رغم ما آلت إليه الأوضاع الفلسطينية في الداخل المحتل بكل مدنه من كارثية طالت كل تفاصيل حياة الناس اليومية وجزئياتها دمارا وسحقا وإن لم تطل كرامتهم وروحهم الحقيقية لأن الكرامة محفوظة ومحصنة طالما هناك مقاومة وتحد. ومن تجلي ات هذا الروح الخلا ق لدى الفلسطينيين وطليعته الثقافية, هو ذلك الاستمرار المتدفق وبوتائر أكثر كثافة وابداعا للانتاج الثقافي, ففي فلسطين الراهنة تصدر مطبوعات من أهم المجلات الثقافية العربية, فبجانب (الكرمل) هناك (الشعراء), (الحكمة), (الزاوية), (ألواح) وغيرها وهناك في أراضي عرب 48 مجلة (مشارف).
إنها إرادة الابداع أمام آلة الموت القادمة من كل الجهات. يقظة الروح وفسحة الضوء الخالقة في تلك الأرض المحاصرة حتى انفجار الحرية. في هذا السياق يأتي نتاج الكتاب والشعراء الفلسطينيين من مختلف الأجيال وأنماط التعبير.. الشاعر زكريا محمد عبر منافيه الاعتيادية منذ بيروت وحتى رام الله بنبرته الشعرية المميزة على المستوى العربي, هو كاتب رواية أيضا صدرت له منذ سنة (العين المعتمة) تلك الرواية ذات المناخ الكابوسي الضبعي المظلم الذي صاغه زكريا بمقدرة وابتكار نادرين وفي روايته الجديدة التي نأسف على عدم نشرنا إلا هذا الجزء منها, يواصل مسيرته الابداعية مع أقرانه وسط مواجهته القاسية لمرضه ووسط تلاطم أمواج الخطر والموت على الصعيد العام.
نزوى
كلمة واحدة
اجلس وحدي. اسحب حبل الصمت.اخرجه من فمي, واسحبه كما يسحب ساحر المنديل من فمه من دون توقف.اسحب حبل الصمت: من فمي, من حلقي, من امعائي, واكومه امامي.اكومه في لفات ضخمة, لفات ثقيلة وأتأمله. أمشي الى البيت صامتا واعود صامتا.اجلس وراء طاولتي في المكتب لاحرر المواد صامتا.اترك اصحابها يتكلمون فيما التزم الصمت.
اجلس وحدي: لا احد يملكني, لا املك احدا.
اجلس انا والصمت.اسمع واياه الاصوات التي هي جزء منه وترسيخ له: صوت امعائي, الطنين القادم من لا مكان, صوت الريح الخفيفة, صوت اجنحة الحشرات الصغيرة, صوت الحديد والالمنيوم وهما يتمددان في الحر, صوت الالكترونات وهي تدور على انويتها, صوت العدم.
تكثف الصمت رويدا رويدا. امتد. احتل عالمي بقعة بقعة. دور نفسه مثل كرة من مطاط, وقعد في حلقي.
وانا اتقنته. تعلمته. تزوجته. بنيت عليه. دخلت فيه ودخل في .
اقول لنفسي: لقد نسي الانسان الصمت واغرم بالكلام. وانا اعيد اكتشاف الصمت.امسح عنه الغبار. اكتشفه واتزوجه.
لم يبد الامر, امر الصمت, بذلك النقاش في المقهى, لكنه انتهى به. فهناك اكتمل الصمت الاخرس وحط مثل ذبابة على الطاولة. كان نقاشا عاديا مع زميل عادي. لكنه انتهى الى تلك الجملة المرعبة,الجملة التي هزتني من الاعماق, واكملت الصمت ودورته تماما, كما يكتمل قمر في الليلة الرابعة عشرة: »المشكلة عامة والحل فردي«…
لا اذكر الآن تسلسل الاحداث الذي ادى بنا الى هذه الجملة المرعبة. لكنه بالتاكيد كان نقاشا حول الوضع العام: الفوضى, انعدام المقياس,غياب القانون, انهيار القيم, وحضور الجنون. كنت غاضبا متألما وكان هو متفائلا يحاول ردي الى الصواب. ثم نطق بتلك الجملة: »يا زلمة , ما تكبر الامور. المشكلة عامة والحل فردي«.
ضربتني الجملة على أم رأسي وادمتني. جعلتني ادور مثل ذبابة نقرت بالاصبع على رأسها. لابد ان هذه الجملة تقال كل يوم.لابد انها قيلت امامي مرات عديدة في حياتي. لكنها في تلك اللحظة كانت شيئا جديدا, شيئا خارقا. وقعت في اذني وزلزلتني. وانا حتى الآن ما زلت ارجف منها.
»القضية عامة والخلاص فردي«. وقد كنت اظن حتى تلك اللحظة ان المشكلة عامة والحل عام. فجاءت الجملة وضربتني على دماغي, فصحوت. كأنني كنت نائما, او منوما.
اذا كانت هذه الجملة صائبة, اذا كانت تشخص الحقيقة- وهي تبدو لي كذلك الان- فقد كنت ضريرا, وكانت حياتي كلها تهجيصا في العتمة. وكم هو مؤلم ان يكون الامر كذلك.انه مثل ان تعيش عمرك كله من دون ان تنظر الى المرآة, ثم يأتي احدهم- فجأة- ويقول لك: ياه, لقد شخت. فتذهب الى المرآة لتجد ان التجاعيد ملأت وجهك, وان الشيب احرق رأسك.هكذا: كلمة واحدة, كلمة سحرية قاسية, وينقلب كل شيء. كأن الأمر كله كان مخبأ في هذه الكلمة. كان العجز والشيخوخة فيها لا فيك. وحين قذفك بها تحطم جسدك وانهار.
»القضية عامة والحل فردي«. وشعرت ان حياتي كلها كانت خطأ, وانني امضيتها اسبح في بحر البلاهة لا بحر الواجب والفضيلة. اذن, فقد ظللت على الرصيف بسبب بلاهتي لا ذكائي, بسبب جهلي لا فضيلتي.
وعدت الى البيت مضعضعا. عدت اترنح مثل خشبة فوق مياه المحيط. وفكرت بكل ما لدي من غضب, بكل ما لدي من شعور بالخديعة, وقلت: لم لم انتبه الى هذا الامر من قبل? لم تكن لي اذنان لتسمعا? ولم سمعت- ان كنت سمعت- ورميت? وعدت اسأل نفسي: هل يسمع الانسان حقا? هل له اذن لتسمع? وهل كان بامكاني ان اسمع هذه الجملة, حتى لو كررت على مسامعي كل يوم, قبل خمس سنين? واجبت: ربما كان من المستحيل ان اسمع. وحتى لو سمعت فمن المؤكد انني كنت فهمت شيئا آخر منها, شيئا مختلفا, واقل ضراوة من الذي فهمته في تلك الجلسة , في ذلك المقهى. فالزمن هو الذي يفهم لا نحن.
وانا لست غرا. فقد اعتدت الزلازل والهزات. ففي كل ست او سبع سنوات كانت تأتيني لحظة احس فيها ان الارض تميد تحتي, وان أفكاري التي اهتدي بها تتفكك, وان نظاما قيميا يتفتق مثل قميص قديم بال. يبدو الامر, اولا, بفقدان حماس, ثم يصير مثل ألم أضراس قوي, لكن محتمل. فهو يربك, لكنه لا يفقد السيطرة. ثم يتضاعف الالم. يشتد ويتمركز في نقطة واحدة, فلا تستطيع ان ترى او تسمع او تشم. بل انك تتوقف عن التفكير,او تتوقف افكارك عن التوالد في دماغك. فالالم يلغي كل شيء إلا وجوده ذاته. ثم تأتي اخيرا اللحظة الحاسمة: تربط خيطا بضرسك الذي يؤلمك, وتشده , تشده حتى ينخلع ويمتلئ فمك بالدم… لكن الالم يهدأ, والذهن يصفو. وتنظر حولك فتجد ان العالم قد تغير, وانك قد تغيرت, وان افكارا صغيرة وجديدة اخذت تنمو مثل وريقات نبتة في قوار. ترشها بالماء فتكبر, وتملأ بخضرتها المكان.
هكذا كانت الامور تسير معي, وتتكرر القصة كل ست او سبع سنوات. كأن اية افكار,اية منظومة, لاتصمد للزمن اكثر من هذا الوقت. كأن الزمن يحكم عليها بأنها شاخت ويزيلها, ويرمي بها الى الزبالة. لكن ما مضى من هزات لم يكن مثل هذه الهزة التي اصابتني. لم يكن في قوتها وعنفها. كنت اخرج من تلك الهزات قويا متفائلا, مسرورا من قدرتي على التكيف والنجاة والنسيان.
يقولون : النسيان آفة الانسان. لكنني اعتقد ان النسيان نعمة الله الكبرى. فهو دليل على الحياة. دليل على قدرتها على تخطي الظروف والمصاعب, وعلى التجدد. فما ان تنتهي مرحلة من حياتي حتى اطوي صفحتها, بما فيها من وجوه وافكار وكلمات, بما فيها من مرارة وحلاوة, وارمي بها وراء ظهري وانساها. وكنت ارثي لاولئك الذين لايقدرون على فعل ذلك. فهم يتوقفون في مرحلة معينة من حياتهم. يثبتون فيها ويثبتون عليها, ويعيشونها الى الابد. فهناك ازدهرت حياتهم وتفتحت ووصلت الى قمتها. لذا فهم يتشبثون بها ويقيمون فيها.
انا لم تكن لدي قمة واحدة. كنت اصعد من قمة الى قمة. وكلما استويت على واحدة رميتها بقدمي ورائي وصعدت الاخرى. كنت قادرا على سلخ المراحل واحدة بعد الاخرى ورميها كما ترمي حية جلدها القديم. انها تنزعه بتعب, لكنها تنزعه وترميه بعد ان يظهر بديله على جسدها. ومثل الحيات كنت اتعذب للحظات, لايام, لشهور, ثم اقذف بالماضي,ادفنه في التراب, كما يدفن قط وسخه, وامضي الى الجديد. كانت لحظات مرة لكنني كنت اجتازها. امزق الصفحة القديمة وارميها, رغم انها صفحة من حياتي. فانا اعلم انني ميت ان لم امزقها. فالموت هو ألا تتمكن من تمزيق كتاب حياتك القديم, لتبدأ بواحد جديد. الموت هو ان تسكن في مرحلة واحدة وتكن . الموت هو ألا تعيد النظر في افكارك. هو ألا تعيد تعريف ذاتك.
وانا كنت اعيد تعريف ذاتي عند كل ازمة.
واقول في نفسي: وما هو الانسان في الحقيقة? واجيب: الانسان تعريف دائم لذاته, تعريف لا يهدأ. فالانسان الحي ملزم ان يعرف ذاته وان يعيد تعريفها, مرة بعد أخرى. وكنت اتزلزل فاعيد تعريف ذاتي, فاتوازن واستقر. فان تعرف ذاتك يعني ان تعرف الحياة والمجتمع والكون بضربة واحدة. انت تبدأ بتعريف نفسك وتقول: انا رجل محترم, انا تاجر, انا مناضل, وتكون قد عرفت نفسك والحياة والمجتمع معا. وكلما اهتز تعريف, او لم يعد صالحا, واهتزت معه الاشياء, صرت مضطرا لتعريف جديد. وحين تضعه فانت تصبغ العالم بلونه.
وقد زلزلتني تلك الجملة, وارغمتني على ان اعيد تعريف ذاتي من جديد, او انها اكملت الحركة السرية العميقة التي كانت تدور في داخلي من اجل ان اعيد تعريف ذاتي. من انا? وماذا كانت حياتي? والى اين اسير? ثم: ما هو الوطن? اهو كذبة لارسال الناس الى الموت? ام هو وهم من الاوهام? اكنت اجري وراء وطن ام كنت اقاد الى منجم لبعض الناس اعمل فيه بالسخرة?
وكانت الاسئلة تزيد من شعوري بالزلزلة. كانت تقودني الى تعريف مختلف هذه المرة, تعريف يطال الجذور ذاتها. وكانت جذوري في الماضي لا تمس. كنت اعيد تعريف الجذع والغصن والثمرة, لكنني لم اكن امس الجذور. فهي هناك تندفع عميقا في التراب, ولا تحس بما يجري من اضطراب. كانت صلبة وأكيدة ولا شكوك حولها. اما الآن فقد تزلزل كل شيء : الارض تحت قدمي, جذعي,جذوري, قيمي,ذاتي, وكل شيء, كل شيء.
لقد ضرب الشك الجذر قبل الجذع والثمرة.
من أنا: حجر? ريشة? جمل? قطرة ماء? ام نقطة عدم?
والى اين اسير? الى الامام,ام الى الوراء? الى العدم ام الى المستقبل? الى العقل ام الى الجنون?
من انا?
فاشل في ثياب الفضيلة? ام فاضل في ثياب الفشل? نبي بلا كرامة, ام كوكب فلت من مداره ودار بلا هدف في الفراغ?
وتوصلت الى الصمت.
اكتشفته. تعلمته.
عرفت نفسي بالصمت. هكذا صار الامر.
اجلس الى مكتبي, واترك الاخرين يتكلمون, وانا اسمع كلامهم او احرره صامتا. وحين انتهي من ذلك العب مع الذباب.افتح الشباك وانتظره. تأتي الذبابة وتحط على المكتب, فاقترب منها بقبضة يدي واضعا الابهام على الوسطى. وامشي بها حذرا على المكتب. رويدا رويدا الى ان تصل الى مسافة خطرة فتنتبه الذبابة وتدير لي وجهها مباشرة, فاقول: لقد ضاعت, لقد ضاعت. ثم اشد ابهامي على الاصبع الوسطى, واوتر الدائرة التي صنعتها بهما حتى النهاية. اما الذبابة التي تحس بحركة يدي الغادرة فتأخذ حذرها هي الاخرى: توتر ارجلها وجسدها وتنتظر. فأقول في نفسي: سأضربها على دماغها, سأضربها على دماغها. ثم افلت اصبعي الوسطى المتوترة واطلقها كالرصاصة, فتطير الذبابة في اللحظة ذاتها باتجاه اصبعي, لتلتقي السرعتان معا, وتصطدم الاصبع برأس الذبابة, فتطيح بها بعيدا الى الوراء مسافة مترين او اكثر. تدور الذبابة على نفسها دورات سريعة, يدور دماغها المرتج, ثم تهدأ وتموت.
ليس للذبابة من امل, ان كانت يدي في المكان الملائم.اذ ستضرب اصبعي دماغها بسرعة مائة ميل في الساعة, فتتزلزل وتغرق في الصمت. ليس لها امل اذا تمكنت من وضع يدي على مسافة محسوبة. ليس لها امل ما دام »حذرها« الغبي يضعها في مواجهة يدي, مادام هذا الغباء يدفعها لان ترقب يدي مواجهة. كان يمكنها ان تنجو لو ادارت لي ظهرها, لو وقفت منحرفة. ذلك ان اصبعي الفالتة كالرصاصة لن تتمكن من اللحاق بها حين تطير. وحتى لو لحقتها, وهذا امر صعب, فلن تتعاكس السرعتان, سرعة طيرانها وسرعة اصبعي, بل ستعمل واحدة مع الاخرى , فتنجو.
هكذا كنت اصطاد الذباب في غرفتي وفي مكتبي. هكذا كنت اغرق في الصمت, واغرق معي الذباب في البئر ذاتها.
نوع واحد من الذباب كان يتفوق علي, نوع صغير جدا. فما ان يحس بحركة يدي حتى يدير لي ظهره. فاقول: لا فائدة, سوف اخسر المعركة. كيف عرف هذا النوع من الذباب سر اللعبة? كيف اهتدى الى الاجابة الصحيحة? لست ادري. لكنه بسبب هذه المعرفة كان ينجو.
ولوسألتني يومها: ما هو هدف حياتك لقلت لك: الانتصار على هذه الذبابة.
اصطاد الذباب في مكتبي ليس كما كنت اصطاده في الماضي, ايام كنا اولاد فلاحين حفاة تعثر اصابع اقدامهم بالحجارة فيسيل الدم منها ويتشكل جرح ويلتهب. وحين ننام بهذا الجرح تحت شجرة زيتون, يأتي الذباب لكي يمتص دمنا من الجرح المفتوح. نهشه, فيعود. نحاول ان نخبئ الاصبع المجروح بقدم الرجل الاخرى , فنفشل. نتقلب, نغطيه بورقة تين فلا ينجح ذلك. نغطيه بالرمل الناعم, لكن الذباب يجئ, ويحط على الجرح, ويمتص دمه. وحين نيأس من النوم, ويملؤنا شعور بالغضب الماحق, ننهض ونأتي بقصبة شوك: نشقها من رأسها بعمق ثلاثة سنتيمترات, ونفتح الشق كفم, ونضع بين الفكين عودا صغيرا. ولابد ان يكون العود على طرف الفكين بشكل ملائم, لكي ينفك ويخرج طائرا عندما نكبس على الخشبة عند اسفل الشق. فان لم يطر ستكسر القصبة, ولن يصطاد الذباب.
نضع الفم المفتوح بالعود , نضع المثلث الذي صنعناه, فوق الجرح مباشرة, فيأتي الذباب ويدخل المثلث ليمتص الدم. ننتظر حتى يتكاثر. نتحمل لدغات خرطومه, نتحمل تعمقه في دمنا, حتى يكون الصيد وفيرا, والانتقام مشهودا. ثم نضغط على القصبة من الاسفل فينطلق العود الذي يفصل شقي القصبة لينطبقا على الذباب ويسحقاه. لكن اذا لم نكن حذرين فاننا سنصطاد الاصبع المجروحة ذاتها, وينزل الدم, وينفجر الصراخ.
وقد بدا لي انني اضعت عمرا كاملا اصطاد فيه اصابع قدمي بدل ان اصطاد الذباب. وها انا اكف عن ذلك . اكف عنه وادخل في الصمت , واصيد الذباب.
وبالصمت كنت اع رف نفسي.
في الصمت كنت اصطاد الذباب.اضربه على رأسه كما ضربتني تلك الجملة في المقهى. وظللت هكذا الى ان جاء عادل وقال لي: لماذا تجلس هكذا وحيدا مثل ابي الهول? تعال نبحث عن الذهب.
واخرجني من الصمت. وذهبت معه ابحث عن الذهب التركي, الذهب العثماني.
جاء عادل. جاء وفتح لي الباب من جديد. جاء واخرجني من الصمت والعزلة. جاء في الوقت المناسب. في اللحظة التي اكملت فيها شرنقتي. في اللحظة التي ازمعت فيها على التحول الى حجر. في اللحظة التي قطعت فيها صلاتي وعلائقي: لا تحت, لا فوق, لا أمام, لا وراء, لا أمل,لا يأس,لا أب,لا أم, لا بعد, لا قبل.
وبالمعول والمجرفة اخذت اع رف ذاتي. اضرب بالمعول وازيح بالمجرفة, والهدف هو الذهب. أليست المسألة عامة والحل فرديا? ألا يحق لي انا ايضا ان ابحث عن خلاصي? الا يحق لي ان ابحث عن ذهبي, وكل واحد يبحث عن ذهبه. سوف ابحث عنه, وحين اجده سوف اقول كما قال ذلك البدوي :
ولست أبالي عندما اكمت مربدي
من التمر ان لا يمطر الارض كوكب
جاء عادل ومعه صورة تخطيط بالقلم تبدو فيه قرية على رأس تلة, وعلى مبعدة منها بناء بقبتين, وامامه شجرة ضخمة, على يسارها بئر, وعلى يمينها صخرة كبيرة. وتحت الصخرة دائرة صغيرة يتجه اليها سهم يقول ما معناه: هنا الذهب.
وبدأنا نبحث عن الذهب. نطوف من قرية الى قرية, نفتش عن ضريح ولي بقبتين يحرس الذهب, منذ ان وضعه ضابط عثماني هناك قبل ثمانين عاما. فاذ خشي هذا الضابط ان يستولي الانجليز, الذين اخذوا يقطعون انسحاب الجيش العثماني, على ذهب جيشه المنسحب, فقد انزل صناديق الذهب الاربعة من عن ظهر بغليه ودفنها, ثم رسم تخطيطا للمكان ووضعه في جيبه ومضى.
كان الضابط التركي يظن ان المسألة مسألة يوم أويومين, اسبوعا او اسبوعين, قبل ان يعود وياخذ الذهب ويسلمه الى قيادته. لكنه كان واهما. فقد انهارت الدولة العثمانية ولم يعد لا هو ولا جيشه الى فلسطين, الى الذهب المخبأ. وفي ما بعد, بعد ان نسي الذهب, نسي فلسطين, ونسي التخطيط, جاء حفيده ونبش اوراقه فوجد التخطيط. سأل الحفيد: ما هذا? قال الجد : الذهب, الذهب الذي ضاع. وحمل الحفيد التخطيط, واخذ يبحث حتى عثر على شخص فلسطيني, فاتفق معه عى ان يعطيه التخطيط وان يقتسما الذهب حين يجدانه. وغادر الفلسطيني ليبحث عن الذهب, وفي جيبه صورة عن التخطيط.
ومع هذا الرجل, ابو رامي, ومع عادل رحت ابحث عن الذهب. وهكذا من ابو رامي التخطيط, ومن عادل آلة الذهب, ومني بعض المعرفة التاريخية عن خط انسحاب الجيش العثماني من فلسطين, رحنا نبحث عن الذهب, نبحث بنهم.
أليس الخلاص فرديا?
أليس على كل واحد ان يبحث عن ذهبه?
***
في المقهى الشعبي مقابل حسبة البيرة كنت انتظر عادل لكي نستأنف بحثنا وحفرنا. فقد امسكنا بخارطة الجيش العثماني وسرنا معها موقعا موقعا وقرية قرية, واش رنا على المواقع التي يمكن ان تكون مقصودة بالتخطيط , ثم بدأنا بحفر هذه المواقع واحدا واحدا. واليوم سنمر على موقع جديد: نستطلعه نهارا ونحفره ليلا.
كنت قد جئت الى المقهى باكرا. وكان هناك عدد قليل من الناس, الذين طال ليلهم فهبوا ما ان شقشق الصبح وجاءوا الى المقهى, او الذين مثلي على موعد مع الاخرين من اجل عمل ما. كان هناك سبعة اشخاص, بالاضافة الي . من بين هؤلاء كان الرجل الفضولي الذي تعرف علي في المرة الماضية بالقوة. وكنت اتمنى ان لا اجده هناك. لكنه حضر باكرا كأنه ينتظرني . كأنه يعرف بحضوري وموعدي. واذ رأيته فقد تعكر مزاجي. فانا لا اريد لأحد مثل هذا الفضولي ان يعرف شيئا عما نفعله. وتمنيت ان يتركني لحالي. لكنه ما ان رآني حتى لمعت عينا بالفرح: لقد اصطادني في هذا الصباح الذي يعز فيه الصيد.
جاء باسما الى طاولتي . حياني وجلس. تصرف كما لو كنا اصدقاء. كما لو انني جئت اصلا من اجله, ولموعد معه. وكان يعتقد انه يملك الحق في ذلك. ألم يدفع ثمن قهوتي في المرة السابقة? ألم اقبل انا ان يفعل ذلك? ومادام هو قد دفع وانا قد قبلت فان له الحق في ان يكسر وحدتي. لقد صار بيننا قهوة وماء, اي خبز المقاهي وملحها. وعليه فقد كان لابد لي ان ارحب به وان احادثه. تجنبت فضوله طويلا. تجنبت نظراته التي كانت تلاحقني لتفتح حوارا معي. لكنه تغلب علي في المرة السابقة. فرض نفسه علي وكسر عزلتي. وانا اجيء اصلا الى هذا المقهى لأن احدا لا يعرفني فيه. فقد بدأت ارتياده بعد ان حل علي الصمت, بعد ان اكتشفته وتعلمته. صحيح ان صاحب المقهى وبعض الزبائن يعرفون وجهي, لكنني لم اجالس أحدا منهم مطلقا. كان بيني وبينهم فقط: السلام عليكم, صباح الخير, مساء الخير. فمن المستحيل ان تكون زبونا دائما في مقهى شعبي من دون ان تدفع هذه الضريبة. هذا هو كل ما كان يربطني بهم .
تجنبت فضولهم, وتمكنت بتحفظي من وضع حدود بيني وبينهم. ولم يتجاوزوا حدودهم, رغم انهم عرفوا انني كاتب في الصحيفة, ورغم انهم ربما قرأوا بعض ما كتبت. اما انا فتجاهلت كل ذلك. وضعت دائرة حولي, دائرة غير مرئية, منعتهم من الاقتراب مني. لقد احسوا بهذه الدائرة, وشعروا ان كهرباءها ستضربهم لو تقدموا… ولم يتقدموا. وكنت سعيدا بذلك.
غير ان الرجل الفضولي لم يكن يهتم بالدوائر ولا بتيار الالكترونات المار فيها. كان محصنا ضدها. حصنه نسياني.. لذا اخترق الدائرة في ذلك اليوم, وتقدم نحوي. كسر عزلتي وهزمني. تحين الفرصة طويلا لكي يفعل ذلك. وحين جاءته فثأ الفقاعة التي اقمتها حولي, ووجدت نفسي معه على طاولة واحدة.
حدث ذلك حين نسيت حقيبة اليد الصغيرة في المقهى. فاذ كان رأسي مشوشا ومضطربا غادرت المقهى ونسيتها على الطاولة. ولم افطن الى الامر إلا بعد ست ساعات تقريبا. وحين فطنت عدت راكضا موقنا انني قد اضعتها وفقدت كل مافيها: بطاقة الهوية, النقود, اضافة الى جواز السفر, الذي كنت اعده من اجل السفر, او من اجل الهجرة, فالهجرة نهاية الصمت كما بدا لي في لحظة ما. عدت راكضا, وذهبت الى صاحب المقهى وسألته عنها فقال انه لم يرها. وسأل بعض زبائنه فقالوا انهم لم يروها. وحين كدت اقع في اليأس ناداني الرجل وقال لي باسما: هل اضعت شيئا? هل تبحث عن حقيبة? انها هنا معي. تفضل خذها وتأكد من محتوياتها.
ذهبت اليه. اخذت الحقيبة وشكرته. وكنت على وشك ان اذهب حين صاح بصوت عال: قهوة للاستاذ. ولم اكن قادرا على رفض القهوة, فجلست…
هكذا تمكن من اختراق دفاعاتي? لقد اتاح له النسيان الفرصة فاستغلها, ثم حصنته رشفات القهوة المشتركة بيني وبينه. قال لي محاولا اللعب على نقطة الضعف لدي ولدى كل انسان, اي الرغبة في المديح والحاجة اليه:
– الحقيقة يا استاذ انني اشتري الجريدة من اجل مقالاتك, فانت افضل من يكتب فيها.انت تقول ما كنت اريد ان اقوله, ما كنت افكر فيه, واعجزعن قوله.
رددت عليه محرجا:
* شكرا. انها مجرد خطرات, ملاحظات صغيرة, يمكن لكل واحد ان يأتي بمثلها لو اراد. ثم انني توقفت عن الكتابة.
– للأسف, للأسف. لماذا توقفت عن الكتابة? كنت اريد دائما ان أسألك هذا السؤال. هل هو خلاف مع الجريدة?
* لا, ليس خلافا مع الجريدة, بل خلاف مع نفسي. انا كنت اريد الكتابة وهي تريد الصمت فاشتبكنا معا.
ابتسم ليقول لي انه اعلى فهما مما اظن, وقال:
– خسارة. صمتك خسارة لنا.
وابتسمت خجلا من الاطراء, واستمتاعا به, وخجلا من سوء تقديري لمستوى ذكائه.
كانت لحيته قد نبتت وبان شيبها. اما وجهه فكان مصفرا قليلا كانه يعاني من مرض ما, او كأن عنده سوء تغذية. وعندما يبتسم فكه تكشف الامامية عن عتمة صغيرة ناتجة عن نزع واحد من اسنانه الامامية السفلى. اما ملابسه التي كنت أراه فيها طوال الوقت تقريبا, فكانت مقبولة, رغم ان قبة قميصه مهترئة قليلا. وبالاجمال فقد اعطاني الانطباع بانه يحاول جاهدا ان يبدو افضل مما هو عليه فعلا, وانه اعلى شأنا من غالبية من يجلسون على المقهى. وكنت اشك في ذلك حتى قبل ان اتعرف عليه عندما كنت أراه يقرأ الجريدة بامعان, او عندما يصمت متأملا, او حين يشارك, بين الحين والحين, في النقاشات التي تنشب بين زبائن المقهى.
تحدثنا قليلا. رمى بكلمات توحي انه على قدر من الثقاقة. وطع م كلامه ببعض الكلمات الانجليزية في بعض اللحظات. وباختصار فقد بدا لي شخصا يملك شيئا كما يقولون.
ثم جاء عادل. ووقف بباب المقهى وقال: هيا. نهضت معتذرا من الرجل وقلت: سنلتقي مرة اخرى. يجب ان نلتقي. فقال: المرة القادمة في بيتي, بيتي في رام الله التحتا, بالقرب من فرن ابو علي. على يسار الفرن بالضبط. بابه خشبي ازرق. تعال في اي وقت. قلت له: سآتي إن شاء الله. قال: وعد? قلت: وعد.
وعندما غادرت قلت لنفسي مبتسما: لقد تمكن مني. تجنبته طوال الوقت, وها انا راغب فعلا في ان أراه ثانية, وان اتعرف على الشيء الذي يملكه.
***
في التاسعة ليلا كنا عند الضريح, الذي عايناه نهارا. انا اعرف هذا الضريح بالذات جيدا. فقد اعتدنا انا وزوجتي واولادي ان نأتي اليه. ولم يكن يخطر ببالي ان الذهب مخبوءا تحته. كنا نذهب اليه في الربيع لنجلس على الصخور قربه. قبل ثلاث سنين جئنا الى هنا. قبل ان يكبر الاولاد. جلسنا في الشمس, وماء المطر الذي سقط قبل ايام مازال يتسرب من تحت الارض وينبثق قرب الضريح, ويجري مشكلا بركا صغيرة بين الحين والحين في المناطق الاكثر انخفاضا. في احدى هذه البرك كانت انثى ضفدع قد وضعت بيوضها لتفقس دعاميص سود تتراقص في المياه. وبعد ان قررنا العودة اصر الاولاد على اخذ بعض الدعاميص معهم. ملأوا نصف قنينة بلاستيك بالماء, وقنصوا عشرة دعاميص ووضعوها فيها. سروا كثيرا. ظنوا انها ستتحول الى ضفادع خضراء صغيرة بعد ان تذهب اذيالها وتنبت لها ايد وارجل. لكننا وجدناها في صباح اليوم التالي ميتة. ماتت كلها ورسبت في اسفل القنينة ساكنة.
لم ندر سبب موت الدعاميص. قلنا ربما ان ضغط الماء كان كبيرا فوقها. وهي اعتادت ان تسبح في ماء ضحل. وقلنا انها ربما كانت بحاجة الى ماء متحرك بدل الماء الساكن. لكنني اذكر انني رأيت دعاميص تكبر وتصير ضفادع في برك عميقة ثابتة وآسنة. لذا فقد خلصنا الى ان الولي كان يحرسها, وانها ماتت حين ابعدت عنه.
كان هذا في الربيع. أما الآن فنحن في الصيف. ليس ثمة برك ولا دعاميص. النجوم فقط فوقنا, ونحن, امام الضريح, نحاول بآلة كشف الذهب ان نرى ان كان هناك ما هو مخبوء تحت الارض.الضريح بقبة واحدة لا قبتين. لكن ابو رامي اصر على ان قبة اخرى كانت هنا في ما مضى وانهارت. قال لنا ذلك في النهار. واشار الى كومة حجارة قرب الضريح. وكان رأيي ان كومة الحجارة تدل على بناء احدث واقل قوة من بناء الضريح, وان هذا البناء اضيف في ما بعد, ولم يبن مع الضريح. الدليل على ذلك ان حجارة الكومة غشيمة بينما حجارة الضريح منحوتة. مع ذلك فد اتفقنا على ان نجرب حظنا. والامر المريح في الموضوع ان الضريح بعيد نسبيا عن القرية. فقد امتدت خلال الثمانين عاما الماضية نحو الشرق لا نحو الغرب باتجاه الضريح بسبب صعوبة التضاريس, وبسبب البعد عن الطريق الرئيسي في المنطقة. اخرج عادل آلة الذهب ومشى بها الى الامام, ثم الى الخلف, ثم الى اليسار, فلم تصدر صوتا. لكنها صوتت عندما سار نحو اليمين, باتجاه الصخرة الكبيرة التي اعتقدنا ان الذهب مخبوء تحتها. زاد هذا من حماسنا, رغم علمنا بان الآلة قد خدعتنا اكثر من مرة في ما مضى.
قررنا الحفر تحت الصخرة, في المكان الذي اعطانا اعلى درجة من الصوت في الآلة. حمل ابو رامي المعول, واضأت انا له بضوء كهربائي ضئيل. كان الضوء يغطي مساحة ضئيلة منخفضة, لذا لم يكن بالامكان رؤيته إلا من عل. حفر ابو رامي, وازاح عادل التراب بالمجرفة. بعد ذلك جاء دوري وحفرت. وهكذا تداولنا الامر, حتى صار لدينا حفرة بعمق نصف المتر وبعرض نصف المتر وطول المتر ونصف المتر. وكان العرق يتصبب من ابداننا, رغم اننا لا نبصره في هذا الليل.
وفجأة سمعنا ضجة. سمعنا هسفة وخبط اقدام, فارتجفنا من الخوف. توقفنا عن الحفر وانبطحنا ارضا. لم يكن بامكاننا ان نرى ما حولنا لان مكاننا منخفض. فقلت لهم هامسا: سوف احاول ان أرى. زحفت على بطني ببطء. خرجت من المنخفض ودرت حول الصخرة, ثم علوتها وقعدت فوقها. كانت الاصوات تأتي من الاسفل, من الجهة الغربية.
كنا نعرف ان احدا من سلطة الآثار لن يأتي في هذا الليل. فالمنطقة منطقة (C) اي انها تخضع للاحتلال الاسرائيلي. لذا فلابد ان يكون الصوت آتيا من دورية اسرائيلية ليلية, اومن لصوص ذهب مثلنا, او من لصوص الآثار. وان كان الامر متعلقا بدورية اسرائيلية فسوف نلقى مصرعنا هنا فوق الذهب العثماني, لكن ان كانوا لصوصا فسيحاولون على الاغلب الهرب ظنا منهم اننا دورية اسرائيلية. لذا فالامر معهم سيكون سهلا خاصة بوجود المسدس في جيب ابورامي.
من موقعي حددت اتجاه الصوت بدقة. لكن كان علي ان اضع الكائنات التي كانت تصدره على خلفية قماشة الافق البيضاء ان اردت ان أراها. فعلى هذه الخلفية يمكن رؤية اجسادها واخراجها من العتمة التي تلفها وتلفنا. لذا درت وناورت كي انبطح في مكان ملائم يتيح لي ان أراها على ضوء الافق. يجب ان يكون ضوء الافق وراءها ان اردت ان ابصرها. وتمكنت اخيرا من الظفر بذلك بعد ان زحفت لاكثر من مائة متر. فعندها صارت الكائنات الليلية فوقي وانا تحتها. ومن الاسفل رأيتها على ضوء الافق, فتنفست بارتياح. كانت الكائنات قطيع غزلان يبحث عما يأكله في الليل بين اشجار الزيتون والبلو ط, ويتقافز بفرح. قلت لزميلي: إنها الغزلان, اكملوا, فواصلوا الحفر.
بعد نصف ساعة أخرى من الحفر ضربت فاس عادل بشيء معدني. طار الشرر. فقال كل واحد في نفسه: هل هو الذهب? ازحنا التراب بأيدينا, ثم ضرب عادل عدة ضربات بالمعول حول الشيء المختفي, فظهرت دائرة معدنية صغيرة, رأيناها واضحة حين ركزنا الضوء عليها. ورويدا رويدا تكشفت الدائرة عن قذيفة ضخمة لم تنفجر. رأينا قاعدتها الضخمة بوضوح, اما رأسها فكان غارقا في التراب.
– جيد انها لم تنفجر من ضربات الفأس. قال ابو رامي. واضاف: لو ضربنا الصاعق لصرنا كلنا فتيتا.
اما انا فقلت: لقد وجدنا القذائف التي لاحقت الضابط العثماني, والآن بقي علينا ان نجد الذهب. وضحك عادل . ضحك ابو رامي. ضحكنا جميعا, واستلقينا على التراب الرطب الذي حفرناه, حتى نسترد انفاسنا.
***
اتصلت بي اختي.
قالت: ألا تريد ان تأتي الى البلد?
قلت: انا مشغول كثيرا. واضفت: هل هناك شيء مهم?
ردت: عندي خبر لك.
قالت: خير?
قالت: خير
سالت: ما الموضوع ?
قالت: عندما تاتي ستعرف.
قلت لها: ان لم اعرف الآن فلن آتي.
قالت: وصلنا خبر عن اخيك.
رددت بملل: مرة أخرى?
قالت: هذه المرة الامر مختلف. مختلف جدا.
وعدتها ان اذهب اليهم غدا الخميس, واقفلت الخط.
كنت نائما عندما اتصلت. وكان عرق القيلولة قد بلل عنقي. ذهبت الى الحمام واخذت حماما سريعا. وبعد ان اوقفت الماء توقفت بلا حراك لمدة دقيقتين لكي يتساقط الماء عن بدني. تحركت القطرات على جسدي كما لو كانت طوابير نمل. كل قطرة حفرت لها طريقا واخذت معها في الطريق قطرات اخرى مشكلة جدولا صغيرا لا أراه ولكنني احس به. احس بكل الجداول التي تتشكل على جسدي. سقطت قطرات من وراء اذني على ترقوتي, ثم على طرف ثديي, ونزلت نحو خاصرتي, منحدرة الى فخذي وساقي, ثم الى الارض. سقطت قطرات أخرى من غرتي على جبيني. ومن هناك نزلت الى انفي, وتجمعت اسفله وتضخمت. وحين لم يعد توترها السطحي قادرا على حملها سقطت على شفتي ثم على ذقني, ومن هناك هوت الى صدري وسرتي, ونزلت لكي تتفتت في عانتي. وسار فتاتها مع الانهار الصغيرة التي تسيل من على فخذي الى الارض.
كنت افعل هذا بعد كل حمام لكي اهدىء ذاتي, لكي احس بجسدي , بكل نقطة فيه, باصبع المياه الغضة. وكان هذا يريحني. مسحت ما تبقى من ماء على جسدي بيدي , ثم جففته بالمنشفة وخرجت.ارتديت ملابسي, واتصلت بعادل وقلت له انني لن اكون قادرا على ان اذهب معهم للحفر غدا, لأنني سأذهب الى البلد من اجل بعض الشؤون العائلية. قال: الا يمكن تأجيل الذهاب الى القرية? موقع الحفر اهم موقع نصله حتى الآن. تعال. اجل ذهابك. قلت له: لا أقدر. وشرحت له صعوبة الوضع.
خرجت من البيت مع مغيب الشمس, وذهبت مشيا الى وسط المدينة. لم تكن المسافة بعيدة. مشيت. في الطريق على يساري كان سياج من صبار باكواز ناضجة. تأملت الثمرات المنتفخة المليئة بالعسل وقلت في نفسي: في مواجهة الموت والعدم ليس ثمة سوى الثمرة. والصيف يمنح ثمرته. انا انتظره لكي اتأكد ان الحياة ليست ثلما وحيدا في ارض بور. ليست عشبة ضئيلة فوق صخرة الموت الرمادية. وكان يمنحني الدليل والبرهان. والصيف عندنا يبدأ باكرا. يأكل نصف الربيع.
في البدء ياتي الكرز بحمرته التي تتوهج كالنار. ثم يأتي التوت الذي ينفغش في الفم والدم. بعد التوت تأتي السنتاروزا, ثم يحل الصبار. تحل اكوازه المنتفخة. يحل المسيح المصلوب. فالصبار مسيح مصلوب. امسك بالثمرة بين ابهام اليد اليسرى وسبابتها واجرح بطنها بالسكين جرحا طوليا. بعد ذلك أضعها في وضع معاكس ثم اجرحها جرحا عرضيا من عند حفرة كأسها, ثم جرحا آخر من عند منبتها. افعل ذلك كأنك تفصل قميصا, كأنك تخرج بالسكين برعما لكي تهجن شجرة زيتون, او كأنك تصنع صليبا. افتح من ثم الجراح على مداها وخذ اللب البيضوي في فمك. تذوق عسله. لكن اياك ان تمضغه بقوة. امضغ بحيث لا يصطك الضرس بالضرس, ثم ابتلع. كذا يؤكل الصبار وكذا يذاق عسله وسكره.
بعد الصبار يحل التين. فالصبار اخو التين وشقيقه. يبدأ قبله ويقود خطاه. اكوازه نبوءة بثمرات التين ونداء لها. ثم نتدرج حتى ندخل الخريف بالزعرور والبرتقال والجوافة.. كل شيء في اوانه. في دورة تغطي على الشعور بالعدم, وتدفعه الى الوراء. دورة من العطر والسكر والالوان تدفعك لأن توقن بانك حي.
زكريا محمد
كاتب من فلسطين – زغمطوط: زهرة تنبت في فلسطين