لدى وصول أولغا سرت بينهن رعشة أمل. بالتأكيد لم تكن تبدو ودودة بنوع خاص، نحيلة البنية، طويلة القامة، تبرز عظام فكّيها ومرفقيها تحت بشرتها الكامدة، كما أنها لم تولِ أي التفاتة ناحية نساء المهجع منذ البداية. جلست على فراش القشّ المخلخل الذي أعطي لها، رتبت أمتعتها داخل صندوق خشبي، أصغت إلى السجّانة التي كانت تردّد القوانين وهي تصيح بوجهها كمن يصرخ بتقطّع إشارات مورس، لم تلتفت إلاّ عندما أشارت لها على مكان المراحيض، وعندما رحلت تلك الأخيرة، استلقت على ظهرها، فرقعت أصابعها، واستغرقت تتأمل ألواح خشب السقف المسودّة.
– هل رأيتن شعرها؟ همست تاتيانا.
لم تفهم السجينات إلى ماذا كانت تلمّح.
تحمل السجينة لبدة شعر أشعث كثيف مجعّد وقوي يضاعف من حجم رأسها. صحة ممتازة وقوة يتميّز به الأفريقيون عادة… مع ذلك، وعلى الرغم من بشرتها الباهتة، لم يكن لدى أولغا أي ملمح زنجي، وهي لا شك قادمة من إحدى مدن الاتحاد السوفييتي بما أنها موجودة اليوم في سيبيريا، في معسكر النساء هذا حيث يعاقب النظام كل اللواتي لا يفكّرن على الصراط المستقيم الخاص به.
– حسناً، ما حكاية شعرها؟
– تبدو لي قوقازية.
– أنت على صواب، أحياناً يكون لدى القوقازيات قشّ فوق رؤوسهن.
– شعرها هذا مريع، نعم.
– آه، لا إنه رائع. أنا صاحبة الشعر الخفيف الأملس، لطالما حلمت بشعر كهذا.
– أفضّل الموت على اقتناء شعر مثل ذيل الخيل هذا.
– لا، شعر خروف!
اختنقت ضحكاتهن القصيرة التي رافقت ملاحظة ليلى الأخيرة في الحال. عقدت تاتيانا حاجبيها وأسكتت المجموعة وهي تبدي ملاحظتها:
– يمكن له أن يجلب لنا الحلّ.
كانت لديهنّ رغبة حقيقية بالإعجاب بتاتيانا التي يعاملنها كزعيمة على الرغم من أنها لم تكن سوى سجينة مثلهن، حاولن التركيز على ما فاتهن: أي حلّ كان يجلب إلى حياتهن شعر هذه الغريبة، هنّ المنحرفات السياسيات الخاضعات لإعادة التأهيل الإلزامي؟ في ذلك المساء، كان ثلج كثيف قد غطّى المعسكر مثل كفن في الخارج، كان كل شيء مظلماً باستثناء الفانوس الذي كانت تحاول العاصفة أن تطفئه، كما أن الحرارة التي انخفضت إلى ما دون الصفر لم تكن تساعد كثيراً على التفكير.
– هل تريدين القول…
– نعم، أريد القول أن في لبدة كهذه يمكن إخفاء الكثير من الأشياء.
ساد بينهن صمت خاشع. أماطت إحداهن اللثام عن المحظور وقالت:
– لا بد أنها أحضرت…
– نعم!
ليلى الشقراء الرقيقة والتي على الرغم من قسوة العمل والمناخ والطعام القذر ظلّت ممتلئة مثل فتاة بصحة جيدة. أجازت لنفسها الشكّ:
– عليها أن تكون قد فكرت في ذلك…
– لمَ لا؟
– حسناً، أنا قبل أن آتي إلى هنا لم أفكر في ذلك قط.
– بالضبط، أنا أكلمك عنها وليس عنك.
ليلى التي كانت تعرف أن كلمة تاتيانا فوق الجميع تراجعت عن مناكفتها وعادت لتخيط ثنية تنورتها الصوفية.
في الخارج عاصفة ثلجية يُسمع هديرها، وفي الموقد نار خابية تتلاشى. تركت تاتيانا رفيقاتها ومشت في الممر، دنت من سرير السجينة الجديدة وبقيت لبرهة عند طرف السرير بانتظار إشارة منها تبدي أنها رأتها.
بعد بضع دقائق من السكوت دون أية رد فعل، قررت تاتيانا كسر الصمت:
– ما اسمك؟
صوت خفيض لفظ اسم «أولغا» دون أن تُلحظ حركة شفاهها.
– أتصوّر أنك مثلنا جميعاً، كنت خطيبة ستالين المفضّلة ثم سئم منك؟
كانت تظن أنها تلقي نكتة، عبارة تكاد تكون تقليدية يستقبلون بها هنا كل المتمردات على نظام ستالين. كان وقعها على الغريبة مثل أثر انزلاق حصاة فوق الجليد.
– اسمي تاتيانا. تريدن أن أعرّفك على الأخريات؟
– لدينا الوقت، أليس كذلك؟
– بالتأكيد لدينا الوقت… سوف نقضي شهوراً، سنوات، في هذه الحفرة، وربما نموت فيها…
– لدينا الوقت إذاً.
كي تختم اللقاء، أغمضت أولغا جفنيها، استدارت ناحية الحائط، مولية الحديث كتفيها البارزين فحسب.
عندما أدركت تاتيانا أنها لن تستجرّ منها شيئاً أكثر، عادت إلى رفيقاتها.
– هذه امرأة قاسية، لديها ما يُطمئن، ربما تكون لدينا الفرصة…
أومأت النساء رؤوسهن علامة الموافقة _حتى ليلى_، قررن الانتظار.
خلال الأسبوع الذي تلا، لم تتفوه السجينة الجديدة بأكثر من جملة في النهار، وكان يجدر سحبها من بين شفاهها أيضاً. كان هذا السلوك يبث الأمل في نفوس أقدم السجينات.
– أنا واثقة من أنها فكّرت في ذلك، استنتجت ليلى التي تزداد قناعتها مع مرور الساعات: هي بالتأكيد من ذلك النوع الذي يفكّر في ذلك.
حمل النهار معه بعض النور إذ كان الضباب يرغمه على البقاء رمادياً، عندما كان ينقشع، كانت تحطّ فوق المعسكر طبقة من السحب الكثيفة مثل جيش من الحرّاس.
ولأن أي واحدة لم تتمكن من كسب ثقة أولغا، كنّ يأملن أن يكشف الحمّام إذا كانت تخفي شيئاً… لكن البرد كان قارساً بحيث لم يكن في نية أي منهن خلع ملابسها، كما أن استحالة التجفيف والتدفئة البعيدة المنال كانا يقيّداهن في حدود الاغتسال الخاطف وبالحد الأدنى. كما أنهن اكتشفن ذات صباح ماطر أن لبدة أولغا كثّة للغاية بحيث كانت قطرات المطر تنزلق عليها دون اختراقها، لقد كانت تمتلك قبعة واقية من المطر.
أطلقت تاتيانا حكمها النهائي:
– بئساً لها، يجب أن نخاطر.
– أن نسألها؟
– لا، أن نوحي لها.
– تصوروا لو كانت جاسوسة؟ أن يكون أحدهم أرسلها للإيقاع بنا؟
– ليست من هذا النوع، قالت تاتيانا.
– لا، ليست من هذا النوع بتاتاً! أكّدت ليلى وهي تسحب خيطاً من حياكتها.
– بلى، هي من هذا النوع، تمثّل دور الهمجية، القاسية، الصموتة، تلك التي لا تتفق مع أحد: أليست هذه أفضل الطرق لكسب ثقتنا؟
كانت إيرينا هي من نطقت بهذا التحليل وقد فاجأت الأخريات وذاتها، مذهولة من الترابط فيما تقدمت به. ثم أردفت بدهشة:
– يتهيأ لي، لو عهد لي بالتجسس على مهجع نساء لما تصرفت بغير ذلك. أعامل ككتومة ومنعزلة إلى أن أدعو للبوح بالأسرار مع مرور الوقت. هذا أكثر براعة من أن أبدو ودودة، أليس كذلك؟ ربما اندسّت فيما بيننا أكبر جاسوسة في الاتحاد السوفييتي.
أصبح لدى ليلى قناعة تامة حتى أنها غرزت الإبرة في إصبعها. نظرت مرتعبة إلى قطرة الدماء التي كانت تلتمع فوق شحمة إصبعها.
– أريد أن يغيّروا لي مهجعي بسرعة!
تدخلت تاتيانا:
– هذا تفكير عقلاني فعلاً يا إيرينا، هذا مجرد استنباط فحسب. حدسي يقول لي العكس. يمكن الوثوق بها، هي مثلنا، لا بل أكثر صلابة منا. أنت على حق. لننتظر. الأهم الآن أن نُفقدها صبرها. لنتوقف عن التحدث إليها منذ الآن. إذا كانت جاسوسة وُضعت هنا كي تشي بنا، فسوف يتملكها الذعر وتتقرّب منا، وعند أول فرصة سوف تكشف لنا عن خطتها.
– فكرة جيدة، أكّدت إيرينا. دعونا نتجاهلها ونراقب ردة فعلها.
– هذا فظيع…، تنهّدت ليلى وهي تلعق إصبعها كي تسرّع التئام الجرح.
خلال عشرة أيام لم تتوجه أيّ واحدة من سجينات المهجع 13 بالكلام إلى أولغا. في البداية لم تبدُ أنها لاحظت ذلك، ولكن بعد أن أدركت صارت نظرتها أكثر قسوة، شبه معدنية لم تُبدِ أي بادرة لكسر هذا الصمت الجليديّ. كانت ببساطة قد رضيت بالعزلة.
بعد العشاء، اجتمعت النساء حول تاتيانا.
– البرهان واضح، أليس كذلك؟ لم تنفجر.
– نعم، هذا مخيف…
– آه ليلى، كل شيء يخيفك…
– أقرّي بأن هذا مثل كابوس: تُهملي من قبل زمرة، تعرفين ذلك ولا تحركين ساكناً كي توقفي هذا الإبعاد! هذا السلوك بالكاد بشري… أتساءل إذا كان لديها قلب، أولغا هذه.
– من قال لك إنها لا تعاني من جرّاء ذلك؟
توقفت ليلى عن الحياكة والإبرة عالقة في طرف القماش الثخين. لم تفكّر في ذلك من قبل، امتلأت عيناها في الحال بالدموع.
– لقد جعلناها تعيسة.
– أظن أنها وصلت إلى هنا تعيسة، ونحن جعلناها أكثر تعاسة.
– المسكينة! هذا ذنبنا…
– أعتقد حقاً أنه يمكن الاتكال عليها.
– نعم، أنت على حق، قالت ليلى بتعجب وهي تمسح دموعها بكمّ ثوبها. لنثق بها بسرعة. كم يصعب عليّ التفكير أنها ليست سوى سجينة مثلنا، ونحن زدنا في مصابها بجعل حياتها مستحيلة.
خلال بضع لحظات من المشاورات السرية، قررت النساء المخاطرة بالكشف عن مخططهن وسوف تكون تاتيانا أولى المبادرات.
غرق المعسكر بعد ذلك في سباته المعتاد، في الخارج كان يزداد الصقيع، وبعض السناجب تتقافز فوق الثلج بين المهاجع.
كانت أولغا تفتّت كسرة خبز بيدها اليسرى، وتمسك بالأخرى قصعتها الفارغة.
دنت منها تاتيانا.
– هل تعلمين أنه يحقّ لك بعلبة سجائر كل يومين؟
– لاحظت ذلك وأنا أدخنها، تصوّري!
خرج الردّ من فم أولغا سريعاً ومباغتاً، كان أسبوع الصمت هذا قد عاجل فصاحتها.
لاحظت تاتيانا أنه وعلى الرغم من عدائية أولغا إلاّ أنها تكلمت لتوّها أكثر من الأمس القريب. لاشك أنها كانت تفتقد إلى العلاقات الإنسانية… قدّرت أن بإمكانها الاستئناف.
– بما أنك تلاحظين كل شيء، لا بد أنك لاحظت أن أياً منا لا تدخن، أو بالأحرى ندخّن قليلاً في حضور المراقبات.
– إيــــــه…..نعم، لا. ما قصدك؟
– ألم تتساءلي بمَ نستخدم السجائر؟
– آه، فهمت: تقايضنها. إنها عملة المعسكر. هل تريدين بيعي منها؟ ليس معي شيء كي أدفع ثمنها…
– أنت مخطئة.
– إذا كنتن لا تدفعن المال، ماذا تدفعن إذاً؟
نظرت أولغا إلى تاتيانا ملياً تعلو وجهها تكشيرة مرتابة وكأني بها مشمئزة مما ستكشفه لها تاتيانا التي استغرقت وقتها كي تجيبها عندئذ:
– نحن لا نبيع سجائرنا ولا نبادلها أيضاً. نستخدمها لشيء غير التدخين.
ولأنها شعرت بأنها أثارت فضول أولغا، قطعت الحديث وهي على يقين من أنها سوف تكون في موقف أقوى لو عادت الأخرى تستجدي بقية الحكاية.
في المساء نفسه انضمت أولغا إلى تاتيانا، نظرت إليها طويلاً وكأنها تطلب منها أن تخرق الصمت. دون جدوى، إذ قامت تاتيانا بالرد على طريقتها كما فعلت في اليوم الأول.
انتهي المطاف بأولغا أخيراً إلى الانهيار:
– حسناً، ماذا تفعلن بالسجائر؟
التفتت تاتيانا ناحيتها وتفحصت نظرتها:
– هل تركتِ أناساً تحبينهم وراءك؟
ردّاً على السؤال، شقّ ثغرها ابتسامة أليمة.
– نحن أيضاً نشتاق إلى أزواجنا ولكن لمَ نقلق عليهم أكثر مما نقلق على أنفسنا؟ هم في معسكر آخر. من نحمل همّهم هم أولادنا…
تقطّع صوت تاتيانا، كانت صورة ابنتاها قد اجتاحت وعيها. وضعت أولغا يدها على كتفها متعاطفة معها، يد ضخمة، قوية، شبيهة بيد رجل إلى حد ما.
– أفهم يا تاتيانا، أنا أيضاً تركت ابنة ورائي. لحس الحظ تبلغ الحادية والعشرين من العمر…
لم تتمكن من أن تضيف شيئاً وهي تحاول حبس دموعها. فضلاً عن ذلك، ماذا تضيف؟
عناق أولغا المفاجئ جعلها تلقي برأسها على كتفها بسرعة، تاتيانا زعيمة الشبكة، الثائرة أبداً، تاتيانا القاسية، عثرت على من هو أقسى منها، بكت للحظات على صدر امرأة مجهولة.
بعد أن أفضت تاتيانا بانفعالها المفرط، استعادت حبل أفكارها.
– هذا ما تنفعنا به السجائر: نفرغها من التبغ، نحتفظ بالأوراق ثم نلصقها ببعضها البعض لنحصل على ورقة حقيقية. هيا، سوف أريكِ.
عندما رفعت أحد ألواح خشب الأرضية، كشفت مخبأ مليئاً بحبات البطاطا ورزمة تطقطق من أوراق السجائر. عند مواضع الالتصاق كانت أثخن من باقي الرقائق حتى غدت مثل أوراق بردي عمرها ألف عام عثرت عليها بعثة تنقيب عن الآثار تاهت ولا يعرف عنها شيء. وضعتها بحذر فوق ركبتي أولغا.
– ها هي، سوف تخرج واحدة منا بالتأكيد ذات يوم… وتستطيع أن تحمل معها رسائلنا حينذاك.
– حسناً.
– لكنك حزرت أن ثمة مشكلة.
– نعم، أنا أرى. الأوراق فارغة.
– فارغة في الجهتين إذ إنه ليس لدينا قلم أو حبر. حاولت بالطبع أن أكتب بدمي بغرز إبرة من ليلى، غير أنه يُمّحى بسرعة… إضافة إلى ذلك، يلتئم جرحي بصعوبة، لدي مشكلة صفيحات، سوء تغذية. كما أنني لا أرغب بالذهاب إلى المستوصف لإثارة الشكوك.
– لماذا تقولين لي ذلك؟ ما علاقتي أنا به؟
– أتصور أنك ترغبين بالكتابة لابنتك أنت أيضاً؟
– بقيت أولغا برهة طويلة صامتة قبل أن تردّ بنبرة شرسة:
– نعم.
– فإذاً، هذا ما لدينا: نحن نزودك بالورق وأنت تزوديننا بالقلم!
– لماذا تتوقعين أن معي قلم؟ هذا أول شيء ينتزعونه منا عند اعتقالنا، وكلنا فُتشنا بمناسبات عديدة قبل الوصول إلى هنا.
– شعرك…
أشارت تاتيانا إلى اللبدة الكثيفة التي تحيط بوجه أولغا الصارم. ألحّت.
– أنت على صواب.
تحت أنظار تاتيانا المدهوشة، دسّت يدها وراء أذنها، نبشت داخل حلقات شعرها، ثم أخرجت ونظرتها تلتمع قلم رصاص رفيع مدّته إلى رفيقة السجن وقالت:
– تمّت الصفقة!
صعب كثيراً قياس السعادة التي غمرت بالدفء قلوب النساء خلال الأيام التي تلت. بسبب رصاصة القلم هذه، استعدن قلوبهن، علاقتهن بعالم الماضي، إمكانية تقبيل أولادهن، أصبح السجن أقل وطأة، ومعه الإحساس بالذنب. ذلك لأن بعضهن كنّ يلمن أنفسهن لأنهن أعطين الأولوية للعمل السياسي على الحياة العائلية، وها هنّ الآن يجدن أنفسهن مبعدات في قاع معتقل سيبيري وسلّمن أولادهن لمجتمع كرهنه وحاربنه، لم يكن بوسعهن منع أنفسهن من الندم على نضالهن، ومن الشكّ لأنهن هربن من واجباتهنّ وظهرن كأمهات سيئات. ألم يكن حريّ بهن على غرار الكثير من السوفييت أن يصمتن ويلتفتن إلى الأعمال المنزلية؟ الخلاص بحياتهن وحياة عائلاتهن بدلاً من النضال في سبيل حياة كل الناس؟
صحيح أن كل سجينة منهن كانت مسرورة ببضع أوراق إلا أنه لم يكن هناك سوى قلم واحد. بعد عدة اجتماعات، اتفقن على أنه يحق لكل امرأة ثلاث ورقات قبل أن يُجمع الكل في دفتر يُخاط ويخرج ما إن تسنح الفرصة بذلك.
القاعدة الثانية: كل امرأة ملزمة بكتابة صفحاتها دون تشطيب حرصاً على عدم استهلاك القلم.
إذا كان هذا القرار قد أثار الحماس فيهن جمعاء إلا أن الأيام التالية كانت عصيبة. واجههن ضيق: كيف لهن أن يجمعن كل أفكارهن في ثلاث ورقات. كانت كل واحدة منهن تتعذب: أقول كل شيء في ثلاث ورقات… كيف السبيل لكتابة ثلاث ورقات أساسية، ثلاث ورقات كوصية سوف تُنقش كأنها جوهر حياتها وتوّرِث لأولادها روحها وقيمها كي تذكرهم إلى الأبد بمغزى عبورها في هذه الحياة؟
تحول هذا الواجب إلى عذاب. كانت تسمع من الأسرّة أصوات نشيج وبكاء. بعضهن لم يستطعن النوم، وأخريات رحن ينُحن في أحلامهن. حين كانت تتاح لهن فرصة الاستراحة من العمل، كنّ يتبادلن الأفكار.
– أنا سأحكي لابنتي لماذا أنا هنا وليس إلى جانبها كي تفهمني، وربما تغفر لي.
– ثلاث ورقات من تعب الضمير كي تريحي ضميرك. هل تظنين حقاً أنها فكرة جيدة؟
– أنا سأروي لابنتي كيف التقيت بوالدها كي تعرف أنها ثمرة قصة حب.
– آه، صحيح؟ سوف تتساءل بالتأكيد لماذا لم تستمري في قصة الحب معها.
– أنا أرغب في أن أحكي لبناتي الثلاث ولاداتي، أجمل لحظات حياتي.
– ذكرياتك لحظة وصولهن إلى الدنيا؟ حريّ بك أن تتحدثي عمّا جرى لاحقاً.
– أنا أريد أن أحكي لهن عمّا كنت أريد أن أفعل من أجلهن.
– مممم…
أثناء نقاشاتهن اكتشفن تفصيلاً غريباً: جميعهن أنجبن بنات. أعجبتهن المصادفة في البداية ثم فاجأتهن، حتى أنهن تساءلن فيما إذا كان قرار إيداع أمهات بنات في المهجع 13 معاً لم يكن قد اتُّخذ من قبل السلطات عمداً.
لم يوقف هذا التفصيل عذابهن: ماذا يكتبن؟
في كل مساء، كانت أولغا ترفع القلم وتقترحه دون أن توجهه إلى واحدة بحد ذاتها.
– من تريد أن تبدأ؟
وفي كل مساء، كان يخيّم صمت طويل، يمر خلاله الوقت بشكل محسوس مثلما يقطر الماء من نوازل سقف مغارة. كانت النساء ينتظرن خافضات أبصارهن أن تصيح إحداهن «أنا» كي تخلصهن من ضيقهن ولو مؤقتاً، ولكن كنّ يبدأن بالتنحنح هنا والسعال هناك مع بعض الغمزات الخاطفة، وينتهي الأمر بأكثرهن شجاعة لتقول إنهن ما يزلن يفكرن.
– أكاد أصل إلى ما سأقول… ربما غداً…
– نعم، وأنا أيضاً أحرز تقدماً، غير أنني لست متأكدة بعد…
تتالت الأيام تعصف فيها هبات الريح أو تترصّع بالصقيع الأبيض الناصع. صحيح أن السجينات كنّ بانتظار القلم لسنوات، غير أن شهوراً مضت دون أن تطالب أي منهن به أو حتى تقبل بأخذه.
كم كانت دهشتهن كبيرة ذات يوم عندما رفعته أولغا وهي تردّد عبارتها المعهودة وأجابت ليلى بسرعة:
– أنا أريده حقاً. شكراً.
التفتن ناحية ليلى الشقراء المكتنزة وهنّ مذهولات، هي أكثرهن طيشاً وعاطفة وأقلهن إرادة، لنقل باختصار: الأكثر طبيعية. إن كان لا بد من توقع أي السجينات يمكن أن تفتتح الكتابة على الأوراق، كان حريّ أن تصنّف ليلى بين الأخيرات. تاتيانا أولاً، أو ربما أولغا، أو حتى إيرينا… ولكن الرقيقة العادية ليلى؟
لم يكن بوسع تاتيانا كبح نفسها من التمتمة:
– أنت… أنت متأكدة… ليلى؟
– نعم، أظن ذلك.
– لن… تخربشي، لن تخطئي… أي لن تستهلكي القلم؟
– لا، فكّرت ملياً: سوف أتمكن من الكتابة دون أخطاء.
عهدت أولغا بالقلم إلى ليلى وملؤها الظن أنها عندما تركته بين يديها وتبادلت نظرة مع تاتيانا اكدّت لها أنهن كن يقترفن حماقة كبرى.
في الأيام التي تلت، كانت نساء المهجع 13 يحملقن في ليلى في كل مرة كانت تنعزل فيها لتكتب، كانت وهي تجلس على الأرض، تأخذ نفساً عميقاً وتنظر إلى السقف، وتزفر على التعاقب النفس وتحني كتفيها كي تخفي عن الأخريات الأحرف التي كانت تخطها على الورق.
يوم الأربعاء، أعلنت وملؤها الرضى:
– انتهيت. من تريد القلم؟
عقب سؤالها صمت مربك.
– من تريد القلم؟
لم تجرؤ أي امرأة على النظر بوجه امرأة أخرى. ختمت ليلى بكل هدوء:
– سوف أضعه في شعر أولغا بانتظار الغد.
عندما وضعت ليلى الشيء داخل شعر أولغا الكثيف، ندّت عنها همهمة.
أي امرأة أخرى غير ليلى، أقل طيبة وأكثر خبرة بتعقيدات القلب البشري كانت لتلاحظ نساء المهجع كيف رحن يرمقنها بغيرة، لا بل بشيء من الحقد. أنّى لليلى القريبة من الغباء أن تنجح حيث فشلت الأخريات؟
مرّ أسبوع، وفي كل مساء كان يقدم لكل واحدة الفرصة لعيش إخفاقها.
أخيراً، في يوم الأربعاء التالي، وعند منتصف الليل، بينما كانت أنفاس النساء تشير إلى أن معظمهن نائمات، سئمت تاتيانا من التقلب في فراشها ذات اليمين وذات اليسار، زحفت بهدوء حتى سرير ليلى.
كانت ليلى تحدّق في السقف المظلم مبتسمة.
– ليلى، أرجوكِ، هل يمكن أن تقولي لي ماذا كتبتِ؟
– بالطبع يا تاتيانا، هل تريدين قراءته؟
– نعم.
ماذا كان بوسعها العمل، كان قد حلّ موعد حظر التجول.
التصقت تاتيانا بالنافذة. كان يمتد وراء شبكة العنكبوت ثلج نقيّ جعله القمر المكتمل أزرق اللون، استطاعت تاتيانا وهي تلوي عنقها أن تفكّ رموز الأوراق الثلاث.
اقتربت منها ليلى وسألتها بنبرة طفلة مذنبة ارتكبت حماقة:
– ماذا، ما رأيك؟
– ليلى، أنت عبقرية!
أخذت تاتيانا ليلى بين ذراعيها كي تقبّل وجنتيها المكتنزتين مرات عديدة.
في اليوم التالي طلبت تاتيانا من ليلى صنيعين: الأول أن تسمح للأخريات بأن يحذين حذوها، والثاني أن تتحدث لهن عن ذلك.
أخفضت ليلى بصرها، احمرّت خجلاً وكأن أحداً ما كان يقدّم لها الأزهار، وغرّدت عبارة متلعثمة من هديل حنجرتها كانت تعني: نعم.
خاتمة
موسكو، كانون الأول 2005.
مرّت خمسون سنة على هذه الأحداث.
الكاتب الذي يكتب هذه السطور يزور روسيا. سقط النظام السوفييتي، لم يعد هناك معسكرات اعتقال، يعني ذلك أن الظلم قد اختفى.
ألتقي في صالات السفارة الفرنسية في موسكو بالفنانين الذين يمثلون مسرحياتي منذ سنوات.
من بينهن امرأة في الستين، أمسكت بذراعي بمودة، بمزيج من القحّة والاحترام. كانت ابتسامتها الطيبة تسيل عذوبة. يستحيل أن اقاوم هاتين العينين البنفسجيتين… تبعتها حتى نافذة القصر التي كانت تسمح بتأمل موسكو المضيئة.
– هل تريد أن أريك أجمل كتاب في العالم؟
– أنا مازلت آمل الكتابة، تأتين لتعلني لي أن الأوان قد فات. أنتِ تقضين عليّ. هل أنت متأكدة من ذلك؟ أجمل كتاب في العالم؟
– نعم. حتى وإن كان بإمكان الآخرين أن يكتبوا كتباً جميلة، إلاّ أن هذا هو الأجمل.
جلسنا على تلك الأرائك الواسعة والبالية التي تتميّز بها الصالات المزخرفة في كل سفارات العالم.
روت لي قصة أمها، ليلى التي أمضت سنوات عديدة في معتقل سيبيري، ثم قصة النساء اللواتي شاركنها تلك الأوقات، وأخيراً قصة الكتاب كما رويته لتوّي.
– الدفتر في حوزتي، لأن أمي كانت أول سجينة تغادر المهجع 13، نجحتْ في إخراجه مخاطاً في ثنية تنورتها. ماتت أمي والأخريات أيضاً. غير أن بنات الرفيقات السجينات يأتين لاستشارته بين الحين والآخر: نشرب الشاي، نتذكّر أمهاتنا، ثم نعيد قراءته. عهدن إليّ بمهمة الحفاظ عليه. عندما لا أعود هنا، لا أعرف ماذا سيحلّ به. هل ثمة متحف يمكن أن يأخذه؟ أشكّ بذلك. مع ذلك، إنه أجمل كتاب في العالم، كتاب أمهاتنا.
أخفضت وجهها قبالة وجهي كأنها ستقبّلني وغمزتني.
– هل تريد أن تراه؟
اتفقنا على موعد.
في اليوم التالي، كنت أرتقي السلم العريض المؤدي إلى الشقة التي تشاركها مع أختها وقريبتيها.
وسط الطاولة، بين الشاي وحلويات «السابليه»، كان الكتاب في انتظاري، دفتر بأوراق هشّة جعلتها السنون أكثر تقصفاً.
أجلستني مضيفاتي في كنبة لها ذراعان متداعيتان، وبدأت أقرأ أجمل كتاب في العالم، كتبته مناضلات من أجل الحرية، ثائرات رآهن ستالين خطيرات، مقاومات المهجع 13، كتبت كل واحدة منهن ثلاث ورقات لبناتها، خوفاً من عدم رؤيتهن مجدداً.
على كل صفحة، كُتبت وصفة طبخ.
إيريك إيمانويل شميت * *
ترجمة: لــيــنــا بــدر*