لا شك أن القارئ العادي للدراسات الروائية بات ضحية لتعدد المقاربات النقدية للنصوص الروائية، واختلاف أصحابها في مسالكهم المنهجية، والتباين الشديد في طبيعة الترسانات التقنية الموظفة في التحليل المباشر للمتن السردي.
وسيجد نفسه في قلب دوامة من التجاذبات بين هؤلاء الدارسين المتجادلين حول تحديد آجرومية هذه الأدوات النقدية، وحصر عناصرها حسب مشمولات الحقل التالي غير الاستقصائي: (المفاهيم، المنهج، البنية، الشخصيات (بموجهاتهاالمختلفة:الرئيسة/الثانوية،الممثلين/العوامل، الأدوار/الوظائف)، الحوار(بمشتقاته المختلفة: الديالوج/المونولوج، الداخلي/الخارجي، أصوات الرواية)، وجهة النظر/ التبئير، والتناص بمشتقاته المختلفة (التناص، المناصة، الميتانصية …)، الزمان والمكان الروائيان …)، وسيضيع لا محالة في هذا الصخب النقدي الجدلي، حين يزعم بعضهم أن هذا التخريج أو ذاك يتعلق بسطح النص وليس ببنيته، وهذا يؤاخذ ناقدا على مقاربته لأنه لم يعرف بالمفاهيم النقدية التي وظفها أو لأنه جاء بمصطلحات غير متداولة.
ويذكر في هذا المقام إشكالية الموقف من المنهج المتبع في الدراسة، هل يجب على الناقد أن يتقيد به ولا يخلطه بغيره، أم يجوز له دعمه بالاقتراض من مناهج أخرى؟ وفي هذا السياق هل من سبيل إلى الخروج من ثنائية الاختزال/الانتقاء؟! وهل من المشروع إصدار الأحكام القيمية والحديث عن حضور الإيديولوجيا في الكتابات الروائية والنظر في خلفياتها الاجتماعية. وهو ما يقود إلى مسألة المفاضلة بين النقد اللساني البحت وبين النقد السسيولوجي، أو مشروعية الجمع بينهما.
ويضاف إلى ما سبق إشكاليات تقديم حد فاصل بين القصة والحكاية، وبين القصة والخطاب، والمسافة بين الرواية كعمل إبداعي تخييلي والتاريخ كمرجع واقعي لمادتها الحكائية . . .
وزيادة على ذلك نشير إلى ضبابية المصطلحات النقدية في تداخلها وترادفها، إذ تجد المفهوم الواحد يستخدم له أكثر من مصطلح خصوصا داخل الأقطاب النقدية الأوروبية…
لقد شهد النقد السردي نهاية القرن الماضي ثورة في مفاهيمه وطرائقه وتقنياته، فيمكن بشيء من الاختزال الحديث عن وجود ثلاثة أقطاب نقدية، هي الكتابات الفرنسية المشتغلة على التنظير البنىيوي للنصوص السردية (رولان بارت، غريماس، جيرار جنت …)، وهذا الأخير يعتبر نقطة تماس بين النقد الفرنسي والنقد الانجليزي القطب الثاني المهتم بأشكال الحوار وصيغه ووجهة النظر …، أما القطب الثاني فهو المدرسة الألمانية المشتغلة على زاوية استقبال النص الأدبي وتداوليته.
وفي الحقيقة تتعايش في الساحة النقدية السردية أنماط عديدة، قد تتمازج في النص النقدي الواحد، وتستمد عتادها التحليلي – عن وعي أو بدونه – من المقاربات الأسلوبية والبنيوية، والسرد غير الموثوق، والسميولوجيا، وتحليل الخطاب،(1) ولسانيات النص والبسيكاناليز psychanalyse عند كريستفا، وقد تهاجر الدراسات الشعرية إلى المقاربات السردية، فيظهر مصطلح مثل « شعرية النص القصصي».
وربما يمكن القول إنه مع بداية القرن الحالي أخذ النقد السردي مسارا جديدا، إذ أصبح كل ناقد يعمل على جوانب محلية من هذه الأدوات النقدية مراجعة وتوسعة، خصوصا على مستوى (الشخصية، التبئير، المكون الزمكاني..)، وهذا شكل فضاء رحبا لتفاعل غير مباشر وحوار خصب بين كل المشتغلين بالنقد السردي بما فيهم النقاد العرب.
ويمكن أن نمثل لهذا التجاذب النقدي بتنظير عنصر الشخصية، فقد درج النقد الحديث على تقسيمه ضمن الحقل الإنساني إلى شخصيات محورية رئيسة وشخصيات ثانوية عابرة، فقد اعتبر ارسطو الشخصية عنصرا ثانويا بالمقارنة مع عناصر العمل التخييلي، وهو موقف تأثر به المنظرون اللكلاسيكيون الذين رأوا الشخصية مجرد اسم يسند إليه الحدث(2) .
ويستند هذا التنظير إلى طبيعة النصوص السردية السائدة آنذاك، حيث يتم إدخال الشخصية إلى النص الروائي مع مقدمات تخبر عن أوصافها وإطارها المكاني والاجتماعي، كما هو شائع مثلا في كلاسيكيات الرواية الغربية (الرواية البيكارسية الاسبانية، والرواية التاريخية الفرنسية مع زولا وبلزاك وستندال …)، وفي روايات نجيب محفوظ ذات المنحى الاجتماعي التاريخي. وفي سياق تقديم الشخصية/الإخبار عنها ووصفا يتم سرد « الملامح المشكلة لشخصية الحكاية، وهي علامات داخلية وخارجية، وتنتمي لمستويات مختلفة، سردية ووصفية وخطابية، ومستقاة من مصادر متنوعة (السيرة الذاتية للشخصية وأفعالها وحواراتها الداخلية والخارجية)»(3) ، ويتداخل وصف الشخصية والإخبار عنها بمفهوم التبئير، الذي يضع في دائرة الضوء عناصر محددة من المادة الحكائية.
ويتوكأ هذا البناء السردي للشخصية على مفهوم الشخصية القاعدية، التي هي تجريد لمحددات اجتماعية ومهنية وإيديولوجية شبه نمطية للفئات التي تنتمي لها شخصيات النص الروائي، وغالبا ما يتم بناؤها بلعبة المزج بين المتخيل والمحتمل التاريخي، فبعد تكثيف هذه المحددات يتم إسنادها إلى اسم معين وفق ما أشار إليه التنظير السردي الكلاسيكي الآنف الذكر. وهذه المميزات قد يقدمها الكاتب في مستهل العمل السردي، أو ينثرها على امتداد ذلك العمل بصيغ إخبارية مختلفة.
وهو مسلك ستنقلب عليه الرواية المعاصرة وفق ما يعرف بطريقة الكاتب الفرنسي أندريه مالرو في كتابة روايته «الوضع الإنساني» La Condition humaine، حيث يتم إقحام الشخصية بدون مقدمات وهي في ذروة التوتر الدرامي، وفي سياق هذه النزعة المنادية بالحد من هوامش الشخصية حاولت الرواية الجديدة التجريبية (آلان روب جرييه، ناتالي ساروت، ميشل بوتور …) بناء شخصية تتمتع بأقل مميزات ذاتية ممكنة، وفي هذا المقام تقول نتالي ساروت إن الشخصية – في الرواية الجديدة – فقدت كل ما هو ثمين، حتى اسمها، غدت متحدثا غير معروف، يتحدث بضمير المتكلم، هو لا شيء، وهو كل شيء، وصارت الشخصيات الأخرى مجرد رؤى وأحلام وكوابيس وأوهام وتبعات لذلك المتحدث المجهول.(4)
وتناولت الدراسات النقدية السردية الجديدة الموضوع من زوايا متعددة، يمكن توزيعها إلى اتجاهين:
– منحى لساني يدرس الشخصية ضمن سياقها اللغوي التركيبي أو السيكولوجي، ويمكن إدراج تحديد تزيفتان تودوروف للشخصية انطلاقا من «وظيفتها النحوية، فيجعلها بمثابة الفاعل في الوحدة السردية، فهي مجرد كائن ورقي، ليس له وجود خارج الكلمات «، ويتصنف فيه دراسة فيليب هامون للقانون السميولوجي الذي يحكم بناء الشخصية في النص السردي، فقد اعتبر مفهوم الشخصية مرتبطا أساسا بالوظيفة النحوية التي تقوم بها داخل النص»، وفي هذا السياق « صنف الشخصيات إلى ثلاث فئات هي: الشخصيات الإشارية، والشخصيات الاستذكارية والشخصيات المرجعية، محللا الشخصية ضمن ثنائية الدال والمدلول ، (5) ويستخلص من هذه التحديدات أن الشخصية تكاد تتماهى مع وظيفتها النحوية، مع توسعة هذا التصور الإجرائي عند هامون بتقنيات التحليل اللساني و/أو السميولوجي، والأدوار السردية، وتم الاهتمام بإحياء عنصر وصف الشخصية التقليدي، من خلال البحث في أشكال وصيغ الإخبار عن الشخصية. ولا يظفر القارئ في النهاية إلا بباقة من الصفات التي تم تخريجها بالاغتراف من سطح النص، وبطريقة هي أقرب ما يكون من تحصيل حاصل.
– اتجاه سميوطيقي يهتم بتنظير البنيات السردية المجردة، برز إلى النور مع الشكلانيين الروس على يد فلادمير بروب في كتابه: « موروفولوجيا الحكاية «، حيث اقترح نموذجا تجريديا للشخصية، أسسه على الأدوار المتكررة التي تقوم بها الشخصية داخل البناء السردي للحكاية والتي استخلصها من دراسة مدونة قصصية واسعة، ووصل بهذه الأدوار (الوظائف) إلى ما يزيد على ثلاثين دورا، ضمن تتابع الأفعال التي تنجزها هذه الشخصيات على امتداد العمل الروائي. وهكذا تم اختزال الشخصية إلى دورها النمطي(شبه الآلي) داخل النص السردي. ومن ثم كان على القارئ أن يرافق الناقد في رحلة الكشف أو الإسقاط لحزمة هذه الأدوار على شخصيات القصة ضمن أفق تنبئي حتمي، ووفق مدونة سردية نمطية منتقاة من القصص الأسطوري، التي يسهل التحكم في بنيتها السردية البسيطة. ولكن ماذا عن النصوص السردية المعاصرة المتميزة بمنحاها التجريبي وأسلوبها الرمزي، وعقدها السردية المفتوحة، والتي تكون في نماذج كثيرة مبهمة وغامضة؟!
واستطاع أ.غريماس سواء باستيحاء نموذج بروب السابق الذكر أو بالاطلاع على أعمال الناقد المسرحي الفرنسي اتين سوريو Etienne Souriau اقتراح صورنة مختزلة لشخصيات النص السردي، تتساند فيها معطيات مصادرها المختلفة التي استقاها من النحو التوليدي والمنطق «المودالي» ونحو الحكايات.
وبذلك أصبح للشخصية بعد ثنائي، قوامه البنية العميقة(العوامل) والبنية السطحية(الممثلون)، ويتحكم في مسارها وأدوارها منطق «الجهة» Modalite، وترتكز على وظائف محدودة ومتعالقة في البنية السردية العامة للنص الحكائي. وبذلك نقل غريماس أدوار بروب إلى وظائف دلالية وسردية. وأصبح من الممكن لأي عنصر (إنسان، حيوان، آلة، فكرة …) أن يقوم بدور الشخصية المتمتعة بوظيفتها المستقلة ضمن البنية العامة للحكاية.
ولكن القارئ العادي لا يستطيع فهم قيمة الأدوات الإجرائية التي اقترحها غريماس للتحليل السردي إلا بعد أن يستوعب العناصر التالية:
– العوامل الستة، التي نقترح عرضها بالصياغة التالية مع التنبية بإمكانية وجود صياغات أخرى مغايرة:
المرسل الموضوع المرسل إليه
مساعد الذات المعارض
– المربع السميوطيقي وأركانه:
محور التضاد: الشيء وضده
محور شبه التضاد: التداخل في الإثبات والنفي
فمثلا على مستوى الثنائية: الملك/الخائن:
– البرنامج السردي العام والبرامج السردية الفرعية: ويتعلق بسرد المسارات العامة التي اتخذتها الحكاية من منظور عناصرها الرئيسة، حيث يتم تخصيص سرد جزئي(فرعي) للحالات والأفعال التي تمر بها شخصية رئيسة داخل الوحدات المتمايزة المشكلة لنص الحكاية.
ونشير إلى أننا لا ننوي القيام بشرح هذه المفاهيم وأدواتها الإجرائية ضمن هذا المثال، فمن أراد التوسع فليرجع إليها في أدبيات النقد السردي المعاصر(6) .
وقد انعكس هذا التطور في بناء الشخصية على صعيد النصوص الإبداعية على تنظير الحكاية وأدوات التحليل السردي ومسالكها التطبيقية، فبدت هذه الأخيرة ملتبسة ومتداخلة ومتشعبة.
المراجع:
1 – آلان روب جرييه: نحو رواية جديدة، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف مصر د.ت
2 – برنار فاليت الرواية: مدخل إلى المناهج والتقنيات المعاصرة للتحليل الأدبي»، ، ترجمة عبد الحميد بورايو، دار الحكمة د.ت، ص 23
3 – ج. آلجيرداس جريماس:
– Du sens, Paris, Seuil, 1970
– Du sens II, Paris, Seuil, 1983
– Sémiotique et sciences sociales, Paris, Seuil, 1976
4 – حسن بحراوي: «بنية الشكل الروائي الفضاء، الزمن، الشخصية،المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1990
5 – والاس مارتن نظريات السرد الحديثة، ترجمة حياة جاسم محمد
الهوامش
1 – والاس مارتن نظريات السرد الحديثة، ترجمة حياة جاسم محمد، ص: 9
2 – يرجع إلى كتاب حسن بحراوي « بنية الشكل الروائي الفضاء، الزمن، الشخصية،المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1990
3 – يرجع إلى كتاب « الرواية: مدخل إلى المناهج والتقنيات المعاصرة للتحليل الأدبي»، برنار فاليت، ترجمة عبد الحميد بورايو، دار الحكمة د.ت، ص 23
4 – يرجع إلى كتاب « آلان روب جرييه: نحو رواية جديدة، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف مصر د.ت
5 – حس بحراوي مرجع سابق ص 213.
6 – يمكن النظر في كتبه التي عرض فيها نظرياته وتطبيقاته مثل : حول المعنى 1 و2 : du sens 1 و du sens 2، والسميوطيقا والعلوم الاجتماعية: semiotique et sciences sociales، وهناك مؤلفات عربية كثيرة تعرضت لها بالشرح والتطبيق.
أحمدو بن لكبيد