صالح بن عبدالعزيز الـمحمود
كاتب سعودي
عندما يذكر اسم الدكتور سعد البازعي فإن سياق الحديث يتوجه نحو البازعي المثقف، الناقد، المؤلف، المترجم، والبازعي شغوف بالمعرفة، يتنفس الكتابة والقراءة، دون أن يكلّ أو يملّ، بدافع التزامه الثقافي والفكري، ويعتبر البازعي رمزًا من رموز المعرفة العربية، وأيقونة من أيقونات النقد الأدبي، حيث أسهم في صناعة مشهد ثقافي متكامل من خلال مسيرة معرفية تؤمن بأن الثقافة فعل إنساني تتطلب من المشتغل عليها التخلق بها. لقد عمل البازعي مع معاصريه من المثقفين والنقاد على تأسيس المشهد النقدي السعودي في الثمانينيات والتسعينيات الميلادية وما بعدها. والكتابة الآن عن ناقد ومؤلف ومترجم وناشط في حقول المعرفة تأتي من كوني كنت قريبًا من الدكتور سعد البازعي، وعملت تحت رئاسته بضع سنين، أكتب هذه الشهادة منطلقًا من زاوية قلّما أضيئتْ، ونَدَرَ أن يُسلّط عليها الضوء، مع أنها -في يقيني- تبدو اللحظة الأهم والأعمق في شخصية البازعي، والمنطلق الأساس للنجاحات المعرفية المذهلة التي ما زال يحققها، كما أنها اللحظة المحورية التي تتأسس عليها شخصيته العلمية والمعرفية، ولا يمكن فصل الشخصية العلمية والمعرفية عن الشخصية الإنسانية، أو فصل إحداهما عن الأخرى.
لقد كانت أسرة البازعي وهي تشجعه على التزود بالمعرفة تدرك التأثير العظيم الذي يحدثه الاطلاع في الوعي والتفكير والشخصية وذلك وغيره يفسر الثراء الحواري والأدبي وتنوع اهتمامات البازعي فلسفيًا وترجميًا ونقديًا. ويشهد حضور البازعي ومشاركته في محافل خارجية ووطنية على ذلك التقدير الأدبي الذي يحظى به البازعي باستمرار، كما تتجلى إنسانيته في تشعب علاقاته الثقافية والمعرفية التي تربطه بمثقفين وثقافات من شتى أنحاء العالم بروابط وثيقة تبرهن على المكانة الثقافية التي يحظى بها ذلك الناقد المتألق أنَّى حضر، والبازعي وهو المؤمن بقيم الاحترام والتقدير للآخر يمثل القدوة الحسنة، ففي اللقاءات المنبرية مثلًا، تراه مشجعا للحوار والتلقي ولا تختلف ردود افعاله مع المشارك في الفعل الثقافي سواء أكان المتحدث هو أو رئيس الجلسة الأدبية أو أحد الحضور، فهو منصت باهتمام، يومئ برأسه مؤيدًا أو مشجعًا؛ ويمنح للمتحدث حقه في التعبير والمشاركة في الحوار، وفي كل ندوة أو ملتقى يشيد بالمتحدث، ويثني على موضوعه، ويبدو حماسه على محياه، تعبّر نبرة صوته عن تحفزه للحوار، واهتمامه بكل رأي.
وخلال فترة رئاسته النادي الأدبي بالرياض، كان الدكتور سعد البازعي يواظب على الحضور وكان يتابع شؤون النادي يوميًا، لقد كان نموذجا مثاليًا للمثقف المهموم بقضاياه. ويحرص على أن يكون مستمعًا أكثر منه متحدثًا، وثمة مواقف أثبتت حسن معاملته لكل من يعمل تحت إدارته، وبما أنني كنتُ أمين سره، لأربع سنوات، في النادي الأدبي بالرياض أشهد بأن للبازعي قلبًا طيبًا وأنه ليّن المعشر، ودودٌ في الحديث ومنصتٌ في الاستماع، ولكم حَرِصَ على تقديم الشكر لمن يشرح فكرة أو يقترح مقترحًا، ولكم حَرِصَ على الإشادة بمن يعمل معه بلغة الامتنان تنطق بما في وجدان البازعي لتعبر عن خلقه الرفيع، لقد حظيت الفئة المثقفة الشابة بالتقدير المستمر من جانب البازعي فقام بتشجيعهم على حضور الملتقيات والمشاركة فيها والتعبير عن أفكارهم من خلال إتاحة الفرص لهم لإدارة بعض البرامج والإشراف عليها، في الوقت الذي يحتكر سواه من (المخضرمين) البرامج ويخص بها ثقافة جيلهم. عمل البازعي على إنشاء مبادرات متعددة وتكوين فضاء ثقافي خاص بالشباب يقدمون من خلاله تجاربهم الإبداعية وطروحاتهم النقدية والأدبية، لقد قدّم البازعي المبدعين الشباب وتقاسم معهم طاولة الملتقى معرّفًا بهم، ومديرًا لأمسية أحدهم واستثمر شهرته في التعريف بأحدهم.
وفي فترة إدارته النادي الأدبي بالرياض تأسست أول مبادرة للاهتمام بالفلسفة بعنوان (الحلقة الفلسفية) التي صارت بعد ذلك جمعية متخصصة في مجال الفلسفة، ولم يتخل البازعي عن مسؤوليته في التشجيع على الثقافة وتمهيد الفرص لنشرها فأسس (الملتقى الثقافي) ليقدم عددًا من التجارب الثقافية والأدبية التي كان لها حضور فعال، وتراه في حساباته على مواقع التواصل متفاعلًا جريئًا في التعبير عن رأيه وموقفه النقدي، ولم يستغل البازعي الملتقى الثقافي لإعلان خاص أو لترويج أحد مؤلفاته، بل وقاده شغفه بالثقافة والفكر إلى تأسيس الفعل الثقافي كواقع من خلال مبادرات تشجع على الثقافة وتنشر المعرفة، فحضر الفعاليات، ودعا المتحدثين، وأدار الندوات، وأعلن عنها في حساباته على وسائل التواصل وعلّق وتداخل خلال الملتقيات، فما هذه الهمة الوقّادة سوى التزام معرفي صادقت عليه مختلف الأنشطة الفكرية وبرامجها المتجددة والمتطورة.
أعترف بأني قد تعلمت في مدرسة هذا الرجل كيف يكون المثقف إنسانيًا متمسكًا بقيمه وصادقًا، كما أدركت كيف يكون المرء متواضعًا في علو، متطلعًا إلى أن يكون أمينًا مع نفسه ومع غيره، أحسب أن هذه الشهادة بوح صادق في حق ناقد كانت له تجربته النقدية والعلمية التي ما زالت مؤثرة في الواقع الثقافي.