إن مصير النخبة العربية، لا محالة، شبيه بحالة السلطة العربية المستبدة التي بددت الحلم العربي، وأرجعته كوابيس متواصلة تفنّنت في وضعها على رقاب مواطنيها، مما انعكس على النخبة وجعلها تدخل في معارك جانبية فاشلة بعيدة عن اهتمامات الشارع ، أو انسجمت مع هذه السلطة الهرمة لتكرّس التفاهات والتخلف وتدخل الناس في متاهات متشعبة أبعدتهم عن الاهتمام بالواقع الأليم معوضين ذلك بالعودة إلى صورة للدين متحجّرة وغير متسامحة، أو توجّهوا إلى أحزاب صورية. غير أنه وفي ظل انتشار الشبكات الاجتماعية التي فتحت الأبواب واسعا أمام الشباب لاختراق آفاقها ــ في أغلب الأحيان بدون وعي وإدراك جيد ــ إلى اهتزاز لافت في هويتهم، كل ذلك كرّس مشكلة لم يعرفها أولئك الذين حلموا ومارسوا وساهموا في محاربة المستعمر بالسلاح والكلمة.
صرنا نتحسر على الماضي المليء بالأبطال لأن رؤاهم كانت متقدمة على الكثير من جيل اليوم، فجيل أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي ومن سبقهم ولحقهم كان يملك مشروعا، ولديه إرهاصات حقيقية بالتغيير والوعي الجاد بالمعاناة التي كان يعيشها، ومن المفروض أن يترك جيلا أكثر وعيا، غير أن السلطة دمّرت كل شيء ابتداء من الشباب، لأنها لم تبلور لهم مشروعا واضحا، وتبني لهم غدا أجمل، مما ترك الكثير منهم وهم في عمر الزهور يبحرون في قوارب الموت للالتحاق بالغرب، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على تبدد الحلم في أوطانهم، وهذه الاوضاع الصعبة هي عبارة عن صرخات إنسانية ذات عمق كبير، أما وإن عدنا إلى تلك الأجيال التي سبقتها، فإنه ورغم الشقاء والبؤس، إلا أنهم عملوا على بناء مؤسسات، غير أنهم اصطدموا معها لكونها مؤسسات ميتة ومميتة، فكان أن زجّ بالكثير منهم في السجون، أو أجبروا على العيش في المنافي، والأستاذ عابد خزندار هو واحد من هؤلاء الذين أدوا الثمن غاليا من أجل الدفاع عن آرائهم وتحقيق ذواتهم، لأنه أبعد عن عمله ومهنته التي درس من أجلها لكي يساعد في النهوض بقطاع الزراعة الذي اختص فيه.
تجدر الإشارة إلى أنه صدر حديثا كتاب من جمع وإعداد الأستاذ محمد القشعمي، في بيروت، عن منشورات الانتشار العربي بعنوان: «عابد الخزندار مفكرا ومبدعا وكاتبا» وكان من الأجدى والأهم أن تضاف كلمة مناضلا، لكون أنه بقي وفيا لأفكاره ولم يساوم، وهذه هي ميزة كل إنسان آمن بأفكار معينة، وبقي يدافع عنها باستمرار دون لف أو دوران، رغم الأتعاب النفسية والمادية التي لاقته. يتألف الكتاب من 334 صفحة من الحجم الكبير، ويتكون من مقدمة، وعشرة أبواب.
حياته ودراسته
روى الأستاذ عابد شذرات من سيرة حياته، هو المولود عام 1935 بمكة المكرمة، بحي القشاشة، لم يعد موجودا لأنه دمّر وعوّض ببناءات أخرى، وهو شيء يؤلم الأستاذ لأنه لم يعد يجد حتى أطلال تلك الدروب التي ترعرع وعاش فيها، دخل المدرسة بمكة وعمره سبع سنوات، احتضنه بيت الوالدة والوالد الذي كان متوفرا على مكتبة ثرية كانت بمثابة الفضاء المحبب لدى الطفل عابد، إذ بدأ يهتم بمطالعة الكتب وهو طفل صغير، وذات يوم (ارتكب جريمة) لأنه اطلع في القسم على رواية ماجدولين المترجمة من قبل الأديب المصري لطفي المنفلوطي، غير أن آذان وعيون الحرّاس اكتشفوا الأمر وعاقب المشرف على المدرسة الأستاذ عابد لأنه اطلع -حسب رأيه- على كتاب لا يسير في نفس الخط «المرسوم» من قبل المؤسسة التعليمية في ذلك الوقت، فكانت عاقبة هذه (الجريمة) ضرب الطفل في تلك العمر لأن خطيئته الوحيدة هي اطلاعه على كتاب يبدو ممنوعا، مثلما يقول في الصفحة 31 من الكتاب « أمسكني أحد المدرسين أثناء الحصة متلبّسا بقراءة رواية ماجدولين التي ترجمها وأعاد كتابتها مصطفى لطفي المنفلوطي، فأحالني إلى وكيل المدرسة الذي عنّفني قائلا: إنني ارتكبت جريمتين أولاهما أنني قرأت كتابا أثناء الفصل، والثانية أنني قرأت رواية غرامية، وهذه لم تكن جريمة في نظره وحسب، بل في نظر المجتمع في ذلك الوقت›. لا شك أن ذلك التعنيف أتعبه نفسيا، بل صدمه ، لكنه حفزه في آن معا، لأنه دفعه للاستمرار في الاهتمام بالكتاب أكثر فأكثر ليصبح صديقا يصاحبه في كل مكان يكون فيه.
دراسته في القاهرة
بعد الانتهاء من دراسته الابتدائية ثم الثانوية التي تخرّج منها من مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة عام 1953، أرسل إلى القاهرة، حيث مكث فيها خمس سنوات، سمحت له ببناء شخصيته الفكرية والثقافية والفنية، لأنها فتحت له أبواب الثقافة على مصراعيها، وسمحت له بتكوين علاقات مع المفكرين والكتاب، ومن بينهم سلامة موسى الذي كان يلتقيه باستمرار حتى أصبحا صديقبن ، وأهدى له هذا المفكر مجموعة من كتبه، حيث يقول فيه : « وقد استفدت كثيرا من هذه الجلسات خصوصا وأن الأستاذ سلامة واسع الاطلاع ومحدّث لا يمل حديثه وتعلمت منه الشيء الكثير، وترك في نفسي أثرا لا أنساه حتى اليوم» (ص 50 من الكتاب) . وتعرف على شعراء تلك الفترة ومن بينهم عبد المعطي حجازي، كما تابع بعض من دروس الدكتور طه حسين الذي يقول فيها : «واظبت على حضور محاضرات طه حسين في كلية الآداب في جامعة القاهرة والمحاضرات التي كانت تنظمها الجامعة الأمريكية للزيات وغيرهما.. وقرأت كتبا كانت متوافرة لمختلف الأطياف والاتجاهات دون استثناء» ( ص109 من الكتاب).، هذا علاوة على أنه لم يتوقف عن زيارة المعارض واقتناء الكتب الجديدة وحضور الندوات والمحاضرات التي كانت تنظم هنا وهناك، بالإضافة إلى اهتمامه بالصحافة ، مما دفعه لإنشاء صحيفة حائط كتب فيها مجموعة من المقالات والخواطر، إذ يذكر « كنت رئيس تحرير لها «وكنت أكتب المقالة الافتتاحية فيها، وهناك كنت أعطي المحاضرات وخصوصا في الجامعة الأمريكية، وكنت أختلط مع العلماء منهم صداقتي مع سلامة موسى الذي كانت لي به صداقة قوية» (ص 93 من الكتاب)، كانت كتاباته في مجلة الحائط بمثابة البداية في الاهتمام بالإعلام، هذا بالإضافة إلى متابعة دراسته في اختصاصه في الزراعة بجامعة القاهرة التي تخرج منها سنة 1961.
في القاهرة تعرّف أيضا على شريكة حياته المرحومة الإعلامية القديرة السيدة شمس الحسيني، أول مشرفة على الصفحات النسائية في الرياض.
الولايات المتحدة
من القاهرة ذهب إلى الولايات المتحدة لمواصلة دراسته في الكيمياء العضوية وحصل فيها على رسالة الماجستير عام 1963، هذه الرحلة العلمية الأخيرة لم تكن لها نفس الوقع الفكري والثقافي في مصر، فهو يمرّ عليها سريعا، حيث يقول فيها: « حياتي في الولايات المتحدة كانت فترة بيات شتوي» (ص 52 ) وفي الصفحة 78 يوضّح: « كانت حياتي هناك خالية من أي نشاط، لم يكن ثمة جو ثقافي في أمريكا يستدرجني للاندماج في المجتمع. ربما تكون مدينة نيويورك هي الاستثناء الوحيد في النسيج الأمريكي لكونها تزخر بالأنشطة الثقافية والمعارض والمسارح» فاختار العزلة التي عوضها بالإطلاع على أهم الكتب الصادرة حديثا في ذلك الوقت.
الحداثة
ومن خلال قراءاته تلك تعرّف على أهم المدارس الفكرية، والسياسية والاقتصادية، وكان سباقا للاهتمام والاطلاع على مدارس الحداثة وراح يعرّف بها وبمفكريها لدى عودته إلى أرض الوطن بعد انتهائه من التحصيل العلمي. كما يؤكّد على ذلك حينما يقول معرّفا بها : « الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع أن الحداثة مصطلح نقدي أدبي ولد في أوروبا ومات منذ سنين، ونحن كعادتنا نتلقى ونطبق ما انتهى عند الاخرين» ثم يواصل «وما بعد الحداثة، مصطلح نقدي أيضا وأول من نادى به في المملكة أنا وعاتبني الكثير عليه» ( ص.119)، أي أن الكاتب عابد خزندار كان السباق في الحديث على مسألة الحداثة التي يراها أنها ولدت عندنا بعد أن ماتت في الغرب، وإن كان الغرب تجاوز ما بعد الحداثة وهم الآن يتحدثون عن « تيارات جديدة، لعل أهمها ما يسمى بـ(البوست كولنياليزم) أو ما بعد الاستعمار، ورائد هذه المدرسة الأدبية كاتب وناقد عربي هو الدكتور إدوار سعيد، وطبعا دائما المدارس الأدبية تنشأ نتيجة ظروف موضوعية تاريخية وتنتهي بزوال هذه الظروف» ( ص.181).
كتب الباحث والأستاذ عابد خزندار العديد من المقالات والأبحاث، كما ألف في هذا المجال كتابين، الأول تحت عنوان «حديث الحداثة» الصادر عام 1990 في القاهرة ، عن المكتب المصري الحديث. والثاني بعنوان « رواية ما بعد الحداثة» صدر في الرياض، عن منشورات الخزندار عام 1992..
العودة إلى الوطن
الجدير بالذكر أن الأستاذ عابد خزندار لما عاد إلى بلده بعد فترة التحصيل العلمي عمل كمدير عام في وزارة الزراعة في الرياض حتى سنة 1963، إذ عمل في وادي السرحان في منطقة الجوف لمدة سنة وكان مشروعه يتمثّل في «توطين البدو، حيث مكثت في خيمة مع فريق العمل، والتقيت لورنس العرب وأعجبت بشخصيته وجلست معه لمدة ساعة واحدة حيث سمعت فيها جزءا من مغامراته» (ص.110)، وفي هذا المنطقة التي لم تكن فيها وسائل للراحة، ولم تكن تتوفّر حتى على حمام، فكان يضطر في نهاية كل أسبوع للذهاب إلى الاستحمام خارج مكان شغله كما يقول : « كان الحصول على الماء صعبا، والبرد في الشتاء قارسا، وكنت لا أستحمّ إلا مرة في آخر الأسبوع…أحتاج الذهاب كل يوم جمعة إلى كامب (أرامكو) في عرعر لعدم إمكانية الاستحمام في وادي السرحان» ( ص.95).
أقبل على عمله الذي بقي فيه ثلاثة سنوات، سنتان في الرياض وسنة مع البدو متحملا صعوبة الحياة وهو عازم على تأهيل المنطقة وتوفير المياه فيها، وهي التي أصبحت فيما بعد تحتضن مزارع الزيتون « ولكن أعدّ نفسي من الناس الذين أسهموا في البدايات، ولفتنا الأنظار إلى المنطقة وأهميتها» (ص.96). حيث يظهر أن الرجل كان مهتما ومتحمسا لمهنته ولعمله وله برنامج يعمل كل ما في وسعه على تطبيقه بحماس الشباب وإرادة فولاذية لإخراج البدو من حياتهم الروتينية الصعبة، فكان لحضوره معنى إيجابيا لأنه اختلط معهم حتى أصبح واحدا منهم، وحرّضهم على قبول المشروع وتركهم يهتمّون ويشاركون فيه.
سنتان في السجن
غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، كما يقول المثل العربي، لأن فترة الستينيات كانت حبلى بالمطالب الأيديولوجية، وبالصدامات وبحلم التغيير وبالتطلع إلى الحرية والديمقراطية، فبعد أن قامت حركة مناضلة ومطالبة بالتغيير في المملكة كان من ضمن الذين زجّ بهم في السجن لأن تقربّه من المفكرين ومن المبدعين وخاصة من سلامة موسى الذي كانت عيون المراقبين تتابعه، ألصقت له تهمة «العمل ضدّ أمن البلاد» أدخلته السجن مدة سنتين، وذاك، بعد النشاط الحافل والإنجازات الرائعة، ولما دخل السجن وجد نفسه مع الكثير من المثقفين السعوديين ومن ضمنهم صديقه المناضل عبد الكريم الجهيمان -( 1912- 2011) كان صحفيا وأديبا وباحثا وشاعرا وناقدا ومثقفا، بل ومناضلا عرف السجون عدة مرات- والذي يقول فيه الأستاذ عابد خزندار «تعرفت في السجن على عبد الكريم الجهيمان الذي كنت أسكن معه في غرفة واحدة، وكان معنا أيضا محمد سعيد آل مسلم وهو شاعر، والأديب عبدالله الحبشي..» ( ص.96). ويؤكد على أنه نمت بينهما علاقة مودة، غير أن هذا السجن الذي قضي فيه سنتين يعتبرهما: «فترة حبس ثقافي، وقد شاركنا في الغرفة نفسها الأستاذ عبد الكريم الجهيمان حيث تعرّفت عليه لأول مرّة وتوطّدت صداقتنا بعدها، وقرأت عليه كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ثلاث مرات» (ص.110). أما الأستاذ عبد الكريم الجهيمان فيقول « .. ولا يفوتني أن أتحدّث عن أحد هؤلاء الرفاق وهو الأستاذ عابد خزندار الذي هو الحجازي الوحيد بيننا فقد كان من حسن حظي أن أسكن وإياه في غرفة واحدة وأن أعرف جميع حركاته وسكناته وطريقته في الحياة فرأيت ما أعجبني من رجولة ومكارم أخلاق…يضاف إلى ذلك علم غزير ومعرفة بلغتين أو ثلاث أو أكثر من اللغات الحية» ( ص.226). هذه الشهادة تؤكّد على أن السجن شمل مجموعة من المناضلين من مختلف المددن السعودية.
الملاحظ أن الأستاذ عابد يتحاشى الحديث عن هذه الفترة والتعمق فيها، وحتى أولئك الذين ساهموا بشهاداتهم في هذا المؤلف فعلوا نفس الشيء، عدا الدكتور معجب سعيد الزهراني الذي يشير على أن المثقف عابد الخزندار «لفت نظري وأثار إعجابي كمثقف ملتزم وضعه وعيه الوطني ذاته على المحك» (ص.198). يبدو أن التزامه ووعيه كانا سببا في سجنه، لأنه بعد خروجه منه منع من كل الوظائف.
بعد السجن
لحسن الحظ أن والده كان يملك مكتبة فانتسب إليها مساعدا والده ومحققا لقمة عيشه إذ يقول: « كان وجودي في المكتبة كبائع العطر، حيث كنت أقرأ فيها، نظرا لأن البائع في المكتبة إذا لم يبع، فسيستفيد من قراءة الكتب» (ص.97). واصل عمله في المكتبة لأنه لم يسمح له بالعمل ثانية في الحكومة. خاصة وأنه فشل فشلا ذريعا في التجارة حيث يقول: « وجدت نفسي أمام خيار الهجرة بعد صدور قرار بعدم توظيفي في أي قطاع حكومي أو أهلي» ( ص.110)
الانتقال إلى باريس
بعد هذه الفترة التي بقي فيها مبعدا، سمح له بالسفر فالتحق بباريس حيث أقام عشر سنوات متواصلة، والتي يقول فيها أنني وجدت من الأفضل لي « أن أسافر إلى باريس التي أعجبت بثقافتها ومفكريها من خلال قراءاتي السابقة للدراسة، فالتحقت بالجامعة الأمريكية في باريس على حسابي الخاص وكنت أحضّر للدكتوراه ولكنني لم أكملها، وشعرت بعدم حاجتي إليها لأنها لا تشكّل إضافة ثقافية إلى رصيدي» ( ص.111)، وهنا تعرّف على الكثير من المثقفين العرب والغرب، وكان يتردّد على بعض جامعاتها خاصة «الكوليج دو فرانس» الذي كان يدرّس بها عدد من كبار الأدباء والمفكرين كميشيل فوكو ورولانت بارت، وكنت أحضر بها المحاضرات، حيث الدراسة في هذه الكلية حرة، إذ تقام المحاضرات للعلم فقط، بلا امتحانات، وأي واحد يمكنه حضورها» ( ص.97)، بقي مبهورا بباريس وبفضاءاتها المفتوحة على الثقافة حيث يقول: «استفدت من إقامتي في باريس كثيرا، فقد كنت منتظما في الدراسة بالجامعة الأمريكية، كما كنت أحضر محاضرات في الكوليج ديو فرانس مع أمبرتو أيكو وأندريه ميكال» (ص.127).
الكتابة والتأليف
عندما كان موجودا في باريس واصل كتابته في بعض الصحف وعلى رأسها جريدة الشرق الأوسط، الصادرة في لندن، وجريدة الرياض، بمقالات متفرقة، أما عندما عاد إلى المملكة فقد تفرّغ للكتابة والتأليف، وواصل العمل الصحفي حيث يؤكد قائلا: « وكتبت مقالات في صحيفة الرياض تتناول موضوعات لم تكن مطروقة في ذلك الوقت في النقد الأدبي، وصدرت في كتاب بعنوان «حديث المجون»، وبقي وفيا لها ولا زال يكتب مقاله اليومي في الرياض تحت عنوان «النثار»، الذي لا زال يتطرّق من خلاله إلى الهم الثقافي والسياسي والاجتماعي، وهمّه الوحيد هو أن نستفيد من الإمكانيات المادية والبشرية لكي نبلور مشروعا واضح المعالم نمشي عليه من أجل إخراج الإنسان العربي من الهموم التي يعيش فيها.
سمح له إتقانه للغتين الفرنسية والانجليزية بترجمة عدة كتب حيث ترجم من الفرنسية إلى العربية كتاب «أنثوية شهرزاد»، وهي رؤية لألف ليلة وليلة للأديبة «ماري لا هي هولييك» وهو يتطرق إلى مسألة المرأة في كتاب «ألف ليلية وليلة»، ومن الانجليزية إلى العربية كتابين هما المصطلح السردي الذي يقدم شرحاً وافياً للمصطلحات بعلم السرد، صدر عام 2005 في القاهرة، عن منشورات المركز القومي للترجمة، أما الثاني فبعنوان معجم مصلحات السميوطيقا ، الصادر عن نفس الناشر سنة 2008.
اهتم بمسألة التناص الذي يراه أنه اتجاه نقدي يواكب العصر إذ يؤكد د. محمد صالح الشنطي بأن عابد خزندار « ينتمي إلى مدرسة ما بعد الحداثة ومدخله التناص، ولهذا تتشعب به السبل عند مقاربته للنص، سواء كان هذا النص غربيا أم عربيا كما يقترب من السيميائيين وله رؤيته الخاصة للألسنية ونقادها ومقارباتها يضيئها ويمارسها وينقدها» ( ص.189). إذ يصف نفسه بأنه «نصوص أو تناصي ينطلق من التراث الذي ينهض على النصوصية والتناص، فهو لا ينطلق من فلسفة وجودية سيكولوجية، بل يذهب إلى أن الإنسان لغة، أي نص لنص سابق، ولكن الإنسان المبدع هو الذي يوظّف النص القديم عن طريق التناص لإبداع نص جديد» ( ص.196- 197).
المهم عمل الأستاذ على عدة مقاربات نقدية، وكتب في الكثير من الميادين وهو مولع بطرح الجديد ومتابعة تطور المدارس الفكرية، وبالتالي نرى تفتحه على عوالم النقد الأدبي والمدارس التي تهتمّ به.
تطرق إلى أمور كثيرة منها مسألة الحرية التي لا يرى أي نتاج حقيقي خارجها، وأنها مطلب إنساني «وهي دعوة في كل أديان وقد قال عمر رضي الله عنه : متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ ولكن لا يعني هذا أن الحرية هي الانفلات واللامبالاة بل هي الانضباط واحترام حقوق الآخرين والمسؤولية اتجاه الأمة وحماية المجتمع من التمزّق والشتات والانزلاق إلى منحدر الرذيلة والدعوات الهدامة وتفتيت المجتمع» ثم يوالي مؤكدا : « الحرية احترام الآخرين وعدم الإساءة إليهم» (ص.122)، هذه الفقرة تبين موقف الأستاذ عابد في مجالات عديدة، فهو حريص على حرية الإنسان وحقوق الآخرين، لأنه مستاء مما وصلت إليه أحوال الناس في بلداننا العربية، ومستاء أيضا من مصادرة حرية القول ومصادرة الخوف، ففي الحرية يستطيع الإنسان بناء نفسه .
تجدر الإشارة إلى أن الأستاذ عابد ومنذ نعومة أظافره ( خاصة الحادثة التي وقعت له مع مدير المدرسة) وهو شغوف بأهمية التربية والتعليم التي أولاها الكثير من وقته ومن كتاباته، لأنها تعتبر الحجر الأساس في كل دولة تريد بناء مؤسسات محترمة ونافعة، ويولي أهمية إلى التعليم الذي يقول فيه: « التعليم عندنا في السعودية يعتمد على التلقين والحفظ والحال كذلك في مصر، ولهذا فإن التعليم أحادي لا يقدّم غير وجهة نظر واحدة ولا يسمح بالتعدد، وهذا يربّي في الذات المتعلمة الخنوع والخضوع، ويقتل فيها موهبة النقد والإبداع وهذا هو السبب في تخلف العرب عن بقية الشعوب» (ص.306). وهو يرجع باستمرار لمناقشة هذا الموضوع ّآتيا بالأدلة والإحصائيات الحديثة لدعم آرائه.
أولى المرأة مكانا كبيرا لأنها نصف المجتمع في بلداننا، لكنه حرّض على إخراجها من الفضاءات التي حُجزت فيها ، لتتعلّم وتكون بجانب الرجل في كل المجالات مثل رفيقتها في الغرب، امرأة مبدعة وكاتبة وفنانة وإدارية، ويطلب بإيفاد المرأة السعودية للعمل خارج المملكة في السفارات « والمؤسسات الحكومية في الخارج….حتى وقت قريب عندما كنت أزور السفارة السعودية في باريس، كنت ألاحظ أن جميع الموظفات من دول عربية، ولا توجد موظفة سعودية واحدة، ولكن قبل ثلاث سنوات فوجئت بوجود عدة سعوديات يجدن اللغة الفرنسية بالطبع، سررت لذلك» ( ص292)، كما طالب بإعطائها الفرصة الحقيقية لإثبات وجودها ودورها الحيوي في المجتمع إذ هي تمثّل نصف المجتمع وهو يقول في ذلك « وضع المرأة في بلادنا ما زال دون المستوى المطلوب، فليس هناك مساواة حقيقية بين المرأة والرجل. وخصوصا في مجال العمل …» فبعد أن يشرح عدم المساواة في الراتب والمعاملات يقول: « وأنا لا أجد أي مبرّر لعدم السماح للمرأة بقيادة السيارات، خصوصا وأن ركوبها في السيارة مع أجنبي غير شرعي، كما أن ركوبها في الليموزين مع سائق لا تعرفه غير مشروع إلا للضرورة القصوى، وأخيرا يجب أن يصدر نظام يحدد نفقة المرأة المطلقة ويكون إجباريا بالنسبة للزوج… وأن تشتغل في مناصب مختلفة وقد آن الأوان لتعيين كاتبات عدل يتولين أمور النساء» ( ص.87).
كما انتقد البيروقراطية ما يتسبب عنها من معاناة للمواطنين، وطالب بالاهتمام بالمهمشين الذين يعيشون تحت خط الفقر، وكذلك بالاهتمام بتعليم اللغات الحية والتشجيع على الحوار الدائم مع الآخر لتكون لنا ذات قوية واثقة من نفسها ومنتجة وليست مستهلكة وأن تفرض نفسها في النقاش وفي اختيار المصير الذي يناسبها.
ينتهي الكتاب بتخصيص فصل لزوجته الأستاذة شمس الدين، رحمها الله، التي كانت من بين اللواتي عملن على بعث الصحافة النسوية في السعودية، بحيث نقرأ شذرات من سيرتها الذاتية حيث تؤكد على أن اسمها الحقيقي هو شمس أحمد الحسيني وشمس خزندار هو الاسم الفني الذي أكتب به ولقد ولدت في القاهرة عام 1940 في حي منطقة العتبة ..» ( ص.321) وهي مثل زوجها اهتمت بميادين فكرية مختلفة، وأنها ترى بأن ما ينقص المرأة هو هامش الحرية وخصوصا حرية التعبير، وافت الأستاذة شمس خزندار المنية شهر أغسطس 2012، تاركة وراءها مقالات وكتابات في مختلف شؤون المرأة أو بالأحرى شؤون الإنسان.
صدر للأستاذ عابد جابر الكتب التالية:
– الإبداع في القاهرة، عن الهيئة العامة للكتاب 1988
– حديث الحداثة ، .- القاهرة: المكتب المصري الحديث.- 1990
– قراءة في كتاب الحب.- الرياض: منشورات الخزندار.- 1991
– رواية ما بعد الحداثة .- الرياض: منشورات الخزندار .- 1992.
– أنثوية شهرزاد.- القاهرة: المكتب المصري الحديث.- 1996.
– معنى المعنى وحقيقة الحقيقة .- القاهرة: المكتب المصري الحديث.- 1996.
– مستقبل الشعر موت الشعر.- القاهرة: المكتب المصري الحديث.- 1999 . هذا ناهيك عن الترجمات التي تطرّقنا إليها أعلاه.
الجدير بالذكر أن أعمال الأستاذ عابد خزندار قد ترجمت إلى العديد من اللغات، بالأخص اللغة الألمانية، كما احتفي به كضيف شرف في معرض فرانكفورت للكتاب سنة 2005. وكانت أعماله محورا للعديد من الدراسات الجامعية وتعرّض لها الكثير من النقاد والدارسين، خاصة وأنه يمثل أحد القامات في الفكر السعودي مثل غازي القصيبي، وتركي الحمد وعبد الكريم الجهيمان، وعبدالله الغذامي وغيرهم كثير، وهو يواكب الإصدارات الحديثة ويكتب عن بعضها في زاوية مقاله الاجتماعي المعروف (نثار)، الذي يكتبه بشكل يومي في الصحف السعودية. هذا علاوة على اهتمامه بالرسم والموسيقى ندرج شهادته التالية التي تلخص هذا الاهتمام «أنا مولع بالموسيقى، وعندي مجموعة موسيقية خصوصا الموسيقى القديمة، وأحب الموسيقى العربية أكثر من السيمفونيات الغربية.. والسيمفونية الغربية أعدها مثل الشعر الجاهلي الذي لا يمكن فهمه من المرة الأولى، ولا بد من تكراره لاستيعابه، وهكذا هي بعض الموسيقى السمفونية..مثل اللوحات الفنية، وعندما شاهدت الموناليزا لأول مرة، لم أجد فيها إثارة أو غرابة، ولكن بعدما درست الفن، وأخذت دورة بعنوان ( كيف تقدر الفن) تغيّرت رؤيتي، وأصبحت أرى أشياء جديدة وعناصر فريدة» ( ص.105).
في الحقيقة إن أغلب الشهادات التي أثبتها المؤلف في الكتاب هي لكتاب سعوديين وهو شيء مهم، لكن وللأسف لا نجد وجهة نظر الكتاب والنقاد العرب ونظرة الآخر الغربي ، ولو كانت موجودة لأثرت الكتاب وأعطت جوانب أخرى، ربما لم يستطع، أو لم يرد أن يهتم بها كل من شارك في هذا الكتاب، فمثلا لا أحد تطرّق وبشكل تحليلي إلى أدب السجون في السعودية وأثره على هؤلاء الكتاب، وخاصة أستاذنا الذي وضع على الهامش مدة طويلة من الزمن، وحتى هو لم يتعمّق فيها وكأنه يتحاشى الحديث عنها، ربما لصعوبتها أو هربا من الخوض في معامعها، يضاف إلى ذلك غياب النقد الموجّه له من قبل بعض النقاّد والأكاديميين كون أن بعضهم يرى بأن كتاباته عدائية ، ولا تمت بصلة للبحث الأكاديمي بشيء من هذه الجوانب وغيرها نتمنى تداركها مستقبلا لكي تقدّم نظرة موضوعية جادّة حول الأستاذ عابد خزندار الذي ، هو نفسه، يدعو إلى الحرّية وإلى النقد البنّاء، وأن بعضهم يرى بأن «صعوبة منهج عابد خزندار في كتاباته النقدية، وهذه الصعوبة تتأتى من تعقد لغته النقدية من ناحية، ولظاهرة الاستطراد وعدم التوثيق من ناحية أخرى» هذا ما أكده الباحث السعودي أحمد بن سليم العطوي في رسالة الماجستير التي ناقشها حوله بجامعة مؤتة عام 2008، كما يلاحظ قلة أو عدم إدراج اسمه ومؤلفاته في البيبليوغرافيات أو الكتب المرجعية الوطنية أو العربية .