"قتلي أنقاض حروب ما أكثر ما يأخذني اليأس ولكن حين أوجه وجهي شطر الشعر، وأنظر، أشفى – لا ألمح في ظلمة يأس إلا نورا"
أدونيس
في كل ما قدم الشاعر العربي الكبير أدونيس للثقافة العربية سواء في شعره وبحوثه ومؤلفاته الأخرى "ظلت الديناميكية حية بين الماضي (التراث) والحاضر. ولكنه حينما يؤكد من خلال رؤيته على تجاوز ذلك (القديم)… وهدمه وامحائه فلأنه يريد تأكيده لاستعادته، لا استرداد ذلك الماضي بتحريره من ذاته التي دجنها الحاضر. وحولها الى قيم كسيحة في قطيع.
لهذا السبب فإن القاريء البسيط قالا يستوعب وصف أدونيس للتراث / بالكلمة الرجيمة / في هذا الحوار مثلما فعل بعض النقاد وكذلك المندسون في حياة الثقافة العربية على تصوير الشاعر. جاحدا، ناكرا إرثه قافزا عليه باسم مشروع الحداثة الذي يضر الشاعر كأحد أبرز رموزه في الشعر العربي الحديث.
لأن قاريء أدونيس لابد الا أن كون قارئا ذكيا والا وقع في فخ المعنى..
أن الشعر يفضح ما لا يقوله التاريخ أو الذي يتكتم عليه، من هنا جاءت ملحمته الشعرية الأخيرة كتاب "الكتاب" لتؤكد هذه الحقيقة فيكون الشاعر شاهدا على عصر تنازعته أطراف ومتناقضات عدة.
وحين أقدم الشاعر على هذا المشروع فلأنه أحس بالهلع من الشيخوخة التي بدت تدب في ذاكرة المجتمع العربي كذلك الاحباط.
إن الحوار الداخلي كان جوهر القصيدة التي تشي بالحكاية، أما وحدة النص فقد تشكلت على مدى مئات الصفحات في مقاطع تبدو مستقلة لكنها متصلة بالقناع الذي تشكل في شخص أدونيس -المتنبي، وفي صوت الحاكم والمحكوم الطاغية والضحية، القاتل والقتيل.
هذا على صعيد المعنى..
أما على صعيد الشكل، فقد لمس الشاعر حاجة القاريء للصحو من ركام النصوص في ساحة الشعر الى نص حاد يوازي حدة ذلك التاريخ الذي حمل من التعقيد ما شابه الدموية التيار تكبت بعد ذلك باسم "قدسيته – الماضوية".
كل هذا أحدث قطيعة مخيفة بين الانسان العربي وتراثه.. جفوة وشفقة.
الا أن ما أراده أدونيس في "الكتاب" هو كشف الغطاء والحجاب كما يقول هو.. مانحا مومياوات الماضي روح الحاضر مسائلا.. معاتبا… رافعا ما ذبل عن وجه التاريخ للارتقاء به الى معمار جديد – الى وعي الضد – الوعي الذي يلعن الظلمة لأنه يريد الخروج والى الأبد من هذا الظلام..
وحين يأتي القاريء الى مجمل نتاج أدونيس يلمس عصب الذاتية الذي يعتبره الاساس الراسخ لأدب العظيم، لقد أوجد تلك الوشاج اللغوية التي ابتعدت ولم تبتعد عن شخصه ومشاعره على نحو مبتكر جعله ينجح في خلق ذائقة شعرية خاصة أخرى للشعر اختلفت عن الذين سبقوه وعن مجايليه ومن خرج من عباءته.
أي بمعنى انه خلق للشعر ذاكرته الثقافية ومنح للكلمات هويتها – نعني – حريتها.
وفي هذا الحوار العميق – الهاديء – والجريء نصل الى حقائق أخري تضاف الى ما ذكرناه سابقا.
وهي أنه ما من شاعر قدم التراث العربي الشعري الى القاريء مثلما فعل هو، سواء من خلال مختاراته التي قدم بها شعراء الكلاسيكية العرب، أومن خلال اعادته اكتشاف النصوص القديمة وابداع الأولين عبر الغور في النص الحديث والاشتغال عليه بأدوات وطرائق غريبة عن جسد القصيدة الكلاسيكية – بعيدة عن قصيدة الرواد.
إنها قصيدة الانسان المفتوحة على أفقها الكوني وهو بذلك يطلق صهيل الذاكرة وكأنها كانت من قبل خيولا مكممة تحاول الهرب من سوط التاريخ.. لكنها استعادت عنانها – بهاءها – من خلال عودتها الى الحاضر.. وهذا مجد اللغة حينما تستعيد علاقتها بأرضها البكر – لتشرع بعد ذلك بالتجاوز والتجاوب والتحليق في حقول جديدة حيث قدر الشاعر الذي أراد للانسان أن يغيرها في نفسه بقوت القلوب.. بالشعر (بالكلمة).
* لنبدأ هذه الرحلة عائدين بك الى مرافيء طفولتك، ماذا علمتك الطبيعة في تلك المرحلة، وهل كان لها دور متأصل في مجمل حياتك؟
– لم أع في طفولتي كيف أتعلم من الطبيعة، أو ماذا آخذ منها، وإذا شئتما الآن تحديد ما أخذته منها فلعلي أن أتحول الى باحث يتذكر، ويتساءل ويحلل لكن هناك في أعماقي، في جسدي، في مسلكي وفي تفكيري أشياء متأصلة كأنها طبيعة – فكرية، تجعلني أشعر أنها مستفادة (مأخوذة) من الطبيعة التي كانت في هذا كلا معلمتي الأولى.
من هذه الأشياء.. بساطة العيش على مستوى الحياة اليومية ومنها العيش بحرية خارج القيود أيا كانت، والتفكير والتعبير بحرية.
كما لو ان الانسان اسم آخر للوردة، للهواء والنهر أو للبحر ومنها حس الائتلاف الآخر مهما كان الاختلاف معه، كمثل ما تآلفت نباتات الحقل الواحد على الرغم من تنوعها وتباينها ومنها على الأخص. التجدد المستمر في صوره وأشكاله المتنوعة، ندرك من هذا التجدد أن الموت ليس إلا اسما آخر للحياة فلكي تولد "البذرة" لابد من أن "تقبر": فنحن لا نحيا الا حينما نعيش موتنا ولا نموت إلا لأننا نحيا.
* لقد سحبت سفينة الحوار الى وجه الحياة الآخر- الموت، هذه الوشيجة بين الاثنين والتي عبر عنها الامام علي كرم الله وجهه حينما قال "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" كذلك بروتون "لن تكون فزاعة الموت الا مجازا" فمن خلال البعدين الصوفي والسوريالي، ألم يخفك هذا "المجاز".. فتؤثر النوم على هذه اليقظة الموجعة؟
– أحب أن أظل دائما يقظا وفي يقظة وأنا مع ذلك لا أخاف من الموت، ذلك أنني أحب الحياة. لقد أعطيت الحياة مرة واحدة والى الأبد ولذلك يجب أن نحتضنها وان نحبها حتى الهيام كما نحب المرأة لا في أعضائها واحدا واحدا، فحسب – بل كذلك في جسدها – خلية خلية.
* ما دمنا وصلنا الى المرأة، فتاريخ الكتابة في العالم أجمع وفي الوطن العربي على وجه التحديد هو "تاريخ ذكوري".. أين هي المرأة الكاتبة ضمن هذا الطرح؟
– كل شيء في العالم العربي "ذكوري" ومعنى ذلك أن كل شيء في العالم فاسد وسيظل فاسدا ما لم تتغير هذه "الذكورية" لا على المستوى النظري وحده، وانما كذلك على مستوى التكون – والبنى – عقليا واجتماعيا. ولا يمكن أن يتم هذا الا بتغيير النظرة الدينية السائدة والنظرة السائدة الى الدين في آن.
أما كيف يتم هذا ؟ فإن لذلك حديثا آخر.
دون ذلك ستظل المرأة العربية مجرد زخرف وزينة ومتعة، أي مجرد اسم، مجرد رقم، ولن تصبح أبدا كيانا حرا، لها هويتها واستقلالها، وحقها الكامل في أن يكون جسدها ملكها الخاص تتصرف به بحرية كاملة، كما تتصرف عقليا.
والسؤال هو: ما يكون الرجل في مجتمع لا وجود للمرأة فيه، الا بوصفها اسما ورقما؟ أو بوصفها زخرفا ومتعة وبطنا "منتجا"؟
* ما دمنا نتحدث ونحن في حقل المرأة المملوء بالحياة والموت، لنأتي الى حقل الكتابة التي قد تكون لغما موقوتا أو قد لا تكون كذلك، فمن هو الذي يدير هذا اللغم في العالم العربي.. الكاتب أم السلطة؟
– قد تكون الكتابة الشعرية لغما أو لا تكون. لغما بمعنى أنها زلزلة لكل مستقر، وخلق لامكانات جديدة في رؤية الأشياء وفي اقامة علاقات مختلفة بينها وبين الكلمات، وفي فهم العالم والانسان.
من هنا أرى أن ثمة خطرا حقيقيا وقاتلا يواجه الكتابة الشعرية اليوم، يتمثل في تحولها من كونها "خلقا" الى صيرورتها "نتاجا"، ومن كونها "تقنية" و"فنا" الى صيرورتها "نشاطا" و "عملا" وفي هذا ما يؤدي الى تسوية الشعر بغيره من أنواع الكتابة وبخاصة السردية، وهي تسوية تؤدي بدورها الى انقراض الشعر، لانعدام "تميزه" عن غيره، ولانعدام معايير هذا التميز.ولئن كان هناك خطر على الشعر فهو كامن كما يبدو لي في هذه الأسباب "الداخلية ولا يجيء من "التقنية" كما يزعم بعضهم.
فالشعر اليوم يكاد أن يصبح "رسالة" مسرودة دون "فن".
لقد مثل الشعر في تأريخه كله مشكلا (الشكل – السر – الخفاء – المجهول – المتخيل..) واليوم يكاد يزول هذا كله. لا تكاد الكتابة الشعرية اليوم تطرح على نفسها أية مشكلة، ولهذا لا تكاد تطرح على العالم وعلى الانسان أية مشكلة.
أحيانا أتساءل بحزن هل تنتحر اللغة الشعرية ؟ هي كذلك ؟ خصوصا ان الكتابة الشعرية اليوم تصبح شيئا فشيئا قتلا أو "فكا" للسحر، بدلا من أن تكون وان تبقى بشكل أو آخر "عقدا" للسحر.
* كما تعرف أن اللغم لا يستشير ضحاياه، فمن هم ضحايا الكتابة ؟
– لا ضحايا للكتابة الشعرية. فهذه دائما شكل من أشكال "الانقاذ"، دون أن تدري ودون أن تقصد ولا أدرج في عداد "الضحايا" ما تزلزله الكتابة الشعرية ذلك انها لا تزلزل الا الموت. الشعر حياة ثانية لا تستحق الحياة الأولى ان تعاش الا في ضوئه – أعني ضوء الحب والصداقة والحرية.
* اذا كان الشعر هو ضوء الحب، هل تعتقد أن الشاعرية هي الأخرى "شهوة"، يصعب اعادة انتاجها في شروط توتر محسوب ؟
فليس من الصواب ان ندخر الشعر الى أن تأتي قصيدته التي قد لا تأتي..
– "الشاعرية شهوة"، أميل الى القول أن الشاعرية هي أم الشهوات، وليست الشهوات لكي "تدخر" بل لكي تعاش.. لكن أهو سهل،سواء مع الشعر أو في الحياة أن يعيش الانسان شهواته:
أسأل لكي أشير الى أن الحياة كمثل الشعر، ابتكار دائم، والى أن جمال الحياة والشعر هو في قدرة كل منهما على ابتكار الآخر.
* قد يكون العشق فضيحة العاشق إذا ما ولد الحب في حقل موبوء بالقيم البالية، فمن المنظور ذاته نسمع الدعوات المكرورة نفسها التي تروج الى اقصاء قصيدة النثر من مسرح الشعر بوصفها كائنا هجينا وكأن النثر هنا فضيحة الشاعر في حين قد تتحقق الشاعرية في النثر أكثر من تحققها في القصيدة ذاتها.
– قد تظل هذه الدعوات قائمة الى حد يطول قليلا أو كثيرا لكن ستظل باطلة ودون تأثير.
فما اصطلح على تسميته بـ "قصيدة النثر" صار واقعا راسخا، سواء رفض أو شكك فيه، بشكل أو آخر.
لذلك لم يعد جائزا للشعراء الاهتمام بتلك الدعوات الاهتمام الآن يجب أن يتركز على كتابة هذه القصيدة: ماذا انجزت هذه الكتابة شعريا، وما مشكلاتها الفنية الداخلية، وما قدراتها على اعادة النظر في ذاتها وفي سيرتها، وفي "لغاتها" و"بناها" وفي "جماليتها" على الأخص. فمسألة "قصيدة النثر" أصبحت الآن كمسألة قصيدة الوزن: داخلية، فنية، وليست "خارجية" – قبولا أو رفضا، بوصفها نوعا معينا من الكتابة الشعرية.
أقول ذلك لأنه لا يجوز الاستمرار في كتابتها بوصفها "مضادة" لقصيدة الوزن، فذلك يكشف عن "طفولة" لا تليق بالشعر لا في وعيه ولا في لاوعيه على السواء، يجب أن تكتب هذه القصيدة نصا أخر في شجرة الشعر. أختا ورفيقة لقصيدة الوزن وأقول ذلك لأن مجرد الكتابة بقصيدة النثر لا يقدم بالضرورة شعرا: فالمهم هو ماذا تقول هذه الكتابة وكيف تقوله ؟
أقول ذلك – خوفا على هذه القصيدة ذاتها من أن تسقط في السبات ذاته التي عرفته قصيدة الوزن في مراحل عديدة من تأريخها.
ذلك أنني ألاحظ نوعا من الاطمئنان الى الكتابة الشعرية. بقصيدة النثر، يكاد يصبح بليدا.
وجدير بهذه الكتابة أن تفترض على العكس، القلق، التساؤل واعادة النظر – لا فيما تقوله وحده، بل في طرق تعبيرها كذلك في المقام الأول، خصوصا أن هوية الشاعر الكتابية تقوم هي كذلك على طرح الأسئلة عليها واعادة النظر فيها وليست قائمة في الثبوت.
القصيدة وزنا أو نثرا، تمثل شقا في جدار العالم، نرى عبره ما لا يرى عادة وما أخشاه نتيجة لما تقدم وفي سياقه هذا ما أقوله الآن: هو أن تتحول الكتابة الشعرية العربية، وزنا ونثرا، الى لوحة كلامية، تروي الأشياء فيما هي تلتصق على هذه الأشياء، عاكسة إياها، كما هي، بحيث تصبح القصيدة غطاء لا كشفا.
وهكذا بدلا من أن يتحول القاريء (قاريء الشعر) الى أفق من البروق والتوهجات، والتصورات والحدوس والاشراقات، يتحول على العكس الى نفق يمتليء بـ "العسل" و "اللبن" و "الخبز" والموعد القريب العاجل.. الخ وأحب أن أضيف لمزيد من التوكيد، أن الخروج على شيء يفترض أن يحل محله شيء آخر أكثر غنى وجمالا.
وما سمي بـ "قصيدة النثر" ليس الا مجرد امكانية لتعبير شعري آخر. وتبدو الآن عبر "ركام" الكتابات كما عبرتما في كلامكما، انها مجرد "مادة" لا " فن " فيها والكتابة بها حتى الآن تعطي غالبا انطباعا بأننا أمام "بحر" أو "وزن" يتكرر بلا نهاية – دون "تقنية بارعة"، أو جديدة تحل محل التقنيات الوزنية التي خرج عليها، فلم يخلق الانتقال من قصيدة "الوزن" الى "قصيدة النثر" طرقا واشكالا تعبيرية وتقنيات في مستوى هذا الانتقال الذي يمكن وصفه بأنه جذري، لكيلا أستخدم لفظة ثوري التي فقدت معناها.
* ماذا تعني هنا بكلمة "فن"؟
– أعني الجانب الصيفي – الحرفي – التشكيلي… الجانب الذي كان يطلقون عليه اسم "الصناعة" وهو الاسم نفسه الذي كان اليونان يشيرون به الى كتابة الشعر.
الشعر لا يكون "وحيا" على افتراض أنه يكون الا بقدر ما يكون صناعة.
* هل يمكن أن تفصل وتعطينا أمثلة ؟
– أحب قبل الاجابة أن أؤكد على أن في الكتابة الشعرية العربية اليوم – في مختلف أشكالها الوزنية والنثرية وفي مختلف "أجيالها" ولا أحب مصطلح "جيل" – أصواتا شعرية بالغة الأهمية ومبدعة والملاحظات التي سأبديها اذن لا تنطبق على هذه الأصوات، وانما في الشائع العام السائد.
تعرفان ان المقول في الشعر لا يأخذ شعريته الا من طريقة القول وتكون طريقة القول شعرية بقدر ما يكون صاحبها الى جانب موهبته الشعرية، مسيطرا على أدواته – اللغوية والتصويرية، والتركيبية والايقاعية، فالعمل الشعري في آن وفي وحدة لا تنفصل موهبة (أي طبيعية) وفن (أي صناعة).
وهو إذن لا يعيد صورة العالم أو الأشياء، وإنما على العكس يعيد خلقها أي يقدم عنها صورة أخرى غير صورتها المستقرة.
* إذا صح ذلك ونظرنا في ضوئه الى الكتابة الشائعة السائدة فماذا ترى؟
– 1- نرى ان ما نقرؤه هو اجمالا تكرار أو اعادة انتاج لصور الأشياء المستمرة، سواء كانت هذا الأشياء "مادية" أو "نفسية روحية".
2- ونرى أن الأدوات واهنة تكاد الا تبين – نرى أن الأهم فيها وأعني الكلمات، تلقى على الورق جزافا واعتباطا، لذلك تجيء العلاقات التي مع الأشياء اعتباطية وجزافية هي كذلك.
3- نرى أن ما "يتشكل" بهذه الأدوات الواهنة ليس أكثر من طبقة قشرية مفككة وليس لها "منطق" داخلي، تقرآن الجملة الشعرية ومن ثم العمل الشعري، فتشعران انه يتفتت كالرمل ولذلك لا تشعران بأية حاجة لكي تعيدا قراءته. على العكس، نشعر اننا في حاجة الى قراءة متكررة لكل عمل شعري حقيقي هو الذي يتكون من عدة طبقات، وهو ما يمكن أن نسميه بالنص الذي لا يستنفد هذه اللااستنفادية هي نفسها التي تسمح لنا الآن بقراءة بعض النصوص القديمة العظيمة بوصفها "حديثة" أي بوصفها لا تزال قادرة على الحوار معنا وعلى طرح أسئلتها الخاصة علينا.
4- ونرى ان ما نقرؤه يمكن تلخيصه بنثر عادي دون أن يخسر شيئا من "معناه" أو من "شكله" والنص الذي يسمح بمثل هذا التلخيص هو حتما، نص غير شعري.
5- كذلك ان ما نقرؤه خال تماما من أية استراتيجية لأي من أنواع التحول الجمال والفكري.
6- نرى أن ما نقرؤه لابنية له. كأنه مجموعة من الأسطر – الخيوط تتعاقب وتتوال واحدها وراء الآخر، دون رابط بؤري، بحيث يمكن أن نحذف أو نضيف أو نغير تتابع الأسطر دون أن نشعر بأي خلل داخلي، أو بنيوي.
* مادمنا دخلنا في صلب اشكالية القصيدة العربية الحديثة..، لتحدثنا عن مشروع كتاب "الكتاب" الذي قوبل بنقد صارم من بعض قرائه وبينهم شعراء.. ولكنه قوبل بإعجاب كبير من الكثرة… حيث إن "الكتاب" طرح على مستوى القراءة مشكلا معقدا.،
– يجب أن نلاحظ أن "الكتاب" بجزءيه حتى الآن (وسيصدر الجزء الثالث والأخير في أواخر هذه السنة) لم ينتشر إلا في وسط محدود وذلك لسببين، الأول: سوء التوزيع أو انعدامه في البلدان العربية من جهة والثاني: ارتفاع ثمنه الكبير، قياسا الى أثمان الكتب الشعرية. فثمن الجزء الواحد منه يعادل تقريبا ربع الدخل الشهري لمعلم مدرسة أو موظف في سوريا، على سبيل المثال مما لا يتيح شراءه لكثير من القراء الذين يحبون أن يقرأوه. وهذا يؤسفني كثيرا لأنه يحول دون أن يأخذ هذا الكتاب مداه القرائي غير أني لا أستطيع أن أفعل شيئا في هذا المجال. أما على صعيد القراءة… فالذي قلتماه صحيح، حيث إن قاريء الشعر عندنا، معتاد على قراءة الشعر بوصفه مقطوعات لكل منها استقلالها الخاص وموضوعها "الخاص" وليس معتادا على قراءة نص مركب، متعدد الأشكال وكل شكل مستقل، غير أنه في الوقت نفسه متداخل أو متواشج مع الأشكال الأخرى – في قصيدة واحدة، على مدى "الكتاب" تبدو في الوقت نفسه لعين القاريء ظاهريا، انها قصائد متفرقة عديدة.
* ما الذي استدعى هذا النوع من البناء النصي في "الكتاب"؟
– هذا ما سأصل الى الكلام عليه. هكذا تبدو قراءة "الكتاب" صعبة بالفعل ومحيرة. في كل صفحة منه اضافة الى الهوامش هناك ثلاثة نصوص: الأول: الى يمين الصفحة، نص، وثيقة، يسرد من الوقائع التاريخية أكثرها أهمية فيما يتعلق بالصلة بين المحكوم والحاكم ويمثل المحكوم في هذه الوقائع أشخاص معارضون بارزون، كل في ميدانه السياسي أو الفكري أو الشعري. والثاني: في النصف الأعلى من الصفحة، نص، استيحاء، يقوم على حياة المتنبي (دليل الشاعر في رحلته داخل تأريخه وثقافته) في توتراتها وآلامها وأفراحها وتطلعاتها وعلاقاتها.
والثالث: في النصف الأسفل من الصفحة، نص – استشراف. وبين هذه النصوص تداخل خفي.
يفترض في النص الأول أن يمثل الذاكرة التاريخية للدليل – المتنبي (وللقاريء عبر هذا الدليل)، وقد حرصت على أن تجيء لفته الشعرية، بسيطة، مباشرة، عمودية، على غرار اللغة الشعرية عند كافافيس وريتسوس، وكثير من هذه النصوص وضع في لغته ذاتها كما وضعها المؤرخون دون تدخل تقريبا – الا بتغيير طفيف لتراكيب الجمل، لكي يستقيم الوزن، وهذا ما كان يفعله كافافيس في قصائده "التأريخية"، فعنده قصائد كثيرة هي مجرد سرد "مرتب" كما جرت دون أي تدخل "فني" أو فكري".
أما النصان الآخران فيقومان على لغتي الشعرية الخاصة.
و"الكتاب" الى ذلك يتكون من فصول، وكل فصل يتكون من ثمان وعشرين صفحة بعدد الحروف الأبجدية. وكل صفحة تتكون كما أشرت من ثلاثة نصوص اضافة الى الهوامش وبين الفصل والآخر، نقلة أو وقفة سميتها "الهوامش" تتكون من عشرة نصوص، أحيي بها الأشخاص الذين صنعوا تاريخنا الثقافي كل في ميدانه، وبخاصة الشعراء.
هذا فيما يتعلق بالجزء الأول من كتاب "الكتاب" وباختصار كبير.
* وماذا عن الجزء الثاني؟
– انه أكثر غنى كذلك في تعقيداته، إذ أنه يتضمن الى جانب رحلة "الدليل" في التاريخ رحلة صديقه "أبجد" في "الواقع – المدينة" داخل الخريطة العربية.
ويتضمن كذلك "مذكرات" سيف الدولة، ومذكرات أخته التي يقال أن المتنبي أحبها، أو أنها أحبته، كما يتضمن "دفاتر" المتنبي الشعرية غير المنشورة، أي التي ظلت "مخطوطة" و"حققها" للمرة الأولى و "نشرها" أدونيس.
* لكن كيف تفسر إلحاحك على ظواهر العنف في التاريخ العربي؟
– ليس هذا "الحاحا"، وانما هو كشف لما كان يشكل حياتنا اليومية انه مجرد سرد لمألوفنا السياسي _ الفكري ولا اخترع شيئا، هذا من حيث الواقع. أما من حيث الدلالة، فإنني أرى أن الكلام على الوجه الرهيب الوحشي في تاريخنا هو وحده الذي يضعنا، كما يخيل الي، في قلب ما هو انساني، ثم ان هذا الكلام، واستغرب كيف ينسى ذلك بعض القراء، يرافقه ويواجهه على الجوانب السمحاء والمشرقة في تاريخنا، ممثلة بالمبدعين في جميع الميادين وخاصة في الشعر وهو ما نراه في الفصول المعنونة باسم "هوامش". فهذا التجاوز في التاريخ بين الأعمال الأكثر وحشية والأعمال الأكثر إنسانية، يوضح التجاوز الآخر في أعماق كل فرد بين ممارسة العنف أو الميل اليه، والقدرة في الوقت ذاته، الكامنة فيه على السمو في درجات الكينونة العليا وعلى الابداع، الكلام على عنف التاريخ العربي وحاضره، فنيا والتعبير عنه مما يساعد في أن نتغلب عليه ونعلو إنسانيا، وإضاءة تاريخنا في بعده الانساني لا تقوم إذن على تغطية العنف الذي عرفه، وانما تقوم على الكشف عنه.
إن ارادة تخطيته لا تخفي الا ارادة البقاء فيه وفي فضاءاته والذين يعترضون على التعبير عن العنف في حياتنا وتاريخنا، يصعب عليهم كما يبدو لي، أن يتذوقوا الفن بوصفه رؤية "كونية"، انسانية وشاملة، وأن يعرفوا الجمال ومواطنه، وأن يرقوا الى الانسانية الكبرى: الحرية عدا أن هذا الاعتراض – يخفي رغبة عميقة في اشاعة العنف وترسيخه.
وذلك ما هو حاصل اليوم. فهؤلاء وأمثالهم لا يعني لهم أي شي ء أن ينفى أو يسجن أو يشرد أو يقتل آلاف العرب من المحيط الى الخليج، كل يوم وكأن هؤلاء ليسوا بشرا، بل حصى، بل اننا ألفنا هذا كله حتى أصبح أمرا عاديا، لا نتحدث عنه، فمن أين له، إذن أن "يهزنا" أو "يزلزلنا"؟ إن معظمنا يعيش مدافعا عن عبوديته ذاتها، عاشقا لها، متغنيا بها.
ان الذين يخافون من الكلام على رأس مقطوع، يخافون في الوقت ذاته من أن تظل رؤوسهم عالية، ويفضلون أن تظل أعناقهم منحنية ويعني "منطق" هؤلاء.. إننا لا يجوز أن نتحدث عن رأس يوحنا المعمدان ولا عن صلب المسيح وآلامه، ولا عن الجرائم الهائلة. بحق الانسان في هذا القرن !
(ماذا أقول ؟ ربما يسمح هؤلاء بالكلام على أشكال القتل والعنف عند البشر من غير العرب !)
إن في كل من هؤلاء، يرقد طاغية، ويرقد الى جانبه رقيب لا يكف عن الصراخ: تحدثوا عما هو "ايجابي" في ماضينا وحاضرنا واتركوا ما هو "سلبي" لأنه يخدم عدونا ومخططاته !!
أوف ! وأف من هذا "العقل"
الكلمة في تاريخنا العربي جرح، كمثل العمل بها "وجرح اللسان كجرح اليد" يقول شاعرنا القديم، جرح ينزف بشكل متواصل، أفلا يريد هؤلاء أن نتجاوز هذا الجرح، أن نشفى منه ؟
إذن لماذا يخافون من الكلام عليه، لمعرفة أسبابه وجذوره ولكي نعرف كيف نقضي عليه.
إن علو إنسانية الانسان مشروط بقدرته على الكلام عن أخطائه وبخاصة الوحشية منها.
والذين يريدون أن يغطوا تاريخ العنف هم الذين يريدون الاستمرار في ممارسته، انه استمرار لتاريخ الطغاة وهو استمرار يعلم الارتباط بتراث يقوم على البغي والعنف، إن على الشعر أن يحدث القطيعة الكاملة مع هذا التراث العنفي كلاما وعملا، فالشعر بوصفه رؤية معرفية وجمالية، يجب أن يكون مناهضا بشكل جذري لمسار سياسي ثقافي، ليس إلا توغلا في الوحشية والكارثة.
وعذرا منكما ومن القراء لهذه الاطالة – لكن الضرورة – كما يبدو لي..
* الى أي حد ترى في هذا الاطار، أن لرسوخ العنف في الحياة العربية ماضيا وحاضرا، قولا وعملا، علاقة بالنظرة الدينية.
– هذا سؤال عميق ومهم جدا، ومن الضروري أن تجيب عليه دراسات اجتماعية وفلسفية وانثروبولوجية، على نحو خاص، وهو اذن سؤال يحتاج الى متخصصين للاجابة عنه، غير أن لي في هذا المجال، رأيا سأقوله وإن كان لا يزال في حاجة الى مزيد من الاستقصاء والتدقيق. النظرة السائدة الى تاريخنا وبخاصة على المستوى السياسي، هي أنه ماض ناصع لا عيب فيه، وهذا ما يرسخ في أذهان العرب منذ طفولتهم المدرسية. وهي نظرة تحقق أمرين: اسقاط هذا الماضي "السياسي" على "الحاضر السياسي" ورفع هذا الثاني الى مرتبة الأول، بحيث يندمجان ويصبحان كأنهما "زمن" واحد و "حكم" واحد.
وفي هذا يتم تمفصل أو "وحدة" بين السياسي واللاهوتي ومعنى ذلك أن العلاقة بين الأرض والسماء في نظرتنا الدينية، هي التي تؤسس للتاريخ، وتكشف عن معناه الحقيقي، فالموت في هذه النظرة، انما هو انتظار، يترقبه المؤمن لكي يدخل السماء الى العالم الآخر، والموت في هذه النظرة يفقد معناه العدمي، ويصبح فاتحة للوجود الحقيقي.
يصبح الموت نوعا من اللهفة للصعود الى السماء ونضال المؤمن في الحياة هو أن يرتقي بزمنية التاريخ الى مستوى الأبدية. أو أن يجعل الأولى لائقة بالثانية، ومعنى ذلك أن الآخرة هي التي تكمل الوجود وتعطيه معناه. فليس الوجود، إذن، تتابعا زمنيا بقدر ما هو ابتداء دائم أو دائري. ولا يبدأ من الدنيا وانما يبدأ من الآخرة. فالموت هو بداية الحياة الحقيقية (في الآخرة) وهو إذن بالأحرى، بداية الوجود الحقيقي.
واذا كانت الآخرة نهاية التاريخ على الأرض ودخولا في الأبد، خاتمة وهدفا فانها، إذن هي التي يجب أن تؤسس الأرضي وسياسته، فالأخروي هو الذي يؤسس الدنيوي ويسوسه في آن. واللاهوتي، بتعبير آخر هو الذي يؤسس للسياسي. وهو ما تفصح عنه العبارة المشهورة "الاسلام دين ودولة".
وفي هذا ما قد يفسر ظاهرة "العنف" (السياسي – الديني) في المجتمع العربي. فقتل "المخالف" أو "الكافر" تقرب من الله، و "تقليل" من "قبح" الأرض. ومثل هذا القتل يسهم في جعل الدنيا، مملكة الأرض أكثر شبها لمملكة الله: السماء أو الآخرة. وبقدر ما يقتل ممن يعدون أعداء الله أو الدين (أي أعداء للسياسة السائدة باسم الدين والأمة..الخ) يكون القاتل مسلحا بما يقربه الى الله والى (الماضي الناصع !).
وهذا مما يبعده عن زمنية الشقاء ويدخله في أبدية النعيم.
* وماذا عن السؤال الذي يطرحه "الكتاب" في هذا الاطار بين أسئلة عديدة أخرى؟
– ان السؤال.. هو ما الذي كان ممكنا أن يحدث في الماضي، ولم يحدث ؟ ففي هذا السؤال ما يكشف عن شقوق ماضينا وتصدعاته وفيه كذلك تكمن مسألة العلاقة مع المستقبل، أي مسألة الحاضر كذلك. والسؤال الى هذا كله ينقلنا من النظرة "الناصعة" التاريخية الجزئية الى النظرة الحضارية الكلية.
الأولى يحركها هدف تنتهي اليه، فمسارها خطي – أفقي. وترتبط بالسياسة وبالحياة السائدة وأشيائها.
والثانية عمودية، تهدف الى السؤال والاستقصاء، وتبدو كثيفة ومتوترة وشاملة، وغوصا مع الذات ومع الأشياء. وفي ضوء هذه الثانية يجب أن يقرأ كتاب "الكتاب".
* نفهم من كلامك أن "الكتاب" هو تحريض للشاعر والقاريء معا في العودة الى التراث والتاريخ واستشراف ما يحدث تماما، كما يفعل الجراح ويشد مبضعه على الداء ليكون أمينا في اعطاء السبات والرجع. حيوات أخرى.
– لا أحب أن أحرض أحدا. أكتفي بالقول بأني أحاول أن أفتح أفقا للنظر ومع ذلك، أعتقد أن الخلل الكبير في التجربة الشعرية الحديثة يكمن في أنها شبه منبتة في الخبرة البشرية الهائلة والفريدة التي عاشها أسلافنا، وعن طرق تعبيرهم عنها وعن أسرار هذا التعبير.
لا يمكن لأي شاعر انجليزي أن يقول: من شكسبير؟ إنه قديم ولا أقرأ له. أو من دانتي وهوميروس وأوفيدو فيرجل ؟ انهم قدماء ولا علاقة لي بهم، وما ينطبق على الشاعر الانجليزي ينطبق على غيره من شعراء أوروبا.
لكن معظم كتاب "قصيدة النثر" وقصيدة "الوزن" كذلك من العرب يقولون من امرؤ القيس والشعر الجاهلي ؟ من أبو نواس وأبو تمام والمتنبي والمعري؟ إنهم قدماء ولا علاقة لي بهم. وهم في الواقع يجهلونهم جملة وتفصيلا. والسؤال هو: كيف يصح لشاعر بلغة معينة أن يجهل ميراثها الشعري وأن يرفض خبرتها التاريخية ؟ ثم كيف يمكن الشاعر أن يخلق جمالا جديدا بلغة لا يعزف جمالها القديم ولا تاريخها الجمالي. هذا عدا أننا لا يمكن أن نفهم حقا حاضرنا، في أبعاده المختلفة السياسية – الاجتماعية والثقافية، الا اذا فهمنا ماضينا في مختلف أبعاده. ولا يمكن أن نعمل لمستقبل أمة نجهل ماضيها.
* لذلك شهدت بداية الستينات عودتك الى التراث الشعري العربي وبشكل خاص الصوفي منه.. فأين تكمن أهمية هذ التراث بالنسبة للشعر العربي الحديث ؟
– لا يقدر الشاعر أن يكون جديدا، وأن يخلق علاقات جديدة بين اللغة والأشياء، الا اذا كان يعرف تراثه بشكل عام والشعر بشكل خاص، كما أسلفت..
فقد عنيت على نحو خاص بالكتابات الصوفية، لأن التجربة الصوفية تقوم على مقاربة مختلفة للانسان والوجود وضمن التراث العربي وعلى التعبير بطرق مختلفة ذلك لأنها تصدر عن رؤية مختلفة، فعي عالم جديد، رؤيويا وتعبيريا، داخل التراث الشعري العربي: عالم على حدة، غني وفريد وأصيل.
وأحب هنا أن أتوقف عند ثلاث خصائص في هذه التجربة ترتبط مباشرة بالكتابة الشعرية.
الأولى: هي أننا لا نستطيع أن ندرك المرئي حقا أو أن نفهمه الا بوصفه يرتبط عضويا باللامرئي. فالحضور امتداد كينوني للغيب أو الظاهر تجل للباطن – لكي نستخدم العبارات الصوفية، أو لنقل: هذا العالم الذي نراه ليس الا صورا لمعناه الذي لا نراه، وإذن لا فصل بين الصورة والمعنى.
الثانية: هي أن الحقيقة ليست معطاة أو جاهزة. الحقيقة اكتشاف متواصل، فهي أمامنا وليست وراءنا. الحقيقة تجيء دائما من المستقبل. وهذا توكيد على حركية الحقيقة ضد التصورات الدينية التي تأسرها فى الشرع أو في المذهبية الايديولوجية المغلقة.
الثالثة: هي أن الكتابة لا تخضع لأية قواعد مسبقة وان الشعرية لا تنحصر في الأوزان والقوانين، وانما هي انفجار لغوي دائم يجدد الكلمات دائما باستخدامها في غير ما وضعت له أصلا. وليست هناك اذن أشكال مسبقة للكتابة. تخلق الكتابة أشكالها كما يخلق النهر مجراه أو البحر أمواجه.
* ولكن من يخلق الصياغات النهائية لهذه التجليات: انتفاضات الوعي أم اللاوعي؟
– لا أميز في الشعر بين الوعي واللاوعي، تأملا في نبع يجري صافيا، هل للنبع "هوية" بسطح مائه، وحده ؟
كلا.. هويته هي في آن، "سطحه" و "غوره".
هكذا الشعر وعي.. ولا وعي في آن. لا انفصال بينهما يمكن في التفاصيل أن يكون أحدهما، في تفصيل ما، أكثر حضورا من الآخر. لكنها وحدة تامة في العمل الشعري – منظورا اليه بوصفه وحدة "تامة" وكلية. ثم من يستطيع أن يحدد في لحظة الابداع الشعري.. أين يبدأ الوعي أو اللاوعي، وأين ينتهي كل منهما خصوصا أن الجسد في هذه اللحظة، شأنه في لحظة النشوة الجنسية، قد يكون هو "الروح" فيما تكون "الروح" هي الجسد.
* ولنأخذ "الروح" الى الفكرة التي يقوم عليها أساس "تناسخ الأرواح"، فحينما تتكرر الحياة في جسدين وروحين آخرين لا يحملان شيئا من الفرادة، يكون هذا الفعل فرعا من أنواع العقاب، أما في الأدب ومن خلال هذا الركام الهائل من النتاج الشعري العربي – والذي في معظمه لم يقدم بعد "الرؤية المغايرة"… فالتجارب اما أن تجتر ما سبقتها أو تستل من الثقافات الأخرى ما هو غريب على كيان الثقافة العربية.. فأي نوع من العقاب هذا؟!
– أظن أن لدينا شعرا جيدا، وان كان قليلا، وهو شعر يكفي لكي يعطي تنويعا متميزا على "صورة الشعر العربي". ولهذا الشعر القليل مكانه ومكانته على خريطة الشعر في العالم اليوم، فيما اذا قورن بغيره أو كانت لهذه المقارنة قيمة فنية أو فكرية لكن تبقى مع ذلك مشكلة "العقاب".
و "العقاب" منا "مصنوع" و "نعيشه" باسم تلك الكلمة الرحيمة الرجيعة.. "التراث". الذي يصنعه المهيمنون – سلطات ومؤسسات ويسوغونه باسم مفهوم يرى أن الشر لا علاقة له بالفكر أو بالثقافة وان الشاعر انسان يعيش متسكعا داخل "أعصابه" وتلك هي عبقريته !. مفهوم ساذج وبدائي.
وسيادة هذا المفهوم هي التي تعمم ثقافة شعرية تحول دون نشوء ما تسميانه بـ "الرؤية المغايرة"، وتعمل اذا نشأت على محاربتها، وعزلتها واقصائها ومن هنا يجيء التكرار الركامي، فالشاعر الذي لا يقول الا "أعصابه" و "انفعالاته" الغاضبة أو الراضية، لا يقول في آخر الأمر شيئا. لا يكون "شعره" بعبارة ثانية الا نوعا من التأوه أو الصراخ.
لا تجيء "الرؤية المغايرة" إلا من نظرة مغايرة فكريا وفنيا وهي نظرة لا تتكون الا بثقافة عظيمة وإحاطة معرفية عالية. وهذا مما يعوز شعراءنا.. اليوم بعامة. عدا ذلك، أود أن أشير الى أن هذا المفهوم ليس "تراثيا" بالدلالة الشعرية العميقة لهذه الكلمة. ذلك أن الشعر العربي في ذرواته العليا قائم على "نظرة" – على فكر عظيم، واحاطة معرفية عالية في إطار العصور، وبنسب متفاوتة، بدءا من طرفة بن العبد وامريء القيس، وانتهاء بالمعري ومرورا بأبي نواس، وأبي العتاهية وابن الرومي، وأبي تمام والمتنبي تمثيلا – لا حصرا.
لا يكون الشعر عظيما الا بقيامه على مثل هذه "النظرة" وبصدوره عنها وهذا ما يؤكده تاريخ الشعر في العالم، إضافة الى تاريخ شعرنا العربي.
هذا "العقاب" الذي نعيشه هو في التحليل الأخير، سياسي – ديني، عزل الشعر عن الهموم الكيانية الكبرى وجودا ومصيرا، وحره في "الامة" "تمجيدا" و "تسبيحا" أو في "الفرد" وعواطفه، في انفعالاته الشخصية لكن "الطيبة" و "النبيلة"
* حينما قلت مرة:
"ولكي تغير مسارا شعريا، يجب أن يتجلى ذلك في المؤسسة.. فهل كنت تقصد بالمؤسسة "النسيج الثقافي العام ؟
– كنت أقصد أن أقول إن هناك نوعين من التغيير فيما يتعلق بالشعر والفن عامة.
الأول، هو التغيير على مستوى التذوق الفردي، أو مستوى التقبل الفردي لما هو جديد، مغاير.
والثاني: هو التغيير على مستوى القيم الاجتماعية العامة. أي على مستوى المؤسسات: التربوية – التعليمية أو الجامعية والاجتماعية. ولكي نقول أن هناك تغييرا في مجتمع ما، لابد أن يكون هذا التغيير من النوع الثاني.
الشعر الذي سمي حديثا في فرنسا، على سبيل المثال بودلير ورامبو ومالارميه.. الخ، كان في البداية مرفوضا من "المجتمع" و "مؤسساته" تماما كما هو اليوم حال "شعرنا الحديث" لكن شعر هؤلاء أصبح، فيما بعد، "شعر المجتمع" و "مؤسساته" أي أصبح جزءا من مكتبة العائلة وأصبح أساسا في تربية العامة وأساسا في الجامعات، أصبح بتعبير آخر "كلاسيكيا".
وهذا ما لم يحدث حتى الآن في "المجتمع العربي" و "مؤسساته" بالنسبة الى "شعرنا الحديث" وهو ما ننتظره، فمازال قبول الشعر الحديث عندنا محصورا في أفراد، وتجمعات، و "دوائر" خاصة ولم يدخل بعد في بنية المجتمع الثقافية والقيمية والاجتماعية.
* واذا ما أصبح الشعر جزءا من نسيج المجتمع ومؤسساته التربوية والاجتماعية والثقافية.. هل يستطيع بعد ومن خلال ذلك أن يقدم الرؤية التي تساهم في اصلاح العالم، أم أن فضاء الشعر سيبقى في أحلام الشعراء وتنظيراتهم.. أي بمعنى "سيبقى الشاعر مشرع العالم غير المعترف به"؟
– الشعر لا يصلح، وأطروحة تغيير العالم بالشعر.. أطروحة بالية. ان "رصاصة" واحدة (من جاهل أو من عاقل) قد تغير أكثر مما يغير الشعر، فمع تاريخه كله – هذا، اذا حصرنا التغيير في المجال السياسي والاجتماعي. غير أن الشعر يمكن أن يغير بمعنى مختلف، وعلى مستويات مختلفة، فهو في تقديم علاقات جديدة بين اللغة والأشياء، عبر رؤاه المختلفة، يقدم صورة جديدة للعالم، وللعلاقة بين الانسان والانسان، بين الانسان والعالم.
القاريء حين يفهم هذه العلاقات ويتذوقها يمكن أن "تغيره" في سلوكه وفهمه. وهذا التغيير في داخل الانسان يمكن أن يؤثر في التغيير خارجه.
لهذا تريان أن التغيير في الشعر وبالشعر طويل ويتم مداورة لكن، هو وحده، الذي يغير عميقا، بين أنواع الكلام الأخرى، ذلك أن كلمته هي الأولى والأخيرة – بوصفه التعبير الأجمل والأعلى عن الانسان – وجودا وهوية ومصيرا.
* الاستلاب الذي تعيشه الذات العربية الجريحة بعدما هدتها الحروب العقيمة واحتضار الأمل في بعض بلدانها.
هل لك أن تحدثنا عن الحروب الأخرى – "حروب الكتابة" التي لم ولن تعرف وقف اطلاق نار الأحقاد حتى لكأن "الآخرين" هم أقسى من الطغاة أنفسهم ؟
– السؤال يفصح عن الجواب، فالعلاقات بين المثقفين والكتاب العرب هي صورة حية للعلاقات فيما بين السياسيين ورجال السلطة في البلاد العربية، بحيث تبدو الثقافة العربية، بتنويعاتها كلها صورة للسلطة العربية بتنويعاتها كلها.
هناك بعض الكتاب والشعراء والمثقفين العرب يقفون الى جانب السلطات، ضد زملائهم في الكتابة، وهناك وشاة ورقباء وكتاب تقارير. وهناك من يخلق الأكاذيب لتشويه بعضهم. والرقباء الذين يمنعون الكتب ليسوا من البوليس، غالبا – البوليس العادي، بل من البوليس الأدبي والفكري: الكتاب والأدباء والشعراء. ونجد بين الكتاب والشعراء العرب طغاة لا يقلون عنفا عن طغاة السياسة. انظرا الى الصحافة الأدبية العربية، وسوف تجدا أن دهاء لبعض الكتاب والشعراء العرب تسيل يوميا على صفحات هذه الصحافة، بخناجر كتاب وشعراء عرب آخرين، هذا كله مما يسمح بالقول مجازيا، أن السمة الأساسية للعلاقات الثقافية العربية السائدة هي "القتل"
بشكل أو بآخر القتل المعنوي الأكثر مرارة في معظم حالاته من القتل العادي تقابلها طبعا، سمة أساسية أخرى، لتمويه الأول، هي سمة التبجيل وكيل المدائح، بشكل لا نعهده في أي أدب آخر في العالم وبشكل جاهل إجمالا، وهذه سمة ترتبط عضويا بالسلطات وشبكاتها "الأدبية" و "أبطالها" و "رموزها" و "شركائها".
لكن مقابل هذا كله، وهذا ما يجب التوكيد عليه، هناك كتاب ومفكرون وشعراء عرب يندر مثيلهم في العالم من حيث أخلاقية الكتابة، وأخلاقية السلوك وأخلاقية الشهادة.
وذلك هو عزاء الثقافة العربية، وفي ذلك مجدها الحقيقي.
* حينما ترجم ديوان "أغاني مهيار الدمشقي" مؤخرا الى الألمانية.. أقبل القاريء الألماني على قراءته ليقترب من نصك أكثر رغم اجماع المستشرقين على أنك شاعر صعب وغامض تختلف عن الشعراء العرب الذين ترجموا قبلك الى هذه اللغة.
ماذا تقول عن ذلك ؟
وهل كان مهيارك صدى لمهيار الديلمي ؟
– لا أظن أن شعري أكثر غموضا من شعر هلوديرلن أو نوفاليس أو شتيفان جورج أو باول تسيلان، لكيلا أتمثل الا ببعض الشعراء، فاللغة الشعرية التي قد تبدو للقاريء أحيانا بسيطة ليست لها في أغلب الحالات أية علاقة ببساطة الشعر أو وضوحه.
ثم أن اختيار اسم "مهيار" هو متابعة لاختيار اسم "أدونيس" للخروج من الذات نحو الآخر – المختلف، هذا من جهة ومن جهة أخرى، اخترته كطريقة فنية، رمزا لتجسيد أفكاري ومشاعري، في علاقتي بالثقافة العربية وبالقيم التي تستند عليها أو تبشر بها. وأظن أن ذلك نتيجة لتأثري بمثل هؤلاء الأشخاص،"الرموز": زرادشت، هاملت، مالدورو.
وليس "لمهيار الدمشقي" أية علاقة بالشاعر العباسي "مهيار الديلمي" الا علاقة الاسم، فمهيار أدونيس ينتمي فنا ورؤية وطرقا وتعبيرا الى زرادشت نيتشه وأمثاله من أولئك الأشخاص والرموز.
* هل بالامكان أن نسمي مهيارك بـ "زرادشت" العربي الاسلامي ؟
-.. حقا أن نيتشه أثر ويؤثر في كتاباتي نثرا وشعرا، أما أن نسمي "مهيار" بـ "زرادشت" – العربي – الاسلامي كما تقولان، فهذا ما أحب أن أتركه لرأي القراء والنقاد.
* لننتقل من "مهيار" عائدين الى "الكتاب".. يعيش العالم العربي في مرحلة كثرت فيها الدعوات الى الحلول السحرية الوحيدة فمرة الاسلام أو الديمقراطية ومرة الثورة أو العلمانية. وكشاعر في الجزء الثالث من كتاب "الكتاب" نبوءات لما سيحدث بعد مقتل المتنبي والمستقبل القريب والبعيد.. فأي الحلول ستكون هي المعجزة في زمن ماتت فيه المعجزات ؟ ليخرج العالم العربي من هذا الظلام ؟
– ليست هناك "حلول" تهبط من "فوق" نبوءات أو تنظيرات، تبدأ "الحلول" من فهم الواقع بعمق وموضوعية. والمشكلة المباشرة إذن هي فيما نواجه، لا تكمن في انعدام "الحلول" وانما تكمن في "انعدام الفهم": فهم واقعنا وفهم علاقاته بحاضرنا وبتاريخنا – تاريخنا خصوصا وسوف "تظل الحلول" غائبة، ما دام "تحليلنا" لواقعنا وحاضرنا وماضينا، غائبا. ذلك أن "الحلول" تنبثق حصرا من هذا "التحليل" وغني عن القول أن هذا التحليل يحتاج الى عقول كبرى والى بصائر نفاذة، تعرف كيف تتقصى المشكلات وتحيط بها من جذورها ومن جميع جوانبها. هاتوا مثلا هذه العقول وهذه البصائر، وسوف أقول لكما كيف يخرج العالم العربي من هذا الظلام: كما قلتما.
* بعد هذه الرحلة التي تزاحمت فيها رياح الأفكار وكأنها في مخاض الخلاص – الشعر –ل ينهض الشاعر مخلصا ليزيح قبح العالم بوردة اللغة – والجمال. ولكن أين تكمن جدوى كل ذلك وأهم الأصوات الشعرية في العالم العربي هي في منفى أو مهجو.. حتى وان وصلت الى وطنها – الرحم – تكون قد علبت في كفن سري – أما اذا أرادت الوصول عبر بوابة الرقابة الكبيرة.. فانها ستقع في فخ خدمة (السياسي اليومي)؟
– أعمق وأبهي ما في الشعر أنه دائما في "المنفى" حتى وهو في "بيته" وداخل لغته. وليس "منفى" الخارج الا امتدادا لمنفى الداخل وتنويعا عليه.
الشاعر "منفي" أبدا حتى داخل جسده ذاته. كل قصيدة يكتبها انما هي "انتقال" من منفى الى آخر من "فضاء" انفعالي ورؤيوي الى "فضاء" آخر. هكذا يظل الشاعر "داخل" ذاته و "خارجها" في آن. "الجمهور" يبطل هذه المحاولة، يخرج الشاعر من "داخله" ويقذفه في "الخارج".. لا "خارجه" هو بل، الخارج الغريب الغفل، المتناقض، المسطح، الجمهور. اذا كان هناك عدو للشعر فإنه يتمثل في "الجمهور" خصوصا أن "الجمهور" لا يصفي الا لهمومه، بوصفه "جمهورا" أما "هموم" الشاعر وبخاصة الجمالية – الكيانية، فيسخر منها ولا يأبه بها. "الجمهور" نقيض الذاتية والهوية. وهو اذن، تحديدا نقيض للشعر وللفن بعامة.
وكل "جمهور" سياسي بالضرورة. ونعرف السياسة، فمع الشعر العربي الحديث، فقد حولت الشعراء الى مجرد "أصداء" الى مجرد "قوانين" و "دعاة".
اجرى الحوار: أمل جبوري (شاعرة من العراق تقيم في ألمانيا)
وستيفان فايدنر (شاعر ومستشرق من ألمانيا)