1 مارس 1975
ها هو ذا بورخيص وساباتو.
أمتنع عن وصف وصولهما بدقّة، فلا أولي أيّة أهمية للباسهما، ولا للفضاء الذي يضمّهما، ولا حتى للأثاث.
أتحمل وزر هذه اللامبالاة المقصودة، التي تتجاوز عن ذكر التفاصيل والجزئيات.
بدَل المعاينة الحثيثة، أفضل الانقطاع والتنازل.
لذلك، كان يكفيني لأحقّق ذلك، أن أتذكّر عدد الأحلام والرّؤى، التي تركاها حبيسة الورق.
كلّ النّهم الذي يحرّكني الآن، هو أن ألزمهما بالتحدّث عن الأحلام، التي خلّفها الكاتب بورخيص، كما الكاتب ساباتو، رهينة الأوراق.
إنه لتقاطع صُوَر نافذ الحذق، هذا الذي حققه هذان الرّجلان اللّذان يدركان ما تعنيه حرية المونولوج الخالد (لأن معنى الكتابة هو محادثة الذات ومعايشة العزلة!)؛ وها هما اليوم يقبلان بتقاسم الحديث، للحظات.
إنّ بورخيص وساباتو هما مجموع المؤلفات التي دبّجاها، والريبورتاجات التي خلّفاها، والحياة التي عاشاها بجميع ألوان طيْفها، وكذا النواقص التي عانيا منها؛ وهما العين والعمى أيضاً، وهذه الحوارات!
بارون: بمَ توحي لكما لفظة حلم؟ وهل لديكما الرغبة في الحديث عن الحلم؟
ساباتو: أجل. أنت مثلا، يا بورخيص. ماذا تعني لك صحّة الرؤيا، أي تلك الحقيقة التي تتراءى لنا في الأحلام؟
بورخيص: هذا موضوع جيّد. إذن، هيّا بنا. ولنبدأ بك أنت الذي خطرت بباله هذه الفكرة.
ساباتو: منذ قرون وقرون، لم يتوقف حديث الناس عن الحقيقة المرئية في الأحلام. فهل تذكر كتاب شيشرون Cicéron الحواري الذي يحمل عنوان: الأكاديميون؟
يحرك بورخيص رأسه بإشارة تفيد بأنه يتذكر الكتاب.
ساباتو: يحكي ليوبوليوس Lupulus بأنه رأى هوميروس في الحلم، وحين استيقظ، أدرك بأنّ ذلك ضرب من الوهم. بعدها، يسأله شيشرون عن سبب اعتقاده بأنّ ما رآه وهم، فيجيب ليوبوليوس: لأنّ تجلّي هوميروس في الحلم، كان بأقل الحيوية والكثافة الموجودتين في الواقع. عندها، ردّ عليه شيشرون قائلاً بأنّ بإمكان أضغاث الأحلام أن تكون أشدّ كثافة من الإدراك، الذي تستلزمه حالات الصّحو. ومن ثمّ، تصبح حجة ليوبوليوس غير سديدة. لكن، ينبغي أن نتساءل حينها، عن نوع الحجّة الدّامغة التي تلزمنا، حتى نقيم الدّليل القاطع على أن الصّور التي تتراءى لنا في الأحلام، هي إمّا صور حقيقية أو غير ذلك. فالنّمر الذي يظهر لنا في الحلم، يمكنه أن يكون أدعى للفزع من النّمر الحقيقي.
بورخيص: زد على ذلك، أنّ لحظات الصّحو غالبا ما تكون فترات مليئة بالفتور والارتخاء. أليس كذلك؟ خاصّة أثناء المؤتمرات، ومناسبة تقديم الكتب، وحفلات الشاي،،، الخ.
ساباتو: ومن الممكن أن يكون الحلم في المقابل، كالأدب تماماً: أشدّ إقناعا!
بورخيص: من جهتي، قد أقول إن للأحلام طعماً مميّزا. فقد رأيتُني هذه الليلة مثلا، أتحدث في الحلم الى امرأتين، كانتا معاً كبيرتي الجثة، وسمرتهما داكنة تبلغ حدّ السواد؛ لكنّي لاحظت أثناء ذلك، بأنّ الأمر لا يتعلق بامرأتين، وإنما بواحدة لها رأسان. والحال أننا لو وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع شخص برأسين، لأصبنا بلا شك إذن، بأزمة خوف شديدة! لكنّ هذا بدا لي أمرا طبيعيا في الحلم، وينسجم كثيراً مع الأحداث الأخرى المتضمّنة في نفس الرؤيا. لم أدرك أني أشرفت على الدخول في كابوس، إلا حين استيقظت وحسب. لكنّ ما رأيته بدا لي مع ذلك، كابوسا. وبهذا، يمكننا أن نتصور بأنّ للحلم، من غير أدنى شك، طعماً مختلفاً ومميزا كما لليقظة. أنا أدرك بشكل عام بأني أحلم، حين أندمج بشكل فعلي في الحلم… وإني لأجهل السبب الذي يؤول إليه هذا…
ساباتو: ليس من الصعب ـ والحالة هذه ـ فهم سبب هذا الأمر. فكلما انخرطت في الحديث الشّاجن مع امرأة برأسين، سواء كانت بشَرَتها سوداء أم لا، إلا وصار بمقدورك أن تدرك بأنّك تعيش بداهة، أطوار حلم!… (يضحكان)… لا يتعلّق الأمر بالطّعم، وإنّما بمسألة الرأسين!
بورخيص: لدى شوبنهاور حجة تبدو لي الآن، بأنها قابلة للدّحض: كتب هذا الفيلسوف يقول إنّ الحياة والأحلام صفحاتٌ تنتمي لنفس الكتاب، وأننا كلما قرأنا الصفحات متسلسلة ومنتظمة، كان معنى ذلك أننا نحيا، أما حين نتصفحها فقط بغير تسلسل ولا انتظام، فإنّ معنى ذلك أنّا نحلم.
ساباتو: هذا أيضا لا يقنعني مطلقاً. إنّ الحلم كتابٌ آخر، وليس مجرد صفحات من كتاب الحياة القابلة للتصفّح بغير انتظام. إنه كتاب ينتظمه منطق آخر، وتضبطه حبكة مختلفة اختلافاً تامّا عمّا ألفناه ونألفه.
بورخيص: ثمّة حجّة أخرى لكانط، لا تعجبني هي الأخرى أيضا. يقول إنّ للوقائع في حالة اليقظة، عواقب وآثاراً يمكنها أن تدوم لسنوات، بينما لا وجود لذلك في الأحلام. فكأنّ هذه لم تحدث. وبناء على هذا الكلام، يكون من المتعيّن علينا، حتى نميّز حالة الحلم عن حالة اليقظة، أن ننتظر عشرين سنة، الى ثلاثين…
ساباتو: هذه الحجة كذلك غير سليمة. إنّ المدى الزمني بالمفهوم الذي صاغه برغسون، مختلف كليّة في الأحلام عن المدى الزمني المرتبط بحالة الصحو: إنّ دقيقة واحدة في الحلم يمكنها أن تعادل قرونا. مثلما أنّ للوقائع والأحداث أيضا، آثاراً وعواقب وخيمة في الأحلام، يمكنها أن تدوم لقرون، بمعنى لدقائق!
بورخيص: والى جانب هذا، من الممكن أن نكون قد خلقنا الواقع، في ذات اللحظة التي نحلم فيها، مع كافة عناصر الماضي التي ترتبط بنا. فحين قال ماسيدونيو فيرنانديز Macedonio Fernàndez بأنّا وُلدنا ـ أنا والكون ـ سنة 1874، فإن قوله هذا كان مجرد مزحة، لأنّ من الممكن أن يولد قبل ذلك الوقت، بثانية واحدة. أنت تعلم بأنّ الاشارة الى سنة 1874، إنما هي مسألة إيمان لا أكثر.
ساباتو: تذكّر ما قاله برتراند راسل Russell بخصوص ثقوب الجَوْرب القديم. قال إن بمستطاع الكون أن يكون وُجد بجوارب مثقوبة، في ثانية واحدة قبل تاريخ نشوئه الفعلي! لا شيء من كل ما تقدّم إذن، كفيل بأن يعطينا الحجّة الكفيلة، التي من شأنها أن تنتصر للحقيقة النهارية، على حساب الحقيقة الليلية.
بورخيص: ثمة حجّة أخرى من نفس النوع، إلاّ أنّها ذات طبيعة جماليّة، وهي المتضمنة في مؤلف شاتوبريان Châteaubriant الموسوم بعنوان: عبقرية المسيحية. يقول هذا الشاعر إنّ من العبث أن نفترض بأنّ بداية الخليقة، وهي اللحظة المشمولة بأهمية قصوى، كانت تتّسم بنقص ذريع. بمعنى أنّه لا ينبغي لنا أن نفترض عدم وجود الطّيور في تلك البداية، وإنما البَيْض، أو أنّ الأشجار لم تكن وقتها هناك، وإنّما البذور وحسب. لقد قال شاتوبريان إن العالم نشأ بأشجار لها ملايين السّنين؛ ولولا ذلك لوجدنا أنفسنا بين أحضان عالم بئيس وكئيب. إلا أن هذه بالطبع، ليست سوى حجة ذات استطيقية.
ساباتو: أنا لا أفهم الدّافع الذي قد يجعلني أعتبر بأنّ البيضة أدعى للبؤس من الطّائر؟! لكن، على كل حال، أريد أن أشير في سياق هذا الاستدعاء للأفكار المتداولة، الى أن الحجّة الداحضة لفكرة خلق العالم في ستة أيام، حجة تجعلني دائما أبتسم. وهي كما لا يخفى عليك، تلك الحجة القائلة بتطوّر الأجناس، وببهظيات ضخمة منقرضة… إن كان هناك إله قادر على خلق العالم، فأنا لا أرى ما الذي يمكن أن يمنعه من خلق ذلك العالم بأحفورياته اللّصيقة بتلك البهظيات المنقرضة!
بورخيص: ألّف فيليب غوس Ph. Gosse كتاباً بعنوان أومفالوس Omphalos ، فيه يؤكّد على أنّ الله حين خلق العالم، خلقه بماضيه، وهذا الماضي ليس خيالياً؛ بمعنى أنه لم يكن، وهو يخلق العالم، يأتي بالأشجار ولا بالحيوانات من عدم. حينها، سخر منه الناس، وردّوا عليه قائلين: معك حقّ، فقد أخفى الله الأحفوريات في طبقات تحت الأرض، ليُضِلّ بذلك عمل الأركيولوجيين.
ساباتو: وليختبر إيمان المعتدّين بأنفسهم.
بورخيص: ما يتّضح من كلّ هذا، هو مشكل الزمن. فالناس يقع منهم التسليم ضمنياً بلحظة الخلق الأولى، لكنهم سرعان ما يتساءلون بعدها: وماذا حدث قبل تلك اللحظة؟ وقبل قبل تلك اللحظة، وهكذا دواليك الى ما لا نهاية.
ساباتو: أعتقد أنّ هذا ناجم عن كوننا نطبّق التمثلات الذهنيّة المصاغة لاستيعاب عناصر العالم المتناهي، على شيء هو بالضرورة خالد وغير نهائي. ونحن نطبّق مبدأ التناقض الخاص بنا، وبمنطقنا الأرسطي، على وقائع وحقائق لها بالتأكيد منطق آخر. لكن، وحتى أعود الى موضوع الحلم يا بورخيص، أقول بأن من المستحيل البرهنة على أنّ حقيقة الحلم هي ضرب من الوهم، فينجم عن ذلك أن حقيقته تكون أقل شأناً من تلك المرتبطة بحالات اليقظة والصّحو. فقد رأيت بأن جميع الحجج التي سقناها في معرض ها الحديث، هي حجج خالية من الصحّة والسّداد. وهناك أيضا حجة تتّصل بمسألة الانسجام. فمن المقطوع به أن الأحلام رؤى لا تخضع الى الانسجام بالكلّ. لكن، لمَ ينبغي على الحقائق أن تكون خاضعة للانسجام؟ نحن نطبّق هذا مرّة أخرى، منطق الانسجام الذي اكتشفناه في حياتنا النهاريّة، على كون خالص لا يتماشى مع هذا المنطق.
بورخيص: وكذلك حال النسيان. فحين نرغب في تذكّر شيء ما، ينبغي لنا أولا أن نكون قد نسيناه، ليأتي بعد ذلك أوان استحضاره في الذاكرة. إنّ الحلم هو شكل من أشكال هذا النسيان.
ساباتو: من المجدي لنا حقا، أن ننسى حالنا، وما نحن عليه طيلة نصف اليوم. وإلاّ أتعتقد بأننا قادرون على مواصلة العيش، دون ذلك النسيان؟
بورخيص: ستحلّ بنا الرّتابة، ويشملنا الضّجر…
ساباتو: أعتقد أن ما سيحلّ بنا هو اليأس والجنون. لا سبيل للمرء في عيش حياته دون أحلام، ومن غير خيال كذلك.
بورخيص (بصوت مهموس): فطور، غذاء، عشاء، شاي، ثمّ فطور، غذاء،،، من غير طبق فيه أحلام… لا شكّ أن الأمر سيكون غير محتمل بالكلّ. أليس كذلك؟
يبتسمان.
ساباتو: دعنا نواصل التحليل، إن كان الأمر يهمّك.
بورخيص: ولم لا؟ ما دمت أحبّ هذا الموضوع كثيراً.
ساباتو: إذن، لنبْعِد جانباً حجتيْ الكثافة والانسجام… لكن، لاحظ معي بأنّا نستطيع قول الشيء نفسه عن سَوَرات الجنون والانخطاف، التي تعتري الأولياء والقدّيسين. فأي درجة من الواقع، وأيّ نوع منه، يراه هؤلاء الصّوفية والقدّيسون؟ من جديد، نرى بأن حوارات شيشرون تشير الى سوْرة الجنون، وخاصة الحوار المرتبط بتيوليتانيوس Tulitanus الذي هتف صائحا: «إني أراك، يا أوليس.. أراك!». لكن، ألا يراه، حقّاً؟ ثمّ من أدرانا بالعكس؟
بورخيص: ثمّة حجة يمكن أن نقطع بها الشكّ باليقين، وهي ما يتفق الآخرون على رؤيته. ففي الحلم، نكون وحدنا. أما في اليقظة، فنحن نتقاسم مع الآخرين رؤية الأمور. ومع ذلك، أعتقد بأن حتى هذه أيضا، ليست بحجة.
ساباتو: تماما. هذه كذلك ليست سديدة. فمن الممكن أن يكون هناك الآخر حتى في الحلم؛ ثمّة دائما آخرون، يقاسموننا الأحلام.
يتلفظ بورخيص بشيء ما، لا تسمح التسجيلات بتمييزه.
ساباتو: لكن هذه الحجة الذائعة الصّيت: «الآخرون»، لا تستقيم هي كذلك، لو أمعنّا فيها النظر قليلا. أمامنا هنا هذه المائدة، التي نراها نحن جميعا. لكن، افترض معي أني أغمضت عيني. في هذه الحالة، أنا لا أراها. وبإمكاني أن أذهب أيضاً، وأنا على تلك الحال، الى حدّ إنكار وجودها. وإذا قيل لي بأن الآخرين يرونها مع ذلك، فإنّ هذا لا يكفي أيضا لإثبات وجودها بالنسبة إلي، ما دمت أنا لا أرى المائدة، ولا حتى الآخرين. وإن ردّ علي أحدهم قائلاً بأني على الأقل أسمعهم، فإنّ هذه الحجة نفسها قد لا تستقيم أيضاً، في حالة إصابتي بالصّمم. وإذا ما قُطعَت يدي، وحُرمْت من نعمة اللمس، فإني لن أقوى على تمثل وجود المنضدة كذلك، بهذه الحاسّة. لذلك، ما قيمة الآخرين في مثل هذه الحالة القصوى؟ إن هذه الحجة هي على المستوى الفلسفي، بمثابة لا شيء. هنا، سنجد أنفسنا تقريباً، نحيا الوضع نفسه الذي نكون عليه، ونحن نحلم. إنّ حقيقة هذا العالم الليلي ليست بأدنى من الواقع، بحكم أن لا أحد يستطيع أن يرى ذلك، أو يتمثله.
بورخيص: بالفعل، لأنّ الوحيد الذي يوجد ضمن ذلك الوضع، هو الشخص الحالم… وثمّة حجّة أخرى لبرتراند راسل Bertrand Russell، يقول فيها: سنفترض بأنّ الكون غير موجود، وكذلك الأسلاف والطفولة. وأنّ العالم في لحظة غير موجود؛ ثمّ إذا به يوجد بعدها، فنتقاسم الماضي. لذلك، من الممكن أن تكون اللحظة التي قلت فيها ما قلته الآن، يا ساباتو، قد انتمت سلفاً الى الماضي.
ساباتو: إنّ عمليات الاستدلال التي صاغها بيركلي Berkeley غير قابلة للدّحض، إذن. حتى ولو أنها مثلما قال هيوم، لا تقبل أدنى دحض ولا تستلزم أدنى يقين. أليس كذلك، يا بورخيص؟ إنك أنت من كتب هذا في قصة: فوينيس أو الذاكرة.
بورخيص: They admit of no refutation and produce no conviction. [لا تقبل دحضاً ولا تستلزم اعتقاداً].
ساباتو: تماماً. لذا، يدافع هيوم عن وجود المنضدة، بمعنى وجود الواقع كحقيقة كاملة، من منطلق أنّ هذا الوجود هو فعل اعتقاد Belief، مثلما عبّر عنه بلغته.
بورخيص: كان يقول إنّه حين يتعاطى للتفكير، يكون فيلسوفاً؛ لكن، ما أن ينشغل بأمور الدنيا، ويمشي في شوارع إيدمبورغ وأزقتها، مثل أشباهه الآدميين الذين يحيون حياتهم اليومية، حتى يكفّ عن التفكير كفيلسوف، ليغدو مجرد مهووس يهذي مثل الآخرين. إن وضع الفيلسوف مطابق لحالة التأمّل المنذورة للعزلة، إذن.
ساباتو: هذه القضية كلها ترتبط بمسألة الجحيم. وأنا أعلم بأنّك تهتم أيضا، بهذا الأمر اهتماماً كبيراً.
ببطء، حرّك بورخيص يده، كي يصادق على ما قاله ساباتو، ثم انحنى في صمت باتجاه المكان، الذي كان هذا الأخير يتواجد فيه.
ساباتو: إنّ الرّوح، رغم أنها منغرسة في الجسد، ومضطرة بالتالي الى اتّباع تحوّلاته، تنتمي الى نظام أنطولوجي مميّز: فهي غير موجودة في الفضاء، ولا في الزمان الفلكي. وإذا استطاعتْ «مغادرة» الجسد، عبر إجراءات قد تبقى مع ذلك مؤقتة، فإنّها تأخذ مكانها حينئذ، خارج دائرة الزمان والمكان. لن تكون ثمّة بالنسبة إليها، لحظة قبليّة ولا بعديّة. والحال أنّنا جميعا نعلم بأنّ هناك من الناس، من تتراءى له رؤى معينة في المنام، وبعض من يحدس بما قد يقع في المستقبل. ويمكن لهذا الأمر، إذا ما سلمنا به، أن يُشرح بكون أنّ الروح تكون لها قدرة على الانفلات من أسر الجسد، أثناء النوم. وبذلك، تتمكّن من السّفر، فتحرّر من ثقل الجسد وإكراه الزمن، عبر سماء متعالية وقصيّة، لتبلغ الى منطقة لا وجود فيها للحظات الماقبل ولا للحظة المابعد، أي الى حيث تكمن تلك الوقائع والأحداث، التي ستحل بالمرء أو بجسده فيما بعد، وهي مخلّدة، إما كتماثيل للسعادة أو للشقاء. إنّ الأحلام بالنسبة لمن يملك فنّ تأويلها إذن، ليست مجرد آثار متبقية من الماضي، وإنما هي صور ورموز تحدس بالمستقبل.
ظلّ بورخيص يصغي إليه، بنفس الاهتمام الأدبي الذي يبين عليه دائماً، حين يستمع الى قصص فانطستيكية، أو يحكيها. لكن، بنفس الشكّ والريبة في صرح ما قيل، على الأرجح.
أما ساباتو فكان ينمّ تعبير وجهه عن الجدّ المفعم بالوله.
ساباتو: لكن، وبما أن الموت هو ما ينتظرنا في المستقبل، فإنّ ثمة أضغاث الأحلام التي لا يمكن أن تكون سوى مجموعة رؤى، تنذر بالجحيم المُعدّ لنا.
بورخيص (جادّاً): لكن، ألا تعتقد معي بأنّ السماء والجحيم ليسا سوى مجرد ابتكار لغوي، يا ساباتو؟
ساباتو: أنا أعتقد بأنهما حقيقة، مع أن هذا لا ينبغي أن يعني بأنهما يشيران الى تلك الحقيقة السّاذجة للغاية، مثل ما يتلقاه الأطفال في الكنائس. إنّ الكوابيس ورؤى الشعراء وكذا كلام المجانين، الذين «لم يعودوا يسيطرون على أنفسهم» (وأدعوك الى التمعّن في هذه الصيغة اللغويّة النافذة، التي تعبّر عنها هذه العبارة المتداولة بين الناس منذ القديم!)؛ هي كلها حقائق، وليست مجرد ألفاظ مكدّسة ومرصّفة. لقد كان هؤلاء الذين يصادفون دانتيه في شارع رافيني Ravenne، يتهامسون بنوع من الخوف المقدس، كلما رأوا ذلك الشاعر يمرّ بالقرب منهم، وهو شاحب الوجه وصامت، فيقولون لبعضهم البعض: «ها هو ذا الذي زار الجحيم!». وأعتقد بأنّ دانتيه قد رأى بوضوح رهيب، مثله في ذلك مثل أي شاعر عظيم آخر، ما لا يكاد يلمحه أو يحدس به عامة الناس، أبدا. وأعني ما يكون بمستطاع الإنسان العادي رؤيته، بكيفية غير واضحة وقت النوم، الذي هو موتنا المؤقت، ومرتع أحلامنا.
بورخيص (وقد أصغى إليه بريبة لا تخلو من وداعة): يناسبني أكثر ألاّ أعتقد في سماء ولا في جحيم، وأن أعتبرهما مجرد مبالغات لغوية.
ساباتو: بعبارة أخرى، أنت تعتبر أن قصصك مجرد ابتكارات لفظية، وليس اكتشافاً لحقائق أخرى… (تغيّر تعبيره، فابتسم). في هذه الحالة، أنت ـ سواء شئت، أم كرهت ـ مكتشف لحقائق أخرى.
بورخيص: على كل… سأتصدّى لك بهذه الحجّة. حين أنهمك في الإبداع، أكون قبل كل شيء كائنا عديم الأهمية.
ساباتو: وفّر تواضعك، وأجبني بوضوح فلسفي: هل تعتبر بأنّ دانتيه وميلتون يشعران بما تشعر به؟
بورخيص (وهو يبتسم): طيّب، أعتقد أنّ ما من فعل من أفعالي يستحق أن يجازى، أو يعاقب بشكل دائم وسرمدي.
ساباتو: من الممكن للجحيم أن يوجد بشكل سرمدي، دون أن تعاقب أنت بشكل سرمدي.
بورخيص: ما زلت أذكر شيئاً خاصّاً، يرتبط بالفترة التي كنت خلالها أتواجد بين أعضاء كنيسة المورمون، في ولاية يوتاه Utah بالولايات المتحدة الأمريكية. فقد بلغ التطرّف برجل دين كان يحدّثني مبلغا عظيما، حتى إنه قال إننا حين نفارق العالم الأرضي، ونرتقي الى السماء، فإننا سنواصل تطورنا الفيزيولوجي، الى أن نتمكّن ربما بعد قرون وقرون، من رؤية أنفسنا وقد صرنا نمتلك موهبة ربّانيّة، ليصير بمقدورنا بعد ذلك، خلق عالمنا الخاصّ، بحيواناته ونباتاته وخاصة بجمالياته وأخلاقياته. وهذه هي الإمكانية النهائية تحديدا، بالنسبة لأعضاء كنيسة المورمون.
ساباتو (بابتسامة ساخرة): هذا الأمر بالنسبة لهؤلاء المورمونيين، الذين ينتمون في الأصل الى فئة التجار المهرة، هو أشبه ما يكون الى مشروع تجاري ينضاف الى حسابهم الشخصي. أليس كذلك؟
بورخيص: إنما هذه فكرة جميلة. (تتيه به النظرات). فكرة أن يتمكن الإنسان من خلق عالمه الخاص!…
فترة توقف.
فرضَ علينا طبقٌ مُحمّل بأكواب وفناجين، أن ننضبط لواقع القهوة والماء.
ساباتو: أعتقد بأنّ هذا هو ما يقوم به بعض الفنانين الكبار، الذين لا ينتمون الى طائفة المورمون، ولا يضطرون الى انتظار قرون وقرون. فهؤلاء يخلقون عوالمهم الخاصة، ببشرها وحيوانها وقيمها الأخلاقية والجمالية.
بارون: يحدث أن أنقل لكما هنا، أسئلة يطرحها علي أشخاص آخرون، كبعض الفنانين الذين يعلمون بمجريات هذا الحوار، ويرغبون في المساهمة بإثرائه من خلال استفساراتهم. فقد جمعني ذات يوم مثلاً، نقاش دار بيني وبين بعض الرسّامين، كانت الغاية من ورائه هي معرفة ما إذا كانت هناك عملية خلق مطلقة، أم أنّ الإبداع هو فقط مجرّد اجتهاد، وتصرّف شخصي…
بورخيص (وهو يقاطعني): أنا لا أؤمن بإبداع مطلق، لأنّ لا وجود هناك لأي مطلق أبداً، لا على مستوى الألوان، ولا الخطوط، ولا الأشكال،،، الخ. وحتى أبرهن على هذا، أقول: إذا تصوّرت الكمّ الهائل من الحيوانات الموجودة، وما ينجم عن عملية التركيب بينها للحصول على صور ممكنة للوحوش المسيخة، صار بإمكانك أن تدرك بأنّ الحديقة الحيوانية الفانطستيكية مأهولة جدّاً، أكثر ممّا هي عليه الحديقة الحيوانية الحقيقية. ومع ذلك، فهذه ليست هي الحال في الحقيقة، لأنك ستلاحظ بأن خيالنا يقع دائما على السّنتور أو التنين، في حين أن ثمّة الكثير من أنواع النّمل، التي لم يتم اعتمادها، وهي تفوق بكثير عدد أنواع الوحوش. وهذا يعني أنّ عدد عمليات التركيب الممكنة، التي من المفترض أن تفوق عدد الأفراد، لم تتحقق بعد. فنحن نميل دائما إلى تخيّل الوحوش نفسها، وتكرار الخطاطات المسيخة ذاتها.
ساباتو: أظنّ بأني لم أفهم، لتعبي ربّما، القصد من كلامك. ومهما يكن، فإنه يبدو لي بأن لأطروحة أفلوطين Plotin محلا بالنسبة لما سمعته، وهي القائلة بأنّ الأفكار الأفلاطونية عددها محدود، بينما التركيبات القائمة بينها ليست غير نهائية، هي الأخرى. إذ ستنتهي تلك العمليات بعد فترة زمنية معينة الى تكرار نفسها، وهذا هو ما يسمّى بالعود الأبدي.
بورخيص: أجل، هذا ما يؤكّد عليه هيوم كذلك: عدد العناصر المكوّنة للكون محدود، مما قد يجعل عمليات التركيب بينها تتكرّر، بالضّرورة.
وإذا بساباتو يختم الجلسة.
وإذا بالأصوات يلفّها الصّمت، وبالظلال تغادر الشقّة، إلا واحد (ظلّي أنا)، الذي يتأخّر عن موعد الانصراف، فمكث لوحده في الغرفة، بكيفية مشبوهة.
كان يحدوني أمل ساذج في مواصلة الاستماع إليهما، دون أن يكونا موجودين بالقاعة!
8 مارس 1975
في أحد كتبه، يعترف بورخيص بما يلي: «حياة وموت: هذا ما ظلّ ينقص حياتي».
وفي ملاك العتمات، نقرأ ما يلي: «كانت مشيئة إرنستو ساباتو أن يدفن بهذه الأرض، وقد نقشت على شاهدة قبره كلمة واحدة، هي: السّلام».
تلك بداهة ما كان، وما لم يكن.
السّكينة والدّوار. الصّمت والصّراخ. النّسر والهزار. الكمان والأرغن. الشَقّ والشّعابُ الصّخري.
قوس قزح وومضة البرق. بورخيص وساباتو.
بهذه الكيفية أراهما، حين يتحدثان الى بعضهما.
ساباتو: ماذا تكتب حاليا، يا بورخيص؟
بورخيص: انتهيت من تأليف كتاب الرّمل، مع مؤلّف شعري آخر بعنوان: الزهرة العميقة. لست أدري ما الذي حلّ بي، إذ ما أن انتهيت من كتابة تلك القصص الثلاث عشرة، حتى أصبت بالعياء… أودّ لو أنّي انكببت على كتابة شيء آخر، لو أني انهمكت فيما من شأنه أن يشغلني لمدّة أطول؛ لكنّ قريحتي لم تسعفني بعد.
ساباتو: وهل ستكتب قصة طويلة، أم ربّما رواية؟
بورخيص: أعتقد بأنّي سأنجز دراسة أدبيّة.
ساباتو: ومن سترشّحه ليكون موضوعها، مثلاً؟
بورخيص: لست أدري. خطر ببالي أن أكتب عن إيمانويل سويدينبورغ Swedenborg، فإذا بي أحزر بأني لن أتعامل معه سوى على أنه صوفي. لكن قد يلزمني، بما أنه شخصية موسوعية، فريق كامل من المتخصّصين أو موسوعة كبيرة، للإحاطة به.
ساباتو: ألا يمكنك أن تكتب عن هذا الجانب أو ذاك، مما تتميّز به مؤلّفاته، ومما يهمّك منها بشكل خاص؟
بورخيص: أجل، ربّما سأختار الجانب الديني لهذه الشخصية. لكنّي ما زلت لا أعرف حقا، أي جانب ديني سأختار، إذ ما زلت أبحث عن موضوع محدّد. إن المرء حين لا يستطيع أن يحدّد موضوع بحثه بدقّة، يصاب بحزن عميق!
ساباتو: أظنّ أنّ اختيارك لهذه الشخصية هو في حدّ ذاته فكرة جيّدة. ثمّ إنّ هذا لا يمكنه أن يكون في النهاية، إلا تعلّة جيّدة يعمد إليها المرء، للتعبير من خلالها عمّا يفكّر فيه بخصوص أمور الكون. أليس كذلك؟
بورخيص: هو كذلك، بالتأكيد. تصوّر أنّ جيلبرت كييث تشيسترتون Chesterton كتب مجموعة من الأسطر الجيّدة والغير التامّة عن بليك Blake، الذي يعدّ أشدّ الناس اختلافاً وتبايناً في العالم، عن تشيسترتون!
ساباتو: من الجدير بنا على كلّ، أن نطرح هذا السؤال على ذواتنا: من نحن حتى نكتب عن الكون، الذي هو هذا الفضاء الأشدّ اتساعاً وغنى، وغير المحدود بالكل؟ ومع ذلك، فجميعنا يملك رؤيته الخاصة التي يتمثل بها الكون، مهما تظلّ غير ثابتة ولا مكتملة.
بورخيص: لأن لفظة كون ذات معنى واسع للغاية، ما يلبث أن يصبح فضفاضا. بينما يتعيّن على المرء الذي يتعامل مع حياة كاتب معين، أن يكون في المقابل أكثر دقّة وتركيزا.
ساباتو: ولماذا، يا بورخيص؟ أنا أعتقد أنّ العكس هو الذي ينبغي أن يحصل؛ لأنّ سويدنبورغ لن يعدو أن يكون ـ حتى ولو كانت قامته الفكرية كبيرة ـ سوى جزء صغير من هذا الكون، الذي يضمّ الى جانب هذا الأخير أفلاطون، والكائنات الرأسقدميّة Céphalopodes، والتيار البنيويّ، وهذه المائدة، وهلمّ جرّا…
بورخيص: طيّب، أنا متفق معك، لكن قد يكون من المنطقي أن أسعى، ما دمت أطمح الى الكتابة عن شخص ما، الى الإحاطة بنظرة شاملة عن مشروعه، لا الى مجرد تكوين نظرة جزئية عنه، أو حتى شديدة الاختزال.
ساباتو: ليس هذا هو رأيي. أنا أعتقد بأنّ لديك الحقّ في أن تتحدث عن سويدينبورغ الذي تحسّ به أنت بالذات، وتعرفه.
بورخيص: نعم، نعم، أعرف. أستطيع أن أنكبّ على مناقشة الجانب الأخلاقي والصّوفي للرّجل، وبهذا سأحقق ما يكفي. أليس كذلك؟
رفع رأسه الى الأعلى، وكأنه كان يبحث عن شيء ما، يقع في سقف الحجرة. تابع ساباتو بنظراته هذه الحركة الميميّة، فإذا بصوت بورخيص يتناهى الى سمعنا، وهو يهمس بمطلع القصيدة التي يقول فيها عن سويدنبورغ:
أطول من الآخرين، كان يمشي
ذلك الرّجل البعيد، وهو بين الرّجال:
وكان بالكاد ينادي على الملائكة
بأسمائها السرّية. ويغرق في تأمّل
لا تراه عيون البشر…
ثمّ أضاف، وكأنه يتحدث الى نفسه:
أجل، بهذا الجانب الصّوفي من هذه الشخصية، سيكون لدي ما يكفي للكتابة.
ساباتو: أذكر أنّك كتبك في أحد كتبك، عن «بعض الخدع السحريّة المتحاملة»، في كتاب الكيشوط.
بورخيص: لأني كثيراً ما قرأت الجزء الثاني من ذلك المؤلّف، على خلاف ما حصل معي بالنسبة للجزء الأول.
ساباتو: بالتأكيد، لأنّ الجزء الثاني أقوى وأشدّ نفاذا.
بورخيص: عادة ما لا تكون الأجزاء الأولى من المؤلفات جيّدة…
يضحكان
ساباتو: الجزء الثاني من فاوست Faust أهمّ بكثير من الأول. وهذا منطقي، لأنّ الكاتب حين يبلغ مرحلة النضج، يستطيع إنجاز شيء ذي وزن كبير.
تسلّل إلينا من النافذة صوت منبّه السيّارات، التي علقت في زحمة الشارع.
قمتُ بإغلاق النافذة، لأنّي رأيْتُ بأن من غير العدل أنْ تمتدّ إلينا تلك الأصوات الصّاخبة، لتبتلع ـ الى جانب الشارع العام ـ هذه الجزيرة الصّغيرة، التي كانت تضمّنا بهدوئها. أضف الى ذلك، أنّ بورخيص وساباتو كانا قد عمدا الى الصّمت، فانسحب كلّ منهما للحظة، الى أغوار عالمه الخاص، دون أي مقاومة لذلك الزّائر الثقيل، الذي تسلّل.
بورخيص: أتدري يا ساباتو، أنّي حضّرت موضوعاً للقائنا اليوم؟ لقد رأيت بأنه سيكون بمستطاع كلّ منا التحدث عن الكيفية التي يكتب بها: الكيفية التي تكتب بها أنت مثلا الرواية، وتلك التي أكتب بها أنا القصة. فما رأيك، إذن؟… ثمّ إني أفضل أن تبدأ أنت الحديث، أولا.
ساباتو: هذه بالتأكيد فكرة جيّدة. لكن فيها ما يشعرني بالحرج. لست أدري سبب هذا بالضبط، لكنّي أفضّل أن تبدأ أنت، لعلّ ذلك يشجّعني. أنا أدرك جيّداً بأنّ بإمكان هذا أن يكون في غاية الأهميّة، بالنسبة للكتاب الشباب.
بارون: أجل، أنا بدوري متأكّد منه. يكفي أن تتذكّرا أنّكما كنتما أيضاً في وقت من الأوقات، تتشوقان باهتمام شديد الى معرفة أسرار العملية الإبداعية، التي مارسها من أعجبتما به.
ساباتو: هل تريد أن تفتتح الحديث في هذا الشأن، يا بورخيص؟ على كلّ، قد لا يستغرق الحديث عن القصة، إلا وقتاً يكون دائماً أقل ممّا سيستغرقه الكلام عن الرّواية. أليس كذلك؟ (يبتسم، فيتجاوب بورخيص مع ابتسامته أيضا). ثمّ إنّي إذا كنت قد طلبت منك أن تتحدّث في البداية، فلأنه صار من المتواتر لدى الناس، تبادل الرأي في أيهما أصعب: كتابة الرواية أم القصة. لكني شخصيا، أرى بأنّ هذا ليس سوى نقاش بيزنطي محض.
بورخيص: أجل، هذا صحيح… لنر إنْ كان بوسعي تفسير الأمر… بالطبع، أنا لن أستطيع إلا الإحالة على تجربتي الخاصّة، التي قد لا تتطابق بالضرورة مع أي تجربة أخرى، وأعتقد بأنّ إدواردو مالييا Mallea لن يتحدّث مثلا، عن تجربته بطريقتي نفسها. إذن، فلنقل بأنّي عادة ما أتجوّل في شارع من الشوارع، أو أطوف بين ردهات أحد الأروقة (وهناك الكثير منها في هذا الحي، بالمناسبة!)؛ فإذا بانتباهي ينشدّ فجأة الى شيء، يؤثّر على مشاعري قبل كلّ شيء، إلاّ أنّي أحتفظ بذهني مع ذلك في وضع المنفعل فحسب، وأنا أدرك بأنّ المشروع الإستطيقي، إذا ما تحقّق بفعل ما شدّ انتباهي، يمكنه أن يتحوّل فيما بعد الى كتابة سردية، أو الى شعرية، أو الى كليهما معاً في الوقت نفسه. ومن الممكن تفسير ما يقع بدخيلتي، بالاعتماد على ما ذكره جوزيف كونراد Conrad، بصدد تجربته الخاصّة. فقد شبّه نفسه بملاّح يدرك، حين تتراءى له في الأفق بقعة سوداء، بأن ما يراه هو أفريقيا؛ بمعنى أنّ تلك البقعة الصغيرة المترائية من بعيد، حتى وإن لم تعدّ تقريبا شيئاً يذكر وقتئذ، فإنها تكون بالنسبة إليه أشبه بتلك القارة الكبرى: بمجموع غاباتها، وأوديتها، وحيواناتها، وبشرها، وأساطيرها.. بالنسبة إلي أنا، يحدث نفس الشيء. حين تتحرّك دواخلي، أحدس بشكل أشبه ما يكون حقّاً بجزيرة، لا يترأى منها غير طرفين: البداية والنهاية، دون التمكّن من الإحاطة بما يملأ الوسط. فأنا أحزر ببداية القصّة ونهايتها، من غير أن أدري أي بلاد ستتوافق مع مجموع عناصرها، ولا أية حقبة زمنية ستلائمها. إلا أنّ هذا سرعان ما يتكشّف لي بالتدريج، حين أفكّر في الأمر لبعض الوقت، أو حين أنهمك في الكتابة. أما ما أقع فيه من أخطاء أو هفوات، فينتمي الى تلك المنطقة المعتمة، التي تبقى رهينة بالاكتشاف. أنا لا أتفق مع إدغار ألان بو، الذي قال بأنّ قيمة القصّة تكمن في سطرها الأخير على الخصوص، وإلاّ فإنّ هذا الحكم سيجعل جميعَ القصص، مجرد محكيات بوليسيّة.
كان ساباتو يصغي إليه بكلّ جوارحه، دون أن يطرف له جفن. وحتى حين ارتشف من قهوته رشفة صغيرة، لم يتوقف وهو يرفع الفنجان بطريقة ميكانيكية الى فمه، عن متابعة صاحبه بعينين راصدتين.
ساباتو: يبدو لي بأنّ التعريف الذي صاغه ألان بو، يتلاءم مع القصة البوليسية أكثر مما يتلاءم مع كتابة أخرى، لها قيمتها الأدبيّة الحقّة…
بورخيص: أجل… بعد ذلك، تعترضني بعض العوارض الصغرى من قبيل الحسم في مسألة ما إذا كان من الملائم استعمال ضمير المتكلم المفرد، أم الغائب. إنّ من إيجابيات استعمال ضمير المتكلم، كون الكاتب لا يصبح بالضرورة، حين تُحكى قصّته من طرف شخصية أخرى، مسؤولاً بصفة مباشرة عن الأسلوب؛ لأنّ هذا يكون خاصية فنيّة تُنسب للسّارد. لكنّا في المقابل، حين نكتب بضمير الغائب، نكون من يحرّر، وفي نفس الوقت من يقرّر؛ وبذلك، تقع علينا المسؤولية الكاملة في اختيار الأسلوب… طيب. كلّ هذا لا يستغرق منّي سوى أيام معدودة، للحسم فيه. بعدها، أدرك انطلاقا من هذه اللحظة بالذات، بأنّ الأحداث ستقع في القرن الماضي ببوينس أيريس، أو بمكان آخر. آه، أعتقد بأنّ مسافة معينة (إنّما من غير إفراط!)، تكون جيّدة بالنسبة الى المحكي. وقد عثرت لي أنا على حل متوسط: أجعل جميع قصصي تقع تقريباً في باليرمو Palerme، في نهاية القرن. ولهذا الأمر ما يبرّره: إنني أختار اللحظة التي يمضى عليها وقت لا يستهان به، أو ما يكفي من الوقت على الأقل، حتى لا يملك أحدٌ أيّ فكرة سليمة عمّا كانت عليها الأمكنة، ولا عن الطريقة التي كان الناس يتحدثون بها. في حين أنّنا لو أخذنا على العكس من ذلك، موضوعاً راهنيا، فإنّ القارئ يتحوّل، دون أن يشاء ذلك، الى ما يشبه الجاسوس أو المراقب، الذي يحصي على الكاتب كلّ ما يقوله.
مكث ساباتو صامتا. ومن وقت لآخر، كان يوافق صاحبه الرأي بإشارة من رأسه، أو بحركة من يده التي يرفعها، من غير أي قصد ظاهر.
بورخيص: وما زلت أذكر أنّ شابّاً سأل عنّي ذات يوم بالبيت، وقدّم لي نفسه على أنه انتهى مؤخّرا من كتابة رواية حول مقهى سوكوريتو Socorrito، الذي يقع ـ على ما أظن ـ في المنطقة، التي يتقاطع فيها شارع سويباشا بشارع خونيكال؛ لأني غالبا ما ترددت عليه من قبل. قلت له إنّ سوكوريتو، مثلما يبدو لي، موضوع بالغ الأهمية كغيره من المواضيع الأخرى، بل إنّه مثل موضوع الكون بالذات. لكني اقترحت عليه أن لا يكشف بوضوح عن اسم المقهى، حتى لا يشرع الناس في البحث عن الأخطاء، أو التأكّد مما إذا كان هذا الحائط مطلياً بالفعل بهذا اللون أو بلون آخر، أو ما أنّ هذه العبارة كانت تستعمل حقاً في ذلك المحيط أم لا،،، الخ. قلت له أن يتصرف، وكأن المكان مجرد مقهى من مقاهي بوينس أيريس. وحتى حين لا يرغب في ذكر اسم المدينة، يكون له ما يريد. لكنّه ردّ عليّ قائلا بأنّ معرفته بسوكوريتو عميقة، وبأنه يحيط بالعادات المتداولة بذلك المقهى، منذ سنوات. جيد، أجبته. ثم أضفت: لكنك حتى حين لا تقترف أي خطأ من الأخطاء، فإنّ القارئ لن يألو جهداً في البحث مع ذلك، عن بعض الأخطاء المحتملة، وهذا ما سيجعل القراءة غير ممتعة. لذا، أضع أنا لقصصي تحديداً، إطاراً خاصا يضبطها، وهو باليرمو في فترة زمنية محددة.
ساباتو: باستثناء تلك القصص التي تدور أطوارها طبعاً، في أمكنة أخرى من قبيل بابل Babylone.
بورخيص: بالتأكيد. وحتى في هذه الأمكنة، قد تغدو الرّقابة في غاية الاستحالة كذلك. بهذه العناصر إذن، أحاول أن أتخيل أشياء كثيرة… وأظنّ بأن المرء يا ساباتو، حين ينهمك في تأليف كتاب ضخم (وأنت تعلم هذا أفضل مني)، عادة ما يختلط شخصه بالشخصيات التي يكتب عنها، أو عادة ما يصبح هو محرّكها الأول، وصوتها المحرّض. فقد كنت أقرأ على سبيل المثال، كتاباً غير ذي أهمية بعنوان: بابّيت Babbitt، لساينكلير لويس Sinclair Lewis. ووجدت بأن الكاتب في النهاية، يتماهى مع شخصيته، لأنه لو لم يفعل ذلك، لبدا الأمر واضحاً للعيان، من تلقاء نفسه.
ساباتو: وهل يسري هذا على الكيشوط، كذلك؟
بورخيص: أجل، لقد سرى ذلك على الكيشوط أيضا. ففي النهاية، يصير دون كيشوط هو سيرفانتيس. إنّنا نشعر بتعاطف مع دون كيشوط بالضبط، وليس مع الذوق، ولا الخوري، ولا الحلاق، ولا حتى مع سانشو بالذات… فلأتابع، إذن. ما أن أحيط بالموضوع الذي ينبغي عليّ طرقه، وببداية ونهاية المشروع التخييلي، حتى لا يتبقى لي غير العمل على تجميع عناصر الأحداث، التي تجري بين الحدّين السّالفيْن. أحيانا أكتب صفحتين الى ثلاث، لكني أقع عامة في الخطأ، لأني سرعان ما أدرك بأنّ الأمور لا ينبغي لها أن تقع بتلك الكيفية التي تصورتها بها، فأشرع حينئذ في تمزيق الأوراق. الى جانب هذا، ينبغي لنا في نفس الوقت، ونحن نكتب، أن نفكّر في القارئ: في موافقته ورضاه. ينبغي أن لا نقترح عليه وضعيات لا تهمّه، وأن نسعى الى القيام بكل ذلك بكيفية دقيقة ومتقنة. بالتأكيد، أنا لا أستطيع أن أكرّس نفسي الآن، لضبط الجزئيات التي تتطلّبها هذه العملية، بسبب عماي. لذا، ألتمس من الآخرين مساعدتي في ضبط هذه التفاصيل. أطلب ذلك مثلا من والدتي، التي أقول لها: أخبريني بنوع الأزهار، التي من شأنها أن تنبت في ساحة عمارة من العمارات الشعبية.
وقبل أن أكتب القصة، أقوم بحكيها لشخصين أو ثلاثة، فيساعدني ذلك على التحكّم في الفكرة، بشكل أفضل. ثم أقوم بإضافة أشياء، أو حذف أخرى. بهذه الكيفية، تكون القصة تقريبا قد اكتملت، حين أجلس لكتابتها. مؤكّد أنّ كل هذا لا يتعلق سوى بالكتابة القصصية. وفي هذا الشأن، هناك ما يثير الفضول، وهو أننا حين الشروع في الكتابة، نكون ـ ونحن نشعر بالزهو والخيلاء ـ شاذين ومنفّرين، ولربّما استطاع المرء أن يبلغ فيما بعد، حالة من التعقّد السري. ليس حالة البساطة، وإنما التعقّد السري. أما الشعر، فدائما ما يشتغل في المقابل على الماضي. إنّ البيت الشعري يتطلّب الحنين، وصدى الزّمن، واستدعاءات الذاكرة. وثمة شيء آخر يختلف فيه الشعر عن غيره، وهو أن نهايته من الممكن أن تخبئ لنا إحدى المفاجآت.
ساباتو: لكن، بخصوص نهاية القصة، تحديدا: ألا تغيّرها بالمرّة؟ وهل هناك شيء ما قد يطرأ عليك على حين غرّة، فيجعلك تعدل ممّا تخيلته في البداية؟
بورخيص: نعم، هذا صحيح. باستثناء القصص البوليسية التي يتمّ إعدادها بالضبط، بناء على نهاياتها. والآن، نلزم أنفسنا حين نكتب السوناتات، بجعل البيت الأخير يُؤثر في المتلقي. لذلك، ننحو باتجاه النهايات المؤثرة… طيّب، ها أنت ذا استمعت الى ما كان ينبغي لي أن أشير إليه يا ساباتو، بشأن هذه المسألة. والآن، جاء دورك…
تلكّأ ساباتو قليلا، قبل أن يشرع في الصّدع بمونولوغه.
كان بورخيص ينتظر.
من السهل على المرء أن يدرك ما يشبه الخجل الصبياني على وجه التقريب، الذي انتاب ساباتو. لكن، ماذا عساه أن يعمل، وفي مواجهته شخص ـ هو بورخيص! ـ ينتظر، بفارغ الصبر؟
وحين طفق يتحدث، بدا وكأنه أُكْره على التعرّي، فأخذ صوته الجهوري يرقّ. كان كمن يرتقي على رؤوس قدميه مدرجاً غير مرئي، أو كمن لا يرغب في إزعاج أحد.
ساباتو: أعتقد بأنّ التمييز المطلق بين القصّة والرّواية هو، أولا وقبل كل شيء، تمييز اعتباطي شيئاً ما. ثمة بالفعل فروق معينة تفرض نفسها علينا، كلما أخذنا في اعتبارنا النماذج الأساسية الكبرى: إنّ الحرب والسلام من دون شك رواية، كما أنّ بارتليبي Bartleby [لهيرمان ميلفيل] قصّة. أمّا بالنسبة لمسار الكتابة، فأتفق مع ما قدّمه بورخيص. وأظنّ أن تلك البقعة التي تحدث عنها كونراد، هي على وجه التقريب استعارة جيّدة، دائما. ففي البداية، أنا أكتشف قارة متناثرة…
بورخيص (يقاطعه): أجل، من الأفضل بكثير استعمال لفظة «أكتشف»، عوض «أخلق».
ساباتو: حين تحدث برغسون عن الإبداع الأدبي، قال شيئاً سليما للغاية. لقد أكّد بأننا ننطلق من عملية حدس تغمرها عتمة شديدة، إلا أنها مع ذلك شاملة؛ وهي العملية التي تخضع للتطوّر فيما بعد،عن طريق عمليات التحليل والتخمين، الى أن نصل الى أقصى حدس ممكن في النهاية، يكون أغنى بشكل لا حدّ له. أنا لم أعد أذكر العبارة المضبوطة، التي صاغ بها برغسون هذا التعريف، ولكن كل ما بقي عالقا بذهني هو هذا التصوّر المرتبط بعملية الإبداع، الذي يمكننا أن نسِمه بأنّه ديالكتيكي. وأعتقد إجمالاً، بأننا نبدأ دوما بعملية حدس، تشمل الكلّ برمته.
صوّب بورخيص نظراته في اتجاه ظلّ، تراءى له يجثم على جبين ساباتو. وعلى امتداد دقائق كاملة، لم يحرّك حتى يديه. ذهلت لهذا الهدوء، ودهشت لتلك الكيفية التي كان يصغي بها لصاحبه، كما عجبت لهما معاً، وقد انكبّا على تبادل البوح، وكأنهما يتحدثان عن أمور يتبادلانها لأول مرة.
ساباتو: إنّ الرواية مقارنة مع القصّة القصيرة، هي بالتأكيد عالم شاسع، الى حدّ يصعب فيه على المرء أن يتوقّع طبيعة ما سيملأ تلك المسافة، التي تفصل بين بداية هذه الجزيرة المتناثرة ونهايتها؛ وهي لعمري تلك البقعة الخاضعة في الأصل لعملية الحدس. بل إنّ هذا التوقّع لا يصعب فقط، وإنّما يغدو أكثر إثارة للمخاوف والمخاطر.
ولأنّ بارون طلب منّا التحدّث عن تجربتيْنا الشخصيتين بالذات، فإنّي مضطر الى أن أدلي إذن، بشيء من ذلك في هذا السياق. طيّب، حين شرعت في كتابة روايتي الأطول: أبطال وقبور، لم أعرف مسبقا ما الذي سيملأ ذلك الفاصل الشهير، الذي يحتل مساحة الوسط الواقعة بين نقطة البداية والنهاية. إلا أنني عرفت منذ البدء، مع ذلك، بأنّ ثمة علاقة ما مبنية على زنا المحارم سوف تطرح في النص؛ لكنها لم تكن واضحة لي بالشكل اللازم؛ كما أني لم أعرف كذلك، ما إذا كانت تلك العلاقة ستنشأ بين الأخ وأخته، أم بين الأب وابنته. في البداية، حصل هذا بين الأخ وأخته، ثمّ صار الأخ بعدئذ أبا؛ لكنّ الهاجس الآخر ظل يثقل باستمرار على كاهلي، الى حدّ أنّه عاود الظهور بعدها في رواية ملاك العتمات، بعدما مضى على ذلك ثلاثة عشر عاما.
لكن، فلأواصل: كنت متأكدا من شيء آخر، أيضا: أن الابنة أو الأخت ستقتل والدها، أو أخاها في النهاية، وستضرم النار في برج المراقبة؛ لأنّ فكرة البرج فتنتني، منذ اليوم الأول. كان يتعيّن عليّ إذن، أن أحترم هذين الهاجسيْن المستحوذيْن، اللذيْن أمدّاني ببداية المؤلف ونهايته، لكونهما هاجسيْن مستحوذيْن بالضبط، أيْ أنهما كانا رؤيتين عميقتين لواقع، لم يتم التوصّل بعد الى تمييز ملامحه بوضوح. وهكذا، فإنّ النهاية مثلما رأينا، على الأقل في ما يخص حالتي، تجتذب إليها كلّ شيء، إن صحّ هذا التعبير. أعتقد أن الكتابة التخييلية تشبه ـ في هذا الأمر ـ الحياة بالضبط، ما دمنا نسلك في الحياة أيضا، ذلك الطريق الذي تختطّه لنا بعض الهواجس والتصورات القسريّة. إنّ ذلك عكس ما يحدث مع الأجسام المادّية، التي تخضع للعلّة الدّافعة: إنّ كُرَة البلياردو مثلا، لا تتبع سوى المسار المفروض عليها، بفعل ميول اللاعب الذي يقذفها بعصاه: وهو ما يعني أنّ الحاضر هو الذي يفعل فعله في المستقبل، وليس العكس.
بورخيص (وهو يقاطعه بشكل جاد): أجل، نوع من الإوالية الميكانيكية.
ساباتو: كما يحدث في دائرة السّاعات، حيث الحتمية تنطلق من الخلف نحو الأمام. بينما العكس هو ما يقع تماما بالنسبة للإنسان: نحن ننطلق من الأمام في اتجاه الخلف. إن القدريّة ينبغي أن تتصوّر، كفكرة، وكأنّ الإنسان فيها ينجذب كذات نحو قدره، وليس كذات مدفوعة بقدرة ما من الخلف، نحو ذلك القدر. لكن، وحتى أعود بكما مجدّدا الى مسألة الإبداع الروائي، أقول بأن الجوهري في هذه العملية هو، على ما أظنّ: الشخصية. فالجزيرة التي تتراءى لنا في البداية، من خلال مسافة أبعد، هي جزيرة مأهولة بالبشر؛ والمثير للفضول بحق وحقيقة، هو أنّ هؤلاء الذين سنلتقي بهم، كلما اقتربنا من تلك الجزيرة أكثر، هم أقانيم الكاتب نفسه: وكأن استيهاماته كانت من قبل هناك، في انتظاره! فحين دنا دوستيويفسكي من جزيرته، التقى فيها بمضاعفيه ومثالثيه: هو لم يتقاطع فقط مع راسكولينكوف، وإنما التقى هناك بمومسات وجنرالات وغشّاشين، ظلوا في الآن ذاته بقدر ما يمثلونه، يخونونه كذلك. ومن ثم، تكون كل رواية بهذا المعنى فقط، وليس بالمعنى العادي ولا الحرفي للكلمة، بمثابة سيرة ذاتية. إن الشّخصية الروائية هي أيضا شخصية سير- ذاتيّة، كما هو شأن شخصيات الأحلام، التي هي جزء من أقانيمنا الخاصّة، حتى وإن كانت وحشية وغريبة المظهر بشكل كبير، الى حدّ تبثّ معه الرّعب في قلب الحالم نفسه. إنّ سيرفانتيس ليس هو دون كيشوط وحسب، وإنما هو سانشو أيضا، وتيريز بانشا، ودولسيني، وماريتورني، والذوق.
بورخيص: كنت أظنّ بأنّ هذا الكِتاب هو محاكمة للشخصيات الأخرى التي تحتكم للعقل، فتقف لدون كيشوط بالمرصاد. بديهي جدّاً أن ينجر القارئ، حالما ينتهي من القراءة، الى التعاطف مع دون كيشوط، لا مع الشخصيات الأخرى.
ساباتو: أجل، أنا أشاطرك الرأي. إن ما تودّ الإشارة إليه هو أننا عادة ما نحبّ، ذلك الشقّ الدونكيشوطي في سيرفانتيس. هذا مؤكّد. لكن الكاتب متواجد كذلك، وإنْ بدرجات أقلّ، في جميع شخصياته.
بورخيص: أجل، هذا صحيح. لكنه متواجد بدرجة أكبر، في دون كيشوط خاصة.
ساباتو: بالطبع.
بارون: تبدو في التجربة التي خضتها في روايتك الأخيرة يا ساباتو، وكأنك المحرّض الأول لشخصياته، خاصة وقد ظهرت باسمك الشخصي ولقبك…
ساباتو: حاولت أن أخوض في تجربة ليست بسيكولوجية وحسب، وإنما هي كذلك ميتافيزيقية. فقد وُجدَت من قبل روايات تجريبية تضمّ شخصيات روائيّة، هي تقريباً بمثابة شهود أو شرّاح مُعقّبين، أو شخصيات تمثل الكاتب، أو تنطق تقريبا باسمه. إنها حالة الشخصيات المتضمّنة مثلا في رواية: كونترابونتو [ألدوس هيوكسلي A. Huxley]، وفي رواية مزيّفو العُملة كذلك [أندريه جيد A. Gide]. بينما أردتُ أنا أن أدفع بهذا الأمر الى أقصى مداه، واضعاً الكاتب نفسه في بنية النصّ الروائي، ليس باعتباره شاهدا أو سارداً، وإنما كشخصية من بين ثلة الشخصيات الأخرى، التي تنتمي الى نفس الفئة الأنطولوجية التي تنتمي إليها هذه الأخيرة. وبهذا الشكل، أردت خلق نوع من الرواية التي تنتمي الى الدرجة الثانية، رواية تكون في نفس الوقت سرداً، ومساءلة للسرد ذاته، إنما من الداخل وليس من الخارج. غير أني لا أدري إن كنت قد نجحت في هذا، أم لا.
بورخيص: في الكيشوط أيضاً حديث عن سيرفانتيس.
ساباتو: نعم، بالتأكيد. هي من غير شك أول رواية مكتوبة بطريقة مفتوحة، من بين كافة الروايات التي كتبت الى ذلك الحين؛ باستثناء الإنجيل الذي يجري فيه الحديث طبعاً عن الربّ! (يضحك). لكني سأضيف، بالعودة الى ما طلبه منّي بارون، بأنّ ما حاولت القيام به كان نوعاً من التحريض، خاصّة حين تكلّمت بضمير المتكلّم المفرد، لأني عرضت نفسي كي يأخذ القارئ السّاذج ما صدر عنها، وكأنّه شيء سير – ذاتي صرف. في الحقيقة، ليس ثمة أية واقعة مما يمكن اعتباره على أنه تقريبا شأن يخصّني، حين أظهر في النص بضمير المتكلم المفرد: إذ كلّ شيء خيال، بل وحتى ضرب من الهذيان، كاللحظة التي أتحوّل فيها مثلا الى خفاش. فقد كنت أظنّ بأنّ هذا النوع من «الأحداث»، ينبغي أن يؤخذ على أنه تنبيه تحذيري، أو مفتاح لقراءة الرواية بصيغة أخرى، لكن بدا لي بأن أكثرية الناس لم تنتبه الى هذا. وأودّ في هذا الصّدد أن أقدّم ملاحظة بخصوص العودة الى مسألة النزعة الطبيعية في الكتابة. لقد مزجت بين حلقات طبيعية محضة، وأخرى فانطستيكية بشكل تام، لأن تلك هي الطريقة الوحيدة التي من شأنها أن تجعل الجوانب الفانطستيكية قابلة للتصديق. وقد ساهمت هذه «الوقائع» الطبيعية، على الرغم من كونها تخييلية، في جعل البعض يعتقد في الشقّ السير- ذاتي الشهير، اعتقادا راسخا. لكن ذلك كان بمثابة مغامرة خاطرت بها، وأنا واع بشدّة بأبعادها، لأني أعتقد بأن الكاتب يتعيّن عليه أن ينجز ما يعتبره، أو ما يتصوّره على أنه شأن أصيل يخصّه، وأن لا يقبل بأي توافق أو تنازل، حتى ولو كان أمام أخطار محتملة جدّا. فالتفاصيل «الطبيعيّة» ترد هنا، إذن، لجعل القارئ يعتقد في صِحّة الأحداث الروائية ككل، خاصة ما يتصل منها بالمقاطع الشديدة الإغراق في الهذيان.
بورخيص: أجل، حتى ولو كنّا نعلم بأن تلك الوقائع زائفة. قال كولريدج بأنّ الرواية تستلزم ما يسيمه: « willing suspension of disbelief »، بمعنى الحذف الطّوعي للشك، وقابلية التغاضي عن الإنكار والجحود.
ساباتو: بالتأكيد. وهكذا، شرعت في المشهد الذي تجري أطواره في لابيلاّ، وهو مقهى يقع في حيّ لاريكوتا المعروف لدى الجميع، في وصف ثلاث شخصيات رئيسية، هي الدكتور شنيتزلر، وطالب جامعي من أمريكا الشمالية، وأنا. فلو أني اخترت إنشاء مسرحية غير خاضعة لمواضعات المدرسة الطبيعية في الكتابة، لأخفيت من المشهد كل الزبائن الآخرين مع فناجين بنّهم، في الوقت ذاته الذي يختفي فيه النّدل وتغيب الكراسي؛ لكن، كل هذا ليس بالفعل وثيق الصّلة بالموضوع، ولا هو ضروري. كل ذلك أشياء زائفة، ونوع من القناع الذي يخفي الواقع الحقيقي والأصيل. ومن شأن هذا أن يبيّن الى حدّ تكون معه الواقعية الطبيعية مجرد نزعة زائفة في الكتابة؛ لأنّ الحقيقة الوحيدة هي هذه الشخصيات الثلاثة، التي تقف على رأس مثلث أساس، بينما البقية المتبقاة هي مجرد إكسسوارات لا أهمية لها. ومن ثمة، فهي بمعنى من المعاني، زائفة. إنّ الواقعية الطبيعية هي على العموم، نزعة أدبية زائفة.
حرّك بورخيص شفتيه بشكل غير محسوس، ووافق على كلام ساباتو بحركة من الرأس، بينما بقيت عيناه منشدتين بإلحاح، نحو ظلّ انعكس على جبين ساباتو.
ساباتو: ليس ثمة من بين كافة أنماط السّرد، ما هو أشدّ زيفاً من نمط المدرسة الطبيعية، لأنّ الواقع غير محدود ولانهائي، ومن ثم لا تستطيع هذه المدرسة أن تحيط به إحاطة تامة.
بورخيص: كان الخطأ ـ مثلما قال ستيفنسن ـ خطأ والتر سكوت W. Scott. فقد تبنّى هذا تلك النزعة السّردية ليكتب عن العصر الوسيط، من باب أن ذلك كان منطقيا، ويتماشى مع عمليات وصف القصور، والجسور المتحرّكة، والأسوار،،، الخ. لكن الكتاب المعاصرين له اعتمدوا بعد ذلك، هذا الإجراء القائم على رصد التفاصيل والجزئيات الصغيرة، فلم يعد لذلك أي معنى.
ساباتو: في موبي ديك Moby Dick، نجد مثلا بعض التفاصيل الطبيعية حول عمليات صيد الحيتان، أو عمليات الإبحار. لكنها مع ذلك رواية ميتافيزيقية. ونجد كذلك لدى كافكا، أوصافاً طبيعية تضفي القوة والمصداقية على البقية، وعلى المنحى الميتافيزيقي أيضا للرواية.
بارون: كما لن نقوى على اعتماد الواقعية بشكل كلي كذلك، في صياغة حوار يدور بين عاشقين مثلا، يجلسان جنبا الى جنب على كرسي بحديقة عمومية. أعتقد بأن تسجيل حوار مثل هذا بكيفية حَرْفية، سيكون مثار سخرية القارئ. أليس كذلك؟
بورخيص: هناك ذلك الحوار الشهير، الذي بلور هذا في مسرحية روميو وجولييت، وبذلك عُدّ كناية عمّا يحسّ به كافّة العشّاق.
ساباتو: وهو ما منع ذلك من أن يصير مثار سخرية. إنّ الحوار الواقعي مليء حقّاً بالإشارات التي تعيّن الأماكن المشتركة، وهو ما لا يعني في الأغلب الأعم، إلا الأطراف المتحاورة.
على فترات منتظمة، كان البحر يتراجع.
وكانت أصواتهما هي الأخرى تبتعد، بفعل الجزر والانحسار.
وكنت أنا على الضفّة أتباطأ، كصياد وحيد، متذرّعاً بالبحث عن شيء ما. ربّما لأنّ فكرة الانتحار قد خطرت ببالي تلك الليلة؛ وربّما لأنّ الحزن هو أشبه ما يكون بجرح غائر، ما ينفكّ يطالنا جميعا؛ وربّما لأنّ شيئاً ما كان يدغدعني الى أن أشاركهما تلك الحَميّة المُنشدّة في اتجاه فكرة الموت.
سألتهما عن الانتحار، فظلاّ يصغيان إليّ في تسامح ورأفة. فألححت عليهما بقولي: «تعلمان أنّ الانتحار،،،»؛ فبدا لي وكأنّهما يقولان: «أجل، جميعنا اختبر ذلك، سواء في الخيال أو في الحقيقة».
وإذا بالجزر يعود من جديد.
أعتقد بأنّ مَدّ صوتيْهما لم يرتفع إلا بشكل محتشم، وهو يقترب ليراضيني ويجاريني.
ساباتو: أجل، انتابني أنا أيضا ميلُ شديد نحو الانتحار… خاصة في مرحلة المراهقة.
بورخيص: أمّا أنا، فحدّدت لنفسي في زمن سابق، أجلاً مضبوطا. قلت في نفسي: طيب، سأنتظر ستين يوما. وإذا بقي الوضع على ما هو عليه، ولم يتغيّر شيء خلال هذه المدّة، سأقدم حينها على الانتحار. ولكن، إذا جرى أي شيء، فذلك أفضل… على كل حال، دائما ما يشعر المُقدم على الانتحار في قراره، وكأنّه بطل… إنّه يشعر بالقوة.
ساباتو: ذلك بديهي، لأنه مقدم على سحق العالم. إنّ المنتحر شخص أناني ومجرم. إنه يقدم على قتل نفسه، حتى لا يقتل غيره. وقد تبيّن لي بأنّ الكثير جدّاً ممن فشل في انتحاره، ما لبث أن انتهى الى ارتكاب جريمة القتل.
بورخيص: لقد صُغت لي سابقاً، نوعا من المغالطة السفسطائية، التي أجملها في البرهنة الزائفة كالآتي: لنتفق مثلا على أني أتواجد في شقة تقع بالطابق الثاني، وأني أندفع في الحين لإلقاء نفسي من النافذة نحو الفراغ. حينها، ينبغي لي في اللحظة التي أتهاوى خلالها أن أنسى ماضيّ الخاص، نسياناً لا ينشأ يقينا إلا بفعل الدوخة التي يحدثها السّقوط، وليس بفعل شيء آخر. ومن ثم، لن تكون هذه اللحظة بالنسبة لي، هي اللحظة الموالية لتلك التي اتخذت فيها القرار معكما، كما أني لا أعرف إن كنت حقا قد انتحرت، أم لا. يقينا أنا ما انتحرت، ما دمت متواجداً بالتأكيد هنا، في هذه اللحظة بالذات. (يضحكان). كنت ذات يوم مندمجا في حديث شيق مع ماسيدونيو فيرنانديز، يشرح لي فيه كيف أنّ الرّوح لا تموت، وإنّما تبقى خالدة؛ وكان أحدهم في تلك الآونة يعزف نوعاً من الحماقة الموسيقية بالحجرة المجاورة، التي يبدو وكأنها من قبيل معزوفات لاكامبارسيتا Cumparsita. حينها، قلت لماسيدونيو: «ماذا لو انتحرنا سوية، حتى نتخلّص من وطأة هذه الموسيقى البلهاء؟!».
أخذ ساباتو يضحك بشدّة، لكنّ بورخيص ظلّ من غير تعثّر، يواصل قصّ ما جرى.
بورخيص: أخبرت كْسول سولار بما جرى، وكان من كبار المؤمنين بعقيدة الرّيبة، فقال لي بنبرة جادّة تماما: «طيب… لكنكما لم تنتحرا». فرددت عليه حينها، بنبرة شبيهة بما حدثني به: «لست أدري… أنا لم أعد أذكر أي شيء مما جرى من بعد»… وهناك حكاية أخرى كانت قد قُصّت عليّ، وأظنّ أنها جرت في مقهى يقع بشارع بوليفار، المتواجد بحيّ مونتْسييرّا Montserrat. وكان ذلك المقهى مكاناً يستقطب إليه، كافة صعاليك الحي. ففي يوم من الأيام، كان أحدهم يردّد، وقد استند بمرفقه الى منضدة البار، بأنّه ضحية زوجته التي تخونه، وأنه يشعر بالوحدة القاتلة تخنقه، ويفكّر في قتل نفسه. وفي تلك الأثناء، ردّ عليه أحدهم بالقول، وكان يستمع إليه: «اسمع يا صاح! المرء إذا أطال الحديث عن الانتحار، حال ذلك بينه وبين الاقدام عليه… إن الانتحار مسألة في منتهى السّهولة، ولا تحتاج من المرء أن يطيل الحديث عنها!». حينئذ، أخرج من جيبه مسدّسا، فأفرغ رصاصة منه في الرّأس. لست أدري إن كانت هذه الحكاية حقيقيّة أم لا، ولكني أعتقد بأن صاحب المسدّس ما كان يتوجّب عليه حقا، سوى قتل نفسه في الحكاية.
ساباتو: لو لم يفعل ذلك، لصار مجرد مهرّج. إنّه كان يعلم منذ اللحظة التي أخرج فيها المسدس، بأنّ ما من خيار آخر أمامه إلا الموت. بالمناسبة، لقد كنت دائما أظنّ يا بورخيص، بأنّ ما من بديل آخر أمام من يستشعر في نفسه الغيرة، ويسكن قلبه الحسد، سوى حل واحد: إما أن يشتري مسدّسا، أو أن يكون هو شكسبير!
ابتسما معا بنوع من الكآبة المبهمة.
أعرف أنهما لم يحكيا لبعضهما موت كلّ منهما، وإنما موتات غيرهما. أصرّ بورخيص كي يحكي طريفة من الطرائف، ثمّ عاد بعدها ليتخذ في الحال، سِمْت الجدّ، ويرسم على وجهه تقاسيم عابسة، وهو يتحدث بكيفية رصينة.
بورخيص: أنا أقرّ بالانتحار. إنّ والدي بعد أنْ هدّه الفلج النّصفي، امتنع عن ابتلاع الطّعام والدّواء، فترك نفسه عرضة لموت بطيء يتوالى عليه كلّ يوم؛ وأظنّ أنّ مثل هذا الإجراء لقرار صعب جدّاً، يتطلّب من المرء شجاعة كبرى. كما تعرّض جدّي كذلك للقتل، بفعل دوافع سياسية. فقد التحق بالصفوف الأمامية من المعركة، وهو يمتطي صهوة جواده، ويضع على جذعه بُوْنشوا أبيض اللون، حتى يكون مكشوفا بوضوح لأعدائه، فحصده رشْق مسعور من الطّلق النّاري. لاحظ كيف أنّ جدي استعان بفيلق كامل من الجند، ليقتل نفسه، بعد أن استخدمه كسلاح للانتحار! لقد حدث هذا سنة 1874، في الضاحية المُسمّاة 25 ماي من بوينس إيريس.
ذكّرتني حافظتي بمقطع من كتاب لبورخيص، يذكر فيه: حين اشتدّ احتضار هنري جيمس، قال: «وأخيراً، صار الموت شيئاً مميّزا الآن…».
ظلّ ساباتو صامتاً، ونائيا. أنا على الأقل، رأيته كذلك.
كانت الطّرق المُفضيّة الى الموت تصعب عليه.
ربّما كان يفكّر في ذلك المقطع الذي ردّد فيه برينو Bruno في قرار نفسه: «… لأنّ الإنسان لحسن الحظ، لم يُفطر على اليأس وحسب، وإنّما على الإيمان والأمل كذلك؛ ولم ينشأ من الموت فقط، وإنما من الرغبة في الحياة أيضا؛ ولم يُخلق من الوحدة والعزلة لا غير، وإنّما من لحظات التواصل والحب. لأنّ اليأس إذا ما سيطر على مغالق النّفس، يترك ذواتنا جميعاً في مهبّ الموت، أو يجعلنا نقدّم من تلقائنا على الانتحار، وهذا ليس هو ما يحدث إطلاقا».
لكن بورخيص ظل، وهو يتواجه مع ساباتو، ينتظر سماع صوت صاحبه.
ساباتو (منتفضا في جلسته، وقد عاد إلينا): أفترض في ما يتعلق بما قلته قبل قليل، بشأن الطبيعة النّفسيّة للمسكونين بهاجس الانتحار؛ بأنّك قرأت أعمال أوتو فيينينجر Otto Weininger. أليس كذلك؟
بورخيص: أجل. أعرفها.
ساباتو: كان الرجل عبقريا، وكانت أعماله مليئة بأمور عجيبة جدّاً، وبأخرى سخيفة. لكنه في الثانية والعشرين من عمره، صوّب الى رأسه عيارا ناريا، ومات. وحين قرأت بعض الشّذرات من مذكّراته، وبعض المقاطع المقتطفة من رسائله، لاحظتُ بأنّه كان مسكوناً بفكرة القتل، الى أبعد حد. كان على مستوى الظاهر إنسانا خالصاً الى أبعد حد، لكن شعورا بالذنب مخيفاً للغاية، ظلّ يسكن بين جوانحه؛ وهو ما قد يسمح لنا بالتأمّل في حالته. لدي اليقين بأنه ـ لو لم يقدم على الانتحار ـ لقتل شخصاً آخر… (بقي مطرقاً، يفكر في المسألة). إنّ الانتحار لفعل مُدان لأسباب عدّة؛ ومن ثمّة، ليس من المدهش أن تدينه الأديان الكبرى.
بورخيص: ما عدا البوذية. فهذه تبحث في النيرفانا، تحديدا.
ساباتو: لكن النيرفانا ليست هي الانتحار. أعتقد بأنّ الانتحار سلوك أنانيّ، وأنّ المُقدم عليه لا يأخذ بعين الاعتبار، أو أنه غير معني بالآلام التي يلحقها دائما بالغير، بطريقة أو بأخرى. أو أنّه حتى حين يفكّر في ذلك، فإنّ تفكيره مستفظع، لأنّه يؤخذ وكأنّه انتقام من الآخرين.
بورخيص: ما زلت أذكر حالة ذلك الكاتب الياباني، الذي أقدم على الانتحار أمام أعين العالم قاطبة، على طريقة الهاراكيري hara-kiri. إنني استحسنت منه ذلك، إذ بدا لي وكأنه قادر على مواجهة الموت، كآخر ساموراي.
ساباتو: بالعكس، بدا لي أنا وكأنه مغرق في مشهد احتفاليّ مصطنع بشكل كبير، في أفق أن يحظى منه بإعجاب المتتبّعين. وهذه أيضا حجّة على الغطرسة والأنانيّة، التي تحدثت عنها. تأكّد جيّدا بأني لا أقول هذا يا بورخيص، لكوني أعتبر نفسي أفضل حالا وأحسنها. بالعكس، فأنا بالذات قد فكرت كثيراً في الانتحار، خلال مرحلة معينة من حياتي.
بورخيص: وأنا أيضا. إنني أنتحر منذ خمس وسبعين سنة، الى أن تحقّق لي بفعل ذلك رصيدٌ من التجارب، يفوق ما لديك يا ساباتو!
ساباتو (مبتسما): مع القليل جدّا من الفعّالية والنجاعة، مثلما أرى.
بورخيص: أجل، إنما مع موهبة كبرى، حقيقة!
دقّت إحدى السّاعات الكبرى معلنة عن حلول الساعة الثانية ظهرا.
وشيئا فشيئا، مالت المحادثة الى نهايتها، بشكل هادئ.
لقد كانت نهاية متناغمة، صمت على إثرها الرجلان معاً، في ذات اللحظة.
إنهما لا يقبلان بإطالة أمد الحوار، من خلال استعمال جمل مُقعّرة جوفاء.
كما أنهما لايشعران أيضا بكونهما يخضعان لإكراهات المجاملة.
ثمة زمن واحد يعرفان كيف يدبّران أمره بفطنة وبصيرة: ذلك هو زمن لحظات الصّمت.
يشدّ كلّ منهما بيد رفيقه، وينصرفان، فأبقى أنا ههنا للحظة، أنظر خلالها صوب المقعدين الخالييْن.
على البكرة، تداخلت الكلمات مع بعضها البعض.
كانت تلك الكلمات تحيل على بعض الأمور والأشخاص والأحلام.
«هذا هو أفقي البعيد»، إشار إليه بورخيص قائلا.
«هذه هي هاويتي»، ردّ عليه ساباتو، وهو يصف وضعه.
حينذاك، رسمت أنا في ذهني، منظراً يتكوّن من أفق وهاوية.
بقيت لي منهما بعض التفاصيل، والطرائف، وهذه الكلمة الطيّبة أو تلك، وذلك السرّ الذي يتعذر الحكي عنه، وتلك الكيفية التي استطاعا بها أن يتحابّا، من غير أن يكونا صديقيْن.
رأيتهما يدردشان هناك، فتصوّرتُ في خيالي أنّهما ليسا لا بورخيص ولا ساباتو. وأنّ من الممكن أن يكونا مسافرين، التقيا معاً أثناء رحلة على متن قطار، ما لبث أن بلغ نهاية سيره. من الممكن ان يكونا مسافرين، كانا يتبادلان الكلام عن الذكرياتن ولما توقف القطار، تواعدا بلقاء مرتقب بينهما.
15 مارس 1975
عمّ سيتحدثان، اليوم؟
لست أدري.
ربّما أوحيْتُ لهما بموضوع.
لكن، ها قد شرعا يتحدثان، دون أن ينتظرا ما كنت سأقترحه عليهما!
كان صوت ساباتو رخيما وجهوريا، بينما بدا صوت بورخيص ضعيفا ومخنوقا.
أغلقتُ عينيّ، من غير أن يلحظا ذلك منّي، فتخيّلتُ مسرحا كنت فيه المتفرّج الوحيد، الجالس أمام الخشبة. ثمة في الخلفية مدينة ما، بل كثير من المدن؛ كما أنّ هناك ساباتو وبورخيص، وهما يتأملان في ذلك. (في الواقع، كان بورخيص يستحضر صورها من الذّاكرة لنفسه!).
بورخيص: حين كنتُ في الولايات المتحدة، وقد قضيتُ في التيكساس ستّة أشهر، عرفتُ بأنّ لكلّ شقّة من العمارة التي سكنتها، خصائص هندسيّة تتميّز بها عن بقية الشقق. بينما لو بُنيَتْ هنا خمسُ شُقق في عمارة واحدة، لكان بناؤها على العكس من ذلك متشابها، لأنّ مهندسينا المعماريين مُبْتلون بالرّتابة. ولمّا كنت في سويسرا مرّة أخرى، لم أر قطّ في جنيف على وجه التحديد، زاويتيْن تتشابهان من أيّ شارع. لكن، عندنا، يستطيع المرء أن يدرك على الأقل، كلّما رُفِعَت عن عينيْه العَصّابَة، ووُضِع في زاوية من أي شارع في بوينس أيريس، بأنه يتواجد في مكان بعيد نسبيا عن مركز المدينة، من غير أي شيء آخر يوضّح له موقع تواجده. إنّني لا أتذكّر أنّي لاحظت في جنيف، حيث عشت خمس سنوات، تشابها بين شارعين من شوارع المدينة. لا وجود هناك إلا التعدّد والاختلاف، لا لهذا التقليد الإسباني الذي لا يتوانى عن رصّ مجموعة كاملة من البيوت قرب بعضها، على هيئة مربعات منتظمة من رقعة شطرنج. إنّ من باب الاستثناء مثلاً، أن يطلق الناس على منطقة ما من أحياء مدينتنا، اسم «الجادّات الخمس» مثلا؛ بل حتى الأسماء الموجودة عندنا في بوينس أيريس، وفي كافة المدن الواقعة بالضّواحي، هي أسماء متشابهة. فأنت لا تنفكّ أن تجد في كلّ بلدة مثلاً، شارعَ سان مارتان وشارعَ بيلغرانو، وهلمّ جراً. إنّ هذه العادة السيئة التي ورثناها عن الفرنسيّين، عادة إطلاق أسماء الأعلام على كلّ شارع أو جادّة أو زقاق، هي أمر مغلوط. فأنا لا أتذكر أنّ ثمّة في مجموع انجلترا، شارعاً واحداً يحمل وسم شكسبير. ثمّ إنّ مثل هذا التشريف قد يجوز فقط، بالنسبة لثلاثة أسماء أو حتى أربعة، لا غير. زدْ على ذلك أنّ هذا الخلط، حتى وإنْ كان يتملّق خيالنا بشكل أدنى، هو أمرٌ لا يخلو من تناقض، لأنه لا يولي أية أهمية لما يقع في الأرجنتين، هذا البلد الذي صار في الفترة الراهنة، من بين البلدان التي يتخلّق فيها أدبٌ فنتازي رفيع. فما يُكتَب في بقية أنحاء أمريكا هو مجرد روايات أخلاقيّة، أو مؤلفات ترفع راية الاحتجاج الاجتماعي وحسب؛ في حين أنّ المرء لن يجد سوى عندنا هنا، حسب ما أعتقد، أو في المكسيك عند الاقتضاء، رواياتِ الخيال الصرف. لذا، أنا سعيد لأنّ بعض كُتّابنا لا يحصر مهمته اليوم، في مجرد الادلاء بالشهادة على الواقع أو المجتمع، وإلا تحوّل أدبنا الى ضرب من الكتابة التي تهيمن عليها النزعة الصحفية!
كان ساباتو يصغي الى صاحبه، وهو يدوّن بعض الأفكار، على ورقة.
وكان بورخيص يعلم، وقد أفصح بشغف كبير عمّا يخالج صدره، بأنّ ثمّة من يصغي إليه. لذلك، لم يشك بأنّ أموراً شتى ممّا ذكره، ستخضع للتمحيص والمناقشة، من طرف ساباتو.
ومع ذلك، لم ينته من كلامه، بعد. توقّف عن الحديث لبرهة، ثمّ تابع بإبداء ملاحظة حول الواقع.
بورخيص: لكن، ماذا يعني هذا المسمّى «واقعا»؟ ما الواقع، حقيقة؟ ثمّ أليس الحلم بواقع؟ هذا موضوع شيّق للنقاش، أليس كذلك؟ في الليلة الفارطة، رأيت الكثير من الأحلام. اشتغلت الى وقت متأخّر من الليل على تصحيح مؤلفيْن لي، سيصدران خلال هذا العام: أحدهما شعري، والآخر قصصي. هذا على الأقل بعض ما قد يدلّ على أني ما زلت على قيد الحياة…
بعد ذلك، استغرقه الصّمت المطبق.
لم يكن حزينا، وإنّما بدا وكأنّه مغرق في التفكير، فجمد كلّ شيء فيه، عدا عينين اللتين كانتا مصوّبتيْن نحو الجهة، التي يتواجد بها ساباتو.
وحصل أن ارتشف كلاهما في لحظة ما، من كأس مائه.
بينما بقيت أنا أنظر بطرف عيني في اتجاه الورقة، التي كان ساباتو يدوّن عليها بعض السوانح، فتمكّنت من التقاط بعض المفردات بشكل سريع، من قبيل: الجمْهرة، الأدب، التّماهي،،، وغيرها من الألفاظ الأخرى، التي لم أستطع قراءتها بسهولة.
ساباتو: أمر الأحلام يهمّني بكيفية كبيرة، لكني أودّ ـ بعد إذنك بالتأكيد، يا بورخيص ـ أن أقول في البداية، بعض الأشياء التي لها علاقة بموضوع المدن.
ندّتْ عن يد بورخيص إشارة موافقة، وسرعان ما انخرط في نفس الآن، هو وساباتو، في وصلة ضحك صادق.
ساباتو: لا تضحك، وإنّما دعني أكمل… فأنا أعلم بأنك سترغب في دحض ما سأقوله، عند أول فرصة قد تواتيك!
صدرت عن بورخيص، وهو يبتسم لصاحبه، إشارة إنكار.
ساباتو: أولا، أنا لا أعتقد بأنّ المسألة تتعلّق بفيض الخيال هناك وهنالك، وبفقره المدقع هنا، لدى ورثة الإسبان. فلو كان الأمر بمثل ما تفضلت ببسطه، لبات من الجدير بنا أن نتساءل عن السبب الذي حذا بالسويسريين، الى تضييع ثراء خيالهم في بناء شوارع ذات زوايا فريدة النوع، بدل إنشاء نصّ أدبي في قيمة «الكيشوط».
أبدى بورخيص رغبة في المقاطعة، لكنّ ساباتو ذكّره بالوعد الذي قطعه على نفسه، فاستسلم للأمر، وهو يبتسم، دون أن يستطيع إخفاء نفاذ صبره.
ساباتو: نكشف نحن الأرجنتينيين للعالم، عن هذا التناقض الملحوظ: هندسة رتيبة، بإزاء أجود الأدب الفنتاستيكي! وإنْ دلّ هذا على شيء، فإنما يدلّ على أنّ ثمة ربّما سببا آخر، يكمن وراء استعمال ذات الأسماء في وسم الجادّات والشوارع. إنّ مبدأ التماثل والتماهي هو ما ينحو أولا، في اتجاه الهيمنة والتحكّم في جميع المدن المعاصرة. فهذه لم تُبْن إلا في عصر تحكّمَت فيه تقنية كثافة الانتاج، سواء في إنتاج الأشياء والملابس، أو غيرهما. وهذه التقنية هي التي أفضت في نهاية المطاف، الى بناء مدن تصبح عبارة عن كيانات متماثلة ومجرّدة. ذكرتَ قبل قليل بأنّك اكتشفت عمارة ذات شقق أصيلة ومبتكرة في الولايات المتحدة؛ لكن، من يدري أنّ ذلك لا يقع إلا في منطقة قديمة من المدينة، خاصّة أنّ هذا البلد هو بالتحديد مركز الانتاج المبني على تقنية التكثيف والجمْهرة؟!
بورخيص: حسنا، ولكن هذا ليس هو حال المدن الصّغرى، حيث ما تزال ثمّة جذور وتقاليد…
ساباتو: لأنّ هذه المدن الصغرى بالضبط، هي التي ما تزال تحتفظ ببعض السّمات الملموسة والخصائص المميّزة. وهذا أمر نلاحظه ليس فقط في المدن الأنجلوساكسونية، وإنما أيضا في إسبانيا: إنّ ثمّة شوارع تحمل، على ما أذكر، أسماء من قبيل «شارع السكّاكين»، أو ما يشبه هذا، سواء في بلداتها الصغيرة، أو حتى في بقايا الآثار التي تدل بالملموس على ماضيها، أكثر من دلالتها على أي شيء آخر، أو حتى في مدينة مدريد بالذات. بينما ينبغي لنا أن نضع في الحسبان، نحن هنا يا بورخيص، بأنّ أرضنا لم تكن قبل الغزو الإسباني أرض حضارات غنيّة ولا قويّة، وأنّ مدننا إنّما بُنيت من عدم، أو على مكان يحيل استعاريّا على العدم: الخلاء. ضمن هذه الشروط، ظهرت الى الوجود هذه المدن الرّتيبة والمربّعة. وحتى أختم مداخلتي، دعني أقول بأن لهذا ربّما إيجابيات، أو أنّه يساهم بالأحرى في بروز بعض الخصائص، التي لا تقبل التحقير. فأنت تعلم بأن الدّيانات السماوية الثلاثة ظهرت في الصحراء. وأنّ مُزارعُنا الكوتشو Gaucho صار مدعوا هنا بالقوة الى الانطواء على النّفس، والتزام القليل من الكلام وسط هذه المفازة الشاسعة، وصارت روحه تنزع الى الحزن والتديّن. ثمّ، من ذا الذي أدرانا أن لا يكون هذا هو الموقع الذي ينبغي أن نحفر فيه، حتى نبحث عن أصل ميولاتنا المنشدّة الى الأدب الفانتاسطيكي؟ فعلى هذه المفازة الخالية، بُنيَتْ مدننا العملاقة، وامتدّتْ، واتّسعتْ، كما هو الأمر بالنسبة الى بوينس إيريس، حيث كل شيء متشابه، والمدينة تتماهى نوعا ما مع المتاهة.
اهتزّ بورخيص واضطرب، ثمّ انتهى بأنْ هام بكلمة «متاهة»، في حماس. بعد ذلك، قال بأنّ هذه الفكرة تبدو له صائبة.
بورخيص (ممازحا): لكني ظللْتُ أعتقد بأنّ المتاهات من صنع الإغريق!
ساباتو: ومع ذلك، ليس من قبيل الصدفة أن تكون، أنت الذي لست إغريقيا، قد كتبت الكثير عن المتاهات.
بورخيص: ما أنجزته ليس سوى معارضة وتقليد.
ساباتو: أجل، لكنّا لا نقلّد إلا ما يحرّك فينا مشاعر خاصة، ويشعرنا بضرورة تقليده. وفوق هذا وذاك، فإنّ كل شيء هو مجرد معارضة وحسب، مثلما أنّه أيضا غير ذلك بالكل، بالمعنى الحرفي للكلمة، لأنّ كلّ واحد منّا يطبع بلمسة خاصّة من روحه وطبعه، على ما يعارضه.
بورخيص: أقبل بهذه الاستحالة الحَرْفيّة للمعارضة والتقليد. فلو أنّ مينار Menard عارض كتاب الكيشوط، لما أعاد كتابة الرواية بشكلها الكلاسيكي أبدا، وإنّما أنشأ مؤلّفا ينتمي الى القرن العشرين. بيد أنّ سيرفانتيس ما كان ليخطر له على البال أبداً، أن يتصرف في مؤلّف قديم، معيدا كتابته.
ساباتو: أنا لست متأكّدا من هذا. فقد أعاد شكسبير في مسرحياته، كتابة قصص عديدة.
بورخيص: لديّ حكاية شخصيّة طريفة، أودّ لو أرويها لكما، حتى ولو كانت خارجة عن موضوع حديثنا…
اضطرب صوته قليلا، لكنّ ساباتو شجّعه كي يتابع الحديث.
بورخيص: الأمر يتعلّق بوالدتي، التي تُحْتَضر… قبل يوم أمس، رشقتني بالتماعة فكريّة ليست بالطّبع مسلّية، إلا أنّها مثيرة للفضول، خاصّة إنْ أخذنا بعين الاعتبار أنّها صدرت عن امرأة منهكة وشبه مشلولة، لا تلتمس من العلي القدير في دعائها، إلا أن يسمح لها بالتمكّن من تحريك يدها اليمنى قليلاً…
كنت أجلس بالقرب من سريرها، حين ابتدرتني بالقول: «طعنتُ كثيراً في السنّ، يا خروخي… لكن، يبقى أنّ الله أطعن منّي سنّاً، حتى صار من الطبيعي بالنسبة إليه، أن ينسى كل شيء… فهو حين أعطاني تذكرة الذهاب، نسي أن يعطيني معها تذكرة الإياب! وها أنذا ما أزال هنا، بعدما بلغ عمري ثمانية وتسعين عاما!».
رسم بورخيص على فمه ما يشبه الابتسامة، وهو يشدّ بيده على العكازة بقوة. نظرنا، ساباتو وأنا، صوب بعضنا، ونحن متأثرين. ربّما لأنّ رجع هذه الحكاية الطريفة كان وراء ذلك الثقل الذي استبد بالأجواء، فحاد الحديث نحو موضوع الموت، وشجاعة البعض في مواجهته.
وبينما كان ذلك كذلك، إذا بي أتدخّل بكيفية لا إرادية في الحوار، كمن افتتن بالموضوع؛ لأشير الى أني رأيت في أحد الأفلام السينمائية، بأن البعض في منطقة الشرق الأقصى، يرافق العجزة والشيوخ في رحلتهم الأخيرة، كي يموتوا بعيدا عن العائلة.
بعدها، عمّ صمت آخر، لم يتقلّص إلا حين شرع بورخيص في التحدث.
بورخيص: في بعض الدول، يتمّ التخلّي عن هؤلاء وسط الثلج، الى أن يتجمّدوا، فيموتوا من غير آلام. ثمّة قصّة قصيرة لجاك لندن يحكي فيها عن ولد، رافق والده أثناء رحلته الأخيرة، فتركه وحيدا في انتظار الموت… أعتقد بأني لو أُخْبِرْتُ بأنّ نهايتي ستكون الليلة، ومن غير أي آلام، لبتّ ليلتي هادئاً وصافي الذهن تماما، مثلما أبيت خلال ما تبقى من الأيام، بالضبط.
ساباتو: لكم هو من المثير للفضول حقا، أن يُكتَبَ الكثير عن المحكوم بالإعدام، باعتبار أن وضعه استثنائي، في حين أننا لسنا جميعا سوى مجرد محكومين سلفاً بالإعدام، وكائنات تنتظر أن تتحوّل الى جثث! أجل، مجرد محكومين بالإعدام، بصرف النظر عمّا يمكن أن يبلغه عدد السنوات المُتعيّن علينا أن نحياها!… وإنّي لأتساءل، إذن: أي معنى لهذا، في منظور الخلود؟!… وبمناسبة الحديث عن طول الأمد، أشير الى أنّ ثمّة فكرة تستبدّ بذهني، مفادها أنّ بمستطاعنا كتابة مؤلف مدهش، أيْ شيئا مما قد يصبح مع توالي الزّمن، أشبه بما قام به سويفت Swift مع أبعاده الفضائية. فحين نحرّف معيار النّسَب والمعايير، سنكون إزاء مشاهد غريبة ومثيرة للضحك؛ كأنْ نتخيّل إنسانا لن يعيش مثلا، سوى يوم واحد هو كلّ الأمد العمري المخصّص له، فتغدو الساعة الواحدة في منظوره، في غاية الأهمية. ومن ثمّة، عوض أن نتخيّل حرب السنوات الثلاثين مثلا، قد نتحدث حينها عن حرب الأربع عشرة ساعة…
حرّك بورخيص رأسه.
بورخيص: لقد جُنّ سويفت لحظة احتضاره، وهو وسط تلك البناية الكبرى الواقعة في دوبلان، فظلّ يردّد: «أنا من أنا»… وفي هذا يكمن شيء خاص… إنّ فيه لجوهرا ما…
ساباتو: يسحرني دائما موضوع الجنون. وغالبا ما كنت أذهب لزيارة تلك السّقيفة التي مات فان غوغ بين أرجائها، كما أزور تلك الحجرة التي ذاق هولدرلين الموت كذلك فيها. لذا، أقول: ما الذي نعرفه نحن، حقاً، عن الجنون؟ ومن أدرانا بأن كلّ ما نقوم به لحدّ الآن، ليس سوى مجرد مبالغة منّا في تقدير الادراك العقلي السليم، الذي لا يعدو أن يكون في الأغلب الأعم، سوى مجرد وضاعة حقة؟ فمن يدري، يا بورخيص؟ والأحلام التي هي أعمق ما نملكه، أليست جنونا؟
بورخيص: ما زلت أذكر حلما، عشته في إحدى الليالي الماضية. رأيتُني أعثر على كتاب إنجليزي ينتمي الى القرن 17، فردّدتُ في نفسي بأنّ العثور على مثل هذه الطبعة شيء رائع. لكني أدركت بعد ذلك بأنّي قد لا أفرح بالفوز بهذه اللقية في اليوم الموالي، إن تعلق الأمر بمجرد حلم. لذلك، قلت في نفسي بأنّ عليّ وضع الكتاب في مكان آمن، إذن. فرأيتني بعدها، أنزله في دُرْج مكتبتي، كي يتسنّى لي بذلك العثور عليه، حالما أستيقظ.
ساباتو (بسخرية): هذا حلم بورخيصي، بامتياز!
بورخيص: أريد أن أسألك يا ساباتو عن شيء محدد، يحدث لي دائما مع ابن أخي، لكنّي لا أعلم إن كان يحدث لجميع الناس، بذات الكيفية. أكون على أهبة النوم مثلا، فأشرع في الحلم. لكني أدرك بأني ممدّد على السرير، وموجود في هذه الحجرة الخاصة، التي هي غرفة نومي، وبأني سأنخرط في النوم، بعد دقيقة أو دقيقتين. ومع هذا وذاك، أدرك بأني أحلم. وقد أخبرني ابن أخي بأنّ الأمر يحصل له هو أيضا، وبنفس التفاصيل. لذا، أتساءل إن كان الكل يعيش نفس التجربة.
ساباتو: لا، أبدا. إنما ذلك يحدث فقط، لمن يحمل اسم بورخيص!
بورخيص: ذات مرة، حلمت بأني أحاول قراءة مخطوطات عصيّة على القراءة، فانتابني الهلع، وظل تأثير تلك المخطوطات يرافقني لبضع دقائق، لما استفقت في الصباح، رغم أني كنت أعي بأن الأمر لا يتعلق سوى بكابوس.
بقي ساباتو صامتا، يكتب بعض الملاحظات على ورقته، بينما تركز عيناه على وجه بورخيص، بين الفينة والفينة.
بورخيص: قال كولريدج بأن الفرق بين الصّحو وغيره، يكمن في أن مشاعرنا تكون خلال لحظات اليقظة، حصيلة لما انطبع عليها سلفاً من انطباعات. بينما تتملكنا أولاً في الكوابيس مشاعر خوف رهيبة، لا تجعلنا نستوعب ما حصل لنا، إلا فيما بعد.
ساباتو: يبدو لي بأن هذا ضرب من العِلمويّة.
يقرّ بورخيص بذلك.
ساباتو: مهما يكن، فالإنسان حين يحلم، يكون شاعرا فذا. لكن، ما أن يصحو من الحلم، حتى يصير مجرد مخلوق بسيط! هذا على العموم، أقل ما يمكن تأكيده.
بورخيص: إنّ الشّخص الذي يحلم هو كاتب مسرحيته، وفي نفس الوقت ممثلها، ومخرجها، ورُكحها الخشبي، وديكورها.
وافق ساباتو على كلام صاحبه، بإشارة من الرأس.
بارون: لكن، لماذا تكون الأحلام في الأغلب الأعم، أكثر إثارة للخوف منها الى الفرح؟
ساباتو: لأنّ لا منفذ لها… هناك بحسب وجهة نظري، مبدأ واحد مشترك بين الفنّ والحلم. لكن ثمّة في الفنّ منفذ، عكس الحلم. يغوص الفنان في البداية، في أتون عالمه اللاواعي الذي هو عالم العتمة والليل، وهو بهذا شبيه بعالم الأحلام. لكن ذلك الفنان يؤوب الى العالم المنفصل عن الذات فيما بعد، وهي لحظة ما بعد الضغط، أيْ لحظة انخفاض ذلك الضغط، وتوجيهه الى الخارج. حينها فقط، يتحرّر المرء من ربقة هذا الضغط. بينما يبقى كل شيء في الحلم، مكبوسا عليه بالدواخل.
بورخيص: أرى بأنّك خبير في الأحلام، يا ساباتو.
ساباتو: لنا جميعا خبرة بذلك.
بورخيص (ساخرا): ومع هذا، أنا أعرف بعض من بلغ به النّكد والتعاسة مبلغا كبيرا، لكونه لم يذق قطّ طعم الأحلام!
يضحكان معاً، فأندمج في الضحك معهما.
ساباتو: ذلك ما يعتقده هؤلاء. إنما نحن جميعا نحلم، وفي كل وقت تقريبا. هناك تجارب أقامت الدليل القاطع على صحة هذا الأمر. فقد خضع بعض الأفراد للنوم، وحين شرع هؤلاء في الحلم، وهو ما رصدته آلة تخصيط اشتغال الدّماغ، تمّ إيقاظهم. بعد ذلك، عادوا الى النوم. وما هي إلا لحظات، حتى تمّ إيقاظهم من جديد، حين اندمجوا في الحلم ثانية. ويقال إن بالمستطاع دفع أيٍّ كان الى مشارف الجنون، بهذه الكيفية. وهذا دليل قوي يؤكّد لنا بأنّ الحلم يسمح للإنسان بعدم التعرّض للجنون، وهو يعيش وقائع حياته اليومية. وأعتقد بأن الأمر يسري بنفس الطريقة على الفنّ، لكونه يقوم ـ بالنسبة للمجتمع ـ بنفس الوظيفة، التي يضطلع بها الحلم في علاقته بالأفراد. لعلّ الفنّ يسعى الى إنقاذ المجتمع من الجنون. وفي هذه الحالة، قد تكون هذه المهمة هي أكبر المهام، التي يمكن أن يضطلع بها الفن على وجه الإطلاق.
بورخيص: قال غروساك Groussac في مؤلفه الذي يحمل عنوان: السّفر الذهني Viaje intelectual، بأنّ بقاءنا نسبيا عاقلين هو أمر مدهش، إذا ما أخذنا في الحسبان، الفترة غير المستهان بها من حياتنا التي نقضيها بين أحضان ذلك العالم الغير الخاضع للمنطق، الذي هو عالم الأحلام!
ساباتو: لا أعرف السبب الذي دفع بغروساك الى الاندهاش، إذ بفضل نعمة تلك الأحلام تحديدا، نستطيع أن نبقى عقلاء!
بارون: والمجنون، إذن؟ ماذا يمكن أن يصير؟
ساباتو: المجنون شخص يحلم، وهو يقظان. لا يمكن للمنافذ المفضية للجنون أن تكون، سوى أشبه بمجموعة من الكوابيس التي يعيشها المرء، وهو في حالة يقظة.
بارون: والفنان، ألا يعيش على تخوم الجنون؟
ساباتو: أقول بالأحرى إنه يكون على عتبة الجنون. إنّ نقطة الانطلاق التي يبدأ منها الفنّ هي اللاوعي، أيْ ليل دواخلنا المعتمة. غير أنّ الفنان يؤوب دوما من سفراته، التي يستغرقها داخل ذلك الليل، موطن الجنون، بعد أن يكون قد روّض وحوشه الضاريّة ضمن مؤلّف فنّي. في حين أنّ المجنون حين يرحل صوب تلك المنطقة المعتمة، لا يعود منها أبدا. ربّما لهذا السّبب تحديدا، يكرّم المجتمعُ الفنّانين سرّاً، وحتى في العلن. وإلا سيكون من الغريب وغير القابل للتفسير، أن يحظى هؤلاء بكلّ هذا التكريم. إنّ شخصيات شكسبير ـ بمعنى من المعاني: شكسبير نفسه ـ تقتل، وتخون، وتعذب الاخرين، وتغتصب، وتنتحر، وتصاب بالجنون. ومع هذا كلّه، فإنّ المجتمع الذي يكون في وسعه وضع المرء رهن الاعتقال، أو إكراهه على المكوث في مستشفى للمجانين، إذا حصل منه أقل بكثير من تلك الجنايات؛ كرّم الرّجل، وشيّد له تمثالاً للتشريف! الأمر غريب إذن، أليس كذلك؟ إنّ التفسير الوحيد، الذي يمكن أن نفسّر به هذا، هو أنّ المجتمع يحدس، حتى ولو بكيفية لاوعية، بأنّ ذلك المجنون/المجرم [الفنّان] يحمينا من كافة أنواع الجرائم والجنون الممكنة. بينما لا يتبقى في مقدور من لا يستطيع أن يكون مثل بشكسبير، سوى أن يتعاطى للحلم ليلا.
بورخيص: سأقصّ عليكما رؤيا، سبق لي أن اعتمدتها في إحدى القصص القصيرة. رأيتني ألتقي بأحدهم، وكان يخفي يده في كُمّ القميص. تحدثت إليه، مشيراً بأننا لم نلتق منذ مدّة طويلة جدّا. ردّ عليّ هو قائلا، بعد ذلك: «نعم، وقد تغيّرت كثيرا، خلال تلك المدّة كلها». حينها، أخرج يده من كمّ القميص، فرأيت أنها في الحقيقة قائم حيوان بمخالب… ومع كلّ هذا، لم أستغرب الأمر، لأنه بدا منذ البداية متوقّعاً… إنّ مشاعر الاستفظاع التي أحسست بها، وأنا أرى رجْلَ حيوان عوض يدٍ بشرية، كانت متوقعةً عندي منذ بداية الحلم. فقد حدست بأنّ تلك اليد، التي سيخرجها من كمّ القميص، لن تكون حقّاً يدا.
بقينا مطرقين، نفكّر. وما هي إلا لحظات، حتى بادرت ساباتو بسؤال، أستفسر فيه عن ذلك الدّاعي، الذي ظلّ يدفع به دون قصّ أي حلم من أحلامه علينا.
ساباتو: لأنّ القاعدة العامة التي تؤطّر أحلامي، هي أنها غير قابلة للقصّ. ثمّ إني لا أحسن قصّها. على كلّ، لقد اعتمدت بعضها في كتاباتي.
حينها، هيمن على الجلسة حوار مبهم، تداخلت فيه الكلمات والعبارات، بكيفية جعلت التحكّم في ضبطها من خلال آلة التسجيل أمرا عصيا، بفعل ما تحكّم فيها من فوضى اللهفة والحماس والالهام.
بقي الأمر كذلك، الى أن انبثق فجأة من بين تلك الأحاديث المتشاجنة، موضوعٌ آسِر يدور حول السّحْر، والعِرافة، والإيمان بالقوى الفوقطبيعيّة.
بورخيص: سأل صديقي الأستاذ نيستور إبارّا Nestor Ibarra بدوياً من الرّعاة بقلق، وكان ذلك الصديق من ساكني المدينة: «هل تعتقد حقاً في تلك الحكاية، التي تقول بأنّ الناس تتحوّل أيام السبت التي تكتمل فيها طلعة البدر، الى ذئاب»!». فأجابه ذلك البدوي قائلا: «لا ينبغي لك أن تصدّق أي حرف من تلك الحكاية يا صاح، إذ كلّ ذلك ليس سوى خرافات!». (ضحك). هكذا، إذن، لا يؤمن هذا الرّاعي البدوي بذلك، حتى ولو أنه أمّي وغير متحضّر، بينما كان صديقي المتعلّم والحضري يرغب في الإيمان بذلك بقوّة.
ساباتو: ومع ذلك، أستطيع أن أؤكّد لك يا بورخيص، أنا من وُلد في قرية تقع بالبادية، بأنّ الناس هناك تؤمن بالمُسْتذئب Loup-garou، وبالأرملة المسيخة، وبالأشباح، وباللاّمة أو العين الشرّيرة، وبكافة تلك القوى الفوقطبيعيّة، التي نعثر عليها في كافة أنحاء العالم، حيث يقع الجهل التّام باللّوغاريتمات!
شرع بورخيص ذو الطّبع المتشكّك، في الهمس بشيء من قبيل: «كَرَمْبا، لكم غريب هذا!»، ثمّ بدا وكأنّه لا يكترث بما قيل.
ساباتو: لكنّ هذا طبيعي، يا بورخيص. إنّ الإنسان كائن مخلوق من ثنائيات ضدّية: نوم/يقظة، وجنون/حكمة،،، الخ. ففي دخيلة كلّ إنسان، تجري دوْما هذه المعركة التي تجمع بين قوى متعارضة؛ وحين يبدو بأنّ واحدة من تلك القوى قد ربحت المعركة، فإنّ الأخرى تنكمش، وتنطوي على نفسها، ثمّ ما تلبث في العاجل أو الآجل أن تنقض على القوة الأخرى، بعنف أشدّ. خذ على سبيل المثال يا بورخيص، ما حدث خلال أوج انطلاق العصر الموسوعي بأوروبا، أيْ حين شرعت ذهنية فلاسفة الأنوار تسخر من الأحلام والأساطير والسّحر. فإبان هذه الفترة تحديدا، ظهرت ـ بسبب ذلك، وليس على الرغم عنه ـ اندفاعة كبرى في أوروبا، للتصالح مع الممارسة السّحرية وعلوم التنجيم والفلك. وبذلك، نشأت جماعات تمارس السّحر، وفرق تؤمن بالمذهب الباطني، مثل طائفة كلود دو سان مارتان Claude de Saint-Martin وفابر دوليفي Fabre d?Olivet، مثلما ظهر صنّاع المعجزات من قبيل كاغلييوسترو Cagliostro، وظهر المتصوّفة من أشباه سويدينبورغ،،، الخ.
بورخيص: لنقل بأن القرن 18 شهد إذن، صعود جماعات وفرق لم تكن موجودة قبله.
ساباتو: أجل، إلا أنها كانت مع ذلك موجودة في القرون السحيقة، حين لم ينشطر الانسان بعد الى روح وعقل، بفعل ظهور العلم وحلول النزعة العقلانية. فحين أراد الإنسان أن يتنكّر للجنّ، وحين أخرجه فلاسفة عصر الأنوار من الباب بركلة منهم على مؤخرته، وهم يضحكون عليه ملء الأشداق، عاد الجنّ ليدخل من النافذة. لم يعد الجنّ فقط عن طريق السّحر، وإنّما عن طريق الرّواية أيضا، التي هي ظاهرة حديثة. إنّ الجنّ لا يُغلَب، وهو الى جانب ذلك ينتقم لنفسه. لاحظ معي كيف ظهرت في ذلك البلد، الذي سرعان ما انتهت فيه النزعة العقلانية الى مجرد آفة، أكبرُ فرقةٍ من الممْسوسين بمسّ شيطاني من مجموع ما نعرفه، وهي تلك الفرقة التي تمتد من الماريشال جيل دو ري Giles de Rai الى جونيه Genet، مرورا بالماركيز دو ساد Sade.
بورخيص: طيّب. أنا أتفق حول ما آلت إليه الأمور في فرنسا. وحتى أختصر، أقول: فرنسا التي هي رمز العقل. لكن هذا الأخير، العقل، ما هو؟ أهو النزعة الرمزية؟ أهو ليون بلُويْ Léon Bloy؟
ساباتو: أنا لم أقل إن فرنسا هي العقل، وإنما قلت إنها تحاول أن تكون عقلانية. بالطبع، أنا لا أؤمن بهذه الفكرة الشائعة والأقرب الى الابتذال، التي هي العقل، ولا بفكرة الذهنية المبنية على القياس. وإلا فأجْمل بهما من نموذج رائع لهذه الذهنية: رابليه Rablais والثورة الفرنسية…
بورخيص: تريد أن تقول بأنّ ثمة على الأقل تقليديْن اثنيْن.
ساباتو: بالتأكيد، كان ثمة على الأقل تقليدان اثنان. إنّ الثنائية هي خاصية مميّزة للإنسان، وأقصد ثنائية القوى المتصارعة بداخله.
بورخيص: ظللت أقول في نفسي، بالنسبة لحال رابليه، بأنه كاتب إسباني الطّبع بامتياز.
ساباتو: هو كاتب باروكي، ومتدفق، وبإسراف. وهذا ما يؤكّد تلك الثنائية التي تحدثت عنها.
بورخيص: بمقدورنا التأسيس لشيء آخر: كتابة تاريخ أدبي يستند الى المنطق، وليس الى عوارض الجغرافيا البحتة. (يبتسم). حينها، سيكون رابليه إسبانيا، وليس فرنسيا. لقد قال والدي بأنّ المهم ليس هو تاريخ الازدياد، وإنّما الجيل الذي ننتمي إليه، بحكم أنّه خلاصة حياة، أو مهمة من المهام المعطاة. بالتأكيد، سيكون بمقدور هذه الأمور أن تحظى بأهمية كبرى، إنْ حصلت على هذا النحو…
ساباتو: بالعودة الى موضوع حديثنا، أشير الى أنّ احتدام حضارة تقنية ما، ينبغي أن يعيد الى الظهور، على ما أعتقد، القوى السّحرية. ويمكن لهذا أن يلاحظ حتى من خلال تفاصيل صغرى في حياتنا المعاصرة، من قبيل تسويق طوالِع الأبراج الفلكيّة مثلا. فهذه ليست سوى مجرد سخافات مختلقة، من غير جدّية تذكر ولا رصانة؛ ومع ذلك، فإنها توحي بحاجة ما عميقة، ما ينفكّ الناس يشعرون بها.
بورخيص: لم أعد أذكر من قال لي بأنّ طوالع الأبراج الفلكية كانت من صنع الخدم، الذين كانوا يعملون بالبيوت، وأنّ الأسياد هم من كان يقرأها.
ساباتو: أنا أؤمن حقّا بالطوالع الفلكية، حين يتمّ ضبطها مثلما ينبغي. لقد حدّد كْسول سولار طوالع ابنيّ الفلكيّة، لكنّي رفضت على امتداد سنوات بعينها، أن أطّلع على نبوءاتها. كنت دائما أخاف من المستقبل، لأنّ الموت من الأشياء التي ترتبط به.
بورخيص: ماذا؟ أتخشى الموت؟!
ساباتو: إنّ أقوم لفظة يمكن لي ان أصف بها علاقتي مع الموت، ليست هي الخوف، وإنّما الحزن. يبدو لي بأنّ الموت شيء محزن للغاية.
بورخيص: أنا أعتقد بأنّنا مثلما لا نشعر بالحزن، لأنّا لم نشهد حرب طروادة، فإننا لن نحزن كذلك، إنْ لم نعد نرى هذا العالم. أليس كذلك؟ ثمة خرافة إنجليزية شعبية تقول إننا لن نعلم بأننا ميتون، إلا حين نلاحظ بأن المرآة لم تعد تعكس صورتنا. أمّا أنا فلا أرى مرآة.
امتقع وجع ساباتو، فتشرّبتْ تقاسيمه موجة من الحزن.
في الخلفية، كانت شمس منتصف النهار تخترق ستاراً سميكا من الغبار.
ساباتو: حين توفي كْسول، ألحّتْ عليّ زوجته ليتا Lita لأكثر من مرّة، كي ننظر الى تلك التنبؤات، التي تكهّن المرحوم بشأنها لمستقبل ولديّ. أنا ما رغبت قط في القيام بذلك، لكن ماتيلد Matilde فعلت. فهل تعلمان أنها تحقّقت؟
بورخيص (باندهاش): وماذا كانت تقول نبوءاته؟ بماذا تنبّأ؟
ساباتو (متحدثا بصوت هامس، وكأنّه كان يحادث نفسه): كانت تتنبأ بسلسلة ملغزة من الأحداث، التي تتضافر بين ثناياها لحظات السعادة والشقاء. هذا ما تنبّأت به، يا بورخيص. هذا هو.
ثمّ انتهت الرّحلة.
انتهى السّيْر الطويل الضّارب في جذور الماضي، وامتدادات الحياة.
رأيتهما يصمتان.
بشكل واهن، أمسك بورخيص بكأسه، ثم قرّبه من محيط فمه، بينما غار ساباتو أكثر بين أتون أريكته.
وكنت أنا ألهو كذلك للحظة، بقطعة الثلج التي كانت حين تصطدم بجدار كأسي البلّوري، تحدث رنينا.
لا أستطيع تفسير الشعور الناجم عن ذلك الصمت، الذي أطبق على بورخيص وساباتو.
ترى، في أي شيء يمكنهما أن يفكّرا، الآن؟
أعترف بأنّ قدراتي على التعبير، أفقر ما تكون في وصف ذلك الصمت. لكني، قد أتجرّأ برسم ذلك كالآتي:
أمامي رجلان منكفئان الآن على نفسيْهما، حيث يتحصّن كل منهما، وهو يعود الى عزلته الخاصّة.
ترجمة: أحمـد الويــزي