أولا: كتابة جديدة أم حساسية جديدة؟! (1)
تبدو لي مهمة استقراء عدد كبير من النصوص الإبداعية العمانية المنشورة عبر صفحات أحد الملاحق الثقافية، وهو ملحق «شرفات» الأسبوعي التابع لجريدة «عمان»، على مدار عام كامل أمضاه الباحث متجوّلا بين الصحافة الثقافية والمنتديات وأروقة النادي الثقافي الذي يستقطب الكثير من المثقفين والكتَّاب من جيل الرواد وجيل الوسط وجيل الكتّاب الجدد (أو لنقل: المغامرين الجدد)، بالإضافة إلى استقراء عدد غير قليل أيضا من النصوص المطبوعة المتنوعة ما بين مجموعات شعرية وقصصية وروايات ونصوص مسرحية ونصوص مفتوحة، فضلا عن حوارات شفاهية، وثرثرة أحيانا، حول قضايا الثقافة والكتابة العمانية مع أصدقاء وصديقات، بهدف التعرف على طبيعة المجتمع والثقافة العمانية، ومن ثم إمكان كتابة مقاربة (أو مدوّنة) نقدية ذات استقصاء بانورامي يهدف إلى إدراك التشابهات والاختلافات..
أقول: تبدو لي هذه المهمة أمرا بالغ الصعوبة، حيث تتضمن أعداد «شرفات» وحدها، في الفترة من أغسطس 2008م حتى أغسطس 2009م، قطاعا كبيرا جدا من النصوص الجيدة التي سوف نحلّل بعضها في ثنايا هذه الدراسة. ولا يعني هذا الاستهلال فرارا من جدوى التجربة أو المحاولة ذاتها، أو تقليلا من أهميتها، وفاعليتها، بل هو بالأحرى إدراك لخصوصيتها وغوايتها، وما يمكن أن يعترضها من مزالق. لقد كان الدافع الأساسي إلى كتابة الباحث مقالا شهريا مطوّلا تحت عنوان «قراءة في نصوص من الأدب العماني» في الأربعاء الثاني من كل شهر هو تدشين نص نقدي يسعى إلى تحقيق أمرين:
أحدهما: تحليل جماليات الكتابة العمانية الجديدة في سياقها الإبداعي العربي بصفة عامة من ناحية، ثم وضعها في سياقها الأعرض المتأثر ببعض تيارات الإبداع العالمي من ناحية أخرى.
وثانيهما: عدم خضوع النص النقدي لوظيفة المتابعة الصحفية التي قد تركن إلى مبدأ الاستسهال أو التعميم، بل محاولة الباحث الجادة رصد تمرّد هذا النص النقدي على نفسه، بهدف استكناه ما يعتور داخل نصوص الأدب العماني الجديدة من طاقة خلاقة وخيال حرّ وتقنيات متجدّدة.
ثانيا: شعرية تضاد أم إزاحة أم تجاور؟
لقد ارتبط مفهوم الشعر دائما بوصفه «ديوان العرب»(2)، لذلك كُتِبَ عليه أن يدخل معارك وحروبا ثقافية ودينية لا ناقة له فيها ولا جمل، بل من أجل إثبات الذات والبحث عن هوية خاصة. أقصد هوية شعرية تستطيع أن تلتقط النغمات المتنافرة للزمن الحديث كما فعلت الرواية وفنون القصّ بصفة عامة في أزمنتنا الراهنة. ومن الغريب أن يهتزّ كيان الشعر العربي ويدرك الشعراء المعاصرون خطورة الموقف وخطورة وجودهم ذاته بمجرد أن ذهب بعض النقَّاد والمبدعين العرب (نجيب محفوظ، علي الراعي، جابرعصفور)(3) إلى وصف عصرنا بأنه «عصر الرواية»، وأن زمننا الراهن هو «زمن الرواية وليس زمن الشعر»؛ لأن الرواية قد أصبحت من أكثر الفنون والأجناس الأدبية قدرةً على تجسيد تناقضات الزمن الحديث، وراحت تعبّر عن صراعات الإنسان المعاصر وتحولاته وأزماته في شتّى مجاليها، فالرواية كانت – وسوف تزال، مثلما وصفها ميخائيل باختين – «ملحمة العصر الحديث»(4).
من هنا، أصبح الشعر الحديث بصفة عامة والشعر العربي بصفة خاصة في مأزق لا يحسد عليه، وهو مأزق غدا معه الشعراء العرب المحدَثون مطالَبين بطَرْق أبواب التجديد سواء على مستوى الشكل أو المضمون، فتخلّص البعض منهم من شكل القصيدة العمودية وثاروا عليه وانخرطوا في قصيدة التفعيلة بدعوى أن الحداثة «شكلٌ» قبل أن تكون «مضمونا» دون أن يدركوا أن جوهر الشعر هو «الشعرية»، وراح البعض الآخر منهم يمارس الكتابة في الشكلين الشعريين – العمودي والتفعيلة – كمن يقبض على العصا من الوسط، وانفرد الأقلية منهم بمحاولات التجريب في أرض بكر، مترنّحين ما بين النجاح تارةً والإخفاق تارةً أخرى حتى انبثقت قصيدة النثر العربية من بؤرة المشهد الإبداعي الشعري العربي المعاصر، وأصبح لها شيوخها ومريدوها ونقَّادها. ما نقصد إليه من مغزى هذا «الرطان» النظري – ونحسبه لن ينتهي ما دام الإبداع العربي متجدّدا؛ لأن التغيّر هو سنّة كونية مرتبطة بوجود الإنسان ذاته ما دام حيّا وفاعلا، وصراع الأجيال والأفكار والمفاهيم، وحتى صراع الأنواع أو الأجناس الأدبية، موجود كذلك – هو التأكيد على الوعي بخطورة مفهوم «الشعرية» أو «الأدبية» أو «البويطيقا Poetics» الذي يتسامى فوق صراع الأنواع والأجناس؛ لأنه جوهر كل أدب سواء كان شعرا أو سردا، كما أنه مفهوم يتسامى فوق كل تراتب زمني أو تعاقب تاريخي.
في هذا السياق، راحت القصيدة العربية المعاصرة تتلوَّن في أشكالها كالحرباء كي تعبّر عن صراعات الإنسان المعاصر وتحولاته وأزماته في شتّى مجاليها، فاهتمت بالإنسان متعدّد الأبعاد بالطبع، إنسان آينشتين والنسبية والفانتوم والاستنساخ، الإنسان الذي أنتجته فلسفات الحداثة وما بعدها، وليس الإنسان ذو البعد الواحد – إذا استعرنا عنوان كتاب هربرت ماركوز – الذي كانت ترسّخ له المجتمعات والفلسفات السابقة. لكنّ ما أخفق «كثير» من الشعر في تحقيقه نجح «بعض» فنون السرد في التعبير عنه وتفجيره وتثويره. من هنا، أصبح الشعر الحديث بصفة عامة والشعر العربي بصفة خاصة في وضع مأزوم معقّد.
لكنّ الظاهرة اللافتة للنظر حقًّا بالنسبة إلى مَنْ يتأمّل المشهد الإبداعي العماني هي توجّه كثير من الكتّاب والكاتبات – في بداية تكوّنهم الإبداعي – نحو أرضية الشعر العربي المترامية الأطراف، ثم نراهم ينتقلون شيئا فشيئا إلى فضاء الرواية والقصّ بعد إصدارهم الشعري الأول وربما الثاني على الأكثر، ولا يعودون إلى رحم الشعر إلا على استحياء بين لحظة وأخرى. وقد يستشعر الباحث من وراء هذا التوجّه نحو جنس الشعر في البدايات – في بعض الأحيان – سَبْقَ الإصرار والترصّد، حيث يسقط بعضهم على أرض القصيدة العمودية بجلال الشاعر الذي «هبط الأرض كالشعاع السّنيّ بعصا ساحر وقلب نبيّ»، ويقع الثاني في هوى قصيدة التفعيلة فيطارحها غرام الكتابة المتحرّرة وفتنة إيقاع المدينة المراوغ التي هي «مدينة بلا قلب» – بتعبير الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي – في أغلب الأحوال، بينما يأبى الثالث إلا أن ينهل من رحيق قصيدة النثر ويكتوي بغوايتها القاتلة المقتولة، غواية اللَّعِب من حيث هو كتابة، والكتابة بوصفها «بنيةً وعلامةً ولَعِبًا»(5) كما كان يقول جاك ديريدا، منظِّر التفكيكية الأول، جزائري الأصل، فرنسي الجنسية. لكنّ ثمة سؤالا إشكاليا يظلّ معلّقا: لماذا يلجأ المبدع إلى اختيار جنس أدبي بعينه دون غيره؟ هل هي حاجة جمالية فحسب؟ أم حاجة اجتماعية وثقافية؟ أم هما معا؟
تسعى القصيدة العمانية بدأب إلى حفر مجرى شعري خاص بها، يضعها إلى جوار ازدهار – أو «انفجار» – السرد العماني المعاصر، سواء أصابت هدفها في بعض الأحيان وأخطأت في البعض الآخر، بحثا عن قيم جمالية وتشكيلية مغايرة تضعها على خارطة الأدب العربي. من أجل ذلك، ترتكن القصيدة العمانية إلى بعض الاستراتيجيات التي يجب أن نقف عند بعضها بشيء من التحليل والتأويل:
أ- القصيدة بوصفها أنثى(6):
يتمثَّل الجامع المشترك بين نموذجي عبدالله الكعبي وخالد المعمري الشعريين اللذين نودّ تناولهما هنا نقديا، وباختصار، في تعاملهما مع مفهوم القصيدة بوصفها أنثى. فأول هذين النموذجين قصيدة لعبدالله الكعبي بعنوان «خمسة نداءات لا تكفي لإرجاع طائر». وأول ما يلفت النظر هو هيمنة صفة الأنوثة الطاغية على عناوين المقاطع الشعرية التي تحقق وظيفة الاتصال/الانفصال في آن: نداء أم، نداء وطن، نداء امرأة، نداء حنين، نداء قصيدة. فالأم والوطن والمرأة والحنين والقصيدة كلها وجوه متعددة لأنثى القصيدة أو لقصيدة الأنثى بلا فارق كبير.
لكن الاستراتيجية الشعرية التي تنهض بها قصيدة الكعبي هي التناص الذي ينفتح معه باب القصيدة على مصراعيه ليحيل القارئ إلى تراث لغوي وعربي وديني ممتد، ينبغي استحضاره من ذاكرتنا القرائية من أجل استنطاقه ومحاورته، حيث يتعامل الكعبي مع صورة المرأة عبر تراث ديني وثقافي قديم يضعنا في مواجهة المرأة الأولى (حواء) في علاقتها المرتبكة بالرجل الأول (آدم)، مستعيرا عبارات قرآنية دالة، ومحاولا في الوقت ذاته خلق صورة جمالية للعاشق الذي لا تكبحه عوائق عن سعيه المحموم نحو اتّحاده بمعشوقه مهما كان بعد المكان أو عمق الزمن، ومهما كانت النتيجة، فالوصال هو الخلاص والملجأ والملاذ. يقول:
«هل امرأةٌ أخرجتك بتفاحتين
فغبتَ؟
أم الحب يبني صروح الرمال؟
سأحْطِم قلبي العنيد
وأرمي خيوط الكلام بسمّ الخياط».
وهو أمر لا ينفصل عن ما يصوره المقطع التالي بعنوان «نداء حنين» الذي يضع المتلقّي منذ الجملة الشعرية الأولى في تراث ديني يستعين بمفردات «البراق» و«اليمام» من أجل بلوغ منزلة أو مقام الوصل، الأمر الذي يضفي مسحة صوفية على النص:
«متى ستحنّ إلى سدرة المنتهى أو ركوب البراق؟
أعرّج عبر سلامي
لعل اشتياقك للقبلات وذكرى المكان
تحفّز فيك الرجوع».
أما ثاني النموذجين فهو قصيدة «لورا» لخالد المعمري، وهي قصيدة طويلة يتعامل فيها الشاعر مع المرأة أو الأنثى من حيث هي ذات مجرَّدة وغير قابلة للتعيين أو التجسيد. وهو أمر يضفي على مفهوم الحب معنى ترانسندنتاليا (متعاليا)(7) ينأى به عن التطابق مع امرأة بعينها. ولعل ما يؤكد المفهوم الترانسندنتالي للحب هو تردّد الصيغ الاستفهامية الكثيرة التي تنحو منحى استنكاريا واضحا:
ألكِ الفصول جميعها
ولنا انكسار حكاية في الظل؟
ولورا لا تجيب!!
كأنها عادت تفكّر
كيف عاشقةٌ يداعبها الصباح؟
كأنني ما كنت أسأل
كيف عاشقةٌ ويخجلها الصباح؟
لأنني حُمِّلتُ شيئا من أغاني العشق
من قاموسي المجنون
عادت تنسج الأصداء في صمتٍ
… … …
كم أرجوحةٍ قامت تغنّي باسمك الفضيّ
تخضرّ السطور بكل قافيةٍ
وأسأل: من لهذا الصبح إن جئنا
ولم نعثر على رسمين في دمنا؟!
ولورا
لا تجيب.!! (ص: 84-86)
لكن لورا، المرأة أو الأنثى «المطلق»، تلوذ بالصمت الذي ينتقل بها من كونها محض امرأة لها جسد مثير وأعضاء مغوية، مغرية، كغيرها من النساء الجميلات، إلى كونها رمزا أو أسطورة لم تتخلق سوى في مخيلة الشاعر فحسب. وهذان النموذجان الشعريان اللذان ذكرناهما أعلاه عند كل من الكعبي والمعمري – وهما من شعراء التفعيلة، بالطبع، إلى جوار آخرين مثل إسحق الخنجري ويحيى اللزامي وحسن المطروشي ومحمد الحضرمي وناصر البدري وغيرهم ممن يستحقون دراسة منفردة لهذا الجيل من شعراء التفعيلة – يمتحان من عالم صوفي أو يرتكنان في رؤيتهما للشعر إلى رؤية صوفية للعالم والمرأة، على الرغم من اندراج الأول تحت وطأة تراث ديني إسلامي يكاد يكبّله ومناوشة الثاني للمنظور الوجودي للعالم على استحياء. لكنّ الشعريتين في نهاية المطاف وجهان لعملة واحدة هي وحدة الوجود، أو وحدة الخلق، حيث العالم الأكبر هو العالم الفعلي الذي «كلما اتسعت فيه رؤية الرائي ضاقت عليه العبارة» كما يقول المتصوفة.
ب- رمزية الشجرة:
في قصيدته «أشجار»(8) ذات النَّفَس النثري الواضح، رغم تمسّكها بالشكل التفعيلي غير المبرّر، يتعامل صالح العامري مع ثيمة «الشجرة» بوصفها معادلا لرمزية الحياة في تدفّقاتها المتعددة والمتباينة. ومن يتأمل عناوين مقطوعاته الشعرية (شجرة الرمَّان، ملكوت القوة، شجرة الحياة، الشجرة الضالّة، عيون الأشجار) يلمح تأثّر الشاعر بالتراث الديني الذي يصل دال «الشجرة» بسياق الحديث عن الخلق الأول والجنّة، حيث شجرة الخلد، وحيث الجنة خيال لامتناهٍ أو فضاء لامحدود: ففي الجنة «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». وهنا، يضفي العامري على «الشجرة» استعاراته الشعرية المتنوعة. ففي مقطوعته «شجرة الرمَّان»، يتم استدعاء الشجرة بوصفها ظلاًّ يستظلّ به العاشقون، ثم تكتسب صورتها بعض الملامح الدنيوية؛ إذ ان ظلّها يشهد على تأوّهات العاشقين المذبوحين، بحيث يرسم هذا المقطع هيمنة للإيحاءات الجنسية للصورة الشعرية التي لا يمكن استبعادها بحال من محيط الدائرة التأويلية:
«أنا الذي لا يسترني إلا
ندف ناركِ الرعوية
لا يبلّلني إلا زبد شهوتك العارية
تحت شجرة الرمّان
التي لا أراها الآن في مكانها
وأراها كشجرة الغيب
تظلِّل المذبوحين بالعشق
شجرة الرمَّان التي أغويناها سويا
فتأوّهت
في رعشة الأجساد
الناهضة كعيد أزرق».
لا يخفى بالطبع ما يحدثه المقطع الشعري من تفاعل نصّي مع شجرة الخلد التي كانت سببا مباشرا في غواية آدم وحواء وكانت سببا في هبوطهما – أو طردهما – من الجنة. فالشجرة، في سياقها التراثي الديني والعربي، مُغوية لآدم وحواء؛ أي أنها فاعل الغواية، ولو بوازع إبليسي، لكنها عند العامري مفعول لها، أو بها، حيث أغواها العاشقان فراحت تتأوّه مع رعشات أجسادهم.
تستمر مفردات الصورة الشبقية بتجلياتها المتعددة عند العامري معادلا لصورة شجرة الحياة. ففي التقاء الذكر بالأنثى بعثٌ للحياة وتجدّد لها، وخلود بلا موت:
«أيتها العافية
المضاءة كقنديل
في عتمة المصادفات
انتزعي شوكة الصبر عني
واتبعي نسائم الموت
كفراشة سدّدها التيار إلى الهاوية
هنالك تصادفين
ملكة الروح
المتوّجة بالزنابق
وأكاليل الغار
هنالك تحزم النهايات أمرها
في رذاذ دائم
شبق ومعسول.
هنالك أيتها العافية
ستتفتّح حدقتاك
على الشجرة التي لا تموت».
هكذا، تؤكد قصيدة العامري، في جرأة تكاد تتفوق، أحيانا، على شعرية الكتابة وجمالية القصيدة، مركزية رؤيته للجنس بوصفه معادلا للحياة وفعلا خصبا من أفعال الوجود والخلق. وهي رؤية تمتاح من فضاء حداثي بالقطع، تكمن في قرارة القرار من قصيدة العامري، ولا يشوبها إلا هشاشة بعض الجمل الشعرية وارتباك المقطع الأخير الذي يبدو لي مبتورا وقلقا، ربما بسبب خطأ طباعي أو فنّي، حيث يقول:
«شجرة الهواء
حين فَنِيَ التراب من الأرض
أورثني أن أتعلق
في شجرة الهواء
عيون الأشجار
أنحني للبذرة
لأنها تذرف عيون الأشجار».
ج- كهف المعنى:
في قصيدته التفعيلية ذات الإيقاع الواضح المعنونة بعنوان «في سبيل الشمس»(9)، يتعامل خميس قلم مع وجه آخر من أوجه التناصّ الشعري، حيث تتفاعل قصيدته مع مضمون قصة «أهل الكهف» من حيث هم نموذج للمنفيين أو الهاربين من بطش التاريخ وأزمنة الاستبداد في عهد دقيانوس المضطهد للمسيحية، إذا تذكّرنا درامية «أهل الكهف» لتوفيق الحكيم. لكن مَنْفيّي خميس قلم يختلفون عن منفيّي أهل الكهف في كونهم ينتمون إلى زمن معاصر. إنهم فتيةٌ آمنوا بقدراتهم البشرية وازدادوا صلابةً فوق صلابتهم حيث راحوا يسعون إلى تحقيق المحال. فلا محال أمام قدرة الإنسان الفاعل في المكان والتاريخ:
«حملوا رائحة الطين وساروا للجبالْ
كي يصيدوا الشمس في مكمنها
ويعودوا بالمحال
من بلاد دمها ثلج سَرَوا
في سبيل الشمس غابوا
خمسةً كانوا وكلبًا يَقْتَفِي
حجرَ الدفء وآثارَ الظلالْ».
تتناول القصيدة، كما نرى، مجموعة من البشر المغتربين في أرض لا ينتمون إليها، لكنهم في الوقت ذاته لا يألون جهدا في بذل عرقهم من أجل تحقيق ما قد أتوا من أجله على أرض الواقع. إنهم قادمون من بلاد ثلجية، أوروبية المناخ، قاصدون بلاد الشمس ذات الصحراوات الممتدة، أو بلاد النفط. لكنّ ما جمعهم هو وحدة الهدف، كما سوف يجمعهم مصير واحد هو قدَر الغرباء:
«في سبيل الشمس غابوا
شقَّقَتْ أقدامَهم أحلامُهم
لا يزالون يسيرون ولم ينتبهوا
أن خيط النور يغويهم إلى أرض الرمال
كم يحنّون إلى برد لياليهم وهم
يتهادون عطاشا
بين رمضاء التلال».
إن الملاحظ على قصيدة خميس قلم القصيرة، رغم ما تنطوي عليه من جمال الفكرة وطرافتها، هو لهاثها خلف الإيقاع الذي يكاد يسبق الصورة الشعرية ولا يعقبها، الأمر الذي يضفي بعض الغموض على مفردات الصور الشعرية وعلاقاتها ببعضها البعض، فتقع القصيدة، إلى حد ما، في شكلية واضحة.
د- الشرق بوصفه محض امرأة:
في قصيدتها التفعيلية ذات الإيقاع الجليّ التي تحمل عنوان «امرأة واحدة لا تكفي»(10)، تطرح سعيدة خاطر الفارسي تصورا استشراقيا للعالم الذي تكتب عنه أو «تكتبه» إذا أردنا الدقّة، حيث ترى الشرق محض امرأة؛ أقصد إلى أن مرجعيات هذه الصورة الشعرية ذات جذور استشراقية قديمة أرساها كثير من المستشرقين الذين عرفوا الشرق وراحوا يذيعون أفكارهم عن أن المرأة الشرقية لا صوت لها مطلقا يمكن أن يعلو فوق صوت الرجل (الذكر)، في الوقت نفسه الذين ينظرون نظرة اختزالية ترى في المرأة المرأة الشرقية محض امرأة ساحرةً، ذات جمال أخّاذ لا يضاهَى. لقد أصاب تناقض هذه الصورة الاستشراقية للمرأة العربية قصيدة سعيدة خاطر التي راحت تصف المرأة في شرقنا بكونها امرأةً خُلِقت لكل شيء، ومن أجل كل شيء:
«النساء في شرقنا..
للنسل للحرث للبهجة للبهاء
امرأة واحدة لا تكفي لاستحلاب الشفاء».
تستعين القصيدة بمفردات قرآنية واضحة (كالحرث والنسل، قصة موسى والسامري، فرعون مصر ويوم الزينة، … إلخ) من أجل إضفاء مرجعية دينية وتراثية تدعم وجهة النظر التي تنسرب في ثنايا القصيدة، والتي يجب الوقوف عندها بشيء من التفصيل. ربما يبدو للقارئ للوهلة الأولى أن القصيدة أشبه بـ»مانيفستو» قد يصدر عن تجمّع نسائي بهدف مناهضة الأفكار الذكورية التي لا تزال تحكم مجتمعاتنا العربية، والشرقية بشكل عام، في النظر إلى المرأة، لكن الأمر من وجهة نظري يتجاوز هذا الإدراك المحدود لأبعاد القصيدة جماليا ورؤيويا. لذلك، حملت قصيدتها ما يشبه ثنائية الصوت (صوت المرأة/ صوت الرجل)، لكنها ثنائية صوتية لا توحي بتعدّد الرؤى أو وجهات النظر التي تصدر عنها الأصوات، بل تكشف عن وحدة في الرؤية الجمالية والفكرية تنبع من وجهة نظر نسوية مناهضة لوجهة نظر الذكر، البطريارك أو الأب الأوحد، الذي طالما كان سببا في تغييب دور المرأة العربية وتهميشه قرونا طويلة:
«النساء في شرقنا
للثكل.. للترمل.. للقهر.. للتكحل
بقصائد الخنساء.. ومحبرة الرثاء».
وفي مقابل صورة المرأة المقهورة، المغلوبة على أمرها، يحضر الرجل الشرقي بثقله ومحمولاته الثقافية والدينية والاجتماعية. لكنّ الغريب أن يتمّ استدعاؤه بحسّ يملؤه التعاطف، لا النِّقْمة والحنق، كما هومتوقّع:
«الرجال في شرقنا..
للحرب للهمّ للسجن لنزف الكبرياء
امرأة واحدة لا تكفي لترميم هذا الشقاء».
هكذ، يقع الرجل والمرأة في مجتمعاتنا تحت مطرقة القهر الضاربة جذوره في أعماق التاريخ. لذلك، سيكون الموت في شرقنا «غابة تتكاثر فيها الهموم»، ويصبح كالوليد الذي يكبر ويكبر حتى يشبّ عن الطوق وينجب أطفالا من قهر لامتناهٍ لن يكتفي، بطبيعة الحال، بامرأة واحدة للقضاء عليه أو حتى للتخفيف من حدّته؛ لأن الموت أبدي يبلغ يوم القيامة:
«الموت في شرقنا حيّ لا يموت
يتكاثر وحده يعمر البيوت
يؤثّث بجثثنا مقابر الفناء
امرأة واحدة لا تكفي لدفن هذا البلاء».
وعلى الرغم مما قد يبدو للقارئ من أن قصيدة سعيدة خاطر تحمل وجهة نظر أنثوية أو نسائية في رسم معالم صورة المرأة العربية شعريا، فإن هذا التصور الذي أشرنا إليه مسبقا سرعان ما يتبدّد شيئا فشيئا ليتكشَّف لنا زيف الرؤية الاستشراقية ولاحتمية الرؤية النسوية؛ لأن ظرفنا العربي ظرف مختلف تماما، له خصوصياته التاريخية والحضارية، ووحدة القهر الشرقي والعربي من المحيط إلى الخليج لا تعترف بتفرقة نظرية أو فلسفية بين رجل وامرأة، أو ذكر وأنثى، فالكلّ في الهمّ العربي سواء.
ه- عن «الخَلْق»، و«مديح الكسل»:
في قصيدته النثرية القصيرة «ابتكار»(11)، يتعامل عبد الله المعمري مع امرأة تخلقها مخيّلته، راسما لها سمات وملامح بعينها، عبر مقطع وحيد بالغ الاختزال والتكثيف. يقول فيه:
«سأبتكر امرأةً من صدف البحر
وأمنحها عطرا وقحا
وأرشّ على عينيها طنّا من أسرار السحرة
ولأني سأموت من العشق
سأمنحها أيضا
قلبَ نبيّ
ولأني أرجع طفلا بين ذراعيها أمنحها
جبلين من العطف
وتلاًّ من قلق العشاق».
تمتاح صورة المرأة في قصيدة المعمري القصيرة من تربة عمانية واضحة المفردات والإحالات الجغرافية. فهي مخلوقة من أصداف بحرية في منطقة جبلية تشبه كثيرا جغرافيا المدن العمانية الساحلية الجبلية في آن. ولأن صدف البحر وحده ليس كافيا لبعث الحياة في المخلوق الصَّدَفي الجامد، فإن ذات الشاعر، الإله أو الخالق، سوف تمنحها – أو «تنفث فيها» – عطرا وقحا؛ أي عطرا دنيويا فيه وقاحة الدنيا ورخصها ونذالتها وخسّتها، وفيه إنسانيتها وغوايتها أيضا. لكنَّ كل ما سيقوم به الخالق، المبدع، حتى يصنع ما يريد على عينه – إذا استعرنا عبارات الكتاب المقدّس، من بداية «سفر التكوين» و»القرآن الكريم» في قوله تعالى لموسى «ولْتُصْنَع على عيني» – لا تكفي لضمان حياة المخلوق، أو المخلوقة. لذلك، سوف يرشّ عليها طنًّا من أسرار السحرة حتى يضمن لها البقاء عمرا مديدا سوف يمنحها مقام «الخلود». لكن صفة الخلود التي تضفيها قصيدة المعمري على المرأة تباعد ما بينها وبين خالقها، الإنسان، الذي سوف يمنحها قلب نبيّ حتى يبلغ اتّساعه اللامحدود ذاته، فتهوَى من تشاء ويهواها كل المخلوقات. أما مصير خالقها (الإنسان) فهو الفناء في العشق كفناء المتصوفة في ذات المحبوب الأوحد (الله)، أو على أقل تقدير تضاؤل الرجل العاشق إزاء المرأة المعشوق من منظور فرويدي يتحول معه كل رجل إلى طفل رضيع ينهال على صدر أية امرأة يقع في هواها؛ لأنه سوف يرى فيها امتدادا طبيعيا لأمه. وحتى تكتمل مفردات صورة الخَلْق شعريا، سيقوم هذا الطفل الرضيع بمنح امرأته جبلين من العطف وتلاًّ من قلق العشاق. وعلى الرغم من قِصَر القصيدة فإنها تتسمّ بكثافة الصورة الشعرية التي هي صورة تمثيلية من صور الخلق الذي كان على المعمري أن يسمِّي بها قصيدته دون مواربة، فتكون قصيدة «خلق» بدلا من «ابتكار»:
«سأخلق امرأة من صدف البحر
وأمنحها عطرا وقحا
… … … إلخ».
لكن تردّد المعمري وخوفه من تسمية قصيدته باسم «خلق»، ربما سدًّا للذرائع، أو اتّباعا لمبدأ «التقية»، لا يقلّل مما تتسم به القصيدة من قيمة جمالية. ومع ذلك، سوف يكون المعمري نفسه أكثر جرأة في مقطوعته التالية حين يصف امرأته، من حيث هي تمثيل شعري للمرأة العربية، بأنها «أكثر كسلا من طاولة الغرفة»:
«كفتاة ناضجة في العشرين
مترعة بالشهوة أو مثقلة بثمار الله
تغرس أطراف أصابعها في صدر أشعر
أو تمسح رأس الهرّ الرابض مثل ملاك
يتوجّب أن يتنازل هذا الكون الكامل عن ألعاب طفولته
من أجلك».
ولا يخفى، بالطبع، تلك الإشارات ذات المحمولات الجنسية الرمزية التي تلمّح ولا تصرّح، تكني ولا تفصح، فجسد المرأة حين ينضج بالشهوة أشبه بشجرة، أو نخلة، مثقلة بثمارها المدلاّة، وحين تتأجَّج بها نيران الشبق تغرس أصابعها في صدر الرجل الأشعر، ذي الملامح الصحراوية، أو البرّية، فتمسح جسدها في أعضاء ذكورته كمن يتمسّح بهرّ بالغ النعومة والإحساس بالدفء والحميمية. إنها امرأة سلبية، كسول، هي نتاج تصورات ذهنية شكّلتها ثقافة عربية رسَّخ لها تراثنا العربي القديم شعرا ونثرا:
«ولماذا تمضين سنينا كرشاء (بمخالب عطر شهوي)
عابثةٍ بحذاء العاشق
هل يتنازل عن كل حذاء يملكه ويضرب خيمته
في باحة دار أبيك
… … إلخ».
لكنها امرأة تجمع بين الكسل والشراسة، بما قد يومئ إلى تغيّر مفردات صورة المرأة العربية المعاصرة عن مثيلاتها في الحقب السابقة:
«تبدين امرأة أكثر كسلا من طاولة الغرفة
وأشرس من نار نفطية
الفارق أنك بيضاء أكثر من لون أبيض».
وقد تعني صفة البياض، هنا، في ظاهرها، إضفاء طابع إيجابي على المرأة العربية، من حيث الجمال أو النقاء، لكنّ الوصف ذاته ينطوي، في العمق، على بعض المحمولات السلبية كالخواء والفراغ وعدم القدرة على اتخاذ موقف أو قرار.
و- الذاكرة بوصفها وطنًا/ الوطن بوصفه ذاكرة:
في قصيدتها الطويلة جدا المعنونة باسم «ذاكرة المشيمة»(12)، تؤرّخ فاطمة الشيدي لوطنها، أو لنقل بلغة أدقّ: تؤرّخ لمفهوم «الوطن» بصفة عامة. لكنّ المفهوم المركزي الذي يتمحور حوله «وطن» فاطمة الشيدي هو «الذّاكرة»، من حيث هي تسجيل وتأريخ وجغرافيا في آن.
تنبني قصيدة «ذاكرة المشيمة» على عدد كبير من المقطوعات المتصلة المنفصلة في آن (24 مقطوعة). لكنّ كلاً منها يستقلّ بوجه وحيد من وجوه الوطن المتعدّدة؛ الأمر الذي يتحول بشعرية القصيدة من مدار قصيدة نثر تتحرك بخفة المجاز والخيال حول الأشياء والمفاهيم التي كنا نظن أنها مستقرة في ذاكرتنا (وما نحن إلا مخدوعون)، إلى مدار وثيقة أو مدوّنة تتغيّا التفصيل والتقصّي. لذلك، سوف تكثر المفردات التي تتخلق منها ذاكرة الوطن عند فاطمة الشيدي، بل هي بالأحرى «ذاكرة المشيمة» أو الرّحم الأول الذي لا يستطيع كل إنسان إلا أن يظل موصولا به، مهما ارتحلت به الذات في الزمان أو المكان؛ لأن القطيعة مع الرحم، أو الانفصال عن المشيمة، هي الموت عينه:
– وطني ذاكرة تتهجّى مفردات الحياة.
– وطني أصابع تعاقد أصابع الحزن في لحظة الفقد.
– وطني الأجساد البضّة تتعلَّم لذة العناق؛ إذ يتداعى الحنين.
– وطني أسرار الرمل الطاهرة مخبوءة في كريات الصحراء.
– وطني لغة السلام المرفرف كالأجنحة،
خارطة البياض المتمادي في عنفوان الفراغ.
– وطني غرف الذاكرة المطفأة إلا من بقايا سراج،
ولذّة عود شهيّ.
– وطني لكنة اللغات تختصر مسافات الحكي،
وتمدّ جسورا من البهجة بين الحروف،
… … … إلخ.
وعلى الرغم من تعدّد مفردات صورة الوطن في القصيدة، فإن ما يستوقف الباحث، في غرابة، هو الصورة الآتية:
«وطني أحاديث المطر تثرثر بين الحقول
إذ يحرسها (خيال المآتة) والعصافير تضحك
على أنفه، يأكله الدود فلا يستجير،
والأيدي يشقّقها الغبار على مقربة من السماء؛ إذ
ترتفع بالدعاء.
والساقية تدغدغ الأناشيد فتعلو في بهجة المزامير».
لا أعلم في حقيقة الأمر ما علاقة هذه الصورة شديدة المصرية – التي ذكّرتني بقصائد صلاح جاهين الأولى من ديوانه «القمر والطين» كما ألقت بي في قلب قصائد فؤاد حدّاد وعبد الرحمن الأبنودي، وكثير من أجواء قصائد شعر العامية المصري – بذاكرة المشيمة أو ذاكرة الوطن عند فاطمة الشيدي. وليست هذه نظرة شوفينينة تتكئ عليها مرجعيات القراءة لدى الباحث، بل أقصد إلى أن مرجعية الصورة الشعرية تمتاح، هنا، من بيئة مختلفة، بيئة زراعية بالأساس فيها «خيال المآتة»، و»الساقية» و»المزامير»، بحيث تبدو لي مفردات الصورة لا تتصل إلا بقطاع صغير من قطاعات الجغرافيا العمانية.
قد يتراءى للباحث أن هذه القصيدة كُتِبَتْ من خارج الوطن، إذا استدعينا عنوان مذكرات إدوارد سعيد Out Of Place، بحسّ نوستالجي واضح يوازي إحساس المنفيين والمغتربين، حيث تتضامّ مفردات صورة الوطن وملاعب الصبا والشباب وتنشط الذاكرة الشخصية والذاكرة القرائية أيضا، وتتحول صورة البيت المتواضع، على مستوى الواقع، إلى «جنّة» تسكن قاع المخيّلة، ولا يمكن استئصالها بحال. إنها كتابة تقوم – كما سبق أن ذكرنا – على منطق التداعي الحر أكثر من كونها كتابة إبداعية تخلص لمفهوم الجنس الأدبي الذي يؤطّرها، شعرا كان أو نثرا.
لا تزال القصيدة العمانية الجديدة تسعى إلى تلمّس جماليتها، في إطار غنائية محبّبة إلى النفس بالنسبة إلى الكثيرين من كتَّاب قصيدة التفعيلة، تحديدا، ومتذوقيها. فالشعراء «دافئون كقصيدة»(13) كما تخبرنا بدرية الوهيبي؛ لأن:
«الشاعر جسم نوراني
لا يعشق إلا الأسماء العظمى
… … …
الشاعر وطن شبحي
لا يعرف غير السير إلى أرض الكلمات
ينـزف
حرفا حرفا
فلتهدأ روح الليل
وروح القبر
وروح الشاعر
وليبدأ هذا الآن يصلّي
كي تنبت في الروح
قصيدة».
لكنّ غنائية القصيدة عند بدرية الوهيبي يوازيها تحرر وانعتاق الكتابة من أسر الإيقاع، حيث ترتمي في أحضان نثرية الشعر أو شعرية النثر التي تحمل هموم الإنسان المعاصر في قصيدة قصيرة جدا لعائشة السيفي عنوانها «عن صديقٍ ضلوعه الطريق»(14):
«جامحا كنبيّ الفراشات
دعه يرتّب ما يشتهيه المدى للمدى
والصديق لما يشتهيه الصديق
قل له:
إن قلبك يا صاحبي قد تضيق الكمنجات عنه
ولكنني لا أضيق».
هكذا، تتجاور «الشعريات» في مدوّنة الشعر العماني، دون أن تزيح إحداها الأخرى، كما سوف تتجاور السرديات وتتقاطع في فضاء أدب عماني جديد يطّرد يوما بعد يوم، واعيا بخصوصية تجربته ومحليتها، غير غافل أبدا عن إدراك التغيّرات الجمالية والثقافية التي تطرأ على الإبداع العربي بصفة عامة.
ثالثا: سرديات قصصية جديدة:
تسعى القصة القصيرة العمانية بدأب، عبر كتَّابها وكاتباتها الجدد، إلى إدراك جماليات وقيم فنية وتشكيلية تحاول أن ترسّخ أقدامها في أرض الكتابة الإبداعية القصصية العربية الممتدة منذ سنوات وسنوات. ولأن فنّ القصة القصيرة فن بالغ التعقيد والاختزال والتكثيف، فضلا عن عدم استجابته لشكل جمالي بعينه أو قيود نوعية بعينها، إذا ما فكرنا في نظرية الأنواع الأدبية بدءا من أرسطو في حديثه عن الفن الدرامي والفن الغنائي والفن الملحمي، وليس انتهاء بناقد مثل ميخائيل باختين حين، كان يتحدث عن «الأسلوب بوصفه النوع» – فإن كل قصة قصيرة متميزة في حد ذاتها تستطيع أن تخلق قانونا (أو «أورجانون») يمثّل مدخلا جيدا للناقد أو القارئ الخبير Super Reader، كما يقول أصحاب نظريات القراءة والتلقّي.
أ- سردية الحلم:
في قصته «مكان آخر تملؤه الخضرة»(15)، يتعامل معاوية الرواحي مع الحلم بوصفه مدخلا سرديا رحبا يمكن أن يخفّف من وطأة الواقع الغريب والمتناقض والمؤلم. فالراوي شاب يسكن مع أمه في بيت متواضع، وإلى جواره مساحة أرض خلاء هي عبارة عن فناء يحيط به سور، يستخدمه الأطفال لممارسة اللعب، في حين يستخدمها الأهالي مقبرةً لدفن الموتى من صغار الأطفال. يحلم الراوي الشاب بحياة رغدة يصبح فيها مسؤولا عن شركة اتصالات معروفة، ومدرّبا في الوقت نفسه للمنتخب الوطني لكرة القدم. وتكون الأم سببا في إقامة علاقة بين الراوي وفتاة تُدعَى «زينة»، ابنة الجيران، التي أكملت تعليمها وراحت تعمل مدرّسة بإحدى المدارس. لكن زينة تسقط في الخطيئة قبل أن تتزوج من الراوي الذي يجد نفسه مرغما- تحت إلحاح أمه – على حمل المسؤولية عنها بدلا من أبيها الذي كان مسافرا للخارج بحثا عن المتعة والنساء. يكتشف الراوي في نفسه حبا عميقا لزينة ابنة الجيران وتعاطفا معها في الوقت ذاته، كما يكتشف أمر المقبرة العجيبة التي تقع بجوار بيتهم، ولم يكن يعلم عنها شيئا من قبل طوال تلك السنوات؛ لأنه كان يتصورها – كغيره من الصبيان – مجرد حديقة جرداء لا نفع فيها.
تبدو حبكة القصة عند معاوية الرواحي حبكة بسيطة من الناحية التقنية، لكن إضفاءه بعض اللمسات الغرائبية إلى حد ما بحيث يتداخل الواقع والحلم، في فضاء القصة، أمر من شأنه أن يخفف من ضيق الحيّز أو الفضاء المغلَّف بطعم الموت الذي تتناوله القصة: فالأرض المجاورة للبيت مليئة بالأشجار الخضراء المورقة طوال العام كأنها الجنة التي لا تذبل أبدا، كما تقول أمه:
«سبحان الله. هذه الأرض لا ماء يسقيها ولا مطر يسقط، ولكنّ أشجارها دائمة الخضرة. لابد أن ذلك لطف من ربك بالأطفال المدفونين بها. والله لو لم يكن بها غير الأطفال لما كانت الا سيحاً مقفراً».
مثل هذه الصورة السردية-الوصفية تضفي لمسات غرائبية لأرضٍ هي الجنة والمقبرة في آن، فالأطفال حين يموتون صغارا – في التصور الشعبي عند أغلب المجتمعات العربية – يتحولون إلى عصافير تحلّق في سماوات الجنّة:
«قومي فإن الله سيجعل منه طيرا من طيور الجنة. قومي يا امرأة ووحِّدي الله».
لكنَّ الراوي سوف يتحوّل بدوره، في نهاية المطاف، إلى حفّاَر للقبور أو إلى «دافن موتى»:
«غرستُ أصابعي في قطعة اللحم. أمسكتُ قطعة اللحم واحتضنتها بهدوء. رجوت الله أن ينقذني وأن يسامحني. قرأت سورتين فسكنت قليلا».
يذهب الراوي إلى المقبرة ليدفن الجنين، ابن الخطيئة، وابن زينة أيضا، في باطن الأرض، خلاصا من العار الذي سوف يلحق بمحبوبته زينة:
«بدأت أحفر بهستيرية وجَلَد. لدغتني عقرب صفراء وانسلت هاربة وببطنها عقارب صغيرة . مررت بجوار أفعى هرست رأسها بحجر وعدت للحفر (…) انفجرت الأسئلة في رأسي ولم أعد أعرف ما الذي ينبغي أن يُفعل بالميت. وهل هو ميت ؟ أم أن روحه لم تخلق بعد ؟ وهل أضع رأسه باتجاه القبلة أم العكس؟ طوفان من الأسئلة قاطعه بكاء ضئيل (…) رأيت يدًا بضة صغيرة تخرج من اللفافة وتزيح الملاءة بغضب، علا الصراخ. شعرت بالصمم من علوه. سمعت الطفل يصرخ، ويشير إليَّ ببنانه».
لم يكن ثمة سبيل أمام الراوي الشاب سوى دفن الجنين ودفن صوته معه، في مشهد تراجيدي ينـزّ كآبة ومرارة.
يضفي مثل هذا الفعل الذي يقوم به الراوي على القصة أبعادا واقعية تؤكّد على أن ما يواجهه البشر من مشكلات وآلام ومعوقات لابد من مواجهته بحزم وصلابة مهما كان الثمن، كأن لدغة العقرب الصفراء للراوي (لاحظ دلالة اللون الأصفر التي تتضاد مع هيمنة اللون الأخضر في فضاء القصة) ردّ لاعتبار هذا الجنين الذي لا ذنب له في دخول الحياة لثوان معدودات ثم الخروج منها بهذه الطريقة المأساوية. لذلك، كانت أشجار المقبرة تخضرّ مع تردّد صوت المؤذّن، بينما جثة الطفل قد أينعت أوراقا خُضْرا، تجاوبا مع الجو الجنائزي الذي أودى بحياة الصغير داخل التراب:
«مع تصاعد صوت أذان المغرب كنت أحدّق في المقبرة المواجهة للبيت … مع صوت إقامة الصلاة كانت أشجار المقبرة تخضرّ وتخضرّ، وعشب رائع يغطي القبور الصغيرة بهدوء وتؤدة».
هكذا، تنهض سردية القصة القصيرة عند معاوية الرواحي على ذلك التضافر الشفيف بين الحلم والواقع، فما حدث كله لم يكن إلا في ذهن الراوي ومخيلته فحسب، أو كأننا كنا بصدد قصة بين قوسين كبيرين، قصة يصبح فيها الحلم مدخلا سرديا لمجابهة إحباطات الواقع المقفر وغرائبيته التي تضع الراوي، الشاب، الحالِم، في طريق زينة ابنة الجيران كأنها قدره المقدور.
ب- السرد من (عن) موقع «الهامش»:
حسبما هو معروف في فنون السرد، وألاعيب القصّ، قد يتغير أحيانا موقع السارد أو الراوي تبعا لتغير وجهة النظر التي يريد الكاتب أن يصوّر لنا من خلالها عالمه القصصي، أو يقتطع لنا قطاعا من قطاعاته، كما في قصص «العارض»(16) لحنان المنذرية، و«علبة .. علبتان.. ثلاث علب»(17) لماهر الزدجالي، و«ألوان»(18) لأمل المغيزوي. في قصة حنان المنذرية، تتحدث الراوية عن «عارض أزياء»، أو «موديل»، يقوم بدور تمثيلي بسيط في إعلان تليفزيوني عن مسابقة تنظمها إحدى شركات المياه الغازية. ويقوم شخص، ممثل – يبدو من خلال ملابسه المتواضعة وسيارته المتهالكة التي تنمّ عن تدنّي طبقته الاجتماعية – بأداء دور تمثيلي يعبّر عن شخصية مرفّهة تبدو عليها سيماء الثراء من خلال الملابس الفخمة والسيارة الفارهة. وعلى حافة هذا التناقض الحادّ بين الممثِّل والممثَّل، الشخص الواقعي والدور المتخيَّل، يقف العارض أو الموديل في عرض الشارع وسط النهار، حيث الازدحام الخانق في مدينة كبيرة، هي مسقط غالبا، والشمس تدنو من الرؤوس، ليستقبل مكالمة تليفونية يبدو أنها بالغة الأهمية، حيث ترتسم على وجهه انفعالات شتّى جعلته يقف بسيارته مشدوها وسط الزحام. وإذا به ينزل من سيارته وجميع العربات تصدر صفارات إنذارها له بينما هو في عالم آخر تماما، حتى إنه ينسى قواعد المرور؛ لأنه تلقَّى خبر فوزه بالجائزة الكبرى.
على الرغم من بساطة القصة وبساطة بنائها السردي فإنها تضرب على أكثر من قيمة اجتماعية، منها التباين الطبقي الحادّ بين أفراد المجتمعات العربية. فالعارض، أو الممثل، أو الموديل، متواضع الحال والأجر والطموح في مقابل الشخص الذي يمثله العارض فنيا من حيث هو ابن طبقة مميزة اجتماعيا، ومن ثمَّ فهو الأحق في الفوز بالجائزة الكبرى، من وجهة نظر الراوي وحسب قانون المجتمعات المعاصرة التي لا تعرف سوى لغة رأس المال التي سوف تزيد بالطبع من وضعيات «التشيّؤ» الذي تعانيه مجتمعاتنا الآن.
ولا تبتعد قصة ماهر الزدجالي كثيرا عن ذلك المنظور القصصي المستخدم في قصة حنان المنذرية. فالفقير المتسوّل الذي يجمع علب المياه الغازية من أكوام القمامة، ويبيعها كل أسبوع ببعض الريالات التي تعينه على تحمّل أعباء الحياة، هو نموذج لشخص هامشي آخر يحيا على الحافة من مجتمعاتنا العربية. يحلم هذا الشخص الهامشي، أو المهمَّش، بتناول زجاجية بيرة حقيقية مثلجة بدلا من ارتشاف بعض ما يتبقَّى من قطرات ساخنة بفعل شمس الصحراء، حيث يتخيل نفسه في حوار أشبه بحوار السكارى مع إحدى الزجاجات التي تبوح له بأسرارها:
«إنني أعيش مرحلتين من حياتي. المرحلة الأولى أعيش معززة مكرّمة يتهافت عليّ الجميع ويعاملونني معاملة الملوك. المرحلة الثانية بعد أن يفرغ الشخص محتويات جوفي في جوفه عندها أصبح قمامة لا قيمة لي لتأخذني أنت وتبيعني بأرخص الأثمان، ولكن دعني أسرّ في أذنك أن الحانة الموجودة في هذا الفندق من أفضل الحانات الموجودة في المنطقة. وفي هذه الحانة راقصات عربيات… لا تفتح فمك هكذا.. نعم عربيات وجميلات ويمكنك ببعض النقود أن تنام معهن بعد السهرة الغنائية الراقصة…».
لكنّ حلم هذا الشخص المهمَّش يذهب أدراج الرياح، حين ينوي أن يدخل أحد الفنادق ويطلب زجاجة بيرة مثلجة ويستمتع بمشهد الراقصات العربيات وينتهي به الأمر صريع الغواني في سيارة إسعاف وهو يهذي «علبة.. علبتان.. ثلاث علب»، لأنه لم يكن ينتمي بالفعل إلى هذه الطبقة بكل ممارساتها الحياتية. لذلك يسقط صريع اللذة بفعل الصدمة الأولى له في حياته. فقانون اللذة الذي تنطلق منه أيديولوجيا الراوي هو الوجه الآخر من قانون الطبقة التي لا تعرف المهادنة مع المتطفلين ممن يحاولون تسلّق جدرانها الشاهقة التي تشبه جدران الزنازين والسجون الخانقة.
ج- سردية الأنا والآخر:
يتناول محمد العريمي في قصته القصيرة «تَيْمَه»(19) علاقة الشرق بالغرب، أو الأنا بالآخر، بطريقة مكثّفة ودالّة إلى حد بعيد، تذكّرنا بنصوص كتّاب كبار تناولوا القضية نفسها، أشهرهم بالطبع الطيب صالح، وسهيل إدريس وبهاء طاهر وغيرهم، مع مراعاة الفروق الفنّية والجمالية والتاريخية بكل تأكيد.
مسعود هاشم، بطل القصة العريمي، شاب عماني من أسرة متواضعة تعمل في زراعة النخيل والمانجو، وقد تمّ ابتعاثه _ نظرا لتفوقه _ لاستكمال دراسة البكالوريوس في منحة دراسية للجنوب الأمريكي. وهناك التقي بفتاة بيضاء من أسرة بالغة الثراء تدعى «جينفر لى هيز». وهنا، يمكن ملاحظة التقابلات التي يعقدها الراوي-المؤلف بين مفردات: المكان، الطبقة، اللون،..إلخ. كما أن اسم جنيفر يحيلنا، بطريقة أو بأخرى، إلى رواية بهاء طاهر «الحب في المنفى». يتعرف مسعود على جنيفر ولا يتركها لحظة، في إطار من علاقة تشوبها انتهازية أو مصلحة ما:
«مثلما كان يفعل طلاب دول العالم الثالث الذين كانوا يأتون إلى أمريكا هربا من الفقر والجوع وبهدف الحصول على الجنسية الأمريكية… في «أرض الفرص والأحلام Land of Opportunities and Dreams».
وفي الوقت الذي يقرر مسعود الزواج من جنيفر والعودة بها إلى بلدته «تيمه»، نراه يفاجَأ بالصدمة الحضارية التي تحول بينه وبين إمكان العيش في وطنه الشرقي مرة أخرى أو التكيف مع ظرفه ومواضعاته الاجتماعية والثقافية، فيقرر سريعا الذهاب إلى مدينة مسقط الكبيرة بوصفها محطة انتقالية سوف ينتقل منها إلى أمريكا مرة أخرى، ولفترة طويلة من الزمن، يعود بعدها بسنوات وسنوات إلى «تيمه»، وحيدا، كالعائد من منفى إلى منفى:
«عاد وحيدا يحمل شهادة ماجستير ويحتفظ في جيبه بصورة طفلة صغيرة: سمراء البشرة.. زرقاء العينين واسمها «تيمه».
هكذا، تطرح قصة العريمي عددا من المفاهيم التي تنهض على إحداث نوع من التناص مع بعض سرديات الأنا والآخر العربية، أذكر منها على سبيل المثال قصة الطيب صالح القصيرة جدا «سوزان وعلي»، وأقصد تحديدا إلى الشابين اللذين لم يستطيعا الزواج أو الالتقاء عند نقطة ما رغم حبهما الشديد لبعضهما البعض بحكم الظرف الجغرافي والثقافي المختلف (علي/ الخرطوم، سوزان/ لندن). يقول راوي قصة الطيب صالح:
«عاد علي إلى بلده. أخذا يتراسلان:
«لكنني أحبك يا علي».
«وأنا أحبك يا سوزان، لكن…».
ستة أشهر. كتبت تقول: «قابلت رجلا. سأتزوجه».
كتب يقول: «لكنني أحبك يا سوزان».
وانقطعت الرسائل.
يفكر بها في غالب الأحيان. وتفكر به من حين لآخر.
لكن… (20).
ولا يخفى، بالطبع، أن العريمي يطرح هنا نموذجا مختلفا عن نموذج الطيب صالح، لكننا أردنا الإشارة إلى الفكرة الرئيسية التي يؤكد عليها نص العريمي وهي أنه لا تزال ثمة مفاهيم ثقافية متجذّرة في وعي العربي، من قبيل أن زواج الشرقي بغربية أمر تشوبه بعض الإشكالات ما لم ينصهرا في نسيج واحد. من هنا، لا يبقى لمسعود (امتداد علي) سوى محض صورة لفتاة صغيرة سمراء اسمها «تيمه» هي ابنته غالبا. يعود مسعود منفردا إلى وطنه تاركا زوجته جنيفر (امتداد سوزان) وابنته «تيمه» هناك في أرض الفرص والأحلام مكتفيا بصورة، محض صورة صغيرة.
د- سردية الموت:
في قصتها القصيرة «تفاصيل»(21)، تتناول أمل المغيزوي ثيمة الموت من وجهة نظر طفلة صغيرة يموت أحد أقاربها، فتصوّر لنا وقع فعل الموت على الطفلة-الراوية خلال أحداث يوم كامل:
«تذكّرتُ ساعات ذلك اليوم بكل وضوح، وبرزت كل التفاصيل دفعة واحدة في تدفّق مستمر لم أستطع إيقافه..».
وما نريد التأكيد عليه في هذه القصة، رغم كونها قصة عادية، ليس الحديث عن الموت، بل الحديث عن تأثير وجهة نظر السارد في اللغة السردية، ومن ثم التأثير في المتلقّي:
«بيت خالتي يكتظّ بأجساد عديدة، حاولتُ المرور من بينها بصعوبة. توقَّفْتُ كثيرا وأنا وأرى قطعة قماش بيضاء يتشبّث بها أحد الرجال بإصرار غريب وامرأة تناوله عدة زجاجات من عطور مختلفة تشبه العطور التي تضعها جدتي على جسدها الهزيل..».
سوف يتحول هذا اللون الأبيض في ذاكرة الفتاة إلى رمز للموت بسطوته وهيمنته وثقله على النفوس(22):
«لم أنم في تلك الليلة. حاولت تذكّر وجه «خميس» مرارا، لكن اللون الأبيض طغى على معالمه (…). كرهت الآن الموت. بدأتُ أمقت اللون الأبيض وزجاجات العطر..».
إذا كانت «تفاصيل» أمل المغيزوي تتعامل مع الموت بوصفه قدرا مقدورا لا فكاك من أسره، وترسم ملامحه من وجهة نظر ساردة هي طفلة لا حول لها أو قوة إزاء هذا الحدث الجَلَل، فإن نص «موتٌ حدثَ قبلَ بدايتِهِ»(23) لعبدالله حبيب يسعى إلى مقاومة الموت أيضا ومناهضته بشتّى الطرق من وجهة نظر الكبار، ولو على سبيل السرد. فقد حاول «المغدور» – كما يصفه راوي القصة – أن يتخلص من سطوة الأب، لكنه وقع في سَطْوات أُخَر: فشل في التدريب العسكري، وأخذ ينتقل في رحلة الحياة اليومية القاسية من مدينة إلى مدينة، ومن عاصمة إلى أخرى. لقد عاش، باختصار، حياة المنفِيّ حتى استقرّ به المقام في غرفة بائسة مظلمة عديمة التكييف وذات دخان أصفر كثيف وغبار يخترق الصدر، حتى نال منه المرض لدرجة لا بُرْءَ منها، وانتقل به الأهل من مستشفى إلى آخر دون جدوى. عندئذ، لم يكن أمامه سوى الحكي عن كل شيء، عن الحياة والمرأة والجنس والممرضات البدينات، فتشبّثت مخيّلته بمقوّمات الحياة وأعراضها، في الوقت الذي كان جسده يمضي بخطى حثيثة في الاتجاه المعاكس، نحو القبر. هكذا يحدّثنا الراوي مستخدما ضمير المخاطَب، بكل ما يحمله من حميمية ومساءلة للذات ومكاشفة ترفع الحجب ما بين الراوي والمروي عليه:
«كنتَ سعيدا معه وله لدرجة أنكَ كنتَ تحسد مخيلته الخلاقة على المهرجان الجنسي الروماني الذي يقيمه بكل هذه الزندقة والمجون والجنون في غرفته البيضاء الصغيرة في بيت الموت والمرض من دون أن يعلم أو يحسّ أحد بما في ذلك ممرضته البضّة. لقد نسي كل شيء، واغترب عن كل شيء إلا الجنس. فمَرْحَى لذاكرته ألف مَرْحَى».
هـ- سردية الذاكرة:
يستعين عبد العزيز الفارسي، في قصته «مطر صباحي»(24)، باستدعاءات الذاكرة الطفولية التي تستدعي مشاهد الصبا، حيث تلاميذ المدارس يحتفلون بسقوط الأمطار من أجل أن يعودوا مبكرا إلى بيوتهم، وقد يتغيبون يوما أو يومين دون تقريع إدراة المدرسة بحجة الشوارع والطين. سوف يجد الباحث في قصة الفارسي أن ثمة راويين: راوٍ أول هو من يفتتح القصة وينهيها، يجلس على مقهى ألطاف، مغترب من أجل الدراسة أو العمل في بلد عربي، هو دبي غالبا. يقول الراوي الأول:
«كان المطر الهادئ يغسل الشارع كما تفعل الدموع بالروح المتعبة، والقطرات المتساقطة على واجهة مطعم ألطاف تجعل كل شيء متماهيا أمام الجالسين بالداخل، كذاكرة حب قديم لم يفقد لذته رغم الجروح التي خلفها (…) رأيتني طالبا في الابتدائية».
الذاكرة، إذن هي الضابط الذي يضبط إيقاع السرد في قصة «مطر صباحي». أما الراوي الثاني فهو صبي يحكي لنا بطزاجة موقفه مع سائق الباص «خليفوه»، حين تركه بالمدرسة ذلك اليوم المطير، فعزم الصبي على مغامرة العودة وحيدا وسط برك الأمطار ومخلفاته. يبدأ الراوي الثاني في سرد تفاصيل حكايته منذ جملة «رأيتني طالبا في الابتدائية…» حتى يتوقف سيلان الذاكرة الذي يقطعه صوت ألطاف، صبي المقهى، هنا-الآن، حين يقول:
«- أرباب.. تريد شاي زيادة؟» .
«- تمام يا ألطاف.. جيب شاي زيادة دام المطر بعده ينـزل».
إذا كانت سردية الذاكرة في قصة الفارسي تحتفي باستدعاءات ذاكرة طفولية، فإن سردية محمود الرحبي، في قصته «فعل الأسماء القديمة»(25)، تنحو منحى مختلفا، يقترب من بعض الملامح الغرائبية التي يضفيها راويه على الحدث وعلى الشخصيات. فأبو يحيى شخصية تستحق أن تكون شخصية روائية بحق، رغم قصر القصة وتكثيفها. فبعد أن كان يتباهى بابنه الذي كان سببا مباشرا من أسباب مصالحته مع العالم وتغيير اسمه من «تاعب»، بكل ما يحمله من معاني الشقاء والدونية، إلى «أبو يحيى»، بكل ما ينطوي عليه الاسم من دلالات الحياة والبقاء والحلم، خطف الموت ابنه. هكذا، بغتة، اقتنص الموت يحيى/الابن في حادثة ملعونة تترك الأب بعدها فريسة للموت والزوال والكوابيس، الأمر الذي احتار معه الجيران فلم يعرفوا كيف ينادونه بعد موت ابنه، حتى نصحتهم واحدة من أرباب البصيرة ممن تعمل في جزّ الأعشاب وتنظيف الحقول منها وبيعها لملاّك المواشي:
«سمّوه يحيى على اسم ابنه، سيحل مع الوقت شيء من سعادة في قلبه، وسيحيا الغائب في داخله وينمو. ثم أضافت وهي تتقدم رافعة مجزّها الذي سطعت سنّته: جميعكم لا يعلم بأن لكل اسم روحا تلاحقه ولا يمكن إخفاؤها حتى بالموت».
من هنا، أصبح أبو يحيى رجلا غريب الأطوار، يخرج في أكثر أوقاته أرقا، يذرع الوادي ذهابا وإيابا، ثم يصعد الجبل ويبدأ في الحفر والصخب دون كلل، حتى تتلاشى أوجاعه هربا أمام الضجيج الأكثر قوة في داخله. غير أن الكثيرين من أهل البلدة «غدوا مع الوقت يدركون، بصبر، سر التعب وسر الأسماء القديمة وأفعالها».
و- سردية غرائبية:
في نصه الذي يحمل عنوان «الطفل والكلب»(26)، يقدّم لنا يعقوب الخنبشي موتيفة حكائية عجيبة تتلخص في أن سيدة عمانية ممن يدّعين الرفاهية كغيرهن من نساء العرب المعاصرات كانت تتسوّق داخل أحد المجمّعات التجارية الكبرى في العاصمة، حيث جنون الشراء الذي يصيب الأفراد فيسيل لعابهم استجابة لبريق السلعة كلما دخلوا أحد هذه المراكز التجارية، فيقررون في الحال شراءها بغض النظر عن كونها مفيدة أو غير مفيدة دون فارق كبير(27). الغريب في الأمر أن هذه السيدة كانت تربط يد ابنها اليمنى برباط هو في الأساس رباط للكلاب والحيوانات، بحيث كانت تجرّه من يده خلفها في قسوة رهيبة كأنها لا تعرف عن الأمومة شيئا بعد. سوف يظلّ الطفل يستجدي أمّه حتى تفكّ القيود من يديه بينما هي منهمكة في متابعة السلع «تكتفي بشدّ اللجام أكثر وتحول بصرها نحو الأصناف والأنواع المعروضة». لا يستطيع الراوي في هذا السياق سوى متابعة الأمر «خوفا من عواقب أخرى تنتج بعد ذلك عن النقاش» مع أمثال هؤلاء. وكل ما يملكه في نهاية المطاف هو استنكاره الشديد وتعاطفه فحسب مع وضعية الطفل، وذلك أضعف الإيمان. ورغم من بساطة هذه «الموتيفة» الحكائية التي نحا بها راويها منحى وثائقيا سوف يبتعد بها كثيرا عن جماليات القصة القصيرة وبلاغة سرديتها، فهي قصة بالغة الدلالة على أن واقعنا العربي واقع متخم حدّ الانفجار بما يفوق «الخيالي» أو «الغرائبي»، الذي يبلغ حدّ السحر.
ثمة وجه ثان لهذه الغرائبية يتناوله محمود الرحبي في نصّه الطويل «درب المسحورة»(28)، حيث يقدّم لنا عالما يقترب من ملامح كتابة «الواقعية السحرية»، لكنها ليست واقعية سحرية متعالية على الواقع المعيش أبدا، أو مفارقة له كليةً، بل واقعية منغمسة في التربة العمانية حتى النخاع. أقصد إلى كونها واقعية تستعين بمفردات الجغرافيا العمانية من أفلاج ونخيل وبيوت قديمة وصحراوات ممتدة تمرح فيه الثعابين وتجوب وديانها النعاج والدواب، وفوق كل هذا وذاك أطفال يترنحون ويتقافزون هنا وهناك، وطيور وحشرات وزواحف، وكائنات لامتناهية تملأ المشهد القصصي عند محمود الرحبي الذي يبدو نصه – كغيره من نصوصه – محتفيا باللغة احتفاء صوفيا كأنه نص توثيقي، فضلا عن كونه نصا إبداعيا متميزا. وفي قلب هذا المشهد المحتشد بتضاريس البيئة العمانية، يكمن فعل الموت الذي يجاور صخب الحياة وعنفوانها. وإلى جوار فعل الموت، تأتي قوة السحر و»التغييب» التي سوف نقف على تحليلها في الفصل الخامس من هذا الكتاب.
إذن، يمكن القول إجمالا إن الكتابة العمانية الجديدة قد سعت، بدأب واضح، إلى تشكيل جماليات مغايرة، سواء من حيث الثيمات أو الأساليب الفنية وتقنيات القصّ (وإن كان الأمر يحتاج من الباحثين إلى دراسات نقدية وتاريخية تتابع تطور تقنيات السرد العماني بصفة خاصة، مقارنة بين السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين، والعقد الأول من الألفية الجديدة)، الأمر الذي شكّل ما أسميناه «حساسية جديدة»، نهضت على عدد من الاستراتيجيات التي وقفت الدراسة على بعضها، هي: شعرية التجاور، لا الإزاحة أو التضاد. كتابة بقوة اليوميات. كتابة من موقع الحلم. كتابة تسمو فوق أسر الواقعي، بحثا عن غرائبية رحبة. كتابة تخلق عالما افتراضيا بديلا. كتابة تلفت الانتباه بقوة إلى قضايا المرأة المعاصرة. كتابة تسعى بدأب إلى الخروج من هيمنة النص المغلق والارتماء في فضاء النص المفتوح، .. إلخ.
الهوامش
1- المقصود بالحساسية الجديدة، هنا، التفاف عدد من الكتابات والنصوص، في إطار جنس إبداعي ما، في ثقافة ما، حول جملة من الخصائص الجمالية والاجتماعية والثقافية التي يصدرون عنها في كتاباتهم، بحيث تشكّل رؤيتهم للعالم، في إطار فهم خاص للفن (من حيث الماهية والأداة والوظيفة)، الأمر الذي يجعل من كتاباتهم تيارا يعمل بقوة على تغيير مفهومي «الإبداع» و»التلقّي» معا. وهذه الظاهرة لافتة لنظر الباحث المهتم بدراسة السرد العماني، تحديدا في السنوات العشر الأخيرة. وفي هذا السياق يمكن تأمّل نصوص كل مجموعة كبيرة من كتّاب السرد العماني من الجيل الجديد: سليمان المعمري، عبد العزيز الفارسي، مازن حبيب، يحيى المنذري، محمود الرحبي، بشرى خلفان، هدى الجهوري،.. إلخ.
عن مفهوم «الحساسية الجديدة في الكتابة المصرية في الستينيات»، انظر: صبري حافظ: جماليات الحساسية والتغير الثقافي، مجلة «فصول»، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سبتمبر 1986م.
2- إزاحة مفهوم الكتابة لمفهوم القصيدة حدثٌ موازٍ لتحول مفهوم الديوان إلى المجموعة الشعرية.
3- راجع أعداد مجلة «فصول» الثلاثة عن «زمن الرواية» (أعداد: شتاء 1993م، ربيع 1993م، صيف 1993م). وقد كنت آنذاك أحدث محرّر بالمجلة – التي كان جابر عصفور يرأس تحريرها – مع مجموعة من شباب النقاد والباحثين والمبدعين في مصر: حسين حمودة، فاطمة قنديل، حازم شحاتة، صالح راشد، علي عفيفي.
4- هذه العبارة متواترة في أغلب نصوص باختين، مثل «الكلمة في الرواية»، «الملحمة والرواية»، «شعرية دوستويفسكي»، «رابليه وعالمه».
5- جاك ديريدا: البنية، العلامة، اللعب في خطاب العلوم الإنسانية، ترجمة جابر عصفور، فصول، شتاء 1993.
6- راجع: ملحق «شرفات»، جريدة عمان، أعداد شهر سبتمبر 2008 م.
7- الترانسندنتالية: مصطلح استعمله كانط بمعنى السموّ من حيث الوجود، ومن حيث المعرفة أيضا. أي حين تطلق الصور الفكرية إلى ما بعد التجربة. راجع: مراد وهبة: المعجم الفلسفي، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1977م، ص: 417، 430، 465.
8- راجع «شرفات»، 8 أكتوبر، 2008م.
9- راجع «شرفات»، 8 أكتوبر، 2008م.
10- «شرفات»، 22 أكتوبر، 2008م.
11- «شرفات»، 5 نوفمبر، 2008م.
12- راجع قصيدة فاطمة الشيدي في «شرفات»، 19 نوفمبر، 2008م.
13- راجع قصيدة بدرة الوهيبي في «شرفات»، 25 مارس، 2009م.
14- راجع قصيدة عائشة السيفية في «شرفات»، 4 مارس، 2009م.
15- «شرفات»، 3 سبتمبر 2008م.
16- «شرفات»، 3 سبتمبر، 2008م.
17- «شرفات»، 3 سبتمبر، 2008م.
18- «شرفات»، 17 سبتمبر، 2008م.
19- «شرفات»، 24 سبتمبر، 2008م.
20- الطيب صالح، ضو البيت، مريود، دومة ود حامد، سلسلة آفاق الكتابة، عدد 36، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2000، ص280.
21- «شرفات»، 12 نوفمبر، 2008م.
22- تمّ توظيف هذه الثيمة نفسها بمهارة في الفيلم السينمائي العماني القصير «بياض» الذي حاز على عدد كبير من الجوائز المحلية والعربية والدولية.
23- «شرفات»، 5 نوفمبر 2008م.
24- راجع: «شرفات»، 4 مارس، 2009م.
25- راجع «شرفات»، العدد، 18 مارس، 2009م.
26- راجع قصة يعقوب الخنبشي في «شرفات»، 4 ديسمبر، 2008م.
27- كلمتا «استجابة» و»مثير» تذكرانني في هذا السياق بالتجربة المعروفة لعالم النفس الشهير «بافلوف» صاحب «نظرية الارتباط الشرطي الكلاسيكي»، حين جعل فأر التجربة يربط بين صوت الجرس وقدوم الطعام فيسيل لعابه بمجرد سماع صوت الجرس حتى وإن لم يأتِ الطعام.
28- راجع «درب المسحورة» لمحمود الرحبي في «شرفات»، 4 ديسمبر، 2008م.
محمد الشحات
أكاديمي من مصر