كاروناكاران -قاص وشاعر هندي
ترجمة: فيلابوراتو عبد الكبير كاتب ومترجم هندي
في مكان ما في قطاع غزة ظهر تمثال برونزي للإله الإغريقي أبولو، ربّما كان مفقودا منذ قرون، وكانت أسماك البحر متحلقة حوله، كان يحيط به غموض يختص بالآلهة، خبر يعجب من يهتم بالحكايات العربية أو الأساطير الإغريقية أو علم الآثار القديمة، هكذا اعتبرته جاناكي حين سمعت هذه “القصة” قبل ثلاثة عشر شهرا، رغم ذلك سجلتها في دفترها الذي تكتب فيه الملاحظات التي تختص بالقصص الأخبارية. أيا كان الأمر كان لهذه القصة أيضا خصائص تعجب كتّاب القصص الذين يفنون أعمارهم في تتبع الأخبار والصور. قالت مريان لجاناكي وهي تنقل لها هذا الخبر “في هذه الأيام تزور الآلهة أي مكان إلا غزة، وربما يلهمها هذا الخبر بكتابة قصة”.
كانت جاناكي تزور ذلك اليوم مكتب الصحيفة التي تعمل فيها ماريان. وبينما كانتا تتحدثان في أمور متنوعة وضعت ماريان أمام جاناكي “قصة” ستُنشر لها في اليوم التالي في الجريدة وطلبت منها أن تقرأها-“في هذه الأيام تزور الآلهة أي مكان إلاّ غزة”؟ قالت لها ماريان. إن غزة التي تعيش مراحل مستمرة بالمآسي من حرب وفقر وتهديدات العدو كانت بقرب جاناكي دوما، ولا سيما في الأخبار التي تأتي من الشرق الأوسط، وكما تنتقل من خيالات الكتّاب الذين يغادرون أوطانهم. ولكن جاناكي تذكرت هذا الحدث بعد شهور في سياق آخر.
عندما كانت جاناكي تكتب “قصة أخرى” حدثت في قريتها التي تقع في جنوب كيرالا تتعلق باغتيال فتى من قبل مجموعة من الشبان والأسباب التي دفعتهم إلى تلك الجريمة. ذات مساء وفي أحد الحقول أمسك أولئك الشباب بالفتى وقتلوه بعد أن قطعوا يديه. ثم هربوا واختبأوا. ذكرتْ في تلك القصة أن أحد الشبان المختبئين وبينما كان يغتسل ذات ليلة في نهر في منطقة أخرى رأى الفتى المقتول تحت الماء كأنه نائم. وكتبت أن جثمان الفتى اندفع بعد أن لامس رِجْل الشاب، بدا له أن الحياة لا تزال تتدفق فيه من جديد، أو كتبت سطورا مثلها. في أعماق دائرة شكّلتْها الأسماك، في ضوء القمر الذي انتشر مثل ضوء الشمس تخيلت جاناكي جثمان رجل يتحرك. شخص آخر انفصل عن السياق أو عن الشخص الذي لا تزال تكتب عنه. بدا لها كمنحوتة تلامس أعماقها. وفي نفسها الفارغة مثل الشاطئ الموحش أو صمت الصباح الباكر إتضح أنها منحوتة تخص فتى ورياضيا في آن معا. ولا يزال تحت الماء في دائرة الأسماك.
هبطت السماء إلى سطح البحر الذي انتشر فيه ضوء الشمس. طارت نوارس وهي تصدح مباشرة فوق ماء البحر.
بعد شهور من ذلك اليوم تذكرت جاناكي من جديد السطور الأولى من القصة التي أعطتها إياها ماريان لتقرأها. تذكرت الدفتر الذي سجلت فيه ملاحظاتها حول تلك القصة. بدا لجاناكي أنها أيضا مثل جودت جراب، صياد الأسماك الفلسطيني، قد رأت تمثال أبولو بقامة رجل متوسط على مسافة مائة متر من البحر الذي يقع في حدود شمال غزة ومصر. وقد قال جودت جراب لاحقا عن التمثال الذي حصل عليه أنه حين رآه كان مثل جثمان يحترق في النار.
“ظننت أنه رجل حقيقي”، قال جودت.
سبح جودت جراب إلى مجموعة الأسماك التي تدور حول التمثال، وحدق فيه مرة أخرى. ليس رجلا، بل تمثال على هيئة رجل. وفي النهار ذاته جر “الكنز” الذي حصل عليه إلى الشاطئ بمساعدة بعض أقاربه. وخلال ذلك كان هو وأقاربه قد حددوا قيمة ذلك التمثال المصنوع من البرونز والذي يزن 500 كيلو، دون أن يعلموا أن خمسين ألف دولار هو أقل قيمة من قيمته الحقيقية. ظل التمثال في ذاكرة الإنسان والإله في آن معا ونصفه في البحر ونصفه الآخر في البر. تلمّس جراب أصابع التمثال مرة أخرى. ربما للمرة العاشرة. حظه البائس الذي لم يكن مقدرا له أصلا يدفعه إلى الجنون. قالت ماريان لـ جاناكي إن الحرمان الذي يعاني منه رجل بائس هو الذي يظهر أولا أمامه كدليل إلى معرفة ما قُدِّر له من حظوظه. وأضافت إلى قولها إنه يكفي لمعرفة ذلك رحلة واحدة عبر النفق بين مصر وإسرائيل، طوال الطريق داخل ذلك النفق يمكنكم أن تجدوا بائعي الحظ. ولاسيما الذين يَعِدون بأعمال مختلفة ّ وأجور مرتفعة. ولكن حظ جودت انتظره في البحر الذي يصيد منه الأسماك. أخفى “الكنز” في بيته ولفه ببطانية. ونشر خبره بشكل سري وانتظر من يزوره لشرائه. ولكن بيع التمثال ليس سهلًا كما ظن. أوّلا بسبب الأحكام والشروط الصارمة التي فرضتها إسرائيل ومصر على بيع الكنوز. وكانت تلك الأحكام حرفيًا بمقام سجن لسكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليون ونصف المليون نسمة. مع ذلك حدث شيء آخر، فبعد أن انتشر الخبر جاء إلى بيت جراب خبراء من إدارة الآثار القديمة. وأكدوا أن المنحوتة للإله الإغريقي الجميل أبولو ذاته، وهو نفسه إله الأمراض لدى اليونان. قرّر جراب أن لا يستمع إليهم. ولكن في اليوم التالي جاءت شرطة حماس، وهم كانوا “حكام” غزة. صادروا التمثال وسجلوا ضد جراب جريمة لإخفاء التمثال ولمحاولة بيعه. ظنت جاناكي أن بعض الحكايات مهما قمنا بتحريفها ستعود إلى صورتها الأصلية. وتلك مثل شرح النجوم التي تأتي في درب دراسة الفلكي البدائية، بالرغم من العلامات الواضحة والمميّزات الدقيقة تظل ملامحها البدائية كما هي.
“هذه هدية الله لي”.. هذا ما قاله جراب واعتقده عن “الكنز” الذي حصل عليه، “حتى إن فقري كان ينتظر عوضا مثل هذا”. وفي نفس الليلة التي حصل فيها على التمثال قطع جراب جزءا من إصبعه الأوسط معتقدا أن تلك القطعة المعدنية القيّمة قد تكون ذهبا.
نقل جراب التمثال إلى الضوء الذي يأتي إلى النافذة من مصابيح الشارع. ثم قطع إصبعه بسكين حاد. في ذاك الوقت دخلت والدته الغرفة وطلبت منه أن يستر عورة ذلك الجسد العاري. رمت في وجه إبنها جلبابه: “أنت لا تدري أي مادة تعيسة أتيت بها إلى البيت”. مسح جراب أوّلا وجهه بالجلباب الذي وقع عليه ثم ستر عورة التمثال لافًا به خصره.
ولكن سوء الحظ كان ينتظره في مكان آخر كأنه إلهٌ آخر. كانت ماريان التي حكت لـ جاناكي هذه “القصة” والحياة المأسوية في غزة قد اغتيلت في بيروت. الخبر كان مثل رواية ضلت طريقها إلى حيوات كثيرة عالقة في حياة أحدهم. وفي اليوم الذي كانت جاناكي تكتب قصة الفتى الذي اغتالته مجموعة من الشبان في قريتهم، وانحرفت إلى قصة التمثال. بدأت تبحث عن دفترها الذي سجلت فيها ملاحظاتها حول قصة ذلك التمثال؟ كان الدفتر موجودا بين الكتب في الأرفف، تحت تمثال آخر منحوت عليه صورة نورس. اتصلت جاناكي بماريان لمزيد من المعلومات المتوفرة لديها حول تلك القصة. كان هاتفها مغلقا.
ذهبت جاناكي في اليوم التالي إلى مكتب الصحيفة التي كانت ماريان تعمل فيها. كان يوما ضبابيا. يهب فيه نسيم مشبع برائحة الرياح المغبرة التي هبت في اليوم السابق. رأت حماما في الحديقة الملحقة بمدخل مكتب الصحيفة . انتظرت المصعد ثم صعدت إلى الطابق الرابع حيث شعرت بأن الصمت الذي يلازمها يدفعها إلى التقدم.
يظهر من خارج غرفة ماريان نبات تجمّعت تحت أغصانه الذابلة قراطيس ممزقة. طرقت جاناكي الباب مرة. انفتح ببطء.
“هل كنتِ زميلتها في العمل؟”
هناك فتاة أخرى في تلك الغرفة. هي التي تقوم الآن بالأعمال التي كانت تقوم بها ماريان.
“منذ بضعة شهور”، قالت جاناكي.
” إنني من أقارب نيكولاس وماريان” عرّفتْ الفتاة نفسها، اسمها نانسي أساف.
“كان نيكولاس وماريان توأمان”، قالت.
” أعلم”، قالت جاناكي. “أخبرتني ماريان”.
“ومن هذين التوأمين بقي واحد على قيد الحياة. قضاء من الله”.
قالت كأنها تقرأ ورقة توجد على طاولتها، ربما خائفة من الآلهة.
استمعت جاناكي مغمضة عينيها لما أخبرتها نانسي عن اختفاء ماريان في بيروت أثناء إجازتها ثم اغتيالها واستلام أخيها التوأم كفها كهدية. يعني أن الصحافة قد أصبحت عملا خطيرا.
“أصبحت ماريان مفقودة في بيروت، ثمّ اغتيلت. وأما كفها فقد ظهر في غزة”.
تذكرت جاناكي زيارة ماريان إليها في بيتها أيام تعارفهما. وتذكرت أيضا رغبتها في التصوير وهي ترتدي “الساري” بعد أن رأت صورة جاناكي مرتدية “الساري”.
لما صورتْها أمام المرآة في غرفة النوم وهي لابسة الساري سألتها جاناكي إن كانت سترسل الصورة لحبيبها فأجابت: “لا، بل لأريها توأمي نيكولاس، كي أخبره إنني هربتُ منه وأصبحت هندية”.
تذكرت جاناكي أن للإله أبولو أيضا أختًا توأما، هذه المصادفات تقع في كثير من الحكايات. والآن في حكاية هذين التوأمين، مثلما قالت نانسي أساف، ما قدر الله إلا لواحد فقط أن يبقى حيا.
رافقت نانسي جاناكي إلى المصعد، ودّعتها وعانقتها قبل أن تدخل المصعد.
كان جودت جراب قد فقد التمثال، هدية الله له، في نفس الأيام التي حصل فيها عليه. قال إنه حصل عليه من البحر. كان التمثال موجودا في البحر على مسافة مائة متر من الشاطئ. ولكن الشرطة وخبراء الآثار القديمة لم يصدقوه. إن ذلك يعني أن هناك تاريخًا عمره 5000 سنة تحت الأرض التي اجتث منها التمثال. وقد انتقل من تحت الأرض إلى البحر، وأما غزة فكانت بلدا حكمها أكثر من واحد، مرة احتلها الإمبراطور إسكندر.
“أكيد أن الإله أبولو لم يوجد أبدًا في البحر. ولم يكن إلا في معبد أو في قصر”، قال خبير الآثار القديمة. “ولم يسبح تمثال موجود في البحر إلى الشاطئ إلا مصابا بإعاقة”.
كانت قامة ذلك الإله الشاب الوسيم الرياضي المعروف بأسماء مختلفة تعجب الجميع. الرجل الذي ينظر إلى العالم متكئا على رجله اليمنى وهو ينقل رجله اليسرى إلى الأمام قليلا ويُميل يديه إلى الجانبين كأنه هبط من السماء حالا، لا عجب في أن يكون إله ضوءٍ وشعر ومرض وصحة في آن واحد. ذات يوم رأت جاناكي جودت جراب مرة أخرى وهو يمشي بسرعة في الشارع وفي يده قطعة صغيرة من ذاك الإله مغلفا بقرطاس باهت. ظنت جاناكي أنه ربما بدا لجودت أن البلل الذي ينتشر في يده إنذارٌ إلهيٌ بهلاكه.
وفي اليوم الخامس من حصوله على التمثال كانت شرطة حماس تبحث عن جودت. وقفت سيارة شرطة بيك أب في ساحة بيته بحركة خلفية. اجتمع جيران جراب وأولاد الحارة حول السيارة. بعد التحقيق والإجراءات العسكرية وضع جراب وأقاربه التمثال المعوق داخل سيارة الشرطة. لما جلس جراب بين شرطيين رأى والدته دون أن يلتفت إلى ورائه. شعر أنها كانت تحدق في المصيبة التي تغادر البيت. فكر أن يعتذر من والدته واعتقد أن كل شيء ربما يكون قضاءً من الله وقدرًا.
سأل الشرطي كبير السن الذي يجلس على يساره وهو يضغط على فخذه: كم شيكلا استلمت عن هذا حتى الآن.
رد عليه جودت جراب وهو ينظر إليه: إلى الآن لا شيء”.
ومرة أخرى لمع التمثال في أعماقه كما لمع حين رآه على شاطئ البحر.
الهوامش
* (قصة مترجمة عن اللغة المالايالامية)