توطئة: حول أهمية دراسة السالمي
« لا نبالغ إذا قلنا إن رجال العلم اليوم بعمان جلهم من تلاميذه , وقد نبغ منهم كثير وحسبك أن صفوة الأمة هناك،والذين قامت عليهم الإمامة والملك هم من تلاميذه، وهذه الروح التي بثها فيهم حتى كانوا حمى للدين والأمة من أكبر الشواهد على إخلاصه وعلو شأنه (1) .
إن هذا الاقتباس يبرز بوضوح شايا المكانة التي يحتلها الشيخ السالمي لدىالعمانيين عموما , فقد امتلك منذ سطوع نجمه حتى اليوم ميزات كافية ,كي تجبر الآخرين على احترامه , أو لكي تخلد ذكراه لدى الأجيال القادمة في عمان .في واقع الأمر يشكل الشيخ السالمي حالة فريدة في التاريخ العماني فقد استطاع – خلال ما يقرب من خمسين عاما عاشها – تحقيق طموحاته وامانيه التي سعى من أجلها, كما توضح ذلك مقولته وهو على فراش الموت:«…خشيت معاجلة الموت قبل اجتماع العمانيين على إمام يجمع الشمل ويقيم العدل , فلما تم ذلك خشيت الموت قبل أن يكون لهم مأوى يرجعون اليه ,ومركز يأوون فيه , ثم خشيت أن أموت قبل أن أرى الامام يقيم حدا من الحدود الواجبة.أما الآن فقد كان ذلك كله؟ فالحمد لله على تمام النعمة "(2) هذه هي الهموم أو المشاغل التر كانت تؤرق الشيخ السالمي , إنها تتمثل بكلمة في إقامة التعاليم الدينية التي كان على قناعة تامة بها على الأرض العمانية, وذلك يتم بطريقة واحدة أو عبرها – بحسب رايه – هي إعلاء راية الامامة.أما وقد تحققت تلك الأماني, فليأت الموت كما يشاء أو وفق تعبيره:" طبت يا موت فإن شئت فزر" (3)، وبقدر ما كانت تلك الأمنيات تمثل ضرورة دينية بقدر ما كانت تمثل – وفق رايه – حاجة سياسية لخلاص عمان وشعبها, ظلت تلح عليه منذ باكورة تشكل وعيه وظل هو يلح عليها كذلك إلى أن تمكن منها كما تؤكده مقولته السابقة .
لكن الملاحظ طي المحاولات القليلة التي اعتنت بدراسة السالمي أو فكره أو كليهما معا: أنها في الغالب لا تتعرض إلى هذا الجانب، أي فكر السالمي السياسي، أو جهده السياسي حول مسألة الإمامة: أي كيف كان تصور الإمام السالمي للدولة؟ وإذا ما تعرضت – أي المحاولات – إلى هذا الجانب فإن سعيها لا يعدو أن يكون تعرضا شكليا بعيدا عن التحليل والتعمق وتقليب جهده الدعوى من مختلف وجوهه الممكنة والمحتملة، إنه في الغالب اكتفاء بترديد بعض المقولات التي ترد في ترجماته العديدة، وهو ترديد في أغلبه – مبتسر ومقطوع عن السياق العام لجهده الكبير، وفي هذا ما يطرح التساؤل حول مصداقية تلك المحاولات، وحول قيمتها المعرفية في المقام الأول خاصة حين نأخذ في الاعتبار الفارق العلمي المفترض بين الدراسة بما تقتضيه من استخدام لمناهج وتقنيات الدرس الحديثة، وبين الترجمات المختصرة في العادة والهادفة إلى تقديم نبذة تعريفية موجزة عن صاحب العمل، بل إن التعمق في دراسة الترجمات ذاتها يبدو هنا على قدر كبير من الأهمية.وقد لاحظ العروي أنه "يكثر اليوم استحضار التراث بالنشر، بالتحقيق، بالشرح، ويمثل هذا القسم الأكبر من النشاط الثقافي الحالي.ثم يوجد بجانبه إنتاج ضئيل بالنسبة اليه يعنى بالأبستمولوجيا وهو شأن المتخصصين، الملاحظ هو أن هؤلاء المتخصصين حين يتناولون موضوعا تراثيا يسايرون الاتجاه العام ولا يحاولون أبدا معاكسته وفي هذه الحالة كان من الطبيعي الا يتضح في الأذهان أن مسألة المنهج ليست مسألة شكلية، مسألة مراجع وإحالات ونقاش أراء بكيفية منتظمة الخ،بل هي قبل كل هذا مسألة قطيعة مع مضمون التراث،لا يستطيع أحد أن يدعي أنه يدرس التراث دراسة علمية موضوعية إذا بقي هو أعني الدارس في مستوى ذلك التراث، لا بد له قبل كل شيء أن يعي ضرورة القطيعة وأن يقدم عليها … ومن أتفه ما يروج اليوم الفكرة القائلة أن لا مشادة في المنهج، وكأن الاختلاف حول المنهج هو مجرد اختلاف في الرأي.كان هذا صحيحا في الماضي أما اليوم فلا مشادة إلا وهي في المنهج … عندما أتكلم من المنهج أعني في الواقع منطق الفكر الحديث بعد أن انفصل ممن الفكر القديم.من يدعي أن كثرة الكلام على المنهج تمنع من تطبيقه والاستفادة منه يغفل أن علامة الفكر الحديث هي أنه يجعل من كل قضية مسألة معرفية، لا يوجد فكر حديث وبجانبه نقد، بل الفكر الحديث كله نقد، هذه هي الثورة الكوبرنيكية فلا يكفي الكلام عليها بل يجب الكلام بها» (4).
إن التساؤل حول الجهود التي قدمت ما أنجزته وما عجزت منه لا يرمي في حقيقته الى التقليل منها (5)، بقدر ما يهدف إلى توضيح فكرة رئيسية أهملتها جل الاشتغالات السابقة تتمثل في ضرورة البحث عن جهوده السياسية والدعوية التي عمل من أجلها جنبا إلى جنب مع جهوده النظرية التي أودعها مؤلفاته.بهذا المعنى يتعدى التساؤل ( رغم أهميته ): لماذا جانبت المحاولات السابقة الاهتمام السياسي لدى الشيخ السالمي؟ ليصبح: ماذا لو أنها فعلت؟
إن الإلحاح على طرح هذه التساؤلات ينطلق من موقف الشيخ السالمي الختامي ذاته؟ ذلك أن التدقيق فيه يوصلنا إلى نقطتين هامتين:
الأولى: أن المقولة السابقة تأتي بمثابة الموقف الختامي من الوجود وهو موقف ظل ثابتا، كما أنها مقولة تحمل معنى إيمائيا مفارقا.كيف ذلك؟
ماذا لو افترضنا رؤية المقولة / النص السابق، بعيدا عن معرفتنا بنتاج الشيخ الفكري/ تنظيره في مجالات العقيدة والأخلاق والدين وأمور الحياة الأخرى التي تناولتها مؤلفاته وتأريخه للأحداث في عمان؟ الملاحظة الأولى في هذا السياق هي أن المقولة تأتي مركزة على جانب واحد من اشتغالات الشيخ ذلك هو الجانب الدعوي / الجهادي، بعبارة أوضح إنها تعبير مطلق عن رؤيته للمسألة السياسية وحدها، وهي من ثمة تبدو وكأنها تغفل الجهد الكبير الذي أودعه مؤلفاته الكثيرة، ذلك الجهد الذي سيخلده التاريخ باعتباره العمل الأكثر ديمومة ( نلحظ اليوم أن الاشتغال السياسي كان هو العابر بينما ظل النتاج المعرفي الممثل الأكثر تعريفا بالرجل – وهذا لا يعني التقليل من قيمة عمله الجهادي – ). ثمة مفارقة واضحة إذن فمن جهة يبرز موقفه الختامي مناصرا للمسألة السياسية وحدها، ومن جهة ثانية تتجاوز جل الاشتغالات التي تمت عنه إلى اليوم تلك المسألة وإن قاربتها فهي مقاربة لا تصل إلى المحاولات التي تمت حول اشتغالاته الأخرى، هكذا فإن السير في اتجاه واحد لا ينصف الجهد المبذول طيلة سنوات عمره تقريبا، لكن للسير في هذا الاتجاه كذلك مزالقه التي ينبغي عدم إغفالها، إذ ينبغي التأكيد على أن دراسة ما هو متعلق بالتراث من شخصيات ونصوص ومعالم لا يتأتى من دون الانتباه الشديد لتاريخها الذي أنتجت فيه ومن دون إغفال استعمال أدوات النقد، وهي ملاحظة ينبغي أن تصاحب هذه الدراسة حتى نهايتها .إن معالجة التراث – أي تراث – لا يمكن أن تتم اليوم في صورة تتوخى الموضوعية دون تعميق لروح النقد والتساؤل والاختلاف إذا ما دمت المعطيات المتوافرة .
الثانية: وهي متممة للسابقة: فإذا كانت مقولة الشيخ السالمي قد جادت خالية من الإشارة إلى جهده المكتوب فإن المحاولات التي اعتنت بدراسة بعض نتاجه، قد أغفلت هي الأخرى الجانب السياسي من اهتماماته، وقلصت من ثم – في حالة تبعث على التفكير في نوعية المحاولات – جهوده إلى دون الاهتمام الذي مثلته مقولته السابقة.فتجنبت ندوة "تكريم المرحوم العلامة المحقق نور الدن السالمي" التي أحياها المنتدى الأدبي في 7، 8 نوفمبر 1992 ؛ الخوض في هذا الجانب تماما، بل إن الأستاذ عيسى السليماني الذي قام بتحقيق ودراسة « ديوان نور الدين السالمي» (6) فضل لدراسته الجانب التجميعي البحت، فجادت محاوته ديماغوجية لا جديد فيها رغم الغنى والاتساع الذي يمكن أن يفيده الديوان خاصة فيما يتعلق بالجانب السياسي وهو جانب لا نكاد نجد كثير تفصيل فيه إذا استثنينا ما كتبه الابن محمد الشيبة في فترة لاحقة ضمن مؤلف " نهضة الأعيان بحرية عمان ".
ثمة ملاحظة جديرة بالتسجيل ونحن في سياق معالجة ما كتب عن الرجل ونتاجه وما لم يكتب وكيف كانت الكتابة،إذ يطلعنا الشيخ السالمي في مؤلفه "الحق الجلي من سيرة شيخنا صالح بن علي" على رؤية نقدية هامة حين يتعرض للحالة الفكرية السائدة في عصره، ولا يتأخر عن نقدها بمرارة، يقول في معرض تبرير دفاعه عن أستاذه وزميله في الدعوة الشيخ صالح بن علي الحارثي في وجه ما كان يشاع عنه: " ولما كان غالب أهل زماننا لقصورهم عن استنباط الأحكام من أدلتها، لا يقنعون إلا بما كان نقلا من أئمتهم" (7).وفي سياق الحديث عن أهمية التأريخ للأفكار، يلفت الانتباه كذلك عدم وجود تاريخ في معظم طبعات كتب الشيخ السالمي،ونحن نعلم أن جل مؤلفاته إنما طبعت بعد موته ونعلم كذلك مدى الأهمية التي أعطاها للتاريخ ! إن للمسألة كذلك دلالة على طبيعة الاهتمامات في المرحلة اللاحقة، لا يمكن – على سبيل المثال – نشر كتاب اليوم من دون الالتفات إلى سنة نشره ورقم الطبعة إضافة إلى أمور عديدة أخرى، هكذا إذن تتضح أهمية التاريخ،خاصة وأن في معرفة الدارس لزمن الأفكار إفادة كبيرة لدراسة مسألة في غاية الأهمية تتعلق بتتبع مراحل تطور المعرفة لدى المؤلف وتحولاتها من حيث العمق والاتساع وفي تبلور المواقف تجاه بعض القضايا وتبدلها في أن.إننا حين نعرف – مثلا – أن الشيخ السالمي كان قد ألف في مقتبل عمره كتابا يدعى "الشرف التام في شرح دعائم الإسلام " وكتاب «الدعائم » هو من تأليف الشيخ ابن النضر، ويتضمن رؤية مغايرة في مسائل عقدية / كلامية مهمة تشكل أسس المذهب الأباضي، ثم نعرف بعد ذلك من كتابات الشيخ نفسها ( مشارق أنوار العقول مثلا ) أراءه في ذات القضايا يمكننا أن ندرك عديد المسائل التي عرفتها الفترتان الزمنيتان (مرحلة ابن النضر، ومرحلة السالمي ) أي ندرك مدى التحولات والضغوطات التي صاحبت كل مرحلة، بل يمكن الوصول إلى بعض التصورات حول المناخ الفكري العام الذي عاشته عمان، كل هذا من خلال هذين المؤلفين.هكذا تتبدى أهمية التاريخ وخطورته في آن.للأسف فإن مؤلف الشيخ السالمي " شرح دعائم الإسلام " مازال غير مطبوع إذن من خلال هذه المقدمة – التي تحاول تقديم الشيخ السالمي كواحد من أهم الشخصيات التراثية تأثيرا في عمان – ينبغي أن نعمل على تحييد رؤيتنا الخاصة تجاهه وتجاه نتاجه وجهوده مجتمعة ومن ثمة فإن مقاربة ما خلفه من نتاج وما قام به من جهد عملي على أرض الواقع في عمان غير متأتية بصورة عميقة وموضوعية إذا ما تم التغافل عن جانب دون أخر من اشتغالاته، فإعادة الاعتبار لشخصية ما من شخصيات التراث لا تتم دون تناولها في أجزائها المتكاملة هذا أولا .
وثانيا: ضرورة الاعتراف – من خلال ما أتيح لي مطالعته من محاولات – بأن دراسة الشيخ السالمي بصورة مستقلة عن سطوة الرؤى الضيقة والأفكار الجاهزة التي اتسمت بها أغلب الاشتغالات السابقة – على قلتها مازالت عملا بحاجة إلى إنجاز الباحثين (8) .
بهذه الطريقة وحدها يمكن للدارس المعاصر- وفق ما أرى – تقديم عمل أقرب موضوعيا لروح الفترة الزمنية محل البحث، وبالنسبة لدراسة تتعلق بشخصية طبعت مرحلة كاملة من التاريخ العماني بطابعها وما يزال أثرها ماثلا، تبدو الحاجة – اليوم – أكثر إلحاحا للسير في هذا الاتجاه .
نشأة الشيخ السالمي الاولى ( الولادة , الاسرة ):
يلاحظ أركون بأنه « نادرا ما يتحدث المؤلفون العرب عن أنفسهم في كتاباتهم ومؤلفاتهم.دون أن يصل بهم الأمر إلى حد « احتقار الأنا» فإنه يبدو أنهم قد انصاعوا في مجملهم لحس التواضع واعتبار الفرد المعزول شيئا عرضيا عابرا لا يستحق الاهتمام كثيرا، فقيمة الإنسان تكمن في مدى الخدمات التي يقدمها لجماعته ومدى طاعته أو خضوعه للتعاليم الإلهية، وحتى أولئك الذين خرجوا قليلا على هذه القاعدة، وقبلوا التحاء عن تجاربهم الشخصية كابن خلدون أو عبدالله الزيري، أو أولئك الذين كتبوا اعترافات أكثر حميمية وأكثر شخصية عن حياتهم الداخلية كالصوفيين، فإنهم في الواقع كانوا مدفوعين بباعث يشمل كل المسلمين ويدعوهم " للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "، وإذن فالفرد لا قيمة له ضمن مثل هذا المنظور ولا ينبغي التوقف عنده كثيرا (9) إذا كان التراث الإسلامي في عمومه قد عرف غياب التاريخ الشخصي إلا فيما ندر، فإن التراث في عمان لا يسجل لنا شيئا مهما (ما عرف منه على الأقل ) من ذلك عدا إشارات بسيطة ومتفرقة لا بد من البحث المضني عنها بين شتات الموضوعات والمتون المنظومة في مؤلفات تتعدد أجزاؤها – في كثير من الأحيان – وقد تقارب المائة جزء في بعض الأحيان،وهي إشارات لا تساعد كثيرا على إشباع جزء معقول من فضول الباحث المعاصر " الذي يعتقد أن كتابة السيرة الذاتية لشخصية تاريخية ما لكي تكون قريبة من الحقيقة / الواقع ينبغي أن تكون عبارة عن إعادة تركيب صبورة للتركيبة النفسية التي تنسج وتتشكل لدى كل فرد بمجرد احتكاكه بالعالم الخارجي" ( 10).ولأن الأمر يتعلق بشخصية حظيت بمكانة كبيرة ومؤثرة بشكل متفرد لدى العمانيين – وما زالت كذلك – كشخصية الشيخ السالمي، فإن البحث من سيرة ذاتية لها يبدو عملا مهما وشائكا في أن إذ إنه يساعد كثيرا في إمكانية مقاربة واقع تلك المرحلة الزمنية الهامة من التاريخ العماني ؛ فضلا من إنه يتيح المجال لا كشاف المؤثرات الواقعية التي ساعدت على عطائه الواسع ضمن العمر الذي أتيح له أن يعيشه وأن يبذل فيه كل تلك الجهود، أما من حيث الصعوبة فلأن العثور على سيرة ذاتية بمعطيات كافية للإجابة عن تساؤلات البحث الحديث غير متوافرة إلى الآن.قد يكون الدارس لشخصية الشيخ السالمي محظوظا بعض الشيء ذلك أنه وجد بعض الاهتمام فيما يتعلق بكتابة ملخص عن منجزاتة وبعض تجاربه الحياتية الباكرة ربما كنتيجة لقرب عهدها به ( ترفن عام 1914م )، لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن ما كتب حوله ممثل لمختلف مراحله الحياتية والفكرية، كما أنه لا يعفي الباحث من رؤية دقيقة لما أنجز في ذاته وفيما أحاطه من ظروف وملابسات تاريخية في المقام الرئيسي، إن أهمية العمل على تتبع مراحل تجربته الحياتية نابع من تأثيره العميق على خلفه ( يمتد الخلف هنا إلى لحظتنا المعاصرة ) إنها بكلمة: ليست مقصدا في حد ذاتها لو لم يكن لها تأثير نافذ على الواقع .
يمكن لنا معالجة مسألة نشأة الشيخ السالمي من زاويتين: الأولى من خلال الترجمات التي خلفها المتأخرون عنه والثانية من خلال الشذرات المتفرقة التي أودعها بعض مؤلفاته في سياق حديثه عن مواضيع شارك فيها بنفسه وهي في العادة تفريعات مقتضبة جدا نجدها متفرقة في بعض مؤلفاته خاصة مؤلفه التاريخي « تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان »، من نحو قوله في خاتمة « التحفة »: « وفي سنة ثلاث وعشرين وألف خرجت من بيتي بالقابل قاصدا حج بيت الله الحرام ومررت على السلطان فيصل ذاهبا وراجعا، فقابلني هو وأولاده بالإجلال والاحترام، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله: وطلبت منه الخلوة على لسان ولده تيمور، وكلمته في اجتماع الشمل والقيام بالعدل وجمع العرب تحت راية واحدة، فقال إن حصل لكم ذلك يقول عمي نريد غيره، وأراد بعمه عبد العزيز بن سعيد …»(11) وحيث إن ما يمكن تسميته بسيرة ذاتية للشيخ السالمي مما لم ينجز بعد، فإني سأحاول قدر المستطاع المزاوجة بين ما تركه عن نفسه وما أنجزته الترجمات اللاحقة في محاولة للوصول إلى نوع ما من مقاربة رحلة حياته الحافلة بالأحداث والمعاني من جانب، وللمقارنة في بعض الأحيان بين الترجمات المتعددة ولسد النقص في المعطيات الذي سيلاحق أية محاولة من هذا القبيل على الأرجح من جانب أخر. وقد نضطر إلى تقديم الترجمات وتأخير " تأريخا " الشخصي: ذلك لأن ما سجله من حياته متعلق بمواضيع أغلبها ذو طابع سياسي عرفتها حياته في طورها المتأخر.
يمكن تقسيم حياة الشيخ السالمي – وفق ما أرى – إلى ثلاث مراحل، نجملها أولا باختصار على النحو التالي:
– مرحلة ما قبل التحاقه بمجالس الشيوخ، أي ما قبل التلمذة على أيدي علماء عصره .وفيها نتعرض لولادته وما صاحبها من أحداث مأساوية، وما كان لتك الأحداث من تأثير في نشأته الأولى .
– ثم مرحلة "الرستاق " وما تلقاه من معارف وما خاضه من تجارب ومدى تأثيرها فيه أو مدى تأثره بها وتأثيره فيها.هذه هي ما أطلقت عليه « السيرة الأولى»، وهي السيرة التي تسبق رحلته إلى الشرقية من عمان وجلوسه إلى صالح بن علي الحارثي الزعيم السياسي والقبلي البارز في تلك المرحلة حيث سيشتركان معا في نشاط عسكري وسياسي.
أولا: الولادة, الأسرة , وأحداث « الحوقين »
تتفق الترجمات التي تحدثت عن الشيخ السالمي اتفاقا تاما على أنه عبدالله بن حميد بن سلوم ( بضم السين واللام ) السالمي ولد بقرية " الحوقين " من أعمال الرستاق وفيها تعلم قراءة القرآن على يد والده، وهي بعد هذا القدر لا تحمل الاتفاق ذاته.فما هي المعطيات التي تكشفها الترجمات عن حياة الشيخ السالمي الأولى؟ لدينا في هذا السياق ثلاث ترجمات لحياته الأولى:
1-: ينقل الأستاذ الهاشمي رواية عن أحد أحفاده المعاصرين قائلا:" ولد الوالد عبدالله في "الحوقين "، وكان أبوه غنيا غنى فاحشا، وكانت مشيخة قومه عند عمومته، وكانت متداولة بينهما، ولكن في فترة ولادة الإمام كان شيخ القبيلة؟ الشيخ شيخان السالمي والد الشيخ محمد بن شيخان، وكانت قبيلة الحضور تقيم في هذه البلدة، وأكثر أعمالهم في خدمة أموال وأملاك السوالم، وظهرت في هذه الآونة (12) فتنة الهناوي والغافري، فانحازت السوالم إلى الغافرية، والخضور إلى الهناوية، فأعانوهم على خصومهم، وتحققت لهم السيطرة على البلدة مما أدى إلى نهب أموال وأملاك السوالم، وخرجوا هاربين من الحوقين إلى الرستاق، دون أن يأخذوا معهم من أموالهم شيئا".( 13)
2- في رواية ثانية للشيخ إبراهيم بن سعيد العبري يقول: « خرج – أي السالمي – من بلد الحوقين مع والد» وأسرته إلى الباطنة، على إثر فتنة نشبت بين السوالم والخضور وأهالي الحوقين، واستوطنوا بلدة الخبة من بلدان آل سعد بن بكر، وبقي بها مع والده إلى ما شاء الله من الزمان، ثم دعته العناية الإلهية إلى الخروج منها إلى الرستاق (14) .
3- جاء في ترجمة الابن (أبو بشير) أنه: " خرج من الحوقين لطلب العلم المحمود إلى الرستاق ونواحيها في ذلك الزمان، وأدرك الشيخ عبدالله بن محمد الهاشمي، وأخذ عنه فهو أحد شيوخه الفضلاء (15).
لنبدأ أولا برؤية ما حملته الترجمات الثلاث من معطيات، نجدها تكشف عن:
أ – غنى فاحش كانت تتمتع به الأسرة في الحوقين .
– أن النظام الاجتماعي القائم كان نظاما قبليا، وأن مشيخة القبيلة كانت بيد عمومة أسرة السالمي ولم تكن ثابتة بل متداولة بينهم .
– من مظاهر غني القبيلة خدمة أغلبية أفراد قبيلة الحضور لقبيلة السوالم .
– حدوث " فتنة » بين القبيلتين: السوالم والخضور..
– "انتصار" الحضور وخروج السوالم من البلدة / الموطن .
– كان خروجهم هربا من "دون أن يأخذوا معهم من أموالهم شيئا" .
– كان خروجا من "الحوقين " إلى « الرستاق » .
ب – خروج السالمي مع والده وأسرته .
– كان خروجا من "الحوقين " إلى "الخبة " في الباطنة .
– أن سبب ذلك الخروج كان «فتنة » وقعت بين الحضور والسوالم .
– أنه بقي ووالده في الباطنة / الخبة ما شاء الله من الزمان.
– بعدها غادر إلى الرستاق .
ج.ترك السالمي الحوقين إلى الرستاق .
– كانت مغادرته إلى الرستاق قصد التعلم .
هذه هي كل المعطيات التي تركها المترجمون لنشأة الشيخ السالمي الأولى "المكان، البيئة، الأسرة، منظومة العلاقات القائمة، راهن الأوضاع التي ولد فيها الشيخ…".كيف يمكن لنا مقاربتها؟.ثمة ملاحظة أولية تجدر الإشارة اليها تتعلق بمصدر المعطيات السابقة، ذلك أننا كنا طيلة الوقت نتعامل مع أخبار شفافية متأخرة.باستثناء ما أورده الابن .، ومن ثمة فإن ما يمكن أن يؤخذ علينا هو اعتمادنا عليها، أي أننا بحاجة ملحة لإبداء تبريرات مقنعة حول قيمة هذه المصادر الشفافية والمتأخرة في أن هذا من جهة.ومن جهة ثانية فإن اعتماد هذه المصادر – وهو أمر لا غنى عنه كما سنلاحظ – يبعث على التساؤل حول مدى تقدم المعرفة ومدى تراجعها في عمان خلال الفترة التي تلت وفاة الشيخ السالمي، لقد مثلت الكتابة بالنسبة اليه قيمة جوهرية فلم يكتف بما كان سائدا من معرفة شفاهية تتداولها المجالس في العادة، بل ثار على السائد وأخذ – وهو الضرير منذ صباه – على عاتقه النهوض بمسألة التدوين وما تحمله من معنى، لكن الخلف لم يواصل ذلك النهج فعاد إلى حيث النقطة التي ابتدأ منها الشيخ، أي إلى مرحلة الوعظ والإلقاء الارتجالي وهو غالبا ما يكون سيدا من المنهج الذي تحرص الكتابة على اتباعه .
تحمل الترجمات الثلاث اختلافا بينا حول:
– طبيعة الأحداث التي عرفتها الأسرة وكانت سببا لمغادرتها.فمن رواية الحفيد نفهم أن الأسرة كانت في وضع مالي ميسور وأنها كانت أسرة خاضعة لحكم القبيلة بنظامها الحاكم (العصبية، المشيخة، الولاءات، تبدل المصالح … الخ ) بل إنها واحدة من القبائل القوية.كما نتعرف بشكل ما على طبيعة الصراع الذي حدث؟ إنه ثورة قام بها العاملون لدى القبيلة على القبيلة ذاتها حين واتتهم الفرصة، ثم تذكر الرواية نتيجة تلك الثورة إذ أدت إلى ضياع الأملاك وفرار العائلة من الحوقين إلى الرستاق .
– بينما يصف الشيخ العبري ما وقع للأسرة السالمية من أحداث بأنه " فتنة " وهو تعبير يحمل أكثر من معنى لغوي إذ تأتي بمعنى: الابتلاء والاختبار، كما تأتي بمعنى الإحراق، وهي بمعنى المحنة وبمعنى اختلاف الناس بالأراء… (16) وبحسب سياق الرواية فإن العبري يقدم وصفا معبرا ينم عن هول ما لحق بالقبيلة من دمار مستخدما المصطلح الشهير الذي تم التعبير به من الأحداث العاصفة والمأساوية التي مر بها المسلمون في القرن الأول الهجري رغم ,بعد الشبه بين الحالتين، لكن التعبير في حد ذاته غير مبالغ فيه إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما جاء عن: "غنى القبيلة الفاحش / قبل الأحداث القبلية " في مقابل " الخروج دون أن يأخذوا معهم شيئا"، في هذه الرواية كذلك إشارة هامة إذ بحسبها فإن النزاع الذي نشب لم يكن مقتصرا علي السوالم والخضوع بل كان أهالي البلدة طرفا فيه لتبدو معه الحالة أقرب لوضع طبيعي لمجتمع قبلي، تكمن أهمية هذه الإشارة في توصيفها للحالة الاجتماعية القبلية السائدة في تلك الفترة (17). لكنها وهي تفعل ذلك في سياق الحديث عن الشيخ السالمي لا تصرح بوضوح عن التحالفات التي تمت وأدت إلى فرار العائلة بكاملها ومغادرتها لموطن نشأتها، تماما كما أغفلت الحديث عن المحرضات التي دفعت بـ" الخضوع" إلى الثورة عليها.ثم إنها لا تطلعنا على موقف باقي أهل «الحوقين » مما حدث، خاصة وأن للقبيلة بحسب الرواية ذاتها حضورا فاعلا في المجتمع.فهل كان " الخضور" وباقي البلدة في طرف وقبيلة آل السالمي في الطرف الأخر وهو ما توحي به الرواية الأولى بشكل خاص حين تذكر خروج القبيلة وحدها ؛ أي كنتيجة لنزاع؟.
– تختلف الروايات الثلاث في المكان الذي توجهت اليه الأسرة.ففي الرواية الأولى أنها قصدت الرستاق وهو ما تشير اليه الرواية الثالثة بشكل أقل وضوحا.وفي الثانية أنها توجهت إلى قرية صغيرة هي "الخبة "حيث يقطن أخوال للأسرة السالمية .
– تختلف كذلك حول الانتقال الذي تم.ما طبيعته؟ بل إن الرواية الثالثة لا تتحدث إلا عن مغادرة السالمي وحده لـ "الحوقين " إلى الرستاق؟ فإذا ما سرنا مع الروايتين الأوليين اللتين أكدتا على ترك الأسرة لموطنها: فهل كان الانتقال الأخر من « الخبة » إلى الرستاق انتقالا للأسرة بكاملها أم أنه كان انتقالا للسالمي – الذي أصبح ضريرا – بمفرده؟
من الواضح أن المعطيات التي حملتها الترجمات غير كافية، ومن ثمة فإن للتساؤلات السابقة ما يبررها، إنها محاولة لسد النقص الذي تقدم .
إن ما هو واضح وقد أفصحت عنه الترجمات السابقة اهتمامها الكبير بغاية رئيسية تكمن في وصول الشيخ السالمي إلى مدينة العلم «الرستاق » (18) وهي المدينة التي كانت حتى وقت قريب جدا عاصمة الإمامة ( إمامة عزان بن قيس البو سعيدي (1869-1871م )، وهي المكان الذي ستبدأ منه سيرته العلمية، ملك هي الغاية التي هدفت اليها الكتابات السابقة ومن ثم فقد أغفلت سرد الأحداث بتفصيلها .(19) إن سؤال الدوافع التي نقلت السالمي من «الخبة » المنطقة البدوية إلى " الرستاق " مجمع العلماء سيظل حاضرا ومعلقا؟ .
نخرج من المعطيات السابقة بنتيجة ذات محلات مباشرة بسياق الحديث تتعلق بالأحداث العنيفة والمؤثرة التي جرت للأسرة مع سنوات الشيخ السالمي الأولى فقد أدت الى فقر الأسرة، ففي الرواية الأولى للحفيد يرد كذلك أن وضع السالمي المادي وصل إلى حد أنه لا يجد ثمن كتاب "متن الأجرومية في النحو (20) بعد ذلك « الغنى الفاحش » الذي كانت تنعم به الأسرة كما جاء في رواية الحفيد.أليس لتلك الحادثه دور في تشكيل وعي مبكر ما لدى الشيخ السالمي وفي تشكيل توجه جديد لدى الأسرة؟ ألم تكن سببا في التحاقه وابن عمه الشيخ محمد بن شيخان بمجالس الشيوخ والعلماء في الرستاق ) بكلمة: هل يمكن أن تغييب هذه التساؤلات عن تلك المرحلة؟
في الواقع لا نكاد نجد ذكرا لدور علمي بارز للعائلة قبل أن يلمع هذان الاسمان لاحقا (السالمي وابن شيخان )، ومن ثم فليس مستبعدا أن تعيد الأسرة ترتيب وضعها من جديد فتبعث بصبيها الضرير إلى الرستاق لأخذ العلم، تاركة المال والجاه القبلي للقبائل القادرة على الدفاع عنه.لكن المؤكد بالنسبة لنا هو أن الفترة المضطربة التي ولد فيها الشيخ السالمي وعرفتها سنيه الأولى كانت ذات تأثير فاعل في التوجه الذي ستشهده حياته من بعد، وهي حادثة تلخص الواقع المؤلم الذي شهده العمانيون وشاركوا في صنعه.إنها سمة عصر سيلحظه السالمي وسوف ينشد بذكاء وقوة إرادة صلبة – لاحقا – تغيره .
تكوين السالمي العلمي والسياسي ( لتأسيس )
لعل واحدة من مصاعب البحث والدراسة في سير القدماء تكمن في التركيز على جزء من الأحداث وبعض من الشخصيات واغفال جوانب وأحداث أخري لا تقل أهمية عنها، فإذا كانت الترجمات لا تعطينا لإ النزر اليسير من حياة الأسرة ومشاغلها وهموم العصر الذي ولد فيه الرجل وتقلباته، فإنها وهي تؤرخ لمسيرته العلمية تهتم فقط بسرد سلسلة أسماء الشيوخ الذين أخذ منهم العلم في الرستاق، وهذا السرد لا يأتي في العادة منضبطا – من حيث الأهمية أو الأقدمية- ثم يقفز إلى مرحلة وصوله إلى الشرقية وجلوسه إلى صالح بن علي الحارثي ( 21)، إن من يطالع بعض الأعمال التي أنجزت عن الشيخ السالمي ونتاجه سيلاحظ دون عناء كبير غلبة الرؤى الجاهزة على تلك الأعمال، بحيث يبدو الزمن ممتدا في مساق واحد دون أية إمكانية للتغيير أو التبدل، هذه هي في الواقع القراءة التاريخانية للتاريخ، فعلى سبيل المثال يرى الأستاذ مبارك الهاشمي تجربة الشيخ السالمي باعتبارها محاكاة لتجربة الشيوخ الذين عرفهم: " لقد نشأ الإمام السالمي بين اعلام مجددين وعلماء مناضلين ومجددين ساهموا في تجديد ورسم سياسة البلاد وقامت على أكتافهم دولة الإمام عزان بن قيس، أمثال الشيخ عبدالله بن محمد الهاشمي، والشيخ الأمير صالح بن علي الحارثي، والشيخ ماجد بن خميس العبري، وغيرهم من الذين ناصروا وساندوا تلك الدولة الإسلامية، فلا غرابة أن يتأثر الإمام نور الدين بهذا الجو السائد في وطنه وأمته.. .»
إن اختزال التكوين العلمي للشيخ السالمي إلى مجرد ما أخذه على أيدي الشيوخ يغفل الأدوار الأخرى في الحياة التي قد تكون ذات فعالية شديدة في توجيه حياة ومشاغل التلميذ، خاصة في مرحلته العمرية المبكرة، صحيح أن تأثير الأستاذ / العربي – في بعض الأحيان – قد يبدو حاسما بيد أن الخروج عليه مما يحدث في أحيان أخرى، وفي مرات ثالثة يمكن للتلميذ أن يأخذ من تجاربه الحياتية الشخصية ومن ماضيه ما يكون بمثابة إضافة على ما تلقاه من أستاذه وتجاوز له بحيث يصل إلى بلورة شخصيته الفكرية المستقلة وهو في طور الانتقال من مرحلة الأخذ / التكوين إلى مرحلة العطاء فبهذه الطريقة وحدها يمكن للعلوم أن تتقدم وتحرز نجاحات تذكر لأصحابها الحقيقيين وليس لأولئك المقلدين.وبالنسبة لشخصية مثل شخصية السالمي فإننا لا نريد دراستها منعزلة عن المحيط وبناه التربوية والفكرية والاجتماعية والسياسية التي كانت قائمة كما فعلت جل المحاولات السابقة كما لا يمكن إغفال طموحاتها الشخصية وهي طموحات عادة ما تواكب الأفراد المتيزين والمغايرين في توجهاتهم، كما أن المطامح تكون مصحوبة في العادة بهاجس التجريب والجسارة والمغامرة في سبيل تحقيق أهدافها وهذا هو على وجه التحديد ما يميز بين عالم وأخر وبين مفكر ومفكر بل بين المثقف الحقيقي ونظيره الكسول .لا يعني ما سبق قوله إهمال شيوخه فذلك غير ممكن لأية مقاربة لمرحلة وتجربة غنية، بل هي أكثر المراحل تأثيرا على توجهاته اللاحقة، لكن علينا التفرق بين النظر اليهم باعتبارهم شيوخا.عرفهم وتلقى منهم العلم ليحمله كما هو إلى اللاحقين، وبين تقصي المسار الحياتي ضمن فضا، أوسع من مجالس الشيوخ وحدها، أي النظر إلى المسألة باعتبارها تجربة حياة فاعلة متكاملة داخل تلك المجالس وخارجها كذلك .(22) لنلاحظ أولا ما تقوله الروايات:
1- " بعد أن أتم حفظ القرآن الكريم حاول والد الإمام، أن يعلم ابنه دروس العلم من علماء الحوقين، ولكن لم تكن هناك رغبة من الولد، ولم يأخذ من العلم شيئا إلا ما كان يعلمه إياه والده وهو حفظ القرآن الكريم " (23.)
2- " وبسبب من المشاكل الاجتماعية والسياسية التي كانت تجتاح البلاد في ذلك الحين، خرجت أسرة الإمام السالمي من "الحوقين " إلى منطقة الباطنة، ولم تطل به الإقامة هناك، ثم عاد إلى الرستاق المدينة، وكانت أنذاك زاهرة بالعلماء الأفاضل، فقد كان بها يومئذ الشيخ العالم الزاهد عبدالله بن محمد الهاشمي، الذي كان واليا وقاضيا عليها من قبل الإمام عزان بن قيس رضي الله عنه ( … ) فأعاد والد الإمام المحاولة ورغب أن يلحق ولده بإحدى مدارسها، ولما أحس الوالد أن أبناء المنطقة يشتغل أغلبهم بالسعي في طلب العلم رغب في ذلك" (24).
3- جاء في "نهضة الأعيان ": " كف بصره – رحمه الله – وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وكان في صباه حافظا قوي الذاكرة، لا يكاد يسمع شيئا إلا وعاه، ثم خرج من الحوقين لطلب العلم المحمود إلى الرستاق فتتلمذ للشيخ راشد بن سيف اللمكي عالم الرستاق ونواحيها في ذلك الزمان , وأدرك الشيخ عبدالله بن محمد الهاشمي وأخذ عنه فهو أحد شيوخا الفضلاء شرع في التأليف بالرستاق سنة1305هـ، ونظم أرجوزة في الجمل وشرحها وهي أول ما صنفه وكانت سنه في ذلك الوقت سبعة عشر عاما، وشرع في التدريس في سائر الفنون العلمية ثم هاجر إلى الشرقية سنة 1308هـ لما يسمعه من أخبار الشيخ صالح وعلو صيته " (25)
4- " بقي ملازما لعلماء الرستاق بعد أن هاجر إلى الباطنة، وكانت الرستاق أنذاك زاهرة بالعلماء الأفاضل، ورجال الدين الأماثل وعلى رأسهم الشيخ راشد بن سيف اللمكي، وماجد بن خميس العبري، وعبد الله بن محمد الهاشمي، وبعد أثنين وعشرين عاما هاجر من الرستاق إلى الشرقية لما يسمع بها هنالك من الميت الشائع والكرم الذائع من الشيخ المجاهد الغيور الصبار الشكور الولي صالح بن علي الحارثي … ".(26)
5- "وكان شيوخه الذين تربى بين أيديهم هم اعلام وأئمة المذهب الأباضي في عصره في عمان، ومن أشهر هؤلاء الشيوخ الشيخ صالح بن علي الحارثي، والشيخ ماجد بن خميس العبري، والشيخ راشد بن سيف اللمكي" (27).
ما المعطيات التي تطرحها الترجمات السابقة؟
إنها تحوي قدرا مفيدا من تجربة الشيخ السالمي العلمية ( ما دعوناه بالتكوين )، رغم أنها تتصف بنوع من التكرار وكثير من التعميم، هي بالشكل الذي عليه الأن يمكنها المساعدة في ولوج عالم تلك المرحلة الهامة من حياة الرجل، وتمنحنا الفرصة من ثم لمساءلة بعض النقاط التي وردت فيها، وهي مساءلة لا غنى عنها في مجال الدراسات التاريخية .
– تشير الترجمة الأولى إلى قدرة لدى الصبي وصلت حد حفظه للقرآن الكريم، وتنتهي بذكر عدم رغبته الالتحاق بمجالس الشيوخ في الرستاق دون أن تبدي أسبابا لانعدام تلك الرغبة، لكن الترجمة الثانية وهي ترجمة متأخرة جدا نقلها الهاشمي شفهيا من أحد أحفاد الشيخ المعاصرين تأتي بمثابة تبرير للترجمة الأولى فتبين أن الوالد تمكن من إقناع الابن وإلحاقه من بعد بتلك المجالس التي كان قد عافها.ثم يأتي في الترجمة الثالثة بشكل خاطف بيان تلمذته على أيدي علماء الرستاق، وتنتقل من ثم إلى شروعه في التأليف حين بلغ السابعة عشرة من عمره، ثم تطلعنا على تركه الرستاق باتجاه الشرقية حيث يقطن الشيخ الحارثي ذائع الصيت، وتنتبه الترجمة إلى أن بقاءه في الرستاق دام اثنين وعشرين عاما .
– ما الذي يمكن ملاحظته على المعطيات السابقة؟ ثمة ثلاث ملاحظات مترابطة:
الملاحظة الأولى: تتمثل – كما سبقت الإشارة – في القدر الكبير الذي تمنحه الترجمات لشيوخ السالمي الذين تلقى على أيديهم المعرفة ونبغ فيها «بل فاقهم فيها» لاحقا، وهي تجعل شيوخا في مرتبة واحدة باستثناء تركيزها على أهمية وصوله إلى الشيخ صالح بن علي الحارثي .
– الملاحظة الثانية وهي متممة للأولى: إنها ترجمات غير مكتملة، إذ وهي تغط ذلك فإنها تختزل المرحلة الأهم من تكوين الشيخ السالمي (اثنين وعشري عاما ) إلى مجرد ما أخذه من الشيوخ الذي تتلمذ عليهم في الرستاق دون أن تعير أهمية للأحداث الشخصية والموضوعية الأخرى التي عرفها التلميذ وتلك التي كانت عليها المرحلة الزمنية في الرستاق، كما أنه بالتدقيق فيها يمكن ملاحظة غلبة الجانب التبريري الذي يبدو وكأنه غير متماسك بما يمنح التعليلات قوتها .
– الملاحظة الثالثة تتعلق بتوقيت وظرف كتابة تلك الترجمات، فهي ترجمات أعقبت وفاة الشيخ السالمي، ومن ثمة فقد صاحب ظهورها ما شهدته عمان من أحداث وصلت مداها بنشوب النزاع المسلح.بهذا المعنى هي ترجمات لا تخلو من توجهات معينة لمؤلفيها وقد تكون الأحداث تلك على علاقة مباشرة بها، يمكن لنا أن نضع الروايات مجتمعة ضمن ما عرفته الكتابات التاريخية العربية في عمومها، وهو ما يعرف.بـ«إنقاذ وحدة الجماعة » إنه إذن عامل سياسي جماعي، إن مصدر جل الترجمات المتعددة التي تمت عن الشيخ السالمي كان المؤلف الأهم في التأريخ للمرحلة المتأخرة من تاريخ عمان ؛ أعني كتاب «نهضة الأعيان بحرية عمان » (28) و كذلك الترجمة التي وضعها المجاهد الأباضي إبراهيم اطفيش وصدر بها عام 1345هـ ( = 1928تقريبا) الطبيعة الأولى من مؤلف الشيخ السالمي « جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام »، أي بعد ما يقرب من أربعة عشر عاما من وفاة الشيخ السالمي.هذا يعني أن الترجمتين ولدتا في ظرف كانت الأوضاع فيه شديدة التعقيد وكان الخطاب السائد في عمان وقتها معنيا جوهريا بترسيخ الهوية والدفاع عنها أمام ما كانت تشهده البلاد من حالة تمزق داخلي وتدخلات خارجية، وكانت شخصية الشيخ السالمي التي ناضلت من أجل أهداف سياسية حاضرة في الأذهان، في غمرة تلك الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية العصيبة ولدت تلك الترجمات.إننا إذن أمام لحظتين زمنيتين: لحظة كان فيها التيار الفكري(السياسي بصفة خاصة ) يراهن على مرجعية تاريخية كان الشيخ السالمي قد بعثها بعد غياب قارب نصف القرن، ولحظة تالية ( وهي مرحلة التأريخ للشيخ ونشر مؤلفاته في الخارج: مصر، سوريا، الهند، وربما زنجبار) كان الوضع فيها مهددا بزوالها؟ أي مرحلة خفرت الخطاب النضالي الذي كان الشيخ السالمي أبرز رجاله، إن إدراك الفارق الزمني بين لحظتي إنتاج الخطاب وتسجيله يساعدنا في الاقتراب الأكثر دقة من توجهات مؤلفيها، ومن ثم يسهل علينا فهمها بصورة أقرب لزمنها قبل أن نسلم بها تسليما نهائيا، إن ما يعرضه أبو بشير في «نهضة الأعيان » أقرب إلى روح خطاب زعماء الإصلاح.يمكن على سبيل المثال تلمس تأثير الكواكبي( 1855 – 1902 ) فيه من خلال العنوان ذاته «نهضة الأعيان بحرية عمان » للسالمي الابن / «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» للكواكبي، ثم هنالك العديد من التقاطعات خاصة على صيد التوفيق بين بعض المفاهيم الدينية وبعض المفاهيم التي جاءت بها فلسفة الأنوار، على سبيل المثال نجد للمرة الأولى مفاهيم عديدة جديدة على الموروث الأباضي في عمان من نحو: « الحرية »، و«قوانين العدل » « الأبناء الأحرار»، " الوطنية "، « الحكومة »، " الاستقلال "، « الدستور» … الخ التي يحملها كلا الخطابين، إذ كانا معنيين بمسألة تحقيق الحرية "الشرعية " الأول في « القطر العماني » كما يذكر في مقدمته، والأخر كان ينطق من رؤية قومية عربية أشمل لا تخفي تأثرها بأفكار عصر الأنوار هكذا إذن كان الابن وهو يضع « نهضة الأعيان بحرية عمان » مسكونا بهواجس وأفكار تيار كامل يضج صخبه في العالم العربي من المحيط إلى المحيط الى الخليح (29) وكانت مرجعيته في عمله مرجعية دينية أباضية، وعلى وجه التحديد كانت الامامة التي قام بها والده وعايشها لحظة بلحظة،هذا ما يصرح به نفسه في مقدمة المؤلف المذكور إذ يضعها." نهضة الأعيان " يقول الابن: " … إذ كنت العصا التي يتوكأ عليها سيادة الوالد( … ) وهو الزعيم بلا جدال وبعده لزمت الإمام الخروصي في سراياه وفتوحاته وما تخلفت عن الإمام الخليلي إلا في بعض أوقاته ». كان يكتب إذن بعد سنوات غير قصيرة خاض خلالها منذ صباه تجارب غير سهلة، ليجد نفسه من ثم منفيا في أرض أخرى ليس التي قاتل من أجلها، وهكذا يهدي مؤلفه التأريخي العماني الهام إلى: "سيدي المعظم: سعود" مناجيا إياه في نبرة مليئة بالحنين والحنق والألم: "حياك بتحية الملك من أحيا بك دعوة الحق، ورداك رداء الإعظام من أعلى بك الإسلام، تحية من أحد المهاجرين الذين تقطعت بهم الأسباب، وسدت دونهم الأبواب …" ثم يتبع «النهضة » بمؤلف أخر لا يقل في نبرته الحماسية عن «النهضة » يتوجه به إلى العمانيين والعرب والمسلمين، أعني كتاب « عمان .. تاريخ يتكلم »، إنه يكتب مدافعا عن نظام الإمامة في عمان وبصورة خاصة الإمامة الأخيرة ؛ إمامة غالب بن علي الهنائي ممجدا مفاخر الإمامتين الأخيرتين « فحاولت أن أكتب ما استطعت الحصول عليه مما وقع لهم في زماننا من المفاخر الحميدة والمآثر المجيدة التي استنار بها القطر العماني من سيرة الإمامين المرشدين سالم بن راشد الخروصي ومحمد بن عبدالله الخليلي، وما حظيت به عمان في أيامهم من الخيرات وما كان بزمانهم من النوازل والحوادث والفتوحات ».وكان اطفيش يعمل في ذات الاتجاه الذي يدافع عنه أبو بشير في " النهضة ".يستوقفنا على سبيل المثال ما جاء في ترجمة اطفيش ( ت: 1965م ) التي نقلها حرفيا في الأغلب عديد الترجمات المتأخرة: يقول اطفيش: « كان رحمه الله ضريرا قوى الذاكرة في منتهى الذكاء، ذكر تحدثا بنعمة الله في بعض تأليفا أنه وقع أمامه حادث في المهد، ولما كبر ذكر ما بقي بذهنه لوالديه فحسبوا مضي أيامه، فإذا هو ابن عشرين يوما »، في حين لا يورد الابن ( أبو بشير ) ذكرا لهذه الحادثه وهو الذي يقول في مقدمة كتابه موضحا مصدر معلوماته « … وما فاتني إلا نزر أخذته من الثقة فضمانه عليه،إذ كنت العصا التي يتوكأ عليها الوالد في جميع أسفاره، وغيبة سره في ليله ونهاره » واذن فقد كان وهو يسجل تلك الأحداث من بعيد يحمل بداخله رؤية سلفية / قبلية، متأثرة بخطاب نهضوي متحول / بعدي، هذا يعني أن منهج قراءة ما أنتجته المرحلة تلك دون تساؤل منهجي، أي بتسليم معلق إنما هو إلى إمعان في القراءة اللاتاريخية للفترة التاريخية ذاتها (30).
إن الخلاصة التي تبديها الترجمات بوضوح شديد هي التحاق الصبي بمجالس الشيوخ في الرستاق، تلك المجالس التي لا تطلعنا عنها شيئا سوى أسماء بعض شيوخها وهي تدفع بهم دفعة واحدة جاعلة الشيوخ في مرتبة متساوية من حيث درجة التلقي ومن حيث امكانياتهم المعرفية .
تربط الترجمات تكوين السالمي العلمي في الرستاق، بثلاثة كما هم:
– الشيخ عبد الله بن محمد الهاشمي
– الشيخ ماجد بن خميس العبري
– الشيخ راشد بن سيف اللمكي .
ترد هذه الأسماء بتقديم وتأخير، ونلاحظ أن اسم اللمكي يتقدم في الغالب، ويتوسط اسم العبري بينما يتقدم مرة ويتأخر مرات اسم الهاشمي.كل ثمة دلالة في عدم انضباط الترجمات وهي تسرد أسماء شيوخ السالمي؟ سوف نسير نحن إجرائيا وفق الترتيب الذي طرحناه، محاولين من ثم ترتيب تلقي الصبي علومه عنهم ثم ترتيب درجة ذلك التلقي ونوعية العلوم التي تمكن منها والمكان أو الأماكن التي كانت محلا للتلقي في تلك الفترة.
1- عبدالله بن محمد الهاشمي:
يسعفنا الشيخ السالمي في مؤلفه التاريخي الهام « تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان » بمعطيات تخدم هذا الجانب، ففي أحد الأماكن يورد رسالة وجهها الإمام عزان بن قيس إلى الشيخ الهاشمي الوالي والقاضي بولاية الرستاق، وذلك في معرض ذكره لأحكام الإمام عزان، جاء فيها:
« … ومنها – أي أحكام الإمام – حجر أكل الحلوى، والفواكه من أموال مسجد الرستاق، وكان وجد لأهلها التوسع بمثل ذلك، وأمر أن ينفذ فضيلة غلتها في المتعلمين، وكتب في ذلك إلى والي الرستاق وهو شيخنا عبدالله بن محمد الهاشمي: « من إمام المسلمين عزان بن قيس إلى الشيخ المحب المكرم المحترم الناصح العزيز الثقة الفاضل الأخ عبدالله بن محمد الهاشمي، وكافة المتعلمين سلمكم الله تعالى وعافاكم وحرسكم وحماكم،سلام من الله عليكم ورحمة الله وبركاته: نحن بخير ونعرفك أن الواصل اليك سالم بن هاشل الجرادي قد بعثناه إلى بلدكم معلما في النحو وقد جعلنا له كل شهر ثمانية قروش، ومن كان من أهل البلد فله قرشان، ويكون ذلك من أموال المتعلمين التي عندكم ومن فضلة أموال المساجد ؛ وقد حجرنا أكل الحلوى والفواكه بالفضلة ورأينا صرفها في هذا الأمر الذي يربي العلم ويقوى الدين، ويكون التعليم في جميع المساجد وكل وقت يقيم المتعلمون في مسجد فقيامهم ( على تلك الأموال ) واحرص على ذلك وذمرهم، وشمر بنفسك، وانصحهم، واغلظ لهم القول، وسارعوا في هذه إلى إحراز هذه الخصلة الشريفة »(31).
تنتمي هذه الرسالة إلى زمن إمامة عزان بن قيس البوسعيدي (1285هـ) /( 1869- 1871م )،خلال هذه الفترة ( فترة إمامة عزان بن قيس التي لم تكمل العامين والنصف ) كان الهاشمي واليا من قبل الإمام على منطقه الرستاق وكان عمر السالمي (1286 هـ = 1869 تقريبا ) وقتها دون الثالثة، والأرجح أنه كان ما يزال في « الحوقين » لم يخرج منها بعد، كيف العلم من الشيخ الهاشمي؟ ثمة احتمالان:
الأول: إما أن الهاشمي ظل مدرسا في الرستاق بعد القضاء على الإمامة ومن ثم فقد التحق به السالمي، أي في وقت متأخر ومن ثم فإن وصفه للهاشمي بـ« شيخنا» مقصود منها تلمذته عليه.وهكذا سارت كل الترجمات التي أرخت لسيرة السالمي من دون عناية بقضية الزمن الفاصل بين عمر السالمي وزمن ولاية الهاشمي على الرستاق .
الثاني: أن « تلمذته » على يدي الشيخ الهاشمي لم تكن أبعد من اللقاءات العابرة التي ينتهز فيها المتلقي عادة وجود الشيخ فيطرح عليه بعض التساؤلات العالقة بذهنه حول بعض المسائل.للأسف الشديد فإن مؤلف "النهضة " لا يؤرخ لسيرة الشيخ الهاشمي كما فعل مع جل علماء تلك الفترة من مثل الشيخ العبري والشيخ اللمكي وغيرهما، تبدو أهمية التاريخ هنا في أنها لو وجدت ستمكننا من معرفة ما آل اليه الهاشمي من مصير عقب سقوط إمامة عزان بن قيس، إذ نعلم مثلا من خلال السالمي نفسه مصير رجلين مهمين عاضدا تلك الدولة بل كانا أهم الشخصيات المؤسسة لها وهما: الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، والشيخ محمد بن سليم الغاربي(32) إذ كلاهما مات مقتولا عقب سقوطها، ومع أنه – فيما يظهر من تاريخ الشيخ السالمي لعقد البيعة – لا يبدو أن الشيخ الهاشمي كان من بين الشخصيات المحورية في قيام إمامة عزان بن قيس إلا أنه كان من بين الشخصيات البارزة فيها خلال المدة القصيرة التي عاشتها.يمكننا هنا أن نتساءل عن طبيعة الحياة التي عرفتها البلاد خلال تلك الفترة «الانتقالية » بين نظامين مختلفين؟
إن تتبع الأحداث التي أعقبت سقوط إمامة عزان بن قيس لا تساعد في تقليب أي من الاحتمالين: فمن جهة لا تذكر المراجع القليلة التي اعتنت بأحداث المرحلة تلك، الشيء المفيد عما هو خارج الأحداث السياسية والعسكرية، ومن جهة ثانية نفهم ممن أرخ لتلك المرحلة أن "الرستاق " ظلت إلى وقت متأخر غير تابعة لنظام الحكم الجديد، بل يفهم من المراجع ذاتها أنها تحولت إلى ما يشبه " مقر المعارضة "، وهو ما جعلها عرضة لتحالفات ومناورات سياسية عسكرية قبلية .
مع ذلك فثمة معطيات أخرى يمكن لها أن تساعدنا في مقاربة الحالتين الاجتماعية والثقافية اللتين وجدتا في الرستاق خلال تلك الفترة،ومن ثم معرفة ما تلقاه السالمي على يدي الهاشمي، فإذا كان البحث في شخصية الهاشمي لا يوصلنا إلى نتيجة واضحة لوضع التعليم في الرستاق بعيد تغير نظام الحكم فإن ما تؤكده المراجع هو تلمذته على علمين أخرين هما الشيخ العبري والشيخ اللمكي في الرستاق ذاتها وهو ما يدل علو أن مسألة التعليم كانت تحتفظ بخصوصية متفردة، فمع أن الصراع بين النطامين كان مشتدا في جوانبه العسكرية والسياسية والاجتماعية إلا أن ثمة ما هو خارج عن تلك الدائرة، لعل جانب التعليم في مقدمتها، فقد ظلت الرستاق ملتقى طالبي العلم والساعين من أجله، من هنا فإن ثمة تساؤل يتبادر إلى الذهن.لماذا والبلاد في وضعها السيئ ذاك – يبقى التعليم على حاله؟ هذا السؤال يدفع باتجاه تساؤل أكثر عمقا يصب في المنهجية الحياتية التي كان يتمثلها الأسلاف، حول رؤيتهم لقيمة العلم ( فائدته وفق النظرة التقليدية )، القيمة هنا تأخذ أكثر من معنى لكنها في الأساس تحمل رؤية تقديرية كبيرة لضرورة الإبقاء عليه كمخرج / زاوية نظر للمستقبل؟
يمكن لهذا الطرح أن يكون أكثر مصداقية بمعرفتنا أن الإمامة التي ستكون (نتيجة لجهود السالمي الكبيرة) قد خرجت من الجامع وكانت أحد أهدافها اكبري إعادة دور الجامع في الحياة .
إن وصولنا إلى هذه النقطة يربطنا بنص السالمي، أعني الرسالة التي وردت سلفا موجهة من الإمام عزان إلى الشيخ الهاشمي.الا يمكن لها أن تضيف جديدا فيما يتعلق بمنهجية التعليم القائمة في تلك الفترة، تلك التي سيتلقاها السالمي في الرستاق؟ .
تعرفنا الرسالة الواردة من الإمام إلى والي الرستاق بمعطيات هامة، فهي تكشف عن نمط العلم الذي يتلقاه الطلبة وعن مكان التلقي، كما أنها تؤكد على اهتمام نظام الحكم ذاته بمسألة التعليم وحرصا على متابعته ماديا ومعنويا، إذ تسمي الرسالة المعلم / الموظف: سالم بن هاشل الجرادي وهو أستاذ في النحو وقد خصص له مبلغ من المال يتقاضاه نظير وظيفته، ثم إنها تفصل بين القادر على التعليم وبين غير القادر عليه، فالقادر لا معونة له بل إن عليه دفع رسوم نظير تعلمه، وتجعل كذلك التلميذ الوافد إلى الرستاق ومن هو من الرستاق لكنه فقير ممن تشملهم معونة الدولة، وتحدد الرسالة مصدر الدعم المالي حيث تثبت مصدرين له: ما يدفعه القادرون على الدفع (الأغنياء بمعنى أخر )، وتمثل الأموال الموقوفة للمساجد المصدر الأخر للدعم ونحن نلمح هنا تعاملا استثماريا مبكرا لأموال الوقف تخرج بالوقف من مكانه لتثبته في مكان أخر استجابة للمتغيرات التي شهدتها المرحلة خاصة اظرف المالي الصعب الذي كان يمر به نظام الحكم الإمامي .
تفصح الرسالة كذلك عن أماكن الدراسة وهي المساجد، وهي هنا تطلعنا أن التعليم لم يكن مقتصرا على مسجد بعينه بل إنه كائن في أكثر من مسجد.إن الرسالة تثبت الأهمية الفعلية للتعليم باعتباره ركنا من أركان الدين، وفي هذا السياق تأمر الرسالة الإمام بالمتابعة والإشراف الشخصي والمباشر عليه .
بالعودة إلى البحث في طبيعة المرحلة ذاتها، وهي مرحلة ما بعد سقوط الإمامة سوف نجد أن الرستاق قد ظلت في أيدي أتباع الإمامة « وكانت الرستاق والحزم قد بقيتا في يد فيصل بن حمود بن عم الإمام » (33). بل كانت مركزا رئيسيا تنطق منه الغارات المناوئة للحكومة الجديدة، وكانت تمثل – في الفترة الأولى لسقوط الإمامة على الأقل – المكان الأكثر أمنا بالنسبة لأتباع الإمام ومعاضديه، وإذن فمن غير المستبعد أن يكون الهاشمي أحد الذين بقوا في الرستاق مشتغلا بتعليم الأولاد ومن ثم فقد أدركا الشيخ السالمي، أي لحق به مدرسا وفق رواية الابن التي تبدو أكثر دقة من غيرها «تتلمذ للشيخ راشد بن سيف اللمكي، وأدرك الشيخ عبدالله بن محمد الهاشمي"، فهو هنا يفرق بين التلمذة والإدراك .
بناء علي ما تقدم فإنه من غير المستبعد أن يكون الشيخ السالمي قد تعرف علي الشيخ الهاشمي في الرستاق باعتباره مدرسا، لكنه لم يأخذ عنه إلا اليسير، والأرجح أنه تعرف عليه من خلال موقعه الوظيفي كمشرف على شؤون التعليم، وقد استفاد منه استفادة السائل / الطالب من الفقيه أو المفتي، ولعل قلة الملازمة التي عرفاها هي ما جعلت الترجمات تقلل من قيمة ما أخذه السالمي من الهاشمي، هذا يني أن تأثير الهاشمي علي توجهاته اللاحقة كان محدودا .
2- الشيخ ماجد بن خميس العبري:
ولد الشيخ العبري في إحدى المناطق القريبة من « نزى » وتدعى "الحمراء" وذلك عام 1252هـ / 1834م تقريبا وكان والده الموجه الأول له في تنشئته كما يقول مؤلف " النهضة ": "نشأ في حجر والده فبقي يغذيه بحنوه عليه، وعطفه اليه، فشب علي مهاد البر وحب الخير والميل إلى المعالي، ولم يصبو إلى اللهو واللعب من أول نشأته ".أما انتقاله إلى الرستاق فقد كان بعد وفاة والده في أيام السيد أبي عزان قيس بن عزان بن قيس بن عزان، لما شاع من محبة هذا السيد في العلم وتقريبه للعلماء، ولما توفي السيد قيس لازم ابنه السيد عزان بن قيس الذي قلده المسلمون الإمامة العظمي، وكان ممن خرج في الجهاد أول خروج الإمام إلى "بركاء" واستيلاؤه عليها، ولما فتحت «بهلا» جعله الإمام عاملا عليها، وأبلى بلاء حسنا» .
بحسب النصين السابقين: فإن العبري تتلقى العلوم الدينية منذ بداية حياته واستزاد منها بعد توجهه إلى الرستاق، التي عاش فيها فترة مهمة من عمره وكان قريبا من أسرة الإمام عزان، وهو ما يعني كذلك معاصرته لأحداث الإمامة منذ البداية، بل كان أحد المساندين الأوفياء للإمام وقد كان عمره في ذلك الحين دون الخامسة والثلاثين ( ولد عام 1834م بينما تولى عزان الإمامة عام 1869م ) .
وخلال هذه المرحلة من عمره، تولى أكثر من منصب (التدريس، الولاية، القضاء، الفتوى )، كما يشير الى ذلك مؤلف «النهضة » في بداية ترجمته، للعبري: "كان هذا الشيخ في زمانه من اكبر فقهاء عمان، فانه اشتغل في غالب حياته، درسا وتدريسا وقضاء وفتوى» .(34)
هذا فيما يتعلق بحياة العبري، الذي تؤكد المراجع علي انه كان أحد أساتذة السالمي بالرستاق .
ماذا عن علاقته بالسالمي؟
يشير السالمي نفسه، في مؤلفه «تحفة الأعيان »، الى العبري، أكثر من مرة، ويصفه بقوله: "شيخنا"(35) وهي دلالة على تتلمذه عليه كما تؤكد على ذلك المراجع المتأخرة (36) لكن المراجع لا تذكر على وجه التحديد، متى وكيف كانت تلك التلمذة؟ او المدة التي ظل السالمي فيها يتلقى علومه من العبري، اذ من المستبعد ان تكون العلاقة قد تمت في الفترة الاولي من وجود العبري بالرستاق، أي قبل تنصيب الامام عزان، حيث كان عمر السالمي وقتها دون الخامسة .
لكن السالمي نفسه يشير في روايته للأحداث التي صاحبت القضاء على امامة عزان بن قيس، الى ان العبري كان يومها يعمل واليا للامام في منطقه «بهلاء»، وانه قد فر في اللحظات الأخيرة من استيلاء قوات السلطان تركي على حصن "بهلاء"، وانه قد توجه الى الرستاق حيث سيمكث بها فترة من الزمن، قبل ان يعود في أخر أيامه الى وطنه "الحمراء"، أي أن لقاء السالمي بالعبري- على الأرجح – قد تم في تلك الأثناء، أي بعد انقضاء دولة الامامة وليس قبلها، وهي الدولة التي كان العبري أحد رجالها المخلصين، كما يتضح جليا في رواية السالمي هذه:
« … كان الحصار على بهلاء قائما، فنادوا الوالي، وهو شيخنا ماجد ان الامام قتل فلمن تحارب؟ قال: فظننت انها خدعة، فضربت فألا في المصحف، قال: فخرج لي قوله تعالى: "فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات "(37) قال: فعلمت أن الامر قد قضي، وصممت على الا أنزل من الحصن، بل أدافع عنه، قال: فقامت علي العسكر، وقالوا لا نحرب معك بنفسك، قال: فقلت: أما أنا فلا أخذ وجها، فأخذت العسكر لانفسهم أمانا، وتدلى الشيخ من الحصن بحبل الى الارض، ثم نجا بنفسه، حتى أصبح من الليل بمسجد "البياضة " من الرستاق، وكانت الرستاق والحزم قد بقيتا في يد فيصل بن حمود ابن عم الامام "(38).
يمكن القول اذن ان علاقة السالمي التلميذ، بشيخه العبري- الذي دافع عن الامامة، بعد ان تربى في حجر أهلها، ثم هرب فرارا بحياته يوم ان سقطت – قد بدأت بعيد تلك الاحداث، وهو ما يعني ان الشيخ كان محنكا بفعل التجارب، كما انه كان قد خرج للتو من أزمة كبرى اطاحت بطموحات الكثيرين ومنهم العبري، هناك اذن حلم قد أجهض في مهده "لم يدم حكم الامامة سوى عامين وأشهرا"، بينما الصبي- السالمي- في بداية حياته، صافي الذهن، على استعداد تام للاستماع، والقبول ايضا، وربما المشاركة كذلك في تكرار التجربة، وان كان ذل لاحقا.
هكذا اذن فان تلمذة السالمي على العبري، سوف تتخذ وجهتين: الأولى: باتجاه التكوين العلمي، متمثلا في دراسة العلوم المتداولة في تلك الفترة من نحو وصرف وبلاغة وفقه وعقيدة .
الثانية: باتجاه التنشئة السياسية (حديث الساعة، الركن الاعظم في الدين ). ان نص السالمي السابق يفصح عن بعض من ذلك، فهو يعتمد على الرواية الشفهية، أي ان مصدر الرواية هو الشيخ العبري ذاته، وهي رواية واضحة التوجهات الفكرية، كما ان فيها دليلا على أن تلك الاحداث لم تكن بعيدة عن مجالس العلم، بل الأرجح ان تكون في مقدمتها.
اضافة الى تلك الرواية فان شخصية من قبيل شخصية العبري، لم تكن شخصية عابرة على الاحداث، كما ان أصولها القبلية لم تكن كذلك عادية، بحيث يمكنها نسيان تلك التجربة التي خرجت منها مهزومة، بل إنها شخصية تؤكد المراجع على قوتها، كما يقول صاحب «النهضة » مثلا: " … وكان شديد الحرص على اتباع العلماء المتقدمين، وكثيرا ما يشتد على علماء عصره، اذا رأى منهم ما لم يألفه من شيوخه الاقدمين، ولا يبالي في الرد عليهم "(39).
وهو ذات ما يؤكده السالمي نفسه في معرض حديثه عن احد أحكام الامام عزان بن قيس، حين يختلف العبري معه، فلا يبالي في الافصاح عن معارضته له، على خلاف ولاة أخرين كانوا يرفضونه سرا لكنهم لا يستطيعون معارضته جهرا.( 40).
بل لا يرى مانعا من ان يشتد عليهم "الامام واعوانه ".. في الانكار: " …فوقع في نفوس جملة من علماء ذلك العصر، ولم يتجاسروا ان يردوا على الشيخ، فكتب الشيخ ماجد الى زميله عبدالله بن محمد الهاشمي انكاره ذك .."(41). هكذا اذن يمكن القول ان مدرسة العبري، مثلت النواة الاولي في تكوين السالمي السياسي، حيث صب الشيخ خلاصة تجربته وكفاحه، في اذهان تلاميذه الذين كان من بينهم السالمي. فإضافة الى الأجواء المشحونة بالسياسة، التي كانت تعيشها البلاد، ويراها ويسمعها الناس، وتتناقلها المجالس الخاصة، وتحللها منابر المساجد، كان السالمي كذلك يستمع في صباحه الباكر الى تحليل واف للأحداث التي يتناقلها الناس، وكان أحد مصادر تلك التحليلات شيخا العبري.
3- الشيخ راشد بن سيف اللمكي:
ترى المراجع التي أرخت للسالمي، ان اللمكي كان أحد شيوخه الكبار، حين كان تلميذا بالرستاق، لكنها لا تحدد وقتا معينا لتلك التلمذة كما لا تذكر نوعية العلوم التي تلقاها السالمي من اللمكي.
أما السالمي فلا يأتي على ذكر هذه الشخصية في مؤلفه «تحفة الاعيان »، سوى مرة واحدة، من دون كلمة "شيخنا"، التي تسبق في العادة أسماء الشيوخ الأخرين، (الهاشمي، العبري، الحارثي، على سبيل المثال ).(42) ولد اللمكي عام 1262هـ (1844م تقريبا)، أي بعد نحو عشر سنوات من ولادة العبري، وقد كانت ولادته بالرستاق حيث تتلمذ على يدي العبري، قبل أن يجيزه للتدريس بذات المسجد الذي اخذ فيه العلم، أي مسجد "قصري"، بالرستاق وتذكر المراجع انه عمل قاضيا، ومفتيا بالرستاق قبل وفاته عام 1333هـ (43) ( 15 19 تقريبا)، أي عقب وفاة تلميذه السالمي، التي تجعل المراجع عام 1914م تاريخا لوفاته .
وتعدد له المراجع مجموعة من المؤلفات هي:
1- مجموع مسائل في مختلف الدعاوى والاحكام والديانات .
2- منظومة في السلوك .
3- منظومة في التحريض على نشر الحق .
4- منظومة في فضائل العلم .
5- منظومة في المواعظ والحكم .
6- رسالة سماها المسالك في علم المناسك .
هذه هي كل المعلومات التي وفرتها المراجع، من اللمكي بإضافة بسيطة تتمثل في الاشارة الى كمزة السالمي عليه .
لكن متى تمت تلك التلمذة؟ وما هي الأهمية الفكرية التي مثلها اللمكي بالنسبة للسالمي؟ هذا ما لا تحدث عنه المراجع على الاطلاق .
سبق القول ان اللمكي كان أحد تلامذة العبري، وثمة اشارة الى ذلك، جادت على لسانه في معرض المقارنة بينه وبين شيخا العبري، وتلميذه السالمي، يقول فيها:
«أخذت العلم عن الشيخ ماجد بن خميس العبري، فصرت أوسع منه علما، واخذ عني العلم الشيخ عبدالله بن حميد فصار اوسع مني علما».( 44)
وهي مقولة تشير الى ان تلمذة السالمي على اللمكي كانت متأخرة على تلمذته على العبري، يؤكد ذلك ما اورده الهاشمي: «ويعد- أي اللمكي- من اكبر شيوخه بهذه المنطقة قبل سفر الامام السالمي الى (القابل )، مع الشيخ صالح بن علي الحارثي، ويكاد لا يذكر للشيخ السالمي مدرسا له (بالرستاق ) غير هذا الشيخ ».(45)
وإذن فإن اللمكي بعد أن أخذ اجازة التدريس من العبري، التحق به السالمي ليصبح أحد تلامذته، وليكون اللمكي أخر شيوخه بالرستاق، لكن ما الذي أخذه السالمي عن اللمكي من علوم؟
في الواقع يعصب تحديد العلوم التي أخذها السالمي من اللمكي بدقة، اذ تكتفي المراجع بتعداد شيوخه، دون إشارة الى دورهم الحقيقي، أي دون تحديد أنواع المعارف التي استقاها السالمي من شيوخا، لكن اذا ما عاد الباحث الى المراجع، التي تحدثت عن تلك الفترة، فانه يستطيع مقاربة ذلك.
أ – جاء في «نهضة الأعيان »: «ثم خرج – أي السالمي- من الحوقين، لطلب العلم المحمود الى الرستاق ".(46 )
ب – كما جاء لدى الهاشمي: «وكانت العادة ان يدرس الطالب بعد معرفته قردة القرآن، وتركيب الحروف والكلمات، مادة قواعد اللغة العربية، كي يتعود لسانه على ضبط الكلمات، ويجيد القراءة السليمة ».(47)
ج – وفي موضع آخر: "فصوب الامام السالمي نظره اليه، لما يسمعه عن محاولاته إعادة الامامة الى عمان، وخرج من الرستاق مهاجرا الى الشرقية، بلاد الشيخ صالح بن علي عام 1308، وكان طريقه اليها من الجبل الأخضر، ومر في طريقه ببلدة الحمراء، فنزل فيها على شيخه ماجد بن خميس العبري، فأقام معه بضعة أيام، وقد أطلعه يومئذ على شرحه لشيء من قصائد «دعائم الاسلام » للشيخ ابن النضر، وهذا الشرح يعرف «بالشرف التام في شرح دعائم الاسلام »، وهو من اوائل مؤلفات الامام السالمي، التي بدأ تأليفها وهو بالرستاق "(48)
ان النصين الاولين يتحدثان عن المرحلة الاولي من توجه السالمي الى مقاعد شيوخ العلم .
واذا كان النص الاول قد تحدث بإجمال عن نوعية العلوم التي ذهب السالمي ليتلقاها، حيث وضعها تحت عنوان «العلم المحمود»، فان النص "ب " حاول الافصاح قليلا عن تلك العلوم، وهي بالتحديد علوم العربية: القراءة والكتابة.ان النص «ب » يحاول رسم المنهجية التي كان يتم بها تلقي العلوم وهي تتلخص على النحو التالي:
1- يبدأ الطالب بقراءة القرآن وحفظه، وغالبا ما يتم ذلك قبل وصوله الى مقاعد الشيوخ، وفي تلك الفترة يكون كذلك قد تعلم بعض أمور الدين المهمة كالوضوء والصلاة .
2- ثم يبدأ بتلقي علوم الحربية «الآلة قديما"، ليتمكن من «تركيب الحروف والكلمات » بحسب تعبير النص "ب " وهذه المرحلة غالبا ما تكون مقدمة لدراسة العلوم الاخرى، كعلم الفقه، والحديث , والعقيدة.
3- ثم بعد ان يصل الطالب الى مرحلة تمكنه من هضم العلوم الدينية الاخري، ينتقل اليها، وقد يتلقى العلمين معا أي علم العربية، والعلوم التي تعني بشكل مباشر بأمور الدين .
4 – تأتي بعد ذلك المرحلة الاخيرة من حياة الطالب وهي مرحلة النبوغ والقدرة على العطاء، وهنا يتوقف الأمر على الشيخ فإذا ما رأى في تلميذه النباهة والمقدرة العلمية، أجازه لمواصلة مشوار العلم، فيصبح عندها استاذا يعطي ما أخذه في السابق من شيوخه الى تلاميذه .
وبحسب النص «ج » فان السالمي قبل أن يترك الرستاق , كان قد وصل الى المرحلة الاخيرة، واصبح استاذا يلقي الدروس ويؤلف الكتب، واذا ما سار الباحث مع هذا التحليل فالأرجح ان تكون العلوم التي أخذها السالمي من اللمكي، كانت علوما معمقه، أي ليس تعلم العربية، أو مبادئ العلوم الاخري، بل الاقرب للصواب ان تكون دراسته قد وصلت الى مرحلة متقدمة جدا، فإضافة الى الاجازة التي تلقاها من اللمكي ليصبح استاذا فانه قد تعرض في بداية تأليفه لموضوعين على غاية من الاهمية والصعوبة في أن، أي علم العربية، النحو تحديدا، وعلم العقيدة / الكلام، وواضح من العنوانين اللذين اختارهما لمؤلفيه «بلوغ الامل في شرح الجمل »، و«الشرف التام فيشرح دعائم الاسلام » انهما يحملان دلالة واضحة على ثقة بالنفس، وهي ثقة قد لا تتأتى الا للمقتدر.
هذا الحديث يعني كذلك ان العلوم التي استقاما السالمي من اللمكي كانت خليطا من العلوم المتعلقة بأمور الدين (الحديث، الاصول، الفقه، العقيدة ) اذ ان مؤلف ابن النضر "دعائم الاسلام "، كان مؤلفا جامعا لكثير من العلوم، كما انه كان مؤلفا على درجة كبيرة من العمق المعرفي، بالنسبة للمواضيع التي طرحها هذا فيما يتعلق،بـ "العلم المحمود" الذي ورد ذكره في "نهضة الاعيان بحرية عمان ".
ثمة علم أخر لا ترد الاشارة اليه، في المراجع التي تناولت تلك الفترة من حياة السالمي، وهو ما يهمنا هنا بشكل خاص، ذلك هو ما يمكن وصفه بـ "علم شؤون الساعة " أي ما يتعلق بأحداث ووقائع المرحلة الزمنية التي كان فيها السالمي تلميذا.
لقد ورد أن اللمكي قد اعتنى بالتأليف، وكان من ضمن مؤلفاته مؤلف بعنوان منظومة "في التحريض على نشر الحق " واخري "في السلوك ". ثمة اشارة اخرى مهمة في هذا السياق اذ ورد لدي مؤلف " نهضة الاعيان " وهو يترجم للمكي انه كان "من أعظم النصحاء لدولة الامام سالم " (49) كما ورد كذلك انه كان "مدار الفتيا بالديار الرستاقية ورئيس قضاتها".
يمكن القول بناء على ما سبق، ان اللمكي كان تواصلا مع ما بدأه العبري، وان التلميذ (اللمكي) .قد تعهد بمواصلة خطى شيخه العبري، التي كانت تحاول بعث النظام السياسي، الذي تم القضاء عليه، مع السنوات الاولي من عمر السالمي، وهو ما يعني كذلك ان الواقع المعاش كان يحضر جنبا الى جنب مع الدروس اليومية التي يتلقاها السالمي.
هكذا اذن كانت عدة صدامات تواجه التلميذ يوميا وهو على "مقاعد" الدرس، فهناك الواقع الذي تعيشه البلاد، وهو واقع سييء بحسب رؤية الشيوخ، كما انه يعيش ذلك الواقع مفصلا بايديولوجية الشيوخ ذاتها منذ طلوع الفجر حيث تبدأ "الحصص " الدراسية .
اضافة الى ذلك هناك واقع آخر يعيشه التلميذ ويكابد قسوته اليومية، هو فقر صاحب العلم، كما تشير أحدى الروايات الباكرة الى حالته المادية وقت الدراسة: «فطلب من والده ان يشتري له كتاب "الاجرومية " ليدرس فيها، ولكن الوالد لا يجد ثمن هذا الكتاب، هذا ما وصل اليه حاله بعد ذلك الثراء في الحوقين ».(50)
هذه هي المرحلة الاولي من حياة السالمي العلمية، التي ختمها بالتدريس في ذات المسجد الذي تلقي فيه العلم من شيخيه ماجد بن خميس العبري، وراشد بن سيف اللمكي أي مسجد «قصرى» بالرستاق .
يمكن القول في ختام هذه المحاولة التي لم تتناول سوى جانب واحد من سيرة الشيخ السالمي الحياتية، تلك هي مرحلة التأسيس / التكون التي قضى معظمها في « الرستاق »: إننا بحاجة إلى دراسات فكرية تتعمق في مجاهيل التراث العماني، والتعمق هنا يأخذ معنيين:
الأول: استخدام ما تتيحه علوم العصر من مناهج وإمكانيات معاصرة، دون وجل ذلك أن هذه العلوم وهي تقرأ التراث بعين العصر إنما تندم إسهاما ضخما لفهم الماضي والحاضر معا والتطلع إلى المستقبل، إذ إننا مهما حاولنا أن نسلخ الماضي عنا فإننا لن نقدر أبدا , وإذن فلكي لا نسحبه بكل ثقله إلى الحاضر ومن ثمة المستقبل علينا مراجعته ونقده باستمرار، اذ الماضي كما الحاضر: أي بوجهين وليس بوجه واحد كما يحلو للبعض تصويره .
الثاني: وهو مكمل لسابقه: الابتعاد بالدراسات عن النمطية والأحكام الجاهزة، لقد برزت حياة الشيخ السالمي الآولى باعتبارها افرازا طبيعيا لواقع العصر الذي عاشه، للآسف الشديد فإن انعدام الدراسات الاجتماعية حول الماضي سيبقى عائقا كبيرا أمام الدراسات المحدثة .
ان التساؤلات العديدة التي توزعتها هذه المادة كانت لا غنى عنها أمام النقص الواضح في المعطيات، وهي تساؤلات تحاول أن تكون مكملة للنقص من حيث أنها تساؤلات منفتحة تأويلية.وهي ( هذه الدراسة ) ناقصة بسبب عدم تقصيها للمرحلة الآخري من حياة الشيخ السالمي، تلك هي مرحلة وصوله الى الشرقيه من عمان حيث سيلتقي بالشيخ صالح بن علي الحارثي وسينهمك الاثنان في مشروعهما السياسي جنبا الى جنب مع النتاج الفكري.
والدخول في مغامرة محسوبة تفضي الى توسيع امكانيات التراث الثقافي والحضاري لهذا البلد، اذ من دون ذلك لن نتمكن – على الآرجح من فهم ماضينا الشديد الصلة بحاضرنا، وهو أمر لا يحتاج الى استدلالات وبراهين تماما مثلما آن انعدام مثل هذه القراءات سيؤدي من دون شك الى مزيد من الترديد الأجوف لأحاديث لم تعد لها صلة بالعصر ومتطلباته وآفاقه .
الهوامش
1 – اطفيش.أبو إسحاق إبراهيم، مقدمة كتاب «جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام لسالمي»، ( مسقط: مطبعة الألوان الحديثة ( ط 11:1410= 1989م )، ص 15، 26. و النين اطفيش هو أحد رموز الفكر الأباضي المتأخرين،ولد بالجزائر عام 1886، وعاش معظم حياته ومات في مصر عام 1992م.ناصر.محمد.الشيخ إبراهيم اطفيش في جهاده الإسلامي ( مسقط: مكتبة الضامري )ط2 1992ص 15,16.حين نعرض – علي سبيل المثال – لهذا النص كما هو عليه دون تساؤل تأريخي باعتباره نصا تاريخيا، أي من دون مراجعة – كما سارت معظم الكتابات التي تناولت بعض جوانب اشتغالات الشيخ السالمي – فإن فهمه لن يكون إلا فهما ناقصا، ذلك أننا نكون قد قرأناه بمعزل عن زمنه وعن المناخات التي تشكل فيها،بينما تدعونا القراءة التاريخية للنصوص إلى رؤيته في سياقه الذي أنجز فيه ( وهذا ما لا ينقص من قيمته في الوقت الذي يبتعد بنا عن مجال الأحكام التعميمية الجاهزة التي لم تعد الدراسات الحديثة تأخذ بها ), ومن ثم فإن عينا القول: إنه نص مرتبط في المقام الرئيسي بوضعين تاريخيين: لأحداث السياسية الجارية في عمان، وقد شهدت تلك الفترة حركة ثقافية وسياسية عمانية واسعة باتجاه بعض الأقطار العربية والإسلامية في محاولة لاستقطاب دعمها المادي والمعنوي .
و مثلت المؤلفات والمنشورات إحدى استراتيجيات المدافعين عن النظام الإمامي , وهكذا جرى في تلك الفترة نشر بعض المؤلفات العمانية في بعض الأقطار العربية والإسلامية خاصة القاهرة ودمشق والهند هذا من جانب، ومن جانب أخر فبالنظر إلى ما كان يشهده واقع الخطاب العربي خاصة الخطاب السياسي الذي أخذ يعيد صياغة رؤاه ومفرداته وبنيته ومفاهيمه بعد اصطدامه بخطاب الآخر الغربي. إن مسالة التاريخ للأفكار تبدو للباحث المعاصر واحدة من أهم المسائل التي ينبغي الاهتمام بها ووضعها في سلم أولويات البحث الحديث .
2- أبو بشير.محمد الشيبة.نهضة الأعيان بحرية عمان، ص 112.
3- المرجع السابق.ص 112.
4- العروي.عبدالله.مفهوم العقل، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي ط 1ص 11, 12
5- تلك التي أنجزت عن بعض الجوانب من اهتمامات الشيخ فتك جهود مطلوبة حيث لا مناص – على ما يبدو- بداية من "البحوث " ذات الطابع الوصفي والتجميعي البحت .
6- السليماني.عيسى بن محمد.« مخطوط » , وقد تقدم بعمله إلى جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان لنيل شهادة الماجستير عام 1996م .
7- المطبعة العمومية بدمشق.ص 2 .
8- استغرقت الكتابة « الإبداعية: قصة / قصيدة » الساحة الثقافية في عمان خلال الفترة الماضية ( النصف الثاني من السبعينات وعقد الثمانينات بوجه خاص ) وغيب المثقفون سؤال التراث والحداثة فكرا وتنظيرا تغييبا شبا كامل رغم إلحاحه وهي إحدى مفارقات الثقافة في عمان، ففي وقت ما كان الاشتغال يتجه كلية إلى الثراث عرفت البلاد مع بداية نهضتها التحديثية توجها مغايرا صوب « حداثة» مبتورة لم تتجاوز العراك الوهمي حول الحداثة الشعرية بوجه خاص، وكانت النتيجة أن خسرنا في كلا الجانبين
. لقد حان الوقت لمراجعة ثقافة المرحلة الماضية بكاملها إذا ما أريد للثقافة في عمان من دور تضطلع به في المرحلة القادمة وهي مسألة ليست سهلة لكنها حتمية وفق ما أرى، خاصة على صعيد قراءة الماضي الذي نسترجعه يوميا بصورة مجانية ولا واعية .
9- أركون.محمد.نزعة الأنسنة في الفكر العربي المعاصر: جيل مسكويه والتوحيدي، ص 106 .
10- المرجع السابق .ص 138 .
11- تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان، ج 2ص251, 252
12- يؤرخ الشيخ السالمي نفسه للأحداث تحت عنوان بالغ الدلالة « باب في افتراق أهل عمان بالتعصب الباطل إلى غافري وهناوي » ويبدأ الباب بقوله: « وسبب ذلك هذه الفتن المذكورة فيما مضى: فإن المتعصبين فيها لمحمد بن ناصر الغافري سموا بالغافرية، والمتعصبين لخلف بن مبارك الهنائي سموا بالهناوية …" وتلك الفتن كانت بدايتها قبل عام 1135هـ وهو العام الذي قتل فيه محمد بن ناصر الهنائي .أي أن الفارق بين بداية الاضطرابات القبلية المذكورة وولادة الشيخ السالمي يزيد على مائة وخمسين عاما.بهذا المعنى لا تكون تلك الأحداث قد ظهرت مع ولادة الشيخ السالمي(1286هـ 1869م ) كما تقول الرواية .
13 – الهاشمي.مبارك بن سيف.الإمام نور الدين السالمي واراؤه في الإلهيات مع مقارنة ذلك باراء المعتزلة والأشاعرة والسلف ( مخطوط بجامعة السلطان قابوس – رسالة دكتوراه من جامعة الأزهر).
14- المرجع السابق.ص61 .
15- الهاشمي.مبارك، مرجع سابق ص 62.
16- ابن منظور.لسان العرب ( بيروت: دار احياء التراث العربي، على مؤسسة التاريخ العربي ) ط 1ج 10 ص 178 .
17- مثل هذا الحديث يعني أنه لا غنى للباحث المعاصر عن استخدام المنهج المقارن بالإضافة إلى المنهج التاريخي النقدي، فلكي يمكن مقاربة جهود السالمي السياسية حول مسألة قيام الدولة لاحقا لا بد من رؤية الوضع بشتى جوانبه سابقا، ذك أن لكل فعل على ما هو سائد مسببات ودوافع بل وردود , فحيث تصل الأوضاع إلى مرحلة من انعدام الاستقرار تصبح مسألة بروز المعارضة أمرا مسببا من داخل الواقع في ذاته .
18- جاء وصفها في تللك الفترة لدى مؤلف « نهضة الأعيان » بأنها: « معدن العلماء ومجمعهم ».أبو بشير.(القاهرة: دار الكتاب العربي ) ص 392 .
19 – سيأتي لاحقا أن أسرة السالمي حاولت إلحاقه بمجالس الشيوخ في الرستاق لكنه رفض الذهاب اليها بداية .هل يمكن القول إذن: إن وقع الحادث كان بمثابة الدافع لذهابه اللاحق؟ إن ردة فعل من هذا القبيل ستبدو مبررة لشخص ضرير ويتوفر على قدر هائل من الذكاء الفطري المبكر، وإذن فإن في البعث عن تفصيل ما حدث وعما أهملته أقلام المؤرخين القدامى ليس ضروريا من أجل إضافة قد يرى البعض عدم جدواها، بل هي عملية ملحة وحتمية في محاولة السعي لقراءة إشكالات المرحلة وكيفية معالجتها إنه بث
لا غنى عنه من أجل الوصول إلى تقديم وجه أقرب للواقع .
20- الهاشمي.الموجع السابق ص 62 .
21- الهاشمي.مرجع سابق ص 95 .
22- هذا هو في الواقع ما فعلته " البحوث " التي أنجزت عن الشيخ السالي إلى الأن.أنظر على سبيل المثال ما قدمه المنتدى الأدبي في الندوة التي أقامها خلال الفترة من 7- 8 نوفمبر 1992 م وصدرت « بحوثها » في كتاب عنوانا « قراءات في فكر السالمي »، وكذلك رسالة الدكتوراه التي قدمها الهاشمي إلى جامعة الأزهر , "لإمام نور الدين وأردؤه في الإلهيات »، ودراسة السليماني عيسى بن محمد المعنونة بـ" ديوان نور الدين السالمي.تحقيق ودراسة »، إنها محاولات لم تذهب إلى أبعد من سرد الروايات التي كتبها السابقون لتنتهي إلى في ذات النتيجة، مغفلة أن العلم لا يتقدم بالتكرار بل إن شرط تقدمه الأساسي إنما هو التجاوز.
23 – الهاشمي.المرجع السابق ص 62 .
24- المرجع السابق .ص 62 .
25- أبو بشير.مرجع سابق ص 100 .
26- الحارثي.سالم بن حمد.مقدمة "العقد الثمين نماذج من فتاوي نور الدين فخر لمتأخرين وسابق المتقدمين "( القاهرة: مطبعة الشعب " بدون تاريخ " ) ج 1 ص 7 .
27 – الهاشمي الرجع السابق ,ص 95 .
28- لا يوجد تأريخ لنشر المؤلف ولا تاريخ تأليفه، لكن بالعودة إلى المواضيع التي عني بها، يرجح أن تكون كتابته قد تمت في بداية النصف الثاني من هذا القرن، ففيه تاريخ للأوضاع في عمان في الفترة الأخيرة كاعتلاء السلطان سعيد بن تيمور للحكم ( 1350هـ / 1932م )، ويذكر المؤلف في نهاية الكتاب الرسائل المتبادلة بينه وبين القاضي أبو الوليد ويؤرخ لإحداها بعام ( 1369هـ / 1951 م )، المعروف كذلك أن المؤلف كان أحد كبار المدافعين عن الإمامة الأخيرة في عمان التي سقطت عام 1959م وقد وضع دفاعا عنها مؤلفا أخر هو « عمان تاريخ يتكلم » .
29 – هذه مسألة ( مسألة الإصلاح التي عرفتها بعض الأقطار العربية مع نهاية القرن الماضي لم يتوجب دراستها بعمق قبل البت فيها فلقد درجت جل الدراسات العربية
المعاصرة التي اعتنت بالتأريخ لما دعي بعصر النهضة العربية على ما يشبه تعميم المسألة من « المحيط إلى الخليج » وهو حكم فيه نظر، فحين نحاول رؤية الوضع الفكري في عمان – على سبيل المثال لا الحصر – خلال تلك المرحلة سنلاحظ أن تلك الأفكار لم تكن ذات تأثير فاعل في عمان، لا أستطيع الجزم بعدم وجودها أصلا وإن كانت الأحداث السياسية وما عرفناه إلى الأن من كتابات بل كذلك بالنظر إلى الوضع الحالي ومقارنة «التيارات » الفكرية السائدة تقول بعدم وجودها الفاعل.صحيح أن عمان عرفت خلال تلك المرحلة أحداثا سياسية عنيفة لكن ربط تلك الأحداث بما كانت تشهده بعض مناطق العالم العربي ليس ربطا صحيحا، ثم إن مسألة وجود روابط « ثقافية » بين عمان و زنجبار، لا يعني بشكل محسوم سلفا وجود تأثيرات قوية للتحولات الفكرية التي عرفتها زنجبار.هذا الحديث الذي قد يختلف معه البعض لا يمثل أكثر من رؤية متواضعة تحتاج إلى نقاش ودراسة نقدية متعمقة قبل تأكيدها .
. 3- من باب توضيح مسألة ما قصدته بالتأريخ للمرحلة بصورة لا تاريخية أسوق المثال التالي: تطلعنا ترجمة أبي بشير في « نهضة الأعيان » أن الصبي / السالمي وبعد أن تلقي حفظ القرآن على يد والده، توجه إلى الرستاق، بينما يكتب الهاشمي ( وهو متأخر نقلا عن معاصرين من أقرباء الشيخ السالمي ) رفضه للالتحاق بمجالس العلم، لكن لأنه: " … أحس أن أبناء المنطقه يشتغل أغلبهم بالسعي في طلب العلم رغب في ذلك " ! هذه الترجمات في الواقع تحمل تناقضها في داخلها، فهي من حيث تحاول الإعلاء من شأن الصبي وتوجهاته التي رافقت بداية حياته تسقط الدوافع والمؤثرات الفعلية / الأسباب: التي هي رهينة بالبيئة والمحيط الأسري والجو العام الذي يصاحب نشرة الإنسان الأولى (طفولته ).إن الترجمات هنا تهمل واقعين أخرين كانت قد أشارت اليهما من قبل يمكن أن يمثلا – من وجهة نظرنا – بعض أهم الأسباب ( إذ يصعب الحسم بأنهما يمثلان كل الأسباب ) ذينك الواقعين هما: الفتنة: التي حدقت بالقبيلة جراء ما قام به خصوصها من نهب للمال وتشريد لها، ثم العاهة التي عرفها الشيخ السالمي في صباه الباكر بفقده لبصره ومن ثم لم يعد أمام أسرته سوى تعهده بالتعليم، لنقل محاولة تعويض العمى بالنور، أخذي في الاعتبار سمات النبوغ التي عرفتها أسرته فيه منذ صباه.هذا أحد التفسيرات الممكنة لكنها ليست الأكيدة بالتأكيد ذلك أن تعليم الضرير سيحتاج هو الأخر لمجهود مادي على طرفين: المال.والخدمة اليومية.وهي أمور لم تكن سهلة على الأسرة في ذلك الوقت
31- السالمي.تحفة الأعيان , ج 2ص 228.
32- يقول الشيخ السالمي وهو يؤرخ لبيعة الإمام عزان: « حين وقعت خيرة المسلمين عليه بعد التشاور والتناظر وكان رؤساء الحاضرين يومئذ الشيخ سعيد بن خلفان بن أحمد الخليلي والشيخ صالح بن علي بن ناصر الحارثي والشيخ محمد بن سليم الغاربي، ومن معهم من اخوانهم ووجوه القبائل … « التحفة ج 2ص 198.وفي الصفحة التالية يسرد تاريخ جمعة بن سعيد الهنائي ويعدد هو الأخر أسماء الشخصيات البارزة التي قامت عليها الإمامة فيذكر نفس الأسماء , بل إن اسم الهاشمي لا يرد في الرسالة التي كتبها الخليلي باسم الإمام ووجهها الى. « اخوانهم أهل المغرب » بالرغم من ورود أسماء أخرى لم ترد من قبل.المرجع السابق ص 202 .
33- تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان .ج 2 ص 227.
34- نهضة الاعيان 385.
35- انظر على سبيل المثال الجزء الثاني من تحفة الاعيان، ص 229و 244.
36 – ابو بشير، ص 155اطفيش مرجع سابق ص ز الحارثي سالم بن حمد، مرجع سابق ص 7, الهاشمي, مبارك، ص 92
37- سورة مريم، الأية رقم 59.
38 – تحفة الاعيان , مرجع سابق ج 2ص 227.
39- ابو بشير, مرجع سابق، ص 287.
40- تحفة الاعيان بسيرة اهل عمان، مرجع سابق , ج 2ص 299
41- ابوبشير، مرجع سابق، ص 287.
42- تحفة الاعيان بسيرة أهل عمان، مرجع سابق، ج 2, ص 245
43- ابو بشير, مرجع سابق، ص 232، الهاشمي، مبارك، مرجع سابق، ص 93.
44- الهاشمي، مبارك، مرجع سابق، ص 63
45- المرجع السابق، ص 94.
46- ابو بشير، مرجع سابق، ص 100.
47- الامام نورالدين السالمي, وأراؤه في الالهيات، موجع سابق، ص 62.
48- المرجع السابق، ص 66.
49- ابو بشير، مرجع سابق، ص 233
50 – الهاشمي، مبارك، مرجع سابق،ص62.
المرجع:
1- ابن منظور.لسان العرب ( بيروت: دار احياء التراث العربي ) ط 1 1995 .
2- إطفيش.أبو اسحاق إبراهيم , مقدمة « جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام للسالمي» ( مسقط: مطبعة الألوان الحديثة ) ط 11:1410- 1989م .
3- أبو بشير.محمد الشيبة، نهضة الأعيان بحرية عمان ( القاهرة: مطابع دار الكتاب العربي ) بدون تاريخ .
4- أركون.محمد، نزعة الأنسنة في الفكر العربي المعاصر: جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة: هاشم صالح ( بيروت: دار الساقي ) ط 1 1997
5- الحارثي.سالم بن حمد، مقدمة « العقد الثمين نماذج من فتاوى نور الدين فخر المتأخرين وسابق المتقدمين « (القاهرة: مطبعة الشعب )بدون تاريخ .
6- السالمي.نور الدين،الحق الجلي في سيرة شيخنا صالح بن علي (دمشق: المطبعة العمومية ) بدون تاريخ .
7- السالمي.نور الدين، تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان (دلهي: مكتبة اشاعة الإسلام ) بدون تاريخ.
8- السليماني.عيسي بن محمد، ديوان نور الدين السالمي: دراسة وتحقيق " مخطوط " ( جامعة السلطان قابوس ) .
9- العروي.عبدالله.مفهوم العطر، الدار البيضاء: (المركز الثقافي العربي )ط1 1997.
. 1- الهاشمي.مبارك بن سيف، الإمام نور الدين السالمي واراؤه في الإلاهيات مع مقارنة ذلك باراء المعتزلة والأشاعرة والسلف ( مخطوط: جامعة السلطان قابوس ) .
11- ناصر.محمد صالح، الشيخ ابراهيم اطفيش في جهاده الاسلامي ( مسقط: مكتبة الضامري ) ط2 1992 .
خالد العزري (باحث من سلطنة عمان)