لماذا نتذكر توفيق صايغ (1923-1971) بعد مرور أربعة عقود على غيابه؟
في زمن الساعات المتوقفة عن الدوران، وفي زمن الانكسارات المتعددة المستويات نتذكّر وجوها حاولت ان تمنع هذا الانهيار. كان توفيق صايغ أحد أبرز هذه الوجوه
لا اريد ان اتناول توفيق الشاعر وأحد أبرز رواد الحداثة الشعري عندنا. يكفيه فخرا ان الشاعر سعيد عقل كتب مقدمة لمجموعة توفيق “ثلاثون قصيدة”. ولا اريد ان اتناول توفيق المترجم الذي نقل نتاج كبار الشعراء الامريكيين والانجليز الى العربية لأني منذ عقدين تناولت في دراسة موجزة رباعيات أربع” للشاعر ت.س. اليوت. ولا اريد ان أتناول حياة توفيق” وخيباته لا مع المرأة التي احبّ ولا مع الوطن الذي ضاع ولا مع “حوار” مجلته التي استمرت من 1962 الى 1967. أريد ان اتكلم عن أحلام توفيق في خلق مثقف يلتزم قضايا مجتمعه وامّته. فما صورة هذا المثقف الذي اراده توفيق؟
في المقدمة التي أفردها للعدد الاول من “حوار” نجد الجواب. هناك حاول ان يعطينا الاسباب لنشر المجلة ونوعيتها وأبوابها وموضوعاتها واذ به يعطينا المبادىء الضرورية للثقافة. نستطيع ان نستخلص من مقدمته: سمات المثقف وهي الشمولية: ان المثقف لا يكتفي ان يكون ضالعا في حقل من حقول المعرفة بل ان يكون مطّلعا على انواع الادب والفكر والفن وغيرها من العلوم الاجتماعية
الانفتاح: يقول توفيق ان القارىء العربي ” قارئ منفتح على “الحضارة الانسانية غير منكمش على حضارته وعلى ذاته
التفاعل: ان المثقف العربي “راغب أبداً في الاطلاع على ما يجري في الحقول الثقافية في البلدان الاخرى وفي قراءة النتاج الاجنبي
ذاته وفي التفاعل معه لا عن طريق الاستقاء والاقتباس وانما عن “طريق الاخذ والرد والمناقشة والحوار الحرية: لعلّها الصفة الأهم التي تناولها توفيق.يرى ان المثقف يلتزم قضايا الحريات ، حرية الثقافة والتعبير والقول لا في وطنه فحسب بل وفي كل زاوية من الارض تنتهك فيها حرمة هذه الحريات . ولاننا نشاركه الرأي لم نجد افضل من كلماته نستعين بها. يقول : ونحن نؤمن ان المثقف العربي كاتبا كان او قارئا أديبا او مفكرا لا يعيش كما ينبغي ان يعيش الا اذا تيّسر له مناخ الحرية. ونؤمن ان المثقف في تعطش دائم الى مزيد من هذه الحرية اللازمة له أكثر من لزومها لاي سواه .من أفراد المجتمع مسكين توفيق. كان يحلم في بناء مثقف عربي حرّ. خاب ظنه.
وبعد اكثر من هذه العقود أدركنا انها محاولات خائبة. لا اريد ان اسمع تبريرات، لا اريد ان اسمع تحليلات، ولا اريد مناقشات اكاديمية عجفاء. لا مثقف عندنا ولا ثقافة. عندنا خراب عمّ المدن. والنفوس والقلوب وانتشر ولا أمل عندنا حريق رآه توفيق صايغ منذ أكثر من اربعة عقود فكتب في قصيدة يقول:
لا تروِ لي أخبار نيرون
ونايا يزقزق وروما تحترق
لا تذكرني بتاريخ قديم
قُصقصت أغصانه وركّبت
فوق جذوع الحاضر
أنا رأيت الحريق في أكثر من بلد
وسمعت الزقزقات من لفيف نايات
أنا
أنا ايضا
رأيت الحريق يأكل بلدي
وأحسَّ به تحت الملابس جسدي
وظللتُ ألعب على الناي
لا تروِ لي أخبار نيرون
أنا أعرف ألف نيرون صغير
وبلدي يحترق
لم يكن يقلقني
غير شرارات في داخلي
واللظى يفتك ويروي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توفيق صايغ : المجموعات الشعرية)
(رياض الريس للنشر ، ابريل 1990 ،صفحة 359
قيصر عفيف