محمد بن ناصر المحروقي*
ما هو الأثر الذي تركه “أشعر العلماء وأعلم الشعراء”: أبومسلم البهلاني؟
دفعت الظروف العامّة، سياسيّاً واجتماعيّاً، والظروف الخاصّة، لاحقاً بوالده ومستجيباً لنداء داخليّ خاص، أبا مسلم البهلاني أن يهاجر إلى زنجبار: درّة الحضور العماني في شرق أفريقيا. انتقل إلى زنجبار جسداً وعقلاً، وما انتقل عن عمان روحاً واتصالاً. وصقلت زنجبار شخصيّة هذا الشاب المفعم بالحياة وبعمان وبالرغبة القويّة في غد مشرق لبلاده. ووسمته حياة زنجبار، لما فيها من تعدد أجناس وثقافات، بالانفتاح وقبول الآخر. ثمّ منحته فرصته للظهور والتألق: مصلحاً نهضوياً، وشاعراً تاريخيّاً كبيراً عبّر عن هموم وطنه. وفي سبيل الإصلاح النهضوي نشر مقالات وقصائد ورسائل في مصر وعمان وزنجبار، وأسّس للصحافة العربيّة في شرق أفريقيا، عبر إصداره لجريدة النجاح، عام 1906م. وتولّى القضاء في زنجبار مدة طويلة من الزمن، وأصبح قاضي قضاة زنجبار. كما سخّر وقته للتدريس والتأليف في الشريعة وفنون العربيّة. وكانت عمان وتردّي الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة شغله الشاغل، وقضيته الكبرى، التي نذر حياته لخدمتها.
ويبرز أثر البهلاني شاعراً كبيراً وناثراً فذّاً في ديوانه الشعري وكتاباته الأدبيّة. كما يظهر شعره تمثّلاً جيّداً للشعر العربي في أبهى عصوره، خاصة العصر العباسي. ومطولاتّ أبي مسلم الأشهر يذكّر مبناها بقصائد مشهورة. فنونيته أبي مسلم “الفتح والرضوان” جرت على بحر وقافية قصيدة أبي البقاء الروندي في رثاء الأندلس:
لكل شيء إذا ما تمّ نقصان فلا يُغرّ بطيب العيش إنسان
وجرت القصيدة الرائية:
سميري وهل للمستهام سمير
تنام وبرق الأبرقين سهير
على مبنى قصيدة أبي نوّاس في مديح الخصيب، والي مصر:
أجارة بيتينا أبوك غيور
وميسور ما يرجى لديك عسير
وهذه المعارضات وغيرها تبرز شعريّة أبي مسلم المستقلة بمعانيها وصورها المحكّمة، التي تكشف فنّ أبي مسلم ونفسه الشعري. فهو شاعر إحيائي ملتزم. يمتاز شعره بفصاحة اللفظ وقوة السبك ووضوح المعنى. والتزامه بقضيّة عمان، ومنهجه الاستنهاضي ينتظم شعره مهما اختلفت الأغراض. ومن ذلك قوله في المقصورة:
أذكى من النار بقلبي زفرة
يطلقها المظلوم من حرّ الأسا
محترق الأكباد من حسرته
لاغوث لامنصف لايلوي إلى
أنفاسه تطرق باب العرش
لا تطرق باباً غيره ولاذرى
وهذا مشهد تفصيلي ضمن مشاهد جزئية عديدة تذكر الواقع المؤلم وتستحثّ النهوض على الظلم. وعندما يبايع أهل عمان الإمام سالم بن راشد الخروصي فإنّ أبا مسلم يكون في قلب المشهد العماني، ويرسل قصيدة نونيّة، هي بحق معلّقة أهل عمان، يستنهض القبائل للوقوف مع هذا الإمام المنتخب:
هبّوا لأخذ المعالي من مراقدكم
فليس يستدرك العلياء نومان
هبّوا لداعي الهدى هبّوا لعزتكم
وكيف نومكم والخصم يقظان
جدوا فديتكم في نصر دينكم
فاليوم فيكم لنصر الدين إمكان
وقد صدّر هذه القصيدة برسالة مطوّلة للإمام الخروصي بها الكثير من النصائح الجليلة لتقوية دولة الإمامة الناشئة. وتدل هذه النصائح على بعد نظر البهلاني سياسيّاً وفكريّاً. وكان أن أوصاه بتقوية الروابط مع الدول والإمارات المجاورة، والدولة العثمانية وولاتها بل مع المنظّمات الإسلاميّة في الهند، إذ يقول:
“ثم إنّي أشير عليك بمصادقة أمير نجد وأمراء الساحل على الخليج الفارسي، … وكاتب شريف مكة وإمام صنعاء وسلطان لحجّ، واتخذ مع كل أمير من أمراء جزيرة العرب يدا وسياسة. وإن استطعت أن لا تدع جزيرة العرب إلا كتلة واحدة يؤدي لك الصداقة فافعل. ولا بدّ لكم من مكاتبة الشيخ سليمان بن عبدالله الباروني فقد صار بعد حرب طرابلس الغرب وزيراً في مجلس الأعيان في إسطنبول. ومجلس الأعيان مجلس أبناء ملوك الأتراك…. وقصركم النظر على إقامة الشعائر الدينية في مملكتكم فقط دون طول النظر في سياسة الدين والإكثار من الصديق، أمر يحتاج إلى النظر. ثمّ أن في الهند جمعيات دينية إسلامية سياستها حياطة الإسلام، فإن رأيتم أن تعقدوا معها حبل صلة فاكتبوا كتابا، ونحن نتكفل بإرساله إليهم. وقد وصلتنا عنهم إعلانات ونشرات وجهنا إليكم منها نسخة”.
والنصيحة المحوريّة الأخرى في تلك الرسالة هي الحثّ على الاهتمام بالتعليم وجعله إلزاميّا ونشر المدارس، فقد ورد في هذه الرسالة: “وأحثـّك سيِّدي على فتح المدارس العلميَّة في بلادك وحثّ أهل الخير على التبرعات في سبيل هذا المشروع العظيم، فإنَّ مصرك عُمان لم يسقط هذه السقطة العظيمة إلا من جهة الجهل. والجهل أمُّ المصائب في الدين والدنيا. وبودّي لو ساعدني العلماء هناك على الرأي الذي أراه، وهو جواز جبر الأولاد على التعلّم. وهي لعمري مصلحة عظيمة في الأمة. ثمَّ تجعل نفقة الفقراء منهم على بيت المال، ونفقة أبناء الأغنياء على آبائهم”.
وفي هذه الرسالة فائدة لطيفة نتمنّى من شداة الباحثين تتبعها والكشف عن تلك المقالة التي يشير إليها أبومسلم البهلاني. فيذكر توتـّر العلاقة بينه وبين القصر الحاكم في زنجبار، قائلا: “وزاد في الحلقة ليّا ما كتبناه في جريدة الأهرام -إحدى الجرائد المصرية بواسطة الشيخ الشمّاخي- من نشر دعوة المسلمين لمّا قامت دولتكم المؤيدة. فكان ذلك داعيا إلى امتناعنا عن بيت الحكومة، وقطع جميع الأسباب التي تترتب عليها الضرورات الحيويّة”.
وهذه المقالة والكثير من مقالات أبي مسلم التي نشرت في زنجبار أو في مصر مجهولة حتى الآن. وعسى أن يقوم أحد الباحثين بالبحث عنها وجمعها وتحقيقها ونشرها في رسالة ماجستير أو أطروحة دكتوراه. وهنا خيط يمكن أن يقود إلى هذه المقالة وغيرها وهو ذكر الشيخ قاسم بن سعيد الشمّاخي، المقيم بالقاهرة، وصاحب جريدة “نبراس المشارقة والمغاربة”. فالبحث في آثاره ومكتبته قد يقود إلى ما يثلج الصدر. والمكتبة المشار إليها اشتراها سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، حفظه الله ورعاه.
وكرّس أبومسلم جريدة النجاح، المشار إليها، لخدمة القضيّة العمانيّة، كما يبرز في مقالة “الأغراض والإيمان” وموضوعها إغاثة المنكوبين العمانيين عام 1913، ووجّه خطابه إلى “جمعيّة الهلال الأحمر”، والجمعيات الإسلامية في الهند والدولة العثمانية.
هذا الخطاب الاستنهاضي كان له صدى كبير في عمان وزنجبار والجزيرة العربيّة. وانتشرت القصيدة النونيّة مطبوعة ومخطوطة. وليس من المبالغة القول إنها وصلت كلّ بيت في عمان. كما أن ديوان أبي مسلم طبع عدة مرات خارج عمان وداخلها: في القاهرة وزنجبار ودمشق ومسقط.
وإلى جانب هذا الأثر العام، أثّر البهلاني على من تلاه من الشعراء في عمان، وبرزت مدرسة المحافظين في الشعر العماني، من مثل عبدالرحمن الريامي، وأبوسلاّم الكندي، وسالم بن سليمان البهلاني، وعبدالله بن علي الخليلي. يقول أمير البيان وشاعر عمان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي ذاكراً مكانة أبي مسلم: “هو العلم الأشمّ والعملاق الملثّم، ركيزة الفصحى ورائدها، وزاجر الشعرى وقائدها، الشاعر المفلق، والكاتب المحلّق”.
ولأبي مسلم البهلاني أثر كبير في تعزيز الهويّة الإسلاميّة العربيّة، وتنشيط الحركة الثقافية في زنجبار عبر تآليفه، وعبر دعم مؤلفات غيره باللغة العربية. وقد كتب في أدب الرحلة في زنجبار مؤلفه “اللوامع البرقيّة”، يصف فيه رحلة السلطان حمود بن محمد البوسعيدي في شرقي أفريقيا، ونشره في زنجبار أول مرة. كما قرّظ بعض الكتب التي نشرتها المطبعة السلطانية أو جريدة النجاح.
إنّ إخلاص أبي مسلم البهلاني لقضيته، وامتلاكه وسائل التعبير عنها، وأثره المتجدّد على مجتمعه هي العوامل التي ضمنت له البقاء والخلود والاعتراف العالميّ.
هامش
1 – قُدّمت هذه الكلمة في “ندوة الشخصيّات المؤثّرة عالمياً المدرجة برنامج اليونسكو للذكرى الخمسينية أوالمئويّة للأحداث التاريخيّة المهمّة والشخصيات المؤثّرة عالميّاً”، نظّمتها اللجنة الوطنيّة العمانية للتربية والثقافة والعلوم بالتعاون مع وزارة التراث والثقافة، يوم الأحد 23 فبراير 2020م، بقاعة أحمد بن ماجد. ضمن الفعاليات المصاحبة لمعرض مسقط الدولي للكتاب.