرا، وخلق الظروف المناسبة لبقائه ردوامه.
(5)
إذا عدنا الأن إلى متحف محمد محمود خليل، فان أول مناجاة تصادفنا: اسم الشارع الذي يقع فيه المتحف: شارع كافور!
أما المفاجأة الثانية فهي أن المتحف يحمل رقم 1 في الشارع !
من هو كافور، ومن يتذكره لولا المتنبي؟ وماذا يعني هذا الشارع الأن لولا متحف محمد محمود خليل ؟
ان المصادفات، في أحيان كثيرة، تلعب دررا ساخرا، وكأنها تنبهنا الى ما في هذه الحياة من مفارقات، فهي تصرخ وتقول: يجب أن تفتحوا أعينكم على لتسامحها لكي تروا جيدا كل ما حولكم، من اجل استخلاص العبر وفي الوقت المناسب !
فالقصر الواقع في شارع كافور، ورغم اتساع ساحته، والتي تفيض عن ثمانية الاف متر مربع، يشبه غيره من التصور في بعض أحياء الجيزة والزمالك والجاران سيتي، ربما يكون أكبر أو أصغر، أكثر أو أقل جمالا من قصور أخرى، لكن مثله لا تجد من حيث الأهمية، فهو يضم أكبر مجموعة فنية موجودة في مصر. وهذا ما يعطيه تميزه، وبالتالي عظمته وقدرته على البقاء والاستمرار.
إذا أجتزنا الحديقة الفسيحة، وما نكاد ندخل الى رحاب القصر، حتى نفاجأ بالصمت والجمال، وكأننا نخل الى محراب، وفي طبقات القصر الثلاث تتوزع اللوحات والتحف والتماثيل بشكل جميل يملأ العين والقلب، بحيث يتساءل الإنسان: كيف لمستطاع شخص بمفرده أن يجمع كل هذه التحف ؟
تضم مجموعة خليل 304 لوحات و42 تمثالا، تتراوح اللوحات بين الزيتية والمانية والباستيل، كما توجد لوحات بكم الرصاص، أما التماثيل فهي مصنوعة من البرونز والخشب والفخار، ومعظم هذه الأعمال لفنانين فرنسيين، أو عاشوا في فرنسا، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى ليكاد يصح أن يطلق على المتحف: الفن الفرنسي من ديلاكروا الى جوجان "(16) وهذه الفترة من لخصب وأمم فترات الفن الفرنسي، الانطباعي تحديدا، إذ تصارعت خلالها مدارس وأساليب، وقد تبدت نتائج هذا الصراع في أنحاء متعددة من المتحف، فديلاكروا يقابل أنجر، وكل منهما ,يمثل مدرسة وأسلوبا يختلف الواحد ممن الأخر، أما حين يبدأ الفنانون بالخروج الى الطبيعة، وهناك يرسمون، خلافا لما فعله أساتذتهم، إذ كانوا يطرن على الطبيعة، وبعد أن يمكنوا بأنقاسها يعودون إلى محترفاتهم، ومناك يستعيدون من الذاكرة ما خزنته، فان الجيل الجديد من الرسامين خلق ثورة كبيرة، إذ أن العمل كله ينجز في أحضان الطبيعة، بحيث تصبح اللوحة طبيعة اخرى مليئه بالحيوية والغفوان، حتى ليكاد الإنسان يتنسم رائحة التراب ولأشجار، ويرى موجات الماء الصغيرة وهي تتدافع وكعب بن الضفتين، أما النور، الذي هو أساس الحركة الانطباعية، فانه يتحول ويتغير بتعاقب ساعات الليل والنهار، ويتعاقب الفصول، وأيضا بتحول الفنان من المناطق الباردة المعتمة إلى رحاب المتوسط،حيث الشمس رفيق دائم، وحيث تبدو الأشياء مختلفة عن الشمال الكامد.
خليل وهو يجمع اللوحات حرص على أن تكون ضمن مقتنياته الملامح الجامعة والفاصلة بين رسام واخر، بحيث نستطيع من خلال هذا الكم، وبتبين الفروق، ان نقرأ أقرنا بكامله من الفن، فاللوحات الموجودة في المتحف لروسو تمثل مراحل تطوره وطريقته في النظر الى الطبيعة، إذ كان يحق طبيعة موازية للطبيعة الحقيقية، وهذا ما يجعله حرفيا بعض الأحيان. ودربيني يعيد تشكيل الطبيعة، إذ يجردها من مادتها الخام ويضفي عليها لونا غنائيا بحيث تبدو أكثر جمالا أقرب الى النفس. ويمكن لن يقال الشيء ذاته، أو ما يوافقه، على عدد غير دليل من الرسامين الأمني، بحيث نستطيع لن نكتشف ملامح كل واحد منهم، والعلامات التي تميزه عن غيره.
حتى دوميه، ذلك الفنان السافر، والذي يميل إلى الكاريكاتور في لوحاته، حين نتأمل الأعمال التي تركها نكشف أن وراء تلك الابتسامه التي تتبدى نتيجة المفارقة، رسما متينا من حيث البناء والسيطرة على المشهد كله.
أما احد شيوخ المدرسة الانطباعية، مونيه، والذي طور في بنيتها، أو طريقة النظر إلى الطبيعة،فان المتحف يضم بعضا من أعماله ذات المساحة الوسطى، بحيث يصبح من بتأمل أعمال هذا الفنان وكأنه يكتشف كل ما حوله من جديد، أر يرده في لحظ حلفه الأولى.
واعلام الانطباعية، على تعددهم، نجد لهم في هذا المتحف أعمالا مميزة، فلرينوار بضع لوحات، وكان هو أبرز المحرضين لخليل كي سيخل لي هذا العالم، ولديجا أعمال وكذلك لجوجان ولوتريك ربيسارو، ولهذا الأخير ثلاث لوحات كبيرة، أما فان جوخ فان لوحته زهرة لنشخاش، فتعتبر أبرز ما يضمه المتحف. وقد شرنا الى بعض الملابسات التي واجهت هذه اللوحة، سواء بالاساءة أو بمحاولة السرقة، ولو لم تكن ذات أممية خاصة لما ثارت حولها كل هذه المكائد! حتى يوسف ادريس، وفي محاولة لإظهار حرصه الزائد على تلك اللوحة، أشار إلى أنها يبت في احد المزادات الفنية حين سرقت، لكن بعد التحريات تبين أن اللوحة التي يبت لفان جوخ خلال تلك الفترة كانت لوحة "عباد الشمس " وليست "زهر الخشخاش ".
وهناك اعلام آخررن في الفن، ومن خارج فرنسا، حرص خليل على أن يقتني بعضا من أعمالهم، وتد تيسر له ذلك باعتبار أن باريس كانت كعبة الفن، وكان يقصدها الكثيرون من اجل عرض أعالهم، وبالتالي لاكساب الاحتراف فالموقع والشهرة، وهكذا نجد لفنانين من ايطاليا والمانيا وانجلترا وبلجيكا أعمال مميزة.
أما الأعمال النحتية التي يضمها المتحف، فيكتفي أن نشير الى بعض تماثيل رودان، والتي تعتبر أية في الجمال والكمال، خاصة تمثاليه لبلزاك ولفيكتور هوجو، وتعتبر من أثمن ما يضمه المتحف، ثم هناك تمثال نصفي لسعد زغلول من إبداع بوزتش سريج، وأخر لرودان باسم "النداء الي السلاح "، بارتفاع 114 سم.
وتمثال أخر لمحمد حسن باسم الفرسان الثلاثة.
لن اللوحات والتماثيل الموجودة في المتحف منتقاة بكثر من الرهافة والعناية، خاصة وأن نظرة من اقتناعا تختلف عن نظرة مدراء المتاحف، فقد كان يريد لن يتمتع قبل أن يؤرخ، ويريد أن يتذوق قبل أن يفكر بما يمكن أن تدره طيه من مبالغ فيما لوباعها، وهذا ما جعل مقتنياته تكسب طابعا شخصيا بالحرجة الأولى، وهذا الطابع بالذات يدلل على المستوى الذي بل بلغه وعلى الدافع الذي جعله ينتقي هذه الأعمال بالذات، خاصة وأن عادة الاقتناء التي تستبد ببعض الأشخاص تجعلهم أقرب إلى الانحياز للذوق الشخصي وبالتالي يشبعون رغبة خاصة.
ومما يؤكد هذا اترجه ان مقتنيات محمد محمود خليل الأخرى تشر إلى ذلك: ففي المتحف عدد كبير من المقتنيات التي تجمعت نتيجة الهوى الشخصي، إذ جمعها من أماكن مختلفة، ومن عصور متعددة، حتى ليبدو، في بعض اللحظات، وكأنه طفل استهوته أشياء لا يقوى على تركها في أيدي الأخرن ! وأكثر ما يتجلي ذلك في الأشياء، الصغيرة من العلب المزخرفة، والأواني الخزفية، والفارات التي جلبت من أماكن بعيدة، لقد فعل كل ذلك بذوق مميز، ومن أجل إشباع رغبة شخصية بالرجة الأساسية. ولابد أن نشير هنا الى أن لزوجته، وربما لبعض المستشارين، دورا رئيسيا في الانتقاء وستكمال مجموعات معينة.
ان الفن، في النتيجة الأخيرة، تذوق ومتعة ومعرفة، ولعل محمد محمود خليل جمع هذه الصفات كلها، وستطاع عبر سنوات العمر، وبجهد متواصل، أن يصل إلى النتيجة التي نواها الأن متجسدة في المقتنيات التي تركها، والمتمثلة في المتحف الذي يعتبر مفخرة لمصر، وذكرى لاحد الرواد الذي عرف كيف يعيش ويتمتع، وأن يترك للآخرين، لهذا الجيل ثم للأجيال القادمة، صورة مشوقة لإرادة دؤوبة ومثابرة تعرف كيف تترك، وتعرف بنفس المقدار كيف تترك، حتى في أصعب اللحظات وأكرما تحديا، ولعل في هذا درسا لمن يريد أن يقرأ التاريخ قراءة جيدة، ويصل إلى حقيقته العميقة.. وربما الباقية عبر الأجيال.
الهواهش
(1)محمد سلماوي: محمد محمود خليل، المتحف والرجل، وزارة الثقافة، القاهرة 1995. وهذه الفترة مقتبسة من مذكرة خليل غير المنشورة.
(2) محمد سلماوي، محمد محمود خليل، الرجل والمتحف، وزارة الثقافة، القاهرة م 1995.
(3)دزموند ستيورت، تاريخ الشرق الأوسط الحديث، دار النهار 1974، ص15.
(4) المصدر السابق، ص 15.
(5)مصطفى الرزاز، محمد محمود خليل، وتحديات النهضة، القاهرة 1995.
(6) بدر الدين ابو غازي، المثال مختار، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1964.
(7)المصدر السابق، ص 77.
(8) المصدر السابق ص 76-77.
(9) المصدر السابق ص 79.
( 10) المصدر السابق ص 81.
(11) الرزاز، مصدر سابق، ص 53.
(12) سلماوي، مصدر سابق، ص 14، نقلا عن مجلة المصور 18 فبراير 1949.
(13) المصدر السابق ص 13.
(14) الرزاز، مصدر سابق، ص 56- 57.
(15) محمد سلماوي، مصدر سابق، ص 21- 22، نقلا عن جريدة الأخبار 27 مارس 1960.
(16) رمسيس يونان، دراسات في الفن، دار الكاتب العربي 1964، ص 165.
عبدالرحمن منيف(روائي عربي)