الطرديات (جمع طردية : بفتح الطاء والراء) هي القصائد التي يكون موضوعها الصيد، وهو فن جديد في الشعر نشأ ليواكب اهتمام بعض شعراء الاسلام بهذه الهواية الممتعة المفيدة ، وكان الصقر الأداة المثالية التي مارس بها أجدادنا العرب هوديتهم هذه منذ أمد سحيق ، فقد ذكر الدميري صاحب حياة الحيوان أن أول من صاد بالصقر هو الحارث بن معاوية بن ثور، وأطرف من هذا أن حمزة بن عبدالمطلب – رضي الله عنه – أشهر إسلامه إثر عودته من رحلة صيد وهو يحمل صقره على يسراه ، وان الخليل بن أحمد – رحمه الله – كان له – مع سعة آدابه وعلمه – باز يصطاد به ، وورد في مقدمة ابن خلدون عند الحديث عن ميزانية بغداد قبل ألف ومائة عام أن البزاة والصقور شكلت جزءا من الموارد التي تجبيها الدولة من الجزيرة وما يليها من أعمال الفرات ، هذا الى ما كان يصرف يوميا على الصيادين وعلى رعاية الجوارح وعلاجها. والى اليوم لا يزال هذا الارث المترسب في أعماق الخليج دائب الحركة عبر رحلات صيد قد تمتد أياما وأسابيع !.
ويبدو من وثائق التاريخ أن المقاربة قبضوا على الأثر، وعضوا عليه بالنو اجز، بل عانقوا الغاية القصوى في الاحتفاء بالصقر، أو ما نسميه الى اليوم : الطير الحر، ومن ثمة وجدنا رسمه على الرايات والأعلام في قصور قرطبة وهي تستقبل بني إدريس على ما يرويه ابن حيان في مقتبسه ، ولابد أننا قرأنا في عهد المنصور الموحدي (توفي 595هـ) عن ترجمة القائد محمد بن عبدالملك بن سعيد الغرناطي الذي كان يخرج للصيد فيسمع لركبه دوي جلاجل البزاة ومناداة الصيادين ونباح الكلاب ، وأن السلطان أبا الحسن المريني أهدى للملك الناصر في مصر تشكيلة من البزاة والصقور بلغت أربعة وثلاثين طيرا…(!)
غير أن هذه التجربة الحافلة في طرفي الوطن العربي لم تستثمر على صعيد الإبداع الأدبي استثمارا يعكس وحابتها، ففي المغرب – مثلا – لا نعرف من أدب القنص سوى مطولة إبراهيم الفجيجي (ت 954) التي سماها روضة السلوان ومطلعها:
يلومونني في الصيد والصيد جامع
لأشياء للانسان فيها منافع
فأولها كسب الحلال أتت به
نصوص كتاب الله وهي قواطع
الى مقطعات لا تشفي أوارا.. ولا تسعد سمارا، مما جعلنا نرجح. ونحن نراجع أدبيات الماضي – أن التاريخ أخفق في حفظ طردياتنا من الضياع ، ومن ذا يصدق أن شاعرا في حجم إبراهيم الفجيجي لا يورثنا إلا نصا يتيما في الصيد وعينيته وحدها بلغت مئتي وأربعة عشر بيتا من الطويل..؟!
ولم يكن الأدب العماني بأسعد حالا من نظيره المغربي، فهو أيضا لم تنجح ظروفه التاريخية في اقتحام تلك العقبة على الرغم من وجو أدلة قاطعة في دواوين شعرائه على انتشار هواية الصيد انتشارا واسعا بين العلية والدهماء.
ولعل أفضل مجموعة شعرية نبحث فيها عن خيط يقودنا الى أدب قنص عماني، هي ديوان النبهاني المتوفى عام 915 هجرية ، وقد تنبثق إثره مرجعيات أخرى تغير المواقف وتضخم الرؤى وتقربنا من الوزن الحقيقي لهذا الفن الذي لا يزال هيأن بن بيان.
وأول ما يمكن أن يسترعي اهتمام من يتابع إبداعات النبهاني تحديده المثير للقيم الأولية التي ستوجهه في اشتباكه المعقد بالحياة ، وتحدد أنماط سلوكه ، ويتحسس بها مستقبله المنظور، يقول : (ص 49) (2)
فلولا ثلاث هن من خلق الفتى
وعيشك لم أحفل أوان مماتي
فمنهن نص العيس في مطلب العلى
وضربي رأس الاشوس المتعاتي
ومنهن ركض الخيل كل عشية
وصيد يعافير الظبا ببزاة
ومن العسير أن نفصل بين هذه القيم الثلاث لتفاعلها وارتباط التداخل بينها، إذ لا أقل أن يقال عن الصيد -مثلا- أنه معركة صغيرة، أومناورة تجريبية تستدعي الخيل والشجاعة والخدعة والمفاجاة والاتباع وصفاء الذهن والتدبير والتدريب.. وهكذا يصبح القنص أحد أبواب الولوج الى معالي الامور ومن هذا المنطلق ينبغي أن نفهم سر اهتمام الشاعر بالقنص مستبعدين أن يكون اختباره من قبيل اجترار تجارب ماضوية أو تداعيات ذاكرته اللغوية.
والنبهاني -كغيره من الشعراء الذين مارسةا هواية القنص – شغل بالحديث عن الجوارح المفضلة باسلوب ينم عن دراية واسعة باخلاقها وصفاتها وسياستها فهو صاحب شوذانق متفرد في خلقه وخلقه بثلاث عشر صفة من أجود ما هو مبسوط في كتب البيزرة وحياة الحيوان، فالشودانق أوالشدانق من أحسن مايتخذه القناص ،فإنه أبقاهاعلى اليد وأطهرها أخلاقا وأكرمها أنفة وأعدلها مزاجا ،واللون الاشهب.
في البازي يدل على نجابته وفراهته ويظهر أن الملوك والخلفاء كانوا يؤثرونه أشهب، إذ كان لهارون الرشيد مثله وكان ضنينا به حريصا عليه. واذا وصلنا به صفات : الشهامة ، وحدة القلب والضراوة والسرعة وبعد الغاية والقهر والبطش وحدة البصر، فقد كملت محاسنه ووجب التنافس في اقتنائه.
وحتى لا يبقى كلامه صدى لما ترجع مصنفات البيزرة وحتى يقوم دليل على نفاسة شوذانقه وتسلطه وبطشا، بادر الشاعر الى استعراض مشهد دموي من معركة جوية غير متكافئة بينه وبين سرب من القطا
(الفطاط ). ترك وكناته في الأجنة مبالغة في الحذر!! لكنها فوجئت بهذا المارد الجبار يصرصر فوقها. ويصرع منها أربعا وعشرين في زمن يسير يقول : ص (72)
ولقد غدوت مسوما شوذانقا
بجبال آيهة به ومراحا
شهما، أحد القلب ، أشهب ، ضاريا
غرثان يتنشط الكلى جراحا
يعد المطارح أحجنا عونينه
سلب المناسر يقبض الأرواحا
يرمي الفجاج بمقلتي متفقد
ساط ، أضاع لم يزل ملتاحا
قد حرم اللبن الحليب وقد غدا
أبدا عليه دم القنيص مباحا
فترى الفطاط لدى الفطاط مخافة
ينجون منه ولم يجدن براحا
عفن الوكور لكي تنال بسدفة
رزقاه فأصبح رزقهن ذباحا
فأصاب ثم ثمانيا وثمانيا
وثمانيا أثخن منه جراحا
إن هذه النهاية المؤسفة لسرب القطا ببشا عتها، هي المنطق الصريح والصحيح الذي يجسده الشاعر الملك ابن الملوك ويوظفه في كل ديوانه بقوة متوازية مع صوره الشعرية التي تتوهج حولها الكلمات كتوهج طموحه الى أفق المجد. وتأسيسا على ذلك ينبغي اعتبار رحلاته القنصية وجها من وجوه الصراع الذي التحمت به حياته التحاما علنيا وجسورا فهو دائما بطل بني نبهان الذي يمر أمام عينيك – في منظومته الشعرية – بلسان طلعة الى اقتحام المكاره والأهوال ، وبسلوك عاشق لشتى معاني الضرب والطعن الذي لا طعن بعده. وهو البطل الذي لا ينفك الردى يدب بشبا حسامه.
ولعل هذا ما يعمقا مشهد قنص آخر.. مشهد دموي تتوتر معه أعصاب وتنشط أخرى مشهد فسيفسائي متنافر يتلاطم فيه الموت والدم والنشوى والثبور والصداح والنواح… وخلاصته واحدة هي تكثيف لذة قوته الذاتية ، وإثراء وجوده المتأجج بهاجس المبادرة. يمتطي الشاعر فرسه الأجرد لا ليكدر صفاء قطيع من الظباء والمها والبقر الوحشي فحسب بل ليجتثه من منبته ومأمنه وتولد اللحظة المحورية حين يختار لضربته البكر زمام القطيع : أي قائده الأعلى.. ثم ينتهي كل شيء دفعة واحدة بدم نافر وجبين معفر، وضحكة تنفجر وبدون ذلك تتوقف سيرورة بطولته ويفقد خروجه للصيد كل مدلولاته وأسراره يقول : (ص 200- 201).
وقد اغتدى قبل الصباح بهيكل
طويل عماد الصدر أهرش جوال
لأذعر سربا آمنا بين داسم
وبين الحقان العفر زي السدر والضال
كأن إناث العين تهدي سخالها
خرائد يمشين الضحى عند أطفال
ففاجأت زمام الصوار بطعنة
لها نضح كأنها نضح جريال
فخر محلى حر الجبين معفرا
تسربل من قاني النجيع بسربال
وفي ذات السياق يحبس الشاعر اهتمامنا أمام مشهد قنص ثالث هو قصة متكاملة البنية أودع فيها قبسا من براعته الفنية وشحنها بصور شعرية تتوثب في الضوضاء الحركة ويتراقص حولها الماء والظلال ، وألفاظ معتقة عتيقة تغذيها الوقائع الحية وتسعفها ملكة نادرة جعلت اللغة أشبه بعود لين يعتصره الشاعر متى شاء.. قصة شعرية ناضجة لها بداية ووسط وخاتمة ، وهي ذات شخصيات متطورة.. وذات عقدة وحل وحس درامي مثير.. بداياتها بالاجمال – ليلة غدافية مطيرة ، وثور وحشي شريد، ورجل مشاكس عنيد تحت يديه كلاب ثمانية مدربة. ثم تتلاحق مشاهد الصراع كثيفة حثيثة مثيرة بإرسال الكلاب حتى اذا كادت تدركه هب يثير الغبار على وجوهها لكن المطاردة استمرت في حدة أشد من ذي قبل ، واذ أيقن الثور أن الموت لابد آخذه ، وأن موقفه حقير لا معنى له ، تحول من الفر الى الكر، وشنها حربا ضارية بذنبه وقرنيا وهيبته ليرسم حياته ببعض دمائها، ولينهي الصياد آخر فصول القصة بدعوة كلابه والرضا من الغنيمة بالإياب. يقول :ص ( 184).
فلما رأى الكلاب أن لا سلامة
لأكلبه والثور قد جد هازله
دعاهن فانصبت عليه لواقحا
ثمانية مستوقصات تقابله
فولى انبتات الدلو إن خان ماتحا
لها كرب لم بأله الفتل فاتله
أما أطوار القصة كاملة فيحتضنها عشرون بيتا بديعا رائقا تصلح نموذجا لأدب القنص والقصة الشعرية معا. وأما الجوهر والمغزى فإنهما يتنفسان في أبعاد عديدة تتناسب مع دقائق التأويل الذي ينبجس من الذاكرة الفردية وحسبي الا أتجاوز حدود الربط بين هذه القصة ورغبة الشاعر في تقييم القوة ، ورفع الحجاب عن درجاتها وعما يعزز تدفقها حتى يعرف كل أمريه حدوده.
إن المعطيات السابقة ينبغي أن تحقق نتيجتين هامتين تجعلاننا أمام لحظة أدبية جديدة وخصبة قابلة لتوليد لحظات غيرها، ومؤداهما أن هذه القصائد التي تناولناها يمكن على ندرتها أن :
1- تكون النواة والمنطلق نحو التنقيب عن طرديات عمانية وبالتالي تحديد مكانتها اللائقة في خريطة الأدب العماني الذي لا يزال يعاني من نقص ملحوظ في هذا الفرض الشعري.
2- تتوجه الدراسات الأدبية والنقدية الى هذا النوع من الظواهر المبثوثة في دواوين الشعراء العمانيين الأقدمين ، والتي لم تحظ بعد بنصيبها من التشريح والتحليل.
أما النتيجة التي تهم عشاق أدب النبهاني قبل غيرهم فتتمثل في كون قصائده القنصية لا تشكل كيانا مستقلا داخل منظومته الشعرية وإنما تنسجم تمام الانسجام مع مبدئه وأفكاره وسلوكه الممجد للقوة والعاشق لمعالي الأمور.
وأنهي هذه المساهمة بمشهد قنصي فاتر ومفكك لابن شيخان السالمي
( 1384 – 1346)، يفتقد الى لحظات التوتر المتراسلة في ديوان صاحبنا ولست هادفا من وراء ذلك الى المفاضلة وتمييز الصوت من الصدى والقعر من السطح بل لاستدرار شهية من يشرئب بلهاته الى لحم غزاله أو قطاة تنام روائحها في منظومات شعرية عمانية نعرف غيضها ونجهل فيضها. يقول : (3) ص 125
فلله يوم بالخرير محجل
جمعنا جنى لذاتنا في رحاله
وداست بهم صدر الفلاة وبادرت
أفوق وواسيه مشت أم رماله ؟
وكلابهم يشلى ثلاثة أكلب
لها معرك في خشنة وغزاله
تسابق لمع البرق في وثباتها
وتدرك ما يرميه قبل اغتياله
فكم أرنب قالت خذوني حية
ولا الكلب يرميني بداء عضاله
وكم مهمة قفر أتته جيادهم
فيسحب ذيل التيه فوق جباله
الى أن رجعنا والحقائب فعمة
فقامت قدور الأكل فوق قلالة
الهوامش:
1- الفريد في تقييد الشريد وتوصيد الوبيد لأبي القاسم الفجيجي، تحقيق : د. عبدالهادي التازي. ص 6- ط 1983
2- ديوان النبهاني تقديم وشرح الفاضل سليمان خلف الخروصي.
مطبوعات وزارة التراث القومي والثقافة 1984.
3- ديوان ابن شيخان السالمي ، جمع محمد عبدالله السالمي – ط 1 –
1979 شركة المطابع النموذجية المساهمة المحدودة – عمان الأردن.
محمد بوزيان بنعلي(كاتب جزائري)